فصل: ويجب صاع من بر، أو شعير أو دقيقهما أو سويقهما، أو تمر، أو زبيب، أو أقط، فإن عدم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يقتات، لا معيب ولا خبز. ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه.
باب إخراج الزكاة:
يجب على الفور مع إمكانه إلا لضرورة؛ فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارفٌ بالحكم وأخذت وقتل، أو بخلاً أخذت منه وعزر، وتجب في مال صبيٍ ومجنون فيخرجها وليهما، ولا يجوز إخراجها إلا بنية، والأفضل أن يفرقها بنفسه، ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد، والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده، ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة، فإن فعل أجزأه، إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه].
تقدم لنا ما يتعلق بزكاة العروض، وذكرنا ما يقصد بعروض التجارة، وهل تجب الزكاة في عروض التجارة، وأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: وجوب الزكاة فيها، وهو قول جماهير العلماء منهم الأئمة الأربعة.
والقول الثاني: وهو رأي الظاهرية أن الزكاة لا تجب في عروض التجارة.
وتكلمنا أيضاً عن شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى، وحكم ما إذا أبدل نصاباً زكوياً بآخر، وهل ينقطع الحول أو لا ينقطع الحول.
ثم شرعنا بعد ذلك في زكاة الفطر، وذكرنا شروط وجوبها، وهل يجب على المسلم أن يخرج زكاة الفطر عمن ينفق عليه، وذكرنا خلاف أهل العلم في وجوب إخراج زكاة الفطر عن الزوجة، وكذلك عن الأولاد والآباء وعمن ينفق عليهم.
ثم بعد ذلك شرعنا فيما يتعلق بأوقات زكاة الفطر، وذكرنا أن زكاة الفطر لها خمسة أوقات:
الوقت الأول: وقت الوجوب، وأنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان، وهذا قول جمهور العلماء رحمهم الله، وعند الحنفية أنها تجب بطلوع الفجر من يوم العيد، وذكرنا دليل الكل، وما يترتب على هذا الخلاف.
الوقت الثاني: وقت الجواز، وأنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وقال الإمام مالك رحمه الله: أو ثلاثة أيام, وقال الشافعي : يجوز أن تخرج من أول الشهر، وعند الحنفية وقت إخراجها لا حد له فلو أخرجها لسنة، أو سنتين قبل العيد، فإن هذا جائز ولا بأس.
هذا هو الوقت الثالث من أوقات زكاة الفطر: الاستحباب، ويكون بأن تخرج صبح يوم العيد، ويدل لذلك حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تخرج قبل الصلاة )، وأيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ).
هذا هو الوقت الرابع: وقت الكراهة، ويكون في باقي يوم العيد، يعني: وقت الكراهة من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس، فيكره أن تخرج صدقة أو زكاة الفطر في سائر يوم العيد إلى غروب الشمس، ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله: أنه يكره وتجزي. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم أنها إذا أخرت إلى ما بعد صلاة العيد فلا تجزي.
ودليل ذلك: ما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ), فسماها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة بالزكاة، وسماها بعد الصلاة بالصدقة؛ مما يدل على أن وقت الإخراج قد انتهى، وهذا القول -يعني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم- هو الأقرب في هذه المسألة، وعلى هذا نقول: لا يجوز للمسلم أن يؤخر إخراج زكاة الفطر حتى تنتهي صلاة العيد، وهو محرم؛ لأن وقتها ينتهي، ومن أخرها إلى أن انتهت الصلاة فإنها لا تجزي ولا تقبل منه على أنها زكاة؛ ولكنها صدقة كسائر الصدقات، لكن إذا لم يتعمد عدم الإخراج كما لو نسي أن يخرجها، أو أنه أكره على عدم الإخراج، أو أنه جهل -كان له عذر- أو فاجأه العيد في مكان كصحراء لا يتمكن من الإخراج، أو وكل شخصاً يقوم بإخراجها ولم يقم بإخراجها، فنقول: في هذه الحالة مادام أنه معذور فإنها تجزي عنه فيخرجها؛ لكن إذا أخرها إلى ما بعد صلاة العيد بلا عذر فحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظاهر في أنها لا تجزي عنه.
هذا هو الوقت الخامس من أوقات زكاة الفطر: وقت القضاء والتحريم، يعني: إذا أخرها إلى ما بعد يوم العيد بحيث غربت شمس يوم العيد وهو لم يخرجها فإنه يأثم، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وهذا على مذهب الذين يرون أنها تجزي حتى ولو أخرها بعد الصلاة؛ لكن كما ذكرنا أن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها إذا أخرت إلى ما بعد صلاة العيد فإنها لا تجزي؛ بما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لكن على المذهب إذا غربت شمس يوم العيد وهو لم يخرجها فإنه يقوم بقضائها مع الإثم، وليس لذلك حد، وهذا المشهور من المذهب.
والصواب في هذه المسألة: أن التحريم أن يؤخرها إلى ما بعد صلاة العيد؛ لأنه إذا أخرها إلى ما بعد صلاة العيد فإن هذا محرم ولا يجوز.
ويجب صاع من بر، أو شعير، أو دقيقهما).
دقيق البر ودقيق الشعير، يعني: المطحون، أي: البر إذا طحن يسمى هذا الطحين دقيقاً.
قوله: (أو سويقهما)، أي: سويق البر أو سويق الشعير، وهو ما يحمص، يعني: يعرض على النار، ثم بعد ذلك يطحن، هذا يسمى بالسويق.
ثم قال رحمه الله: (أو تمر، أو زبيب، أو أقط).
الأقط: يستخرج من اللبن المجفف.
فعندنا الآن مسألتان:
المسألة الأولى: قدر زكاة الفطر صاع، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، ودليل ذلك حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، قال
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ أنه إذا أخرج من البر، فإنه يجزئه أن يخرج نصف صاع، واستدلوا على ذلك بأن معاوية قدم من الشام وخطب الناس في المدينة، فقال: أرى أن مدّين من سمراء الشام -يعني: البر- يعدل صاعاً من شعير، فأخذ الناس بذلك، وتابعه على ذلك كثير من الصحابة مثل: عثمان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو هريرة ، وجابر ، وابن عباس ، وأسماء بنت أبي بكر ، وابن الزبير ، فكلهم أخذوا بقول معاوية ؛ لأن معاوية قال: أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من شعير؛ لكن أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لم يوافقهم على ذلك, وقال: لا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً.
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه أبو سعيد وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله: أنه لا بد من الصاع في زكاة الفطر، سواء أخرج من البر، أو من الشعير، أو من التمر... إلخ.
وأما قول معاوية رضي الله تعالى عنه: أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر، فالجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا اجتهاد في مقابلة النص المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابي إنما يؤخذ به إذا لم يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن معاوية رضي الله تعالى عنه خالفه غيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فخالفه أبو سعيد الخدري ، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فرأوا أنه لا بد من صاع من البر، فالأحوط في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.
قال المؤلف رحمه الله: إن عدم هذه الأصناف الخمسة فإنه يجزئه كل حب وثمر يقتات، وهم يستدلون على هذا بحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا نخرج زكاة الفطر إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط )، هكذا جاء في حديث أبي سعيد عدد هذه الأصناف الخمسة. وهذا الرأي الأول.
الرأي الثاني في هذه المسألة: أنه يجزئ كل ما كان من غالب قوت البلد؛ سواء كان من القمح، أو الشعير، أو السويق، أو السمك، أو اللحم، أو نحو ذلك، وهذا قول المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم .
الرأي الثالث: أنه لا يجزئ في زكاة الفطر إلا ما يجب في الزكاة وهذا قول الشافعية، وتقدم لنا أن الذي تجب فيه الزكاة عند الشافعية من الحبوب ما جمع وصفين: الاقتيات، والادخار.
وعند الحنفية: لا بد أن يخرج من البر، أو الشعير، أو التمر، أو الزبيب، أو دقيق البر، أو دقيق الشعير.
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه المالكية أنه إذا كان الغالب أن هذا الشيء هو قوت البلد فإنه يجزئ، سواءٌ كان من هذه الأصناف الخمسة التي عددها المؤلف رحمه الله تعالى أو كان من غيرها، فلو كان قوت البلد هو اللبن، أو الحليب، أو السمك، أو الرز، أو اللحم، أو نحو ذلك من الأطعمة التي يغلب على الناس أنهم يقتاتونها، فنقول بأن هذا مجزئ، وهذه الخمسة التي عددها أبو سعيد أنهم كانوا يخرجون صاعاً من طعام، وصاعاً من شعير، وصاعاً من تمر، وصاعاً من زبيب، وصاعاً من أقط، نقول: هذه الخمسة التي كانت تخرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هذه هي الغالب على قوت البلد في ذلك الزمن.
فلا يجزئ المعيب، فإذا كان الحب معيباً كالمسوس، أو المبذول ونحو ذلك، أو الثمر إذا كان معيباً كالتمر المعيب ونحو ذلك، فنقول بأنه لا يجزئ, ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ).
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: إن الخبز لا يجزئ؛ لأن الخبز خارج عن الكيل والادخار, والقاعدة كما ذكرنا أنه إذا غلب أن الخبز هو قوت البلد فنقول بأنه يجزئ، بل القول بالإجزاء هنا أولى؛ لأن الفقير كفي مؤنة العجين والخبز ونحو ذلك، لكن هنا لا يقدر بالكيل، وإنما يقدر بالوزن، والصاع كما تقدم لنا يساوي أربعة أمداد بالكيل؛ لكنه بالوزن ذكرنا قولين:
القول الأول: أنه يقدر بألفين وأربعين جراماً.
والقول الثاني: بألفين ومائتين وأربعين، ومثل ذلك اليوم فما يسمى بالمكرونة على كلام المؤلف رحمه الله أنها لا تجزئ، والصواب في ذلك: أنها تجزئ، فإن كان حبها صغيراً فنقدرها بالكيل، وإن كان حبها كبيراً فنقدرها بالوزن.
قال رحمه الله: (ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه).
يعني: لا بأس أن تعطي الجماعة صاعاً واحداً يقتسمونه فيما بينهم، فلو أن مسلماً أخرج صاعه وقسمه بين اثنين -مثلاً- جاز هذا، ويدل لذلك أن الشارع قدر المعطى ولم يقدر من يعطى في كفارة اليمين: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، وأما في زكاة الفطر فالشارع قدر المخرج المعطى ولم يقدر من يعطى.
كذلك يقول المؤلف رحمه الله: (وعكسه)، يعني: لو أن جماعة أعطوا فطرتهم لواحد جاز ذلك، ودليل ذلك أن الشارع قدر المخرج ولم يقدر من يُخرج إليه.
للعلماء رحمهم الله قولان:
القول الأول: وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ أن القيمة لا تجزئ في زكاة الفطر.
القول الثاني: وهو رأي الحنفية؛ أن القيمة تجزئ في زكاة الفطر، وهذا أصل عند الحنفية ويتوسعون في ذلك، يعني: في زكاة الفطر، في زكاة المال، في الكفارات... إلخ، فمثلاً: في زكاة الفطر إذا أخرج قيمة الصاع وأعطاها الفقير هذا جائز ولا بأس به، كذلك أيضاً في كفارة اليمين لو أنه أعطى الفقير القيمة مع أن الله سبحانه وتعالى نص على الإطعام: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] يقولون: بأن هذا مجزئ ولا بأس به، كذلك في كفارة الظهار أيضاً وفي زكاة المال يتوسع الحنفية رحمهم الله تعالى في إجزائه، وهذا التوسع فيه نظر؛ لأنه يخالف النص، ولهذا الأئمة الثلاثة كلهم يخالفون الحنفية، وعندهم زكاة الفطر لا يجزئ إخراجها قيمة بل لا بد من الطعام كما تقدم في حديث أبي سعيد قال: ( كنا نخرجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط ).
وأيضاً هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس ( فرضها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين )؛ ولأن القول بأن القيمة تجزئ فإنه ينقل هذه العبادة من كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها عبادة خفية، يعني: من كونها شعيرة ظاهرة يتكايلها الناس ويتناولونها فيما بين أيديهم ونحو ذلك إلى أن تكون عبادة خفية.
وأما الحنفية فيقولون: يجوز أن تخرج مالاً، والفقير لو أخذ هذه الزكاة ولم يأكلها بل باعها جاز ذلك، يعني: أنه لا بأس أن يأخذ صاعاً ويبيعه، فكوننا نعطيه المال نوفر عليه مسألة البيع؛ لكن هذا فيه نظر في مقابلة الأثر الصحيح أنها طعمة، وأيضاً من حكمها إظهار الشعيرة، وإذا قلنا: نعطيه مالاً فأين الشعيرة؟ أصبحت عبادة خفية، وربما إذا أعطيناه دراهم لا يشتري طعاماً بل قد يشتري بها أشياء أخرى غير مقصود الشارع، ومقصود الشارع هو: إدخال الفرح والسرور على الفقراء والمساكين بحيث يشارك هؤلاء الفقراء إخوانهم في فرحة العيد فلا يحتاجون إلى طعام، أما أنه يأخذ الدراهم ولا يشتري طعاماً فلا تتحقق الحكمة التي أرادها؛ لكن في بعض الأماكن مثل بلاد الغرب ونحو ذلك إذا أعطيته طعاماً لا يأخذه، وهنا إذا تعذر إخراج الطعام يصار إلى القيمة؛ لأنه بالإمكان أن تنقل إلى مكان آخر ويخرج الطعام، أو نقول: إذا تعذر إخراج الطعام فإننا نصير إلى القيمة بحيث نعطيها هذا الفقير.
لما تكلم المؤلف رحمه الله تعالى عن زكاة المال وزكاة البدن، وذكر الأموال الزكوية، وذكر أنصباءها شرع في بيان أحكام إخراج هذا المال، فإذا وجبت الزكاة وجب على صاحب المال أن يخرج القدر الواجب في ماله، وهذا المال الواجب في ماله له أحكام.
يقول المؤلف رحمه الله بأن إخراج الزكاة يجب عل الفور، فيجب على رب المال أن يبادر بإخراج زكاته، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وهذا أمر، والأمر يقتضي الفورية، والقاعدة الأصولية: أن الأمر المطلق المجرد من القرائن يقتضي الفورية، ويدل لذلك حديث عقبة بن الحارث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر، فلما انصرف خرج مسرعاً، فتعجب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت خلفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته ) رواه البخاري ؛ ولأن حاجة الفقراء حاضرة، فإذا كانت كذلك فإنها تلبى حاجتهم.
هنا شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان الأحوال التي يصح فيها تأخير الزكاة:
الحالة الأولى: إذا كان هناك ضرورة واضطر إلى التأخير، كأن يخشى على نفسه من اللصوص، أو من عدو ونحو ذلك، فإن الضرورات تبيح المحظورات، وأيضاً: لو خشي أن يرجع الساعي عليه؛ إذ ربما أنه لو أخرج الزكاة جاء الساعي وطالبه بالزكاة مرة أخرى، فنقول: في هذه الحالة لا بأس أن يؤخر.
الحالة الثانية: إذا كان التأخير لمصلحة أهل الزكاة، كأن يؤخرها لمن هو أشد حاجة، أو أن يؤخرها لقريب فقير، فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به؛ ولكن يقيد هذا بأن يخرجها عن ماله فلا يجعلها مختلطة بماله، بل يقوم بإفرازها عن ماله ويكتب أنها زكاة؛ لأنه لا يدري ما يعرض له فربما ينسى، وربما يموت قبل أن يؤدي الواجب الذي عليه.
الحالة الثالثة: إذا كان التأخير لشيء يسير كيوم أو يومين، فإن هذا جائز ولا بأس به، وخصوصاً إذا كان هناك مصلحة ونحو ذلك.
الحالة الرابعة: إذا كان المال غائباً فإنه لا يجب عليه أن يخرج الزكاة حتى يحضر المال، مثلاً: لو كان له أموال في بلد ما؛ فإن استطاع أن يوكل من يخرج الزكاة عنه في ذلك البلد الذي فيه المال فإنه يجب عليه أن يوكل, وإن لم يستطع فينتظر حتى يقدم المال ثم يخرج الزكاة، ومثل ذلك أيضاً: لو كانت عنده أرض تجارية -تقدم لنا كيفية زكاة الأراضي ونحو ذلك- ولم يبع هذه الأرض، فنقول: لا يجب عليه أن يخرج الزكاة حتى يبيع هذه الأرض، ومثل ذلك: لو كان له دين على معسر، أو على مليء باذل فلا يجب عليه أن يخرج زكاته -على حسب التفصيل الذي سبق لنا- حتى يقبض هذا الدين.
إذا جحد الزكاة فإن هذا الجحد منع الزكاة، وهذا المنع لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يمنعها جحداً لوجوبها، يعني: يدعي أنها ليست واجبة, فهذا يقول لك المؤلف رحمه الله: (كفر عارف بالحكم)، يعني: إذا كان يعرف الحكم الشرعي أنها واجبة، فنقول بأنه يكفر كإنسان نشأ في بلاد المسلمين؛ لكن إذا كان جاهلاً كأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو أن يكون نشأ في بادية بعيدة عن حاضرة المسلمين، فيقول المؤلف: (كفر عارف) ومعنى ذلك: أن الجاهل يُعرّف، فإن أصر على جحدها فهذا يكفر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين.
قال رحمه الله: (وأخذت وقتل).
يعني: تؤخذ منه؛ لأن الزكاة يتعلق بها حق الله وحق المخلوقين، ويقتل، ويدل على قتله أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه ووافقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم قاتلوا مانعي الزكاة، وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، فهذا الذي يعصم من دمائهم، فإذا أخلوا بشيء من ذلك دل على أن دماءهم غير معصومة.
قال رحمه الله: (أو بخلاً).
هذا الأمر الثاني: أن يمنع إخراجها بخلاً وشحاً وهو يقر بأنها واجبة عليه؛ لكنه يمنع إخراجها شحاً بالمال وبخلاً، فهذا حكمه قال المؤلف رحمه الله: (أخذت منه) هذا الحكم الأول: نأخذها منه؛ لأنها دين في ذمته كدين الآدمي، وذكرنا أنه يتعلق بها حقان: حق الله، وحق المخلوقين، فلا بد أن نأخذ حق المخلوقين.
قال رحمه الله: (وعُزر).
هذا الحكم الثاني: أنه يعزر، ولم يذكر المؤلف رحمه الله بم يكون التعزير، فنقول: هذا راجع إلى اجتهاد الإمام، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه لا يكفر، وهذا هو الصواب، وهو قول جمهور أهل العلم؛ لحديث أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما بردت أعيدت عليه، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار ) ولو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه يكفر إذا ترك الزكاة بخلاً وشحاً؛ لكن الصواب ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.
وبقي عندنا الحكم الرابع حيث لم يذكره المؤلف رحمه الله تعالى وهو: هل الذي منع زكاته نأخذ شطر ماله؟
للعلماء رحمهم الله في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه لا يؤخذ شطر ماله، كما في الأدلة الدالة على عصمة مال المسلم كقول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) في الصحيحين من حديث أبي بكر.
والرأي الثاني: أنه يؤخذ شطر ماله، وهذا قال به أبو بكر من الحنابلة، واستدلوا بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنا آخذوها وشطر ماله؛ عزمة من عزمات ربنا )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي ، وصححه الحاكم . وأجاب عنه الجمهور بأجوبة:
منها: أنه لا يثبت، ونوقش بأن قوله: ( آخذوها وشطر ماله ) أنه في بعض ألفاظه: ( آخذوها من شطر ماله )، والذي يظهر والله أعلم: ما دام أن العصمة باقية فلا بد من يقين لاستحلال هذه العصمة -عصمة المال.
والذي يظهر -ولله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى من أنه لا يؤخذ شطر المال، ولنفرض أن عنده مليونين، وأخرج زكاة المليون الأول، وأما المليون الثاني فإنه منع زكاته، فعلى اختيار أبي بكر رحمه الله: أننا نأخذ الزكاة منه، وكذلك أيضاً نأخذ شطر المال الذي منع زكاته وهو المليون الثاني.
هذه المسألة تقدمت لنا في شروط وجوب الزكاة، وذكرنا أن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في ذلك على ثلاثة آراء، وأن الصواب في هذه المسألة ما عليه أكثر أهل العلم: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون؛ لأن الزكاة لا تعلق لها بالبدن، وإنما هي تتعلق بالمال، وذكرنا الضوابط فيما يتعلق بالتكاليف أو الأوامر بالنسبة للصغير والمجنون، وأيضاً هذا هو الوارد عن الصحابة؛ وارد عن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهما.
لحديث عمر المشهور: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )؛ ولأن الإنسان عندما يخرج هذا المال قد يقصد به التطوع، وقد يقصد به الفريضة، وقد يقصد به وفاء دين، وقد يقصد به هبة، فلا بد من النية التي تميز بين العادة والعبادة، وبين أصناف العبادات، والعلماء رحمهم الله يقولون: النية لها قسمان:
نية مستحبة: وهي أن تقارن الدفع، يعني: عندما تدفع تنوي أنها زكاة.
ونية جائزة: أن تتقدم الدفع بزمن يسير، وعلى هذا لو تقدمت بزمن كثير فإنها لا تجزئ.
وهل يصح فيها تصرف الفضولي أو لا؟
جمهور العلماء على أنه لا يصح فيها تصرف الفضولي، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه يصح فيها تصرف الفضولي، وهذا القول هو الصواب في هذه المسألة، ومعنى ذلك: لو أن شخصاً كأخ لك وجد فقيراً فأعطاه خمسين ريالاً على أنها زكاة عنك فأجزت هذا التصرف، هل ينفذ ويقع زكاة عنك أو لا ينفذ؟ جمهور العلماء يقولون: لا ينفذ لاشتراط النية، والرأي الثاني: ينفذ؛ لأن النية موجودة، ويدل لذلك فعل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ففي صحيح البخاري قال: ( وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان )، وذكر الشيطان وأنه أعطاه... إلخ، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه لم يوكل في الدفع والإخراج، وإنما وكل فقط بالحفظ.
وذلك فيه فوائد:
الفائدة الأولى: اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرق الصدقة، ويدل لذلك حديث قبيصة عند البخاري : ( أقم عندنا يا
والثانية: لكي ينال أجر التعب في تفريقها.
والفائدة الثالثة: لكي تطمئن نفسه في إخراجها ووصولها إلى مستحقها، فإذا تيسر للإنسان أن يخرجها فالحمد لله؛ لكن إذا كثرت الأموال مع الإنسان، ولا يتمكن أن يخرج كل شيء، فإنه يوكل أصدقاءه في إخراجها.
قال رحمه الله: (ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد).
الذي ورد، كما قال الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، وأيضاً مما روي عن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى )، وعلى هذا لو جاءك بزكاته لكي تفرقها تقول: اللهم صل على آل فلان؛ آل محمد.. آل زيد، كما هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما يذكره الفقهاء أن الزاكي يقول: اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً، ويقول الآخر: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً فهذا لا دليل عليه.
نقل الزكاة له مسألتان:
المسألة الأولى: ما يتعلق بالحكم التكليفي -التحريم والإباحة- هل يأثم إذا نقلت أو لا يأثم؟
المسألة الثانية: فيما يتعلق بالحكم الوضعي، هل تجزئ أو لا تجزئ؟
المسألة الأولى: كلام المؤلف رحمه الله أن نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة مسافة قصر محرم ولا يجوز، وكما تقدم أن المسافة التي تقصر فيها الصلاة على المذهب أربعة برد، وتساوي ستة عشرة فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، فتكون المسافة ثمانية وأربعين ميلاً، وعلى هذا إذا نقلها إلى أربعين ميلاً فلا بأس.. إلى سبعة وأربعين ميلاً لا بأس.. إلى ثمانية وأربعين ميلاً هذا لا يجوز؛ لأنه نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة، وهذا المشهور من المذهب وهو قول الشافعية؛ لكن الحنابلة يفصلون في هذه المسألة. وهذا الرأي الأول.
الرأي الثاني: نقل الزكاة خارج البلد جائز؛ لكنه مكروه، وهذا قول الحنفية حيث يقولون: هو مكروه إلا أن ينقلها إلى قرابة له محاويج، أو قوم هم أمس حاجة من أهل البلد، والمالكية يوافقون الحنابلة، والشافعية إلا أنهم يقولون: لا يجوز إلا إذا نقلها الإمام.
إذاً: الرأي الأول عدم الجواز؛ لكن الحنابلة يفصلون بين مسافة قصر وغيره، والمالكية يفصلون بين نقل الإمام وغيره، والشافعية لا يفصلون.
والصواب في هذه المسألة أنه إذا كان النقل فيه مصلحة فإنه جائز ولا بأس به، فهو مشروط بالمصلحة كما لو كان هناك مسغبة أو حاجة عند أحد من المسلمين، أو أهل علم، أو ناس مشتغلون بالدعوة وهم يحتاجون، فنقول: إن نقل الزكاة لهم من الأحوج والأفضل، ويدل لذلك حديث قبيصة قال: ( أقم عندنا يا
المسألة الثانية: هل تجزئ إذا نقلت أو لا تجزئ؟
أشد الناس في ذلك الشافعية؛ فهم يقولون: إذا نقلت لا تجزئ، والحنابلة يقولون: إذا نقلت فوق مسافة قصر تجزئ مع الإثم، والجمهور على أنها تجزئ إذا نقلت وهو الصواب، وذكرنا الأدلة على ذلك.
أما الذين قالوا بأنها لا تجزئ أو قالوا بأنه يحرم نقلها فاستدلوا بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن قال: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )، ومثله حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه، وأيضاً ورود ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه، وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنه.
والصواب في ذلك حتى نجمع بين الأدلة: أن أهل البلد هم أولى إذا كانوا فقراء، فنبدأ بأهل البلد؛ ولكن لا مانع أن ننقل بعض الزكاة إلى خارج البلد إذا هناك مصلحة، كأن يكون هناك من هو أشد حاجة، أو قد يكون هناك مسغبة، أو قد يكون هناك من اشتغل بالتعليم، أو بالدعوة إلى الله عز وجل، فهذا ننقل له الزكاة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر