ذكرنا تعريف الزكاة في اللغة، والاصطلاح، ودليل وجوبها، وشيئاً من حكمتها، وشرعنا في شروط وجوب الزكاة، وأن المؤلف رحمه الله تعالى قال: (تجب بشروط خمسة: الحرية)، وذكرنا أن الرقيق لا تجب عليه الزكاة؛ لأنه مال، بل إذا كان يباع ويشترى، فإن الزكاة تجب فيه لكونه من عروض التجارة.
وذكرنا أن الزكاة لا تجب في مال المكاتب؛ لورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد جاء في ذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه؛ لكن إسناده ضعيف.
وأيضاً تكلمنا عن الكافر، وأنه لا تجب عليه الزكاة.
الشرط الثالث من شروط وجوب الزكاة: ملك النصاب، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله تعالى في الجملة، وعلى هذا فلا تجب الزكاة في كل مال، بل لا تجب إلا في المال الذي بلغ نصابه.
وسيأتينا -إن شاء الله- من الأدلة الدالة عل اعتبار النصاب، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس في ما دون خمس ذودٍ من الإبل صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس أواقٍ صدقة ).
وهذه الأدلة تدل على شرطية النصاب.
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله تعالى: يشترط استقرار النصاب، ومعنى ذلك: تمام الملك في الجملة، وعلى هذا فالأموال التي ليست تامة الملك بل هي عرضة للسقوط لا تجب فيها الزكاة، فمثلاً: دين الكتابة، هل يجب على السيد أن يزكيه، أو لا يجب عليه أن يزكيه؟
إذا قلنا بهذا الشرط، فإنه لا يجب على السيد أن يزكي دين الكتابة.
مثال ذلك: رجلٌ كاتب رقيقه على أن يعطيه كل شهر كذا وكذا من الدراهم, هذا المال المنجم هل تجب فيه زكاة، أو نقول: بأنه لا تجب فيه الزكاة؟ وهو ما يسمى بدين الكتابة.
فعلى كلام المؤلف رحمه الله تعالى هذا المال المنجم دين الكتابة لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه مالٌ غير مستقر؛ لأنه هو عرضة للسقوط، فالرقيق يمكن أن يعجز نفسه ولا يسلم الدين الذي عليه، فيعود رقيقاً، وحينئذٍ يسقط هذا الدين.
فيقول: دين الكتابة لا يجب على السيد أن يزكيه.
ومن ذلك أيضاً: الدية على العاقلة، وسيأتينا -إن شاء الله- أن العاقلة تتحمل الدية، وأن هذه الدية منجمة، فأولياء الدم الذين لهم هذا الدين -دين الدية- على العاقلة، هل يجب عليهم أن يخرجوا زكاة هذه الدية التي في ذمم العاقلة، أو لا يجب عليهم؟ على كلام المؤلف رحمه الله: لا يجب أن يخرجوا الزكاة عن هذه الدية التي في ذمة العاقلة؛ لأن العاقلة قد تعجز عن السداد، وإذا عجزت العاقلة عن السداد سقط عنها، ولا يلزمها أن تسدد هذا الدية، فهذا الدين عرضة للسقوط.
ومثل ذلك أيضاً: حصة المضارب، هل تجب فيها الزكاة، أو لا تجب فيها الزكاة؟
للعلماء رحمهم الله رأيان:
المضارب: هو من أخذ المال لكي يضارب به -يبيع ويشتري- بجزء معلوم مشاع من ربحه.
فإذا أخذ -مثلاً- عشرة آلاف ريال على أن له نصف الربح، وضارب فيها، ثم بعد ذلك ربح هذا المال، فالمضارب يجب عليه أن يخرج الزكاة؛ لكن بالنسبة للمضارَب -العامل- هل يجب عليه أن يخرج الزكاة، أو لا يجب عليه؟
لنفرض أن هذه العشرة ربحت خمسة آلاف نصفها للمضارب المالك، ونصفها للعامل.
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أن المضارب لا يجب عليه الزكاة؛ لأن حصته عرضة للسقوط فقد يضارب ويخسر، وحينئذٍ نسدد الخسارة من الربح، وقد تأتي الخسارة على جميع الربح، وحينئذٍ لا يكون للمضارَب، فحصته عرضة للسقوط، هذا ما ذهب إليه أصحاب القول الأول.
والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه تجب الزكاة في حصة المضارب قبل القسمة إذا كانت تبلغ نصاباً، وهذا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في العمومات.
وقول المؤلف: (استقراره) يعني: تمام الملك بالجملة؛ لئلا يكون عرضة للسقوط.
وأيضاً يؤخذ من هذا: أن الأموال التي لا مالك لها فإنه لا زكاة فيها، ويدخل في ذلك صور كثيرة، ومن هذه الصور:
الأموال التي تكون في بيت المال، فهذه لا زكاة فيها؛ لأنه لا مالك لها معين, وكذلك الأموال التي توجد في الجمعيات الخيرية، والمؤسسات الإغاثية، ومكاتب الدعوة ونحو ذلك، فهذه الأموال ليس لها مالك معين، وحينئذٍ نقول: لا زكاة في مثل هذه الأموال.
وما يتعلق بالأموال الموقوفة، والأموال الموصى بها، فإنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون هذا الأموال على جهات عامة، كما لو وقف شخص ذهباً أو فضة ونحو ذلك على جهات عامة؛ على المساجد، على طلاب العلم، على الفقراء، على الأيتام ونحو ذلك، فنقول: هذه الأموال لا زكاة فيها، وكذلك أيضاً غلات الأوقاف التي تقوم على جهات عامة، فمثلاً: وقف هذه العمارة على طلبة العلم، أو على الفقراء، أو على تحفيظ القرآن، أو جمعية البر، ونحو ذلك، فأجرة هذه العمارة لا زكاة فيها.
القسم الثاني: أن تكون هذه الأوقاف، أو الأموال الموصى بها على جهات خاصة؛ على أولاده، أو على إمام المسجد، أو على فلان العالم الفلاني ونحو ذلك، فنقول: إن الزكاة تجب في غلات هذه الأموال الموقوفة، فمثلاً: إذا وقف هذه العمارة على إمام المسجد، أو مؤذن المسجد، أو وقفها على العالم الفلاني، أو نحو ذلك، فنقول: غلة هذه العمارة من أجرة ونحو ذلك تجب فيها الزكاة، وإذا كانت العين موقوفة أيضاً فهي مال زكوية، ولو أوصى بذهب، أو فضة، أو دراهم لجهة خاصة، مثل: أوصى بها لزيد من الناس، فنقول: بأنه تجب فيها الزكاة.
هذا هو الشرط الخامس من شروط وجوب الزكاة وهو: مضي الحول، وهذا بالجملة، وقد جاء في سنن ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ). وهذا الحديث فيه ضعف، واشتراط الحول هذا وارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو وارد عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه كما عند الإمام مالك ، والبيهقي بإسناد صحيح, وكذلك أيضاً ورد عن عثمان رضي الله تعالى عنه, وصححه البيهقي ، وكذلك ورد عن علي ، وابن عمر ، وجمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
واشتراط الحول يدل له هدي النبي صل الله عليه وسلم؛ لأن الناظر في هدي النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة كل عام، وما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة كل شهر ونحو ذلك، بل كان يبعث السعاة كل عام، فدل ذلك على أنه يشترط الحول، وهذا بالجملة.
أولاً: المعشرات (الحبوب والثمار)، فهذه لا يشترط فيها الحول لقول الله عز وجل: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (في غير المعشر)، يعني: الحبوب والثمار.
ثانياً: المعدن، فإذا استخرج نصاباً وقلنا بوجوب الزكاة في المعدن، فإنه تجب فيه الزكاة.
ثالثاً: العسل، وسيأتينا من المشهور من مذهب الإمام أحمد ورأي أبي حنيفة : أن العسل تجب فيه الزكاة، فإذا أكمل نصاباً فإنه يجب عليه الزكاة.
قال المؤلف رحمه الله: (إلا نتاج السائمة، وربح التجارة) هذا الرابع. والخامس: نتاج السائمة، وربح التجارة.
يقول المؤلف: (ولو لم يبلغ نصاباً، فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً، وإلا فمن كماله).
نتاج السائمة، وربح التجارة حولهما حول أصلهما، وعلى هذا لو كان الشخص عنده عشرة آلاف ريال، افتتح بها محلاً تجارياً في أول محرم، ثم بعد ذلك اشتغل بهذه العشرة، فجاء شهر محرم من السنة التالية وإذا العشرة أصبحت عشرين، فإنه يزكي عن عشرين؛ لأن ربح التجارة حوله حول أصله.
وكذلك أيضاً: نتاج السائمة، فلو أنه اشترى خمساً من الإبل في محرم، ومكثت عنده إلى محرم التالي، وقد توالدت فأصبحت الخمس عشراً، فإنه يزكي عن عشر.
ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة, ويأخذون الزكاة، ولا يسألون عن الحول فيما يتعلق بنتاج السائمة.
قال عمر رضي الله تعالى عنه: اعتد بالسخلة، ولا تأخذها منهم. والسخلة هذه ولدت قريباً، فدل ذلك على أنه لا يشترط الحول.
والسادس مما لا يشترط له الحول: الأجرة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, حيث يرى أن الأجرة لا يشترط فيها الحول؛ لأنه يجعلها كالثمرة، والله عز وجل يقول: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] ، وعلى هذا لو أجر البيت بعشرة آلاف ريال -مثلاً- وقبض هذه العشرة مباشرة عند العقد، فإنه يجب عليه أن يزكي هذه العشرة مباشرة.
والرأي الثاني: أن الأجرة لا بد لها من الحول، ويبدأ الحول من حين العقد، وعلى هذا لو أنه أجره وسلمه القسط الأول في أول العقد، نقول: لا زكاة فيه؛ لأنه لا بد أن يحول عليه الحول، فإن لم يحل عليه الحول كأن أكله قبل الحول، نقول: لا زكاة فيه، وإذا أخذ القسط الثاني في منتصف العام, كذلك نقول: لا يجب إلا إذا مكث عنده إلى تمام العام.
وإن أخذ القسط في نهاية العام, يجب عليه أن يزكيه مباشرة؛ لأنه حال عليه الحول؛ ولأن الحول يبدأ من حين العقد.
والرأي الثالث: أن الحول يبدأ من حين استلام الأجرة.
والرأي الثاني هو الوسط، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وعلى هذا نقول: بالنسبة للأجرة يشترط لها الحول للعمومات، وبالنسبة للحول نقول: بأنه يبدأ من حين العقد، كما ذكرنا في الأمثلة السابقة.
فقوله: (إلا نتاج السائمة، وربح التجارة ولو لم يبلغ نصاباً، فإنه حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً، وإلا فمن كماله) يعني: أن الحول يبدأ من كمال النصاب، وعلى هذا لو أن شخصاً عنده ثلاثون شاة من الغنم، اشتراها في محرم، وهي سائمة تركها ترعى المباح، نقول: لا يبدأ الحول؛ لأنها لم تكمل نصاباً، فإذا توالدت وبلغت أربعين، ابتدأ حولها.
ويدل على ذلك ما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ابتغوا في أموال اليتامى؛ كي لا تأكلها الصدقة) رواه البيهقي وصححه، وقد روي ذلك مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما لكنه ضعيف لا يثبت عن النبي صلى اله عليه وسلم، وكذلك أيضاً ورد عن جمع من الصحابة؛ ورد عن علي وعائشة وابن عمر وجابر ، وللعمومات.
الرأي الثاني في المسألة: أن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون، إلا في الزروع والثمار فإنه لا تجب الزكاة فيها، وهذا رأي أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
والرأي الثالث: قال به النخعي وشريح قال: بأن الزكاة لا تجب في أموال القصر؛ لحديث: ( رفع القلم عن ثلاثة )؛ لكن القلم المقصود بذلك: هو قلم الإثم وأنهم لا يأثمون، ولو قلنا: إن المقصود بالقلم هو التكليف، فهذا خاص فيما يتعلق بالتكاليف البدنية المحضة، أو التكاليف المركبة من المال والبدن، أما التكاليف المالية فهذه لا علاقة لها بالأبدان، وقلم التكليف رفع عن الصغير والمجنون؛ لنقص أبدانهم.
هل تجب الزكاة في الديون، أو لا تجب؟
هذه المسألة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، وأوسع المذاهب في إيجاب الزكاة في الديون هم الشافعية، والحنابلة بعدهم؛ فهم يرون وجوب الزكاة في الديون، وأضيق المذاهب في ذلك هو مذهب الظاهرية؛ لأنهم لا يرون الزكاة في الديون.
ومعنى كلام المؤلف رحمه الله: إنه إذا كان لك دين، أو حق صداق، أو قيمة مبيع، أو أرش جناية، أو دين... إلخ، تؤدي إذا قبضته زكاته لما مضى من السنوات.
ولنفرض أن الدين مكث عند زيد عشر سنوات، ثم قبضته بعد عشر سنوات، فيجب عليك أن تزكيه بعشر سنوات بما مضى، سواء كان هذا الدين، أو الحق على مليء أو معسر، وسواء كان على باذل، أو مماطل، فتجب الزكاة مطلقاً، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً هو مذهب الشافعية، إلا أن الفرق بين الحنابلة والشافعية أن الحنابلة يقولون: لا يجب عليك أن تزكي كل عام بعامه، ولو زكيت كل عام بعامه فهذا أفضل، وإن تركت الزكاة، حتى إذا قبضته ثم تخرج الزكاة عن جميع السنوات الماضية، فهو جائز.
والشافعية يقولون: تزكي كل عام بعامه.
فالخلاصة في ذلك: أن مذهب الشافعية والحنابلة إيجاب الزكاة في الديون مطلقاً, سواء كانت على مليء، أو غير مليء، على باذل، أو مماطل، تجب الزكاة مطلقاً، هذا هو الرأي الأول.
ودليلهم على ذلك: عمومات الأدلة، ولا شك أن الدين مال، ولهذا يصح أن تبيع الدين كما سيأتينا -إن شاء الله- في المعاملات، يصح بيع الدين على من هو عليه، وعلى غير من هو عليه، وأن تحيل عليه، وأن تتصرف فيه بالإبراء ويورث، فلا شك أن الدين مال فيكون داخلاً في قول الله عز وجل: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].
وقول الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103], أي: أخبرهم أن الله فرض عليهم صدقةً في أموالهم، ولا شك أن الدين مال، وأيضاً هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وإن كان عندهم تفصيل كـعمر، وعثمان وجابر ، وابن عمر.
الرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الديون لا تجب فيها الزكاة؛ لأنهم يعتبرون الدين في حكم المعدم، وإذا كان كذلك، فإنه لا تجب فيه الزكاة، ولورود ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
الرأي الثالث: التفصيل في المسألة: وهذا مروي عن الإمام مالك رحمه الله في الجملة، ومروي عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهو: إن كان الدين على مليء، يعني: قادر على الوفاء على باذل غير مماطل، على شخص مليء يقدر على أن يوفر -والمقصود بالملاءة: الغنى والقدرة على وفاء الدين، وليس مماطلاً- فإن الزكاة تجب كل عام، وإن كان الدين على معسر لا يستطيع أن يسدد على معسر، أو على مليء؛ لكنه مماطل، فهذا يجب عليه أن يزكيه مرة واحدة إذا قبض.
ومثل ذلك أيضاً: الأموال المسروقة، إذا كان الإنسان له أموال مسروقة، أو أموال مغتصبة، أو منتهبة، أو مختلسة، أو ضائعة ونحو ذلك، فهذه يجب عليه أن يزكيها مرة واحدة إذا تمكن منها، مثلاً: لو كان له مال ضائع مفقود، ثم وجده وقد ظل مفقوداً سنتين، أو ثلاث سنوات، فنقول: يجب عليه أن يزكيه مرة واحدة إذا قبض، أو له مال مغصوب أو مسروق، ثم خلّصه يزكيه مرة، هذا حكم المال على المعسر.
ومثل ذلك أيضاً والله أعلم: الحقوق المالية التي تكون عند الحكومة لا يتمكن منها، ولا يدري متى تأتيه؟ ولو طالب ما أعطي هذا الحقوق، فهذه نقول: إذا قبضها يزكيها مرة واحدة.
هذه المسألة إذا كان الشخص عليه دين، فهل الدين يمنع الزكاة، أو ينقص الزكاة؟
المؤلف رحمه الله يقول: بأن الدين يمنع الزكاة، أو ينقص الزكاة بحسبه، وعلى هذا لو كان عند الشخص مائة ألف، وعليه دين مائة ألف فلا زكاة عليه، وإن كان عنده مائة ألف، وعليه دين تسعون ألفاً، يزكي عن عشرة، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
والرأي الثاني ضد ذلك، وهو رأي الشافعية: أن الدين لا يمنع الزكاة، ولا ينقص الزكاة، فإذا كان عليه دين مائة ألف، وعنده مال مائة ألف، وقد حال الحول على هذا المال، فيجب عليه أن يزكيه.
القول الثالث: التفصيل بين الأموال الظاهرة، وبين الأموال الباطنة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولو كان ظاهراً). إذا كان المال ظاهراً، فإن الدين لا يمنع الزكاة.
والأموال الظاهرة: هي الخراج من الأرض كالحبوب والثمار والسائمة، وهذا قول مالك ، وإن كان المال باطناً، فإن الدين يمنع الزكاة، والباطن هو عروض التجارة، والأثمان: الذهب والفضة، وهذا القول -التفصيل بين الأموال الظاهرة والباطنة- فيه نظر.
رجل الآن عنده محلات تجارية، هذه من أظهر الأموال، أو يبيع ويشتري في هذه المحلات التجارية، ورجل عنده نخلات، أو عنده إبل في البر، فكيف تكون هذه ظاهرة، وهذا ليست ظاهرة؟ فهذا التفريق بين الظاهر والباطن فيه نظر.
على كل حال هم يستدلون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة لأخذ زكاة المال الظاهر: الحبوب، والثمار، والسائمة، ومع ذلك ما كان السعاة يستفصلون أرباب الأموال هل عليهم ديون أو لا؟ والغالب أن أصحاب الزروع والثمار تلحقهم ديون، ولهذا ما كانوا يستفصلون.
والذين قالوا: يمنع، مثل ما قال المؤلف رحمه الله تعالى، استدلوا بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: أيها الناس! إن هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده.
والذين قالوا: لا يمنع، كما هو رأي الشافعي رحمه الله، قالوا: ما دام أن العمومات تدل على وجوب الزكاة في هذه الأموال، فجهة الدين جهة منفكة؛ فالدين يتعلق بالذمة، والزكاة تتعلق بعين هذه الأموال، فالجهة منفكة.
والذي يظهر والله أعلم: أن الدين لا أثر له في إسقاط الزكاة، أو نقص الزكاة؛ لكن بعض الباحثين قال: بأن الدين يسقط، أو يمنع الزكاة بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون الدين حالاً.
الشرط الثاني: أن يكون الدين في الأمور الأصلية، أو في الحوائج، فإذا توفر الشرطان فإن الدين يمنع, وإذا لم يتوفر الشرطان فإنه لا يمنع.
وهذا التفصيل جيد، وعلى هذا نقول -مثلاً-: إنسان احتاج إلى طعام، واشترى هذا الطعام وعليه دين حال، نقول: اخصم الدين من الزكاة حال يريد أن يسدد؛ لأنه توفر الشرطان: يكون في الأمور الضرورية والحاجية، ويكون حالاً، أما إذا كانت الأمور الكمالية، فإنه لا أثر للدين على الزكاة.
قال المؤلف رحمه الله: (وكفارةٌ كدينٍ).
يقول المؤلف رحمه الله الكفارة كالدين، يعني: أنها تنقص الزكاة، أو أنها تمنع الزكاة، فمثلاً: لو كان عليه كفارة يمين، وحال الحول، نقول: اخصم كفارة اليمين، ومثلاً: تحتاج إلى أن تشتري طعاماً لعشرة مساكين بسبعين ريالاً، نقول: اخصم سبعين ريالاً من الزكاة، فإنه لا تجب فيها الزكاة، ولو كان مثلاً: ألف وعليه كفارتان، نقول: اخصم قيمة كفارتين لا زكاة فيهما، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، ومثله أيضاً النذر وكلام المؤلف بأن ديون الله سبحانه وتعالى كديون الآدمي تنقص الزكاة، أو تمنعها.
وحينئذ تجب الزكاة في الصغار؛ لكنه إذا أراد أن يخرج، فإنه يخرج أنثى كبيرة، كما سيأتينا إن شاء الله.
ويدل لذلك: قول عمر رضي الله تعالى عنه: اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم، وقول علي رضي الله تعالى عنه: عد عليهم الكبار والصغار، فالزكاة كما تجب في الكبار تجب أيضاً في الصغار.
قوله: (إذا نقص النصاب في بعض الحول)، نقص النصاب -مثلاً- في الإبل خمس، ولو أنه قبل أن يحول الحول ذبح واحدة وأكلها، نقول: انقطع الحول, فلا تجب الزكاة حتى تكمل نصاباً، وإذا اكتملت نصاباً بدأ الحول من جديد.
قوله: (أو باعه)، يعني: أخذ بعيراً من هذه الخمس وباعه، إن كان فراراً من الزكاة عومل بنقيض قصده، وإن لم يكن فراراً من الزكاة؛ ولكنه احتاج إلى ثمن هذا البعير، نقول: بأن الحول انقطع.
قوله: (أو أبدله بغير جنسه) أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: انقطع الحول، فمثلاً: عنده خمس من الإبل سائمة، أبدلها بغير سائمة، أبدلها بذهب وفضة، أو أبدلها بعروض تجارة، نقول: انقطع الحول في هذه الحالة, ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله تعالى: أنه إذا أبدلها بجنسه بسائمة أخرى فإنه يبني على الحول، فمثلاً: عنده خمس من الإبل، أبدلها بخمسٍ، أو بعشرٍ من الإبل، فنقول: هذه العشر الأخيرة يبني على حول الأولى.
ويستثنى من ذلك: ما يتعلق بعروض التجارة؛ لأن عروض التجارة مبنية على التقليب والاستبدال؛ ولأن عروض التجارة المقصود منها القيمة، فمثلاً: صاحب البقالة يقلب الأموال، فاليوم عنده هذه الأطعمة، باعها وجاءت أطعمة جديدة، فلا نقول: بأنه حين أبدل هذه الأطعمة بأطعمة أخرى، لا نقول: انقطع الحول؛ لأن التجارة مبنية على التقليب والاستبدال؛ ولأن هذه العروض ليست مقصودة بعينها, وإنما المقصود قيمتها، والزكاة تجب في قيمتها، وهو الآن يعمل على تنمية هذه القيمة، وحينئذٍ نقول: هذا التقليب؛ لأن صاحب البقالة -مثلاً- يقول: عندي بضائع شريتها منذ شهر، منذ أسبوعين، هي بضائع جديدة، وعلى أي حال يجب فيها الزكاة ما دام أنها في أموال التجارة، فهي أموال اكتسبتها من هذا المحل واشتريت بها بضائع جديدة.
نعم لو كانت الأموال مستفادة، مثل راتب جاءه، أو اقترض، واشترى به أموالاً أخرى جديدة، فنقول: هذه الأموال لها حول مستقل كما سيأتينا -إن شاء الله- في المستفاد؛ لكن إذا كان يقلب ويأخذ ما يبيع به، ولا يشتري به بضائع جديدة.
ومثله أيضاً: إذا أبدل ذهباً بفضة وفضة بذهب، هل ينقطع الحول، أو لا ينقطع الحول؟
نقول: إذا كانت عروض تجارة، ويبيع ويشتري، فلا ينقطع الحول، وإن كانت ليست عروض تجارة، فنقول: بأنه ينقطع الحول.
قوله: (وإن أبدله بجنسه بنى على حوله).
كما قلنا: أبدل خمساً من الإبل بعشر، أو أبدل مائة شاة بمائتي شاة، فنقول: بأنه يبني على حوله.
هذه المسألة أطال فيها ابن رجب رحمه الله في كتابه (القواعد)، وذكر ما يتعلق بالخلاف وما يترتب على الخلاف من مسائل.
والمؤلف رحمه الله يقول: بأن الزكاة تجب في عين المال، ولها تعلق بالذمة, ومعنى هذا يتضح مما يترتب على هذا الكلام من مسائل:
المسألة الأولى: لو حصل نماء للمال الزكوي بعد الحول فالنماء هل هو خاص بالمالك، أو يشاركه في ذلك الفقراء؟
لنفرض أن عنده خمساً من الإبل حال عليها الحول، ثم بعد ذلك أنجبت إحدى الإبل، هذا البعير النماء قال فيه المؤلف: (ولها تعلق بالذمة)، يؤخذ منه أن هذا النماء يكون خاصاً بالمالك، ولا يشارك الفقراء المالك في هذا النماء.
المسألة الثانية: قوله: (ولها تعلق بالذمة)، أي لا يجب عليه أن يخرج الزكاة من هذه الأموال التي وجبت فيها الزكاة، فمثلاً: إذا كان عنده أربعون شاة، وجبت عليه شاة، ولا يجب عليه أن يخرج الشاة من هذه الأربعين، ولو اشترى شاة، أو أخرج من مال آخر، جاز ذلك.
المسألة الثالثة: أنه لو أكل هذا المال الزكوي، نقول: جاز ذلك، ويخرج الزكاة من غيره.
المسألة الرابعة: له أن يتصرف فيها بالبيع فلو كان عنده خمس من الإبل وحال عليها الحول، وجبت الزكاة فيها، وعنده أربعون شاة وجبت الزكاة في هذا الأربعين، فله أن يبيع هذه الأربعين, وله أن يهبها, وله أن يأكلها، ويخرج شاة، ولا نقول: بأن الفقراء شاركوك في هذه الأربعين؛ لأنه وجبت فيها شاة؛ فالمؤلف قال: (ولها تعلق بالذمة).
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (تجب الزكاة في عين المال)، يعني: احترازاً من الأموال الزكوية التي لا تجب الزكاة في عينها، مثلاً: أربعون شاة تجب الزكاة في عينها شاة واحدة، وخمس وعشرون من الإبل تجب الزكاة في عينها بنت مخاض كما سيأتينا؛ لكن خمس من الإبل لا تجب الزكاة في عينها؛ لأن الزكاة تجب في عين أخرى وهي الشياه، عشر من الإبل فيها شاتان، وخمس فيها شاة، وخمس عشرة فيها ثلاث، وعشرون فيها أربع.
يقول المؤلف: لا يعتبر في وجوب الزكاة, وليس من شروط وجوب الزكاة إمكان الأداء، وعلى هذا لو حال الحول، ثم تلف المال، فإنه يجب أن تخرج الزكاة حتى وإن كان الإنسان لا يمكن من الأداء، فمجرد أنه حال عليك الحول تلف المال، فيجب عليك أن تخرج الزكاة، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وهو المشهور من المذهب، ويدل على ذلك: بأن الحائض يجب عليها الصيام، وهي لا تقدر ولا تمكن من الصيام، والمريض يجب عليه الصيام، ولا يتمكن من الصيام.
والرأي الثاني: أنه يعتبر إمكان الأداء وعليه جمهور العلماء، ويدل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. ومثل تعليل الحنابلة بأن الحائض يجب عليها الصيام، أيضاً نقول: الحائض لا يجب عليها الصلاة، ولم تتمكن من الصلاة، والله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] وما دام أنه لا يتمكن من الأداء فكيف نقول: تجب عليه الزكاة؟
وعلى هذا إذا تلف المال، فإن كان المزكي فرط في إخراج الزكاة، نقول: يضمن الزكاة، وإن كان لم يتعد ولم يفرط، وإنما أراد أن يخرج الزكاة؛ لكن لم يتيسر له كأن يبحث عن فقير، أو نحو ذلك، فنقول: لا يجب عليه ضمان الزكاة.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر