تقدم لنا ما يتعلق بصلاة الجماعة، وذكرنا أن صلاة الجماعة واجبة، وأن هذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله وأحمد ، وأن مذهب مالك أنها سنة، وعند الشافعية أنها فرض كفاية.
وتكلمنا أيضاً هل هي شرط أو ليست شرطاً؟ وذكرنا أن الصواب أنها ليست شرطاً. وذكرنا قاعدة أنه يفرق بين الواجب في الصلاة والواجب للصلاة، وأن الواجب للصلاة تركه لا يبطل الصلاة، وأما الواجب في الصلاة فتركه عمداً يبطل الصلاة.
وأيضاً ذكر المؤلف رحمه الله مسألة أخرى, وهي: هل له أن يفعلها في بيته, أو ليس له أن يفعلها في بيته؟ وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة: أنه يجب أن تفعل الجماعة في المساجد. ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم، ولو كانت تجزئ في البيت لاحتمل النبي أن يؤديها هؤلاء المتخلفون في بيوتهم.
وذكرنا أيضاً أثر علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ).
وأيضاً حديث أبي موسى وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ).
ثم بعد ذلك تكلم المؤلف رحمه الله على مسألة أخرى, وهي: أي المساجد أفضل لتأدية الصلاة؟ وتكلمنا على هذه المسألة، وذكرنا مراتب المساجد.
يقول المؤلف رحمه الله: (يحرم أن يؤم) أي: أن يتقدم إماماً في مسجد قبل إمامه الراتب، والإمام الراتب هو: من رتبه ولي الأمر أو رتبه جماعة المسجد، فإذا رتبه ولي الأمر فهو يقوم مقام ولي الأمر، أو وزارة الأوقاف أو رتبه جماعة المسجد, ولنفرض أن هذا المسجد ليس تابعاً للأوقاف ونحوها، فرتبته جماعة المسجد إماماً فإنه يحرم أن يتقدم أحد أمامه في إمامة الناس.
ويدل لذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه, ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، وإمام المسجد سلطان في مسجده.
وقول المؤلف رحمه الله: (قبل إمامه الراتب) يفهم منه أنه إذا لم يكن هناك إمام راتب لهذا المسجد فلا بأس أن يتقدم لإمامة الناس، لكن إذا كان له إمام راتب فليس له أن يتقدم على الناس.
واستثنى المؤلف رحمه الله قال: (إلا بإذنه أو عذر)، هاتان مسألتان يجوز فيهما التقدم على الإمام الراتب.
المسألة الأولى: الإذن، فإذا أذن فلا بأس، ويدل لذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض أذن أن يصلي بالناس
المسألة الثانية: العذر، يعني: إذا حصل له عذر يمنعه من المجيء فلا بأس أن يتقدم أحد على الإمام الراتب، ويدل لذلك: فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم فقدموا عبد الرحمن بن عوف , فصلى بهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد فاته ركعة من الصلاة.
بقي مسألة أخرى، وهي: ذكر المؤلف رحمه الله الحكم التكليفي، وأنه يحرم أن يؤم أحد قبل الإمام الراتب، لكن بقي علينا الحكم الوضعي، ما حكم الصلاة إذا أم قبل الإمام الراتب؟ هل هذه الصلاة باطلة, أو نقول: بأنها ليست باطلة؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه إذا أَم في مسجد قبل إمامه الراتب فإن الصلاة باطلة.
والرأي الثاني: أنها صحيحة مع الكراهة، وهذا ذهب إليه بعض الحنابلة كـابن حمدان رحمه الله.
وهذا القول هو الصواب؛ لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات المنهي عنه، وإنما يعود إلى أمر خارج, وهو الافتئات على الإمام، وعليه فنقول: بأن الصلاة صحيحة؛ لأنها استكملت شروطها وأركانها... إلى آخره، والنهي إنما هو لأمر خارج.
يعني: إذا صلى الإنسان ثم جاء المسجد وأقيم الفرض وهو في المسجد، أو جاء المسجد والناس يصلون, هاتان صورتان: إما أن الصلاة تقام وهو في المسجد, أو أن الصلاة تقام وهو خارج المسجد، ثم بعد ذلك يأتي إلى المسجد لحاجة، كأن جاء إلى المسجد لحضور درس، أو لزيارة شخص، أو لصلاة على جنازة ونحو ذلك، فنقول: يشرع له أن يصلي مع الناس.
ويدل لذلك: ما سبق من حديث يزيد بن الأسود , وأبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي )، رواه مسلم في صحيحه.
فنقول: يصلي في هاتين الصورتين.
وإعادة الجماعة هنا من ذوات الأسباب، فسواء أقيمت وهو في المسجد في وقت النهي، أو أقيمت وهو خارج المسجد في وقت النهي ثم جاء إلى المسجد لحاجة فنقول: يشرع له أن يعيد في هاتين الصورتين سواء كان الوقت وقت نهي أو كان الوقت ليس وقت نهي، وذكرنا الدليل على ذلك، وذكرنا أن الحنابلة يفصلون. سبق أن تكلمنا على هذه المسألة فيما يتعلق بإعادة الجماعة.
وكونه لا يعيد مع الجماعة هذا أقل أحواله الكراهة؛ لأن هذا يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر وقال: ( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة )، هذا أمر.
وأيضاً كون الإنسان ينفرد والناس يصلون هذا فيه مخالفة وشذوذ والمراد من الجماعة الاجتماع والانضمام، فنقول: أقل أحواله أن يكون مكروهاً.
واستثنى المؤلف رحمه الله قال: (إلا المغرب) فلا يسن له أن يعيدها، وعلى هذا إذا جاء ثم أقيمت صلاة المغرب فلا يسن أن يعيده, بل يجلس، قالوا: لأن المغرب وتر النهار, وليس هناك وتران، وإنما هو وتر واحد، فالمغرب وتر النهار.
والصواب في هذه المسألة: أنه لا فرق بين المغرب وغيرها، فيجوز أن تعيد المغرب، وتعيد غير المغرب.
ويدل لذلك: عموم الأدلة, كما في حديث يزيد , وحديث أبي ذر .. إلى آخره.
وإذا أعاد المغرب مع الناس فهل يشفعها بركعة؛ لأن المغرب هي الوتر, فلا يوتر مرة أخرى، أو يقتصر على ركعتين, أو أنه يصلي ثلاثاً؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، والصواب في هذه المسألة: أنه يصلي ثلاث ركعات كصلاة الإمام تماماً، وأما كونه أتى بوتر فهذا الوتر لم يأت به قصداً, وإنما جاء تبعاً، والقاعدة: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فنقول: تعيد المغرب كهيئة المغرب ثلاث ركعات, وتسلم مع الإمام.
المراد بإعادة الجماعة في هذه الصورة تختلف عن إعادة الجماعة في الصورة السابقة التي هي: أن يصلي المسلم ثم يأتي المسجد لحاجة فيجدهم يصلون فيعيد معهم الجماعة، وعلى كلام المؤلف رحمه الله لا بأس به، إلا أنهم يستثنون المغرب، ولهم تفصيل كما تقدم.
أما الصورة التي تكلم عليها المؤلف رحمه الله هنا وقال: (ولا تكره إعادة الجماعة), فهي أن تصلي جماعة، ثم تأتي جماعة أخرى لم تصل، هل يصلون أو لا يصلون؟ ولنفرض أننا صلينا وانتهينا من الصلاة ثم جاءت جماعة أخرى، يعني دخل اثنان .. ثلاثة لم يصلوا، هل يصلون في المسجد, أو نقول: انصرفوا ولا تصلوا في المسجد؟ إذا صلوا في المسجد هذا ما يسمى بإعادة الجماعة، فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟ هل يكره أو لا يكره.
نقول: إعادة الجماعة في هذه الصورة له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون أمراً راتباً، يعني: دائماً يصلي الإمام أو تصلي جماعة، ثم تأتي جماعة أخرى فتصلي، وهذا لاشك أنه مكروه، يعني: أن يكون هذا على سبيل الدوام، وأن يكون أمراً راتباً، وقد شاهدنا في بعض البلاد التي يحصل فيها التفرق والاختلاف يأتي ما يسمى بالسلفيين فيصلون، ثم يأتي ما يسمى بالإخوانيين فيصلون، فيكون هناك جماعتان في المسجد, هذا أقل أحواله إن لم نقل بأنه محرم فإنه مكروه، وكان في المسجد الحرام قبل الملك عبد العزيز أربعة مقامات: مقام للمذهب الحنفي, ومقام للمذهب المالكي, ومقام للمذهب الشافعي، ومقام للمذهب الحنبلي، الحنابلة يصلي بهم إمام الحنابلة، والحنفية يصلي بهم إمام الحنفية، وهكذا، وتجد أن الحنفية يؤخرون صلاة الفجر، والحنابلة يغلسون ويتقدمون... إلى آخره، وهذا لاشك أن أقل أحواله الكراهة إن لم نقل بأنه بدعة؛ لأن هذا ليس هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو ينافي الحكمة التي من أجلها شرعت الجماعة، فالجماعة شرعت للاجتماع والتآلف والتواد والتوحد, وما شرعت للتفرق، ولهذا كان من حسنات الملك عبد العزيز رحمه الله أنه ألغى هذه المقامات، وجمع الناس على إمام راتب واحد، هذه الصورة الأولى, إعادة الجماعة على إمام راتب دائم.
الحالة الثانية: أن يكون المسجد متخذاً لإعادة وتكرر الجماعات فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، مثل مساجد الطرق، فهي هيئت هكذا، ومساجد الأسواق هيئت هكذا، تأتي جماعة وتصلي، ويأتي الناس المسافرون فيصلون ثم يذهبون، ثم تأتي جماعة أخرى ويصلون ويذهبون, إلى آخره، فهذا جائز, ولا بأس به.
الحالة الثالثة: ماعدا هذين القسمين, وهي مساجد الأحياء، فإذا صلينا في هذا المسجد، ثم جاءت جماعة يريدون أن يصلوا فهل يكره أو لا يكره؟
يقول المؤلف رحمه الله: لا يكره، إلا أنهم يستثنون الحرم المكي والحرم المدني، فإذا دخلت الحرم المكي وقد صلى الإمام الراتب، فإذا دخلت ومعك أناس فإنه يكره أن تصلي جماعة، بل تصلي منفرداً, ولا تصلي جماعة.
ودليلهم على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل ). وهذا تقدم في السنن, وصححه ابن حبان رحمه الله.
والرأي الثاني ذهب إليه أكثر أهل العلم: أنه يكره، حتى في مساجد الأحياء تكره إعادة الجماعة، واستدلوا بحديث ضعيف عن أبي بكرة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا، فذهب إلى منزله وجمع أهله وصلى بهم )، رواه الطبراني , وفي إسناده شيء.
وكذلك أيضاً قالوا بأنه وارد عن ابن مسعود , فإن ابن مسعود جاء والناس قد صلوا, فرجع وصلى بـالأسود وعلقمة .
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله من أنه لا يكره أن تعاد الجماعة في مثل هذه المساجد.
إلا أن المؤلف رحمه الله استثنى مسجدي مكة والمدينة، والعلة في ذلك قالوا: مسجد مكة والمدينة لهما مزية شرعية، ولهما شرف، فكوننا نقول: لا تكره إعادة الجماعة في مسجدي مكة والمدينة، هذا القول يحمل الناس على الكسل والتواني في حضور جماعة الإمام الراتب، وفضل الجماعة سبع وعشرون درجة، وهذا معلق بجماعة الإمام الراتب.
والصواب أن الحديث: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل )، عام يشمل جميع المساجد، فالصحيح: أنه لا تكره حتى في مسجدي مكة والمدينة.
هذا الكلام من المؤلف نص حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وجميل كون الإنسان إذا كتب أو ألف أن يتحرى الألفاظ الشرعية التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الأسلم؛ لأنه يبحث في الألفاظ الشرعية، فكونه يتحرى الألفاظ التي جاءت على لسان الشارع أسلم وأبلغ في حصول المقصود، ولأن ألفاظ الشارع تحمل من المعاني والمصالح والحِكم والأسرار ما لا يحملها ألفاظ البشر.
هذا الحديث: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه مسلم في صحيحه.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة حتى ركعتي الفجر، وهذا ما عليه جماهير العلماء, خلافاً للحنفية فهم يستثنون سنة الفجر، فيقولون: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا سنة الفجر، فيصلي سنة الفجر حتى بعد إقامة الصلاة مادام أنه سيدرك التشهد الأخير مع الإمام، ولهذا تشاهد الذين هم على مذهب أبي حنيفة يأتون والناس يصلون فتجد أحدهم يصلي ركعتي الفجر، ودليلهم على ذلك: ما في الاستثناء الوارد في البيهقي: ( إلا ركعتي الفجر )، وهذا الاستثناء ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب: عموم الحديث.
قال: (فإن كان في نافلة أتمها, إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها) إذا أقيمت الصلاة وهو في نافلة فإنه يتم هذه النافلة خفيفة إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها تقديماً للفرض على المستحب، وسيأتينا إن شاء الله بما تدرك الجماعة، وبما لا تدرك الجماعة.
والرأي الثاني في هذه المسألة قول الإمام مالك رحمه الله: أنه إن صلى ركعة فإنه يصلي الركعة الثانية خفيفة، وإن أقيمت وهو لم يصل ركعة فإنه يقطعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة ، وإن لم يصل ركعة فليقطع الصلاة؛ لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ).
وهذا القول هو الصواب.
أفاد المؤلف رحمه الله أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يتلفظ الإمام بالتسليمة الأولى فقد أدرك الجماعة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والرأي الثاني: أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة. وهذا قال به الإمام مالك رحمه الله تعالى.
ودليل ذلك: ما سلف من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).
قال: (وإن لحقه راكعاً دخل معه في الركعة).
يؤخذ من كلامه أن الركعة تدرك بإدراك الركوع، وهذا ما عليه الأئمة الأربعة، ودليل ذلك: حديث أبي بكرة رضي الله عنه عندما جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فكبر دون الصف، ثم بعد ذلك مشى، فكونه كبر قبل الصف يدل على أنه يريد أن يدرك الركعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ), وفي لفظ: ( ولا تعد )، رواه البخاري في صحيحه.
والرأي الثاني رأي الظاهرية حيث يقولون: لا تدرك الركعة بإدراك الركوع، ودليلهم على ذلك حديث عبادة : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهنا ما قرأ بفاتحة الكتاب، بل جاء والإمام راكع فركع معه.
فنقول: صحيح أنه ما قرأ فاتحة الكتاب, ولكن الفاتحة سقطت؛ لفوات محلها، وقد جاء صريحاً في سنن أبي داود : ( من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة )، لكن هذا الحديث في إسناده شيء، والأصح منه ما تقدم من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه.
قال: (وأجزأته التحريمة).
يعني: أجزأته التحريمة عن تكبيرة الركوع، فإذا جاء والإمام راكع كبر تكبيرة واحدة، فتكبيرة الإحرام تكفي عن تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع، وإن كبر تكبيرتين فهذا أحسن، لكن لو اقتصر على تكبيرة واحدة فإن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله، ولا بد أن يأتي بالتكبيرة وهو قائم.
قال: (ولا قراءة على مأموم).
يستحب للمأموم أو للمسبوق إذا جاء والإمام على حال أن يدخل معه على تلك الحال، فإن كان في سجود دخل معه في السجود... إلى آخره، وهذا خلاف ما يفعله بعض الناس حيث يأتي والإمام في السجود فلا يدخل معه، هذا خطأ؛ لأنه فوت على نفسه سجدة، والسجدة عبادة لله عز وجل، وجزء من الصلاة، وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتيتم ونحن سجود فاسجدوا )، لكن إذا كان الإمام في آخر الصلاة، ويظن هذا الداخل أنه ستأتي جماعة فإنه لا يدخل مع الإمام؛ لكي يصلي مع هذه الجماعة؛ لأن صلاة الإمام قد فاتته؛ لما سبق أن ذكرنا أن صلاة الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة.
هذه المسألة كثر فيها كلام العلماء رحمهم الله تعالى، وألفت فيها مؤلفات مستقلة، فـالبخاري رحمه الله له كتاب اسمه جزء القراءة خلف الإمام، والبيهقي أيضاً له كتاب اسمه جزء القراءة خلف الإمام، فهذه المسألة كثر خلاف العلماء رحمهم الله تعالى فيها.
وخلاصة الأقوال والأدلة فيها كما يلي:
الرأي الأول: المشهور من المذهب ومذهب الإمام مالك رحمه الله أن المأموم لا يجب عليه أن يقرأ حتى في الصلاة السرية، يعني: لو جئت في صلاة العصر وكبرت وسكت ولم تقرأ شيئاً فعلى المذهب أن الإمام يتحمل عنك، وكذا في صلاة الظهر، وكذا في الركعتين الأخريين من صلاة العشاء، يرون أن الإمام يتحمل عن المأموم، ولكن كما سيأتينا أنه يستحب أن يقرأ في سكتات الإمام، وفي إسراره، يعني: في سكتاته فيما يجهر به، وفي إسراره أي: في الصلاة السرية يستحب له أن يقرأ.
المهم في تحرير المذهب: أن الإمام يتحمل عن المأموم قراءة الفاتحة سواء كانت فيما يجهر به أو كانت فيما يسر به.
الرأي الثاني وهو رأي الشافعي : أن الإمام لا يتحمل عن المأموم قراءة الفاتحة سواء كان ذلك في الصلاة السرية أو كان في الصلاة الجهرية.
الرأي الثالث رأي الحنفية وهو أضعف الأقوال، يقولون: لا يجب على المأموم أن يقرأ, وإن قرأ فمكروه كراهة تحريم، حتى في السرية يرون أن هذا مكروه، ولا إشكال أن هذا الرأي ضعيف.
الرأي الرابع اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو: أنه يجب عليه أن يقرأ فيما يسر به الإمام من الركعات، ولا يجب عليه أن يقرأ فيما يجهر به الإمام من الركعات.
وهذا القول هو أوسط الأقوال، يعني: وسط بين الشافعية الذين يوجبون القراءة مطلقاً سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، فريضة أو نافلة، وبين الحنفية الذين يقولون: بأن قراءة المأموم محرمة، أو المالكية والحنابلة الذين يقولون: يتحملها حتى في الصلاة السرية. فهذا الكلام - يعني: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- وسط في هذه المسألة.
والمتأمل لآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم يجد أنها تكاد تكون متكافئة, وحديث عبادة في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما انصرف من صلاة الفجر: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم، قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: أما إني أقول: مالي أنازع القرآن؟ لا تفعلوا إلا بأم القرآن ) فهذا لفظ صريح, لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: هذا الحديث لا يصح مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل موقوف على عبادة .
والشيخ الألباني يقول: هذا الحديث منسوخ بحديث أبي هريرة : ( فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه الإمام ).
بقية الأدلة، مثلاً تجد الشافعية يستدلون بحديث عبادة في الصحيحين: ( لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب ).
أو حديث أبي هريرة : ( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج )، وخداج: هو الشيء الناقص.
والذين قالوا لا تجب القراءة يستدلون بحديث أبي هريرة في مسلم : ( وإذا قرأ فأنصتوا ).
ويستدلون بقول الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]. وقال الإمام أحمد رحمه الله: أجمع الناس أنها في الصلاة.
وأيضاً: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وإن كان الحديث مرسلاً لكن نقول:
أولاً: آثار الصحابة متعارضة.
وثانياً: الأدلة التي تدل على وجوب القراءة كحديث عبادة وحديث أبي هريرة تحمل على السرية, والأدلة التي تدل على عدم وجوب القراءة تحمل على الجهرية.
ولا يبقى عندنا إلا حديث عبادة رضي الله تعالى عنه الذي قلنا في سنن أبي داود والترمذي والدارقطني وابن حبان وقلنا بأنه لا يثبت مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويستحب في إسرار إمامه).
الإمام يتحمل عن المأموم في صلاة إسرار؛ في الظهر وفي العصر, فيستحب لك أن تقرأ في صلاة الظهر، وصلاة العصر، ويستحب أن تقرأ في الثالثة من المغرب، وفي الثالثة والرابعة من العشاء، يستحب لك أن تقرأ في هذه الركعات في إسرار إمامك.
قال: (وسكوته).
وسكوته فيما يجهر فيه، يعني: في الركعات التي يجهر فيها، فهو -مثلاً- يجهر في الركعة الأولى والثانية من صلاة العشاء، فإذا سكت يستحب لك أن تقرأ، أما الوجوب فإنه لا يجب عليك.
قال رحمه الله: (وإذا لم يسمعه لبعد).
فإذا كان الإمام بعيداً وأنت لا تسمع قراءته فيستحب لك أن تقرأ.
قال: (لا لطرش).
الطرش هو: الصمم، يعني: عدم السمع، فإذا كان أطرش لا يسمع قراءة الإمام فيقول المؤلف رحمه الله: لا يستحب له أن يقرأ, مع أنه لا يسمع قراءة الإمام؛ لأنه قد يشغل غيره عن الاستماع.
وعلى هذا نقول: إن أشغل غيره عن الاستماع لا يقرأ، وإن كان لا يشغل غيره فإنه يقرأ.
قال: (ويستفتح ويتعوذ فيما يجهر فيه إمامه).
المأموم لا يخلو من حالتين:
إما أن يدرك الصلاة من أولها، فهذا الأمر فيه ظاهر أنه يستفتح ويتعوذ... إلى آخره، سواء كان في الصلاة السرية أو الجهرية؛ لأن الإمام يشرع له أن يسكت بقدر الاستفتاح، والسكتة التي ثبت فيها النص هي ما بين التكبير والقراءة, كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( أرأيت سكوتك ما بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب... ). الحديث إلى آخره.
أما بقية السكتات التي يذكرها الشافعية والحنابلة فهذه جاء فيها حديث سمرة، والحديث منقطع، كما قال ابن القيم رحمه الله: سكتة لطيفة، يعني: هذه تقتضيها الطبيعة، يسكت سكتة لطيفة بعد القراءة وقبل الركوع، بعد قراءة الفاتحة وقبل قراءة السورة، لكن الذي ثبت في السكتات حديث أبي هريرة في الصحيحين.
فنقول: إن كان المأموم أدرك الصلاة من أولها فإنه يستفتح ويستعيذ.
الحالة الثانية: أن يكون المأموم لم يدرك الصلاة من أولها، جاء والإمام في الصلاة، فإن كان في صلاة جهرية فإنه يكبر ويستمع، وإن كان في صلاة سرية فإنه يستفتح ويستعيذ ويبسمل ويشرع في القراءة.
هذا الكلام داخل تحت ما يسمى بمسابقة الإمام، والمأموم له مع الإمام أربع حالات: المسابقة، والموافقة، والتخلف، والمتابعة.
بدأ المؤلف رحمه الله بالحالة الأولى, وهي المسابقة.
هذا الكلام الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى نقول: أولاً: نحرر المذهب في مسألة مسابقة الإمام.
فنقول: مسابقة الإمام لا تخلو من أحوال:
الحال الأولى: أن يكون ذلك في تكبيرة الإحرام، بمعنى: أنه كبر للإحرام قبل الإمام، فهذا لا تنعقد صلاته فرضاً, وإنما تنعقد نفلاً.
الحالة الثانية: أن تكون المسابقة في السلام، بمعنى: أنه سلم قبل إمامه، وهذا إن كان لعذر فلا بأس, كما في قصة الأعرابي لما صلى خلف جابر وسلم قبل جابر ، وإن كان لغير عذر فإن صلاته تبطل عليه.
الحالة الثالثة: أن تكون المسابقة فيما عدا هذين الركنين، أي: فيما عدا تكبيرة الإحرام وفيما عدا السلام, فالمذهب أن هذا لا يخلو من أربعة أقسام:
القسم الأول: السبق إلى الركن، وفرق بين سبق إلى الركن وسبق بالركن، فسبق إلى الركن يعني: تركع قبل الإمام ثم يركع الإمام بعدك، لكن سبق بالركن أي: تركع وترفع قبل الإمام، أو تسجد وترفع قبل الإمام، وهنا أقسام:
القسم الأول: سبق إلى الركن، نقول: عمله هذا محرم ولا يجوز، بل ظاهر حديث أبي هريرة كما سيأتي أنه من كبائر الذنوب، ولا تبطل عليه الصلاة ولو فعل ذلك عمداً، لكن يجب عليه أن يرجع؛ لكي يأتي بذلك مع الإمام، فإن لم يفعل عالماً عمداً بطلت، فإن كان جاهلاً أو ناسياً فإنه لا شيء عليه.
القسم الثاني: السبق بركن الركوع، يعني: يركع ويرفع قبل الإمام، ليس سبقاً إلى الركن, وإنما السبق بركن الركوع، فنقول: إن كان عالماً متعمداً بطلت عليه صلاته، وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت عليه الركعة التي حصلت فيها هذه المسابقة، وإنما شددوا في الركوع لأن الركوع تدرك به الركعة.
القسم الثالث: السبق بركن غير الركوع، مثل السجود، سجد ورفع، وحكم هذا القسم حكم القسم الأول أي: السبق إلى الركن، وقلنا: لا تبطل الصلاة حتى ولو كان عالماً متعمداً, لكن يجب عليه أن يرجع؛ لكي يأتي به مع الإمام, فإن لم يفعل عالماً عمداً بطلت، وإن كان جاهلاً ناسياً لم تبطل.
القسم الرابع: السبق بركنين ليس فيهما ركوع، مثاله: سجد ورفع ثم سجد، وهذا حكمه حكم القسم الثاني، أي: السبق بركن الركوع.
فالأقسام أربعة ونختصرها إلى قسمين، سبق إلى الركن، وسبق بركن الركوع، وسبق بركن غير الركوع، وسبق بركنين، هذا هو المذهب.
والصواب في هذه المسألة أن نقول: مسابقة الإمام في جميع الصور سواء كانت سبقاً إلى الركن، أو سبقاً بركن الركوع، أو بركن غير الركوع، أو بركنين إذا فعل ذلك عمداً عالماً بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً ناسياً فإن صلاته لا تبطل عليه، لكن يجب عليه أن يرجع؛ لكي يأتي به مع الإمام، فإن لم يفعل عالماً عمداً بطلت صلاته، وإن أدركه الإمام في موضع سبقه فلا يجب أن يرجع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر