باب الموصى له:
تصح لمن يصح تملكه ولعبده بمشاع كثلثه ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل وبمائة أو بمعين لا تصح له وتصح بحمل، ولحمل تحقق وجوده قبلها ].
سبق أن ذكرنا متى تجب الوصية؟ ومتى تستحب؟ وذكرنا أنها تُكره إذا كان فقيراً، وورثته محتاجون، وقلنا: إنها تباح بكل المال ممن لا وارث له، وتحرم إن أوصى لوارث، أو أوصى بأكثر من الثلث، وهنا نذكر متى يثبت الملك في الوصية؟
على قولين.
قال رحمه الله: (ويثبت الملك به عقب الموت).
قوله: به الضمير يعود إلى القبول، يعني: أن الملك يثبت بالقبول عقب الموت، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، والمؤلف في هذه المسألة خالف المذهب، فالمذهب أن الملك يثبت بالقبول، ولا يثبت بالقبول بعد الموت، فعندنا رأيان:
الرأي الأول: أنه يثبت بالقبول, لكن بعد الموت، بمعنى: أن الملك ثبت بعد الموت, لكن لا بد من القبول.
والرأي الثاني: أن الملك لا يثبت إلا بالقبول، وهذا هو المذهب.
والمذهب هو الصواب؛ لأن القبول ثبت، والحكم لا يتقدم على سببه. فنقول: القبول سبب الملك, فلا يتقدم الملك على سببه بحيث إننا نقول: إنه ثبت بعد الموت، فعلى كلام المؤلف يكون الملك قد ثبت بالموت، لكن لا بد من القبول.
وعلى الرأي الثاني: الملك لم يثبت إلا بالقبول، وهذا هو الصواب؛ لما ذكرنا من التعليل أن القبول سبب، وعليه فلا يتقدم الملك على سببه.
ويترتب على هذا ما يتعلق بالنماء، يعني: النماء الذي حدث بعد الموت هل هو للموصى له أو هو للورثة؟ فإذا قلنا بأن الملك حدث بالموت فيكون النماء للموصى له إذا قبل، وعلى هذا لو أوصى له ببيت وأجر البيت فالأجرة بعد الموت للموصى له إذا قبل ولو بعد شهر.
وإذا قلنا بأن الملك لا يثبت إلا بالقبول فالأجرة قبل القبول تكون للورثة, يعني: ما بين الموت والقبول يكون للورثة.
والصواب في هذه المسألة: ما ذكرنا من أن الملك لا يثبت إلا بالقبول.
وعلى هذا؛ ما يحصل من النماء المتصل والمنفصل فالصواب: أن جميعه قبل القبول وبعد الموت يكون للورثة، وأما بعد القبول فإنه يكون للموصى له.
قال رحمه الله: (ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد).
أي: من قبل الوصية ثم ردها لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليها بالقبول، فإذا قبلها ثم ردها فرده غير صحيح؛ والعلة في ذلك: أن الملك قد استقر عليها بالقبول, إلا إذا رضي الورثة, فتكون هنا هبة مبتدأة من الموصى له للورثة.
الوصية لا تخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن تكون تبرعاً بغير عتق.
والأمر الثاني: أن تكون عتقاً.
فإن كانت تبرعاً بغير العتق فيجوز الرجوع فيها بالاتفاق؛ للآتي:
أولاً: لأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـعمر وعائشة وغيرهما من الصحابة، فقد ورد عن عمر أنه قال: يغير الرجل في وصيته ما شاء. وكذلك ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
ثانياً: أن الوصية تبرع بالمال بعد الموت، وحتى الآن الموت لم يأت, فله أن يغير وأن يبطل.
القسم الثاني: أن تكون الوصية بالعتق، وهذا فيه رأيان:
الرأي الأول: له أن يغير، وهذا قول أكثر أهل العلم رحمهم الله، فمثلاً: لو وصى أن زيداً يعتق من ماله بعد الموت فالأكثر على أن له أن يغير، واستدلوا بظاهر ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كقول عمر : يغير الرجل في وصيته ما شاء، وكذلك الوارد عن عائشة نحو هذا الفظ، ولأن الوصية تبرع بالمال بعد الموت كما تقدم.
والرأي الثاني: ليس له أن يغير، وهذا قال به الشافعي وابن سرين , وابن شبرمة والنخعي قالوا: ليس له أن يغير إذا وصى بالعتق, وقاسوه على التدبير.
وهذا القياس فيه نظر؛ لأن التدبير الصواب فيه أنه يجوز إبطاله، والتدبير هو: أن يقول السيد لرقيقه: إذا أنا مت فأنت حر. فقالوا: هذا لا يجوز إبطاله، والصواب: أنه يجوز إبطاله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين باع المدبر، وأبطل التدبير.
إذاً: الصواب أنه يجوز التغير في الوصية مطلقاً سواء كانت تبرعاً بغير عتق، أو كانت بعتق.
دليل هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( المسلمون على شروطهم )، وهو قد اشترط. وقدومه لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون قدومه في حياة الموصي, فله ذلك؛ لتوفر الشرط، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( المسلمون على شروطهم ).
القسم الثاني: أن يقدم بعد وفاة الموصي, فتكون الوصية للموصى له أولاً وهو عمرو، والعلة في ذلك: أنه لما مات الموصي قبل قدوم زيد استقرت الوصية لعمرو.
فتلخص لنا: أنه إذا قال: إن قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو فقدم زيد في حياة الموصي فالوصية تكون لزيد؛ لتوفر الشرط فيه، و( المسلمون على شروطهم ).
والقسم الثاني: أن يقدم بعد موت الموصي، فتكون الوصية لعمرو؛ والعلة في ذلك: أنه لما مات الموصي استقرت لعمرو، وكان قدوم زيد بعد ملك عمرو.
إذا كان على الإنسان واجبات كحج أو زكاة أو نذر أو ديون للناس فهذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يوصي به, فإن وصى به فقال: أوصيت أن يخرج عني زكاة قدرها كذا وكذا، وأن يحج عني لمن لم يحج، وأن يخرج ديون إلى آخره، فتنفذ الوصية هذه بالاتفاق.
القسم الثاني: ألا يوصي به، فهل تخرج أو لا تخرج؟ المذهب أنها تخرج حتى وإن لم يوص بها؛ لأنها دين، والله عز وجل يقول: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]. وهذا يدل على أنه يجب أن تخرج مطلقاً.
والرأي الثاني: ما ذهب إليه مالك والشافعي أنه لا يجب أن يحج عنه إذا لم يوص به، يعني: إذا ترك الحج ولم يوص به فإنه لا يجب أن يخرج من تركته.
وكذلك أيضاً الزكاة؛ إذا تركها ولم يخرجها, فذهب بعض العلماء أيضاً إلى أنه لا يجب أن تخرج, إذا تركها تفريطاً وتساهلاً كما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله.
والصواب في ذلك: أنه لا فرق بين دين الله ودين الآدمي، وأنه يجب أن يخرج الجميع وإن لم يوص.
وقوله رحمه الله: (من كل ماله بعد موته).
يعني: لا يكون الواجب من الثلث, بل تخرج هذه الديون أولاً, يعني: يبدأ بالدين فيخرج، ثم بعد ذلك يخرج الثلث، فإذا فرضنا أن هذا الرجل خلف مائة ألف فنبدأ بالواجبات فإذا كانت الواجبات تساوي عشرين ألفاً يبقى ثمانون، فإذا بقيت ثمانون فإننا نخرج ثلث الثمانين، وليس ثلث المائة.
الواجبات كما تقدم تؤخذ من جميع المال, إلا إن قال الموصي: الواجبات تكون من الثلث, فإذا قال: ثلثي تسدد منه الواجبات، والباقي يكون تبرع في مسجد أو تبرع لزيد إلى آخره فنقول: تخرج الواجبات من الثلث؛ وعلى هذا نخرج الواجبات من الثلث فإن فضل شيء أخذه صاحب التبرع الموصى له، وإن لم يفضل شيء فلا شيء لصاحب التبرع, لكن بقينا في الواجبات إن لم يفضل شيء من الثلث فنقول: نأخذ من رأس المال؛ وعلى هذا فلا يخلو الأمر من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يفضل شيء بعد الواجبات، فنقول: يأخذه صاحب التبرع.
الحالة الثانية: أن يكون الواجب بقدر الثلث، فنقول: لا شيء لصاحب التبرع.
الحالة الثالثة: أن يستغرق الواجب الثلث ويزيد، فنقول: نتمم الواجب من بقية المال، ومثال ذلك: الثلث يساوي مائة والواجبات تساوي مائة وخمسين، فهنا الواجب استغرق الثلث، فالمائة الأولى نأخذها من الثلث، والخمسون الباقية نأخذها من بقية المال.
الموصى له هو: المتبرع له بالمال، وعندنا الموصى إليه, وهو: المأمور بالتصرف، فلمن تصح الوصية؟ والتبرع لمن؟
وهذا تحته أقسام:
القسم الأول: المسلم، فتصح الوصية للمسلم بالإجماع، ويدل لذلك عمومات أدلة الوصية.
القسم الثاني: الذمي، وتصح الوصية للذمي بالاتفاق، ولهذا قال ابن حزم رحمه الله: لا نعلم في هذا خلافاً.
القسم الثالث: الوصية للمستأمن، وجمهور العلماء على أن الوصية للمستأمن تصح، ولا بأس بها.
وورد عن أبي حنيفة أنها لا تصح للمستأمن؛ لأنه من أهل الحرب حكماً, إذ إنه دخل بلاد المسلمين بأمان, فإذا رجع أخذ حكم المحاربين، والجمهور على أنها تصح للمستأمن, ويستدل لهذا ما يأتي من الأدلة على أنها تصح للحربي كما سيأتي إن شاء الله.
القسم الرابع: الوصية للحربي, وجمهور العلماء على أنها تصح له، واستدلوا على هذا بما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر كسا أخاً له مشركاً بمكة حلة، وقصة أسماء رضي الله تعالى عنها فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها وعن صلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صليها )، وهي مشركة، وصفية رضي الله تعالى عنها أيضاً كما سبق لنا في الوقف أوقفت على أخٍ لها يهودي.
فنقول: هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله، وهو الصواب.
وقلنا: الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أنها لا تصح؛ لأن في الوصية إعانة له على حرب المسلمين.
وحينئذ نقول: الصواب في هذه المسألة أن ينظر إلى الأحوال, فإن كان هذا الحربي سينتفع بها في خاصة نفسه ومن تلزمه مؤنته فنقول: هذا جائز, إن كنا نعلم أنه سيتوصل بها إلى محاربة المسلمين وإعانة المشركين على ذلك فنقول: لا تصح الوصية له، ويدل لهذا قول الله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9].
القسم الخامس: الوصية لغير المكلف ممن سبق كالوصية للمجنون والصغير، فنقول: هذه صحيحة وجائزة ولا بأس بها، وحينئذ يقبلها وليهما.
هذا هو القسم السادس: الوصية لرقيقه أو مملوكه ولا تخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يوصى له بمعين، كما قال المؤلف: (بمائة أو معين)، فلو قال: وصيت لهذا الرقيق بهذه المائة أو بهذه السيارة أو بهذا الكتاب ونحو ذلك فلا تصح؛ لأن الرقيق مال وهو لا يملك, وملكه لسيده، فإذا قيل: وصيت له إلى آخره انتقل هذا المال للورثة؛ لأنه ملك للورثة.
الأمر الثاني: أن يوصى له بمشاع وليس بمعين، ومثال ذلك: كما قال المؤلف: (ولعبده بمشاع كثلثه) قال: وصيت لرقيقي بثلثي أو بخمسي أو بربعي, فالوصية صحيحة، وحينئذ لا يخلو ذلك من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون الثلث مساوياً لقيمة هذا الرقيق، فنقول: هنا يعتق, ولا له ولا عليه.
الأمر الثاني: أن يكون هذا الثلث أزيد من قيمة الرقيق، فنقول: يعتق ويأخذ الفاضل؛ ولهذا قال: (ويأخذ الفاضل) ولنفرض أن الثلث يساوي مائة وخمسين وأن قيمته تساوي مائة، فنقول: عتق ويأخذ الباقي خمسين.
الحالة الثالثة: أن تكون قيمته أكثر من الثلث، فنقول: يعتق بقدره، فلو فرضنا أن قيمته تساوي مائة وخمسين وأن الثلث يساوي مائة فنقول: يعتق منه الثلثان بقدر الثلث، يعني: ننسب الثلث إلى القيمة, فمائة إلى مائة وخمسين تساوي الثلثين.
وإنما صحت بمشاع ولا تصح بمعين؛ لأنه إذا وصى له بمشاع فكأنه وصى له بنفسه, فيملك نفسه فيعتق، يعني: بمجرد الموت والقبول من الرقيق يملك نفسه, فيعتق منه بقدر الثلث بحسب الترتيب السابق, بخلاف المعين كما لو وصى له بسيارة وقال: وصيت لك بهذه السيارة فملك هذه السيارة، نقول: هو لا يزال رقيقاً.
هذا القسم السابع: الوصية للحمل، وهي جائزة باتفاق الأئمة, لكن قال المؤلف رحمه الله: (لحمل تحقق وجوده قبلها) يعني: تصح وصية للحمل بشرط أن يتحقق وجود الحمل. وكيف يتحقق وجود الحمل؟ نقول: تحقق وجود الحمل لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية، فهنا الحمل يكون موجوداً؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فلو فرضنا أنه وصى بمحرم ثم مات في ربيع الثاني فالحمل حين الوصية موجود؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وحينئذ أقل شيء يكون الحمل وجد في رمضان، يعني: في أول رمضان يكون موجوداً, والوصية كانت في محرم, وهو مات في صفر, وهذا ولد في ربيع, فهو موجود قطعاً من أول محرم, هذا إذا قلنا بأنه وجد قبل ستة أشهر، وقد يكون أيضاً: أكثر من ذلك، فنقول: إذا ولدته لأقل من ستة أشهر من حين الوصية فنعرف أنه كان موجوداً.
أما الأمر الثاني فيأتينا إن شاء الله في الدرس القادم.
الجواب: مطلقة، لكن بشرط ألا يكون ذلك إعانة على المسلمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر