وأما السنة فكثير, فمن ذلك: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة حائض ) يعني: بالغ ( إلا بخمار ) أخرجه أبو داود وغيره.
والإجماع قائم على ذلك كما حكاه ابن عبد البر وغيره.
وذكرنا أيضاً أن المؤلف رحمه الله اشترط للساتر ألا يصف البشرة، فإذا كان يصف لون البشرة من سواد أو بياض أو احمرار فإنه لا يصح الستر به، وأيضاً نبهنا على أن كلام المؤلف رحمه الله يفيد أنه إذا كان لا يصف لون العورة، لا يصف لون الجلد، وإنما يصف حجم العورة، يبين هيئة العورة أن الصلاة صحيحة، كما لو أنه لبس ثوباً ضيقاً، أو صلى في سروال ضيق يبين هيئة العورة, فيؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أن الصلاة صحيحة؛ لأنه قال: بما لا يصف البشرة, فقط اقتصر على البشرة دون بيان الهيئة، فإذا كان يبين هيئة العورة دون البشرة دون لون الجلد فإن الصلاة صحيحة، لكن لا شك أن الإنسان ينهى عن أن يلبس ثوباً يبين هيئة العورة؛ لأن الإنسان مأمور بستر العورة رجلاً كان أو امرأة, مأمور بحفظها، فالله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6]. ويدخل في حفظ العورة حفظها من الزنا ومن اللواط ومما حرم الله عز وجل، وأيضاً حفظها سترها عن كل من لا يحل له النظر إليها.
وأيضاً في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك ).
ويدخل في حفظ العورة سترها، ستر اللون وستر الهيئة، هذا كله داخل في حفظ العورة، فمسألة الحفظ شيء ومسألة صحة الصلاة حكم آخر.
ثم بعد ذلك تكلمنا عن أقسام العورة, وذكرنا أن العورة في باب الصلاة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
عورة مغلظة، وعورة مخففة، وعورة متوسطة، وبينا حكم كل قسم من هذه الأقسام، وأيضاً دليل كل قسم من هذه الأقسام.
يؤخذ من هذه الجملة التي ذكرها المؤلف رحمه الله أنه يشترط للساتر أن يكون مباحاً، فكما أنه يشترط للساتر أن يكون صفيقاً لا يصف البشرة، كذلك أيضاً يشترط للساتر أن يكون مباحاً. وعلى هذا إذا ستر نفسه بثوب مغصوب أو ثوب مسروق أو منتهب أو مختلس المهم ستر نفسه بثوب محرم فيقول المؤلف رحمه الله: بأن صلاته لا تصح، والعلة في ذلك: أنه استعمل هذا المحرم في شرط العبادة، ويقولون: العلة في ذلك أنه استعمل هذا المحرم في شرط العبادة، فكما لو صلى في ثوب نجس، وسيأتينا إن شاء الله أن من شروط صحة الصلاة: الطهارة من الخبث في الثوب وفي البدن وفي البقعة التي يصلى عليها، فلا يصح أن يصلي الإنسان في ثوب محرم قياساً على عدم صحة الصلاة في الثوب النجس، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وهذا دليله.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو قول أكثر أهل العلم: أن الصلاة صحيحة، فإذا صلى في ثوب محرم كثوب مغصوب أو مسروق أو منتهب أو غير ذلك الصلاة صحيحة؛ لأن الصلاة هنا استكملت شروطها وأركانها وواجباتها، وكونه يستعمل شيئاً محرماً لا يلزم منه أن تكون الصلاة باطلة، بل نقول: إن الصلاة صحيحة؛ لأنها استكملت الشروط والأركان والواجبات، وكونه استتر بشيء محرم لا يلزم من ذلك أن تبطل الصلاة، وعندنا قاعدة: أن الشارع إذا نهى عن شيء فإن النهي ينقسم إلى ثلاثة أقسام، يعني: الحنابلة رحمهم الله يبنون ذلك على قاعدة, وهي: أن النهي يقتضي الفساد، وأوسع المذاهب في هذه القاعدة هو مذهب الحنابلة رحمهم الله، فيقولون: بأن النهي إذا عاد إلى ذات العبادة أو المعاملة أو عاد إلى شرط العبادة أو المعاملة فإن ذلك يقتضي الفساد، الشارع لا شك أنه نهى عن الغصب، ونهى عن السرقة، ونهى عن الانتهاب والاختلاس إلى آخره، فيقولون: بأن النهي إذا عاد إلى ذات العبادة أو المعاملة أو عاد إلى شرط العبادة أو المعاملة فإن ذلك يقتضي الفساد.
والصواب في هذه المسألة - مسألة النهي هل يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟ الصواب في هذه المسألة أن نقول: بأن النهي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يعود إلى ذات العبادة أو المعاملة، فنقول هنا: النهي يقتضي الفساد، مثاله في العبادة كما سيأتينا: أن الشارع نهى عن الصلاة في أعطان الإبل، فنقول هنا: النهي يقتضي الفساد؛ لأنه يعود إلى ذات العبادة، فإذا صلى أحد في أعطان الإبل أو صلى في المقبرة أو صلى في الحمام فنقول: بأن عبادته أو نقول: بأن صلاته غير صحيحة، لماذا؟ لأن النهي هنا يعود إلى ذات العبادة.
مثله أيضاً في المعاملة: الشارع نهى عن بيع الخمر، هنا النهي يعود إلى ذات المعاملة، فإذا باع أحد خمراً أو نهى عن بيع الأصنام نهى عن بيع الميتة... إلى آخره فنقول هنا: النهي يعود إلى ذات المعاملة، فإذا عقد هذا العقد نقول: بأن العقد فاسد، هذا القسم الأول: أن يكون النهي عائداً إلى ذات العبادة وذات المعاملة, فنقول: بأن النهي يقتضي الفساد.
القسم الثاني: أن يكون النهي عائداً على أمر خارج عن العبادة وخارج عن المعاملة, فهذا النهي لا يقتضي الفساد، مثال ذلك: نهى الشارع عن لبس الحرير، صلى رجل وعليه عمامة حرير فنقول: بأن صلاته صحيحة ويأثم؛ لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات العبادة ولا يعود إلى شرطها؛ لأن ستر الرأس هذا ليس واجباً في الصلاة، ليس من شروط صحة الصلاة.
مثاله في المعاملة: تلقي الركبان، أو بيع الحاضر للبادي، أو مثلاً تصرية ضروع بهيمة الأنعام، إذا تلقى الركبان هذا نهي خارج عن المعاملة، الشارع نهى أن تتلقى شخصاً أتى بحمولة بسلع لكي يبيعها في البلد، لكن إذا تلقيته واشتريت منه فإنه بالخيار, العقد صحيح، لكن يثبت الخيار لهذا البائع، هذا نهي عائد على أمر خارج عن المعاملة.
القسم الثالث موضع الخلاف: إذا عاد على شرط المعاملة أو شرط العبادة, هل يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن النهي يقتضي الفساد؛ ولهذا قال لك هنا: إذا صلى في ثوب محرم فإن صلاته باطلة، أيضاً تقدم لنا في كتاب الطهارة لو توضأ بماء مغصوب فإن وضوءه غير صحيح، تيمم بتراب مسروق أو منتهب يقولون: بأن هذه الأشياء تبطل عليه, ما دام أنه يعود إلى شرط العبادة أو يعود إلى شرط المعاملة، شرط المعاملة مثل جهالة الثمن، مثل جهالة المثمن... إلى آخره, فإن ذلك يبطل عليه العبادة، ويبطل عليه المعاملة.
والصواب في مسألة الشرط أنه لا يبطل العبادة, ولا يبطل المعاملة على الإطلاق، بل نقول: إن في هذا تفصيلاً, وهو: أن النهي إذا كان ملاحظاً في الشرط فإنه يقتضي الفساد، أما إذا كان النهي غير ملاحظ في الشرط فإنه لا يقتضي الفساد، وهنا النهي ليس ملاحظاً في الشرط، الشارع ما قال: لا تصلوا في ثوب مغصوب، أو لا تصلوا في ثوب مسروق، أو في ثوب منتهب, إلى آخره، فالصواب في مثل هذا أن نقول: بأن الصلاة صحيحة لكنه يأثم، وكذلك أيضاً نقول مثله في الوضوء، مثله في التيمم وفي الغسل, إذا توضأ بماء مغصوب أو ماء مسروق إلى آخره نقول: بأن الوضوء والغسل والتيمم صحيح, لكنه يأثم لكونه استعمل المحرم.
فالصواب في هذه المسألة: أن صلاته صحيحة؛ لأن النهي هنا ليس ملاحظاً في الشرط شرط العبادة أو شرط المعاملة.
قال: (أو دار مغصوبة). وكذلك أيضاً إذا صلى في دار مغصوبة نقول: بأن صلاته غير صحيحة. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
والرأي الثاني: أن الصلاة صحيحة، وهذا القول هو الصواب كما قلنا في الصلاة في الثوب المغصوب، فالصواب: أنه إذا صلى في دار مغصوبة أو دار مسروقة أو منتهبة فنقول: بأن صلاته صحيحة, لكنه يأثم لكونه استعمل المغصوب.
والحنابلة كما تقدم يبنونه على القاعدة التي سلف أن ذكرنا أقسامها.
لبس الذهب والحرير يقول المؤلف رحمه الله: مباح للنساء, وهذا بالإجماع، فالإجماع قائم على أن المرأة لها أن تلبس الذهب، ولها أن تلبس الحرير.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن المرأة لها أن تلبس الذهب سواء كان الذهب محلقاً أو غير محلق، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقد حكي الإجماع على ذلك، والسنة شاهدة على أن المرأة يباح لها أن تلبس الذهب سواء كان محلقاً أو غير محلق، ويدل لذلك أيضاً ما أورده المؤلف من حديث أبي موسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم )، وهذا الحديث أخرجه الترمذي ، وكذلك أيضاً النسائي والإمام أحمد والبيهقي وغيرهم، وإسناده ثابت.
فنقول: بالنسبة للمرأة يباح لها أن تلبس الذهب، ويباح لها أن تلبس الحرير.
لكن قيد العلماء رحمهم الله لبس الذهب بالنسبة للمرأة بما جرت العادة بلبسه، ما اعتاد الناس أن يلبسوه، أما إذا كان لبسه على وجه خارج عن العادة فإنه وإن كان في الأصل مباحاً إلا أن ذلك يخرجه إلى أمر آخر منهي عنه، وهو أن يكون لباس شهرة، أو يكون فيه إسراف وتبذير, وغير ذلك.
المهم نفهم أن الأصل أن لبس الذهب للمرأة مباح، وقلنا: بأن العلماء قيدوا هذه الإباحة بقولهم: ما جرت العادة بلبسه، فما خرج عن العادة إذا تضمن ذلك محذوراً شرعياً فإنه يكون منهياً عنه، قد يكون لباس شهرة, يعني: تلبسه المرأة على وجه لم يكن يلبس عادة, فيكون في ذلك شهرة، فتدخل في النهي أو في ما جاء في الوعيد في لباس الشهرة، أو يكون في ذلك إسراف وتبذير، وكذلك أيضاً بالنسبة للحرير.
قال المؤلف رحمه الله: (دون الرجال إلا عند الحاجة).
الرجل لا يجوز له أن يلبس الذهب، ولا يجوز له أن يلبس الحرير، إلا أنه يستثنى من ذلك مواضع.
استثنى المؤلف رحمه الله قال: إلا عند الحاجة، فيجوز للرجل أن يلبس الذهب عند الحاجة، والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبس الذهب: ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه، وله شاهد أيضاً من حديث علي رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ذهباً وحريراً, فوضع أحدهما في يمينه والآخر في شماله, فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم )، فالذهب يحرم على الرجل إلا في مواضع:
الموضع الأول: عند الضرورة، فإذا اضطر إلى الذهب فإنه لا بأس بذلك، ويدل لذلك ما جاء في حديث عرفجة بن أسعد رضي الله تعالى عنه ( أنه قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق من فضة، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب )، هذا الموضع الأول.
الموضع الثاني فيما يتعلق باللبس: أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اليسير من الذهب إذا كان تابعاً وإنه لا بأس به، واليسير هذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون مستقلاً ليس تابعاً لأمر مباح، فإن هذا محرم ولا يجوز.
القسم الثاني: أن يكون هذا اليسير تابعاً لأمر مباح، فإن هذا جائز على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
مثلاً: إذا اتخذ الإنسان أزارير من ذهب نقول: هذه الأزارير تابعة لشيء مباح، إذا كانت متصلة بالثوب فنقول: بأن هذا جائز, ولا بأس به، لكن إذا كانت منفصلة فنقول: بأن هذا محرم ولا يجوز.
ومثل ذلك أيضاً ما يسأل عنه بعض الناس من أنه قد يوجد في بعض مشالح الرجال بعض الخيوط من الذهب، فهذه الخيوط من الذهب نقول: بأنها يسير تابع، فإذا كان يسيراً تابعاً فإن هذا جائز ولا بأس به, على ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله.
مثال آخر: لو أن الإنسان لبس ساعة وفيها شيء من الذهب أو في آلاتها شيء يسير من الذهب فعلى كلام شيخ الإسلام هذا جائز ولا بأس به، لكن لو أن الإنسان لبس خاتماً من ذهب نقول: بأن هذا محرم ولا يجوز؛ لأن المستقل حتى ولو كان يسيراً محرم ولا يجوز، ولهذا في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً في إصبعه خاتماً من ذهب فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام وألقاه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في إصبعه، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهذا الرجل: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا آخذه وقد ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم ).
المهم نفهم أن الشيء المستقل حتى ولو كان يسيراً فإنه لا يجوز.
وعلى هذا أيضاً لو أن رجلاً اتخذ لكمه ما يسمى بالكبك فهذا الكبك ما دام أنه مستقل فلا يجوز له أن يتخذه؛ لأن اليسير إذا كان غير تابع فهو محرم ولا يجوز؛ لعموم حديث أبي موسى : ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها )، وقوله: ( حرام على ذكور أمتي ) يشمل القليل ويشمل الكثير.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله ما يدل أيضاً على تحريم اليسير إذا كان مستقلاً.
وأما بالنسبة لليسير التابع فقلنا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يختار بأن هذا جائز، والجمهور على أن ذلك لا يجوز.
ودليل شيخ الإسلام : ما ثبت في صحيح البخاري من حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه: ( أن أباه
فاستثنينا بالنسبة للرجال من الذهب ما دعت إليه الضرورة؛ لحديث عرفجة رضي الله تعالى عنه.
واستثنينا أيضاً على قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اليسر التابع، وهذا فيما يتعلق باللباس.
أما ما يتعلق بالآنية فهذا سبق وأن تكلمنا على ذلك, يعني: حكم استعمال آنية الذهب والفضة، وحكم اتخاذ آنية الذهب والفضة، وذكرنا فيما تقدم في باب الآنية أن استعمال آنية الذهب والفضة ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: في الأكل والشرب.
والقسم الثاني: في غير الأكل والشرب.
وأيضاً تكلمنا عن حكم الاتخاذ، فلا نخبط بين ما يتعلق بمسألة اللباس وبين ما يتعلق بمسألة الآنية، فلكل حكم مستقل، هذا بالنسبة للذهب.
ولم يتعرض المؤلف رحمه الله للفضة بالنسبة للرجال والنساء، فنقول: أما بالنسبة للنساء فالفضة جائزة لهن بالإجماع.
وأما بالنسبة للرجال فاختلف أهل العلم رحمهم الله في مسألة اللباس, ليس في مسألة الآنية, وإنما في مسألة اللباس, هل لبس الفضة جائز للرجال؟ مثلاً لو أن إنساناً أراد أن يلبس عباءة عليها أعلام من الفضة، يعني: يلبس مشلح عليه زر من الفضة هل هذا جائز أو ليس بجائز؟ أو أراد أن يلبس ساعة من فضة، أو يلبس مرآة على إطارها فضة, هل هذا جائز أو ليس جائزاً؟
جمهور أهل العلم يقولون: الفضة كالذهب محرمة على الرجال.
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الفضة مباحة، الأصل فيها الإباحة، ولم يرد دليل يدل على تحريم لبس الفضة للرجال.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله: ( وأما الفضة فالعبوا بها لعباً )، وهذا الحديث وإن كان في إسناده شيء إلا أنه في الصحيحين من حديث أنس وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة )، هذا فيما يتعلق بالذهب.
الحرير بالنسبة للنساء جائز بالإجماع، ودليل ذلك: ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث أبي موسى ، وما ذكرناه من حديث علي رضي الله تعالى عنهما.
وأما بالنسبة للذكر فإن الحرير محرم عليه؛ لما أوردنا من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حرم لبس الذهب والحرير على ذكور أمتي وأحل لإناثها )، وما تقدم من حديث علي رضي الله تعالى عنه إلا أنه أيضاً الذكر يباح له الحرير في مواضع:
الموضع الأول: عند الحاجة فلا بأس، فإذا احتاج الذكر إلى لبس الحرير لمرض كحكة يعني: وجد فيه حكة يحتاج معها إلى لبس الحرير؛ لأن الحرير لباس بارد، أو كان فيه جرب أو فيه قمل أو نحو ذلك فإنه لا بأس أن يلبسه، ويدل لذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن
فنقول: إذا دعت الحاجة إلى ذلك لمرض أو قمل أو حكة ونحو ذلك فإن هذا جائز ولا بأس به.
الموضع الثاني: أيضاً ما ورد في صحيح مسلم من حديث عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة ). وهذا في صحيح مسلم ، وعلى هذا لا بأس أن الرجل يلبس ثوباً فيه أعلام من الحرير، لكن بشرط ألا تتجاوز هذه الأعلام أربعة أصابع، يعني: لا بأس أنك تلبس ثوباً معلماً فيه مشجر من الحرير، علم فيه حرير، ويكون بجانبه علم من غير الحرير، علم مثلاً من القطن أو من الصوف أو غير ذلك أو من الكتان، يعني: تلبس ثوباً فيه علم من الحرير، والعلماء يقولون: العبرة بالعرض أربعة أصابع، أما الطول فلا حد له، لو كان الثوب من أوله إلى آخره كله حرير، لكن العرض ما يتجاوز أربعة أصابع، أيضاً العلم الذي يكون بجانبه من الصوف أو الكتان أو غير ذلك أيضاً ما يكون مساوياً للحرير يكون أكثر من الحرير، فإذا كان علم الحرير ثلاثة أصابع يكون علم الصوف أربعة أصابع، إذا كان علم الحرير إصبعين يكون علم الصوف ثلاثة أو أربعة, إلى آخره.
فإذا كان الثوب معلماً فإنه جائز ولا بأس به، والمقصود: بأربعة أصابع الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم إصبعين أو ثلاثة أو أربعة في الموضع الواحد، أما لو كان الثوب فيه مثلاً عشرون إصبعاً أو فيه ثلاثون إصبعاً فإن هذا جائز، المهم في الموضع الواحد لا يتجاوز العلم أربعة أصابع.
وأيضاً نشترط شرطاً آخر هو الأحوط والصواب: أن ما يكون بجانبه من العلم الآخر يكون من الصوف لا يكون مساوياً له، بعض أهل العلم قال: بأنه لا بأس أن يكون مساوياً, لكن الأقرب أنه لا يكون مساوياً، يكون خمسة أصابع، علم الحرير أربعة الصوف خمسة، علم الحرير ثلاثة الصوف أربعة، وهكذا.
فإذا كان في الثوب عشرة أعلام فإنه لا بأس، هذا علم حرير، وهذا علم صوف، هذا علم حرير وهذا علم صوف، علم حرير وعلم صوف نقول: هذا لا بأس به، هذا جائز، لكن في الموضع نشترط أن يكون الموضع الواحد لا يتجاوز أربعة أصابع.
وشرط آخر: أن ما بجانبه من الصوف أو القطن أو الكتان يكون أكثر منه.
وأيضاً نتنبه إلى أن العبرة بالعرض، أما الطول فحتى لو كان طوله متراً أو مترين إلى آخره فإن هذا لا بأس به، نقول: هذا جائز ولا بأس به.
أيضاً قلنا: أنه لو كانت الأعلام كثيرة بحيث تكون الأصابع تساوي عشرين إصبعاً أو ثلاثين إصبعاً فإن هذا جائز ولا بأس به.
وتكلم أكثر العلماء رحمهم الله على صور ذلك، فمن ذلك: سجف الفراء, يعني: الذي يوضع على أطراف الفروة، أو يوضع على أطراف المشلح، أو يوضع على أطراف الكوت، نقول: هذا لا بأس به, لكن بشرط أن يكون أربعة أصابع فأقل، فإذا كان مثلاً أطراف المشلح أو أطراف الفروة أربعة أصابع من الحرير الخالص فإن هذا لا بأس به.
أيضاً لبنة الجيب، يعني: الفتحة التي يدخل من عندها الرأس، لو كان هذه اللبنة وضع عليها الإنسان حريراً فإن هذا جائز ولا بأس به، لكن بشرط أن يكون أربعة أصابع فأقل.
أيضاً الرقاع، لو أن الإنسان رقع ثوبه أو مشلحه وغير ذلك أيضاً نقول: لا بأس أن يكون ذلك أربعة أصابع فأقل، وعلى هذا فقس.
الموضع الثالث الذي رخص فيه العلماء رحمهم الله في الحرير: إذا كان حشواً فلا بأس به، فإذا حشى الفروة أو حشيت الكوت من الحرير فإن هذا لا بأس به.
وكذلك أيضاً رخص العلماء رحمهم الله في كيس المصحف، كيس المصحف أيضاً أجاز العلماء رحمهم الله أن يكون من الحرير.
وكذلك أيضاً الأزارير لا بأس به؛ لأن هذا لا يأخذ أربعة أصابع، إنما يكون أقل من أربعة أصابع.
وكذلك أيضاً لباس الكعبة، أجاز العلماء رحمهم الله أن يكون ذلك من الحرير.
قال المؤلف رحمه الله: (لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ).
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجب على الرجل إذا صلى في الفرض أن يستر عورته, وهي ما بين السرة والركبة كما تقدم لنا، وأيضاً يجب عليه أن يستر أحد عاتقيه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: بعضه على عاتقه أجزأه ذلك.
ودليلهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ).
وعند جمهور أهل العلم: أن ستر أحد العاتقين ليس شرطاً، فلو صلى الإنسان ولم يستر أحد عاتقيه فإن هذا جائز ولا بأس به.
ويدل لذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه لما سئل: ( أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: إن كان ضيقاً فاتزر به، وإن كان واسعاً فالتحف به )، فإذا كان ضيقاً جعله إزاراً، وإذا جعله إزاراً فإنه سيستر نصف بدنه فقط دون النصف العلوي.
وهذا القول هو الصواب، فنقول: الصواب في هذا: أنه لا يشترط أن يستر أحد عاتقيه, كما هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله.
ذكر المؤلف هنا حالات:
الحالة الأولى: إذا وجد المصلي بعض السترة فيبدأ أولاً بستر العورة، وهي ما بين السرة والركبة.
الحالة الثانية: إذا كان ذلك لا يكفي لكل العورة، فمثلاً: إذا فرضنا أن المصلي رجل يجب عليه أن يستر ما بين السرة والركبة، وجد ما يتمكن به من ستر ما بين السرة والركبة نقول: لم يستر الفرجين: القبل والدبر.
الحالة الثالثة: لا يكفي إلا أحد الفرجين ستر أحدهما.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا المصلي بالخيار, إن شاء ستر القبل، وإن شاء ستر الدبر، والأولى هو ستر الدبر؛ لأن عورة الدبر أفحش.
والوجه الثاني في المذهب: أن الأولى ستر القبل؛ لأن القبل يستقبل به القبلة.
لكن الأقرب هو الرأي الأول وأنه يستر الدبر؛ لأن عورة الدبر أفحش وأغلظ من عورة القبل.
وعلى هذا نقول: المراتب ثلاثة، إذا وجد بعض السترة نقول: يستر العورة, إذا لم يتمكن ينتقل إلى الحالة الثانية, يستر الفرجين، إذا لم يتمكن ستر أحد الفرجين، وأيهما أولى هل هو القبل أو الدبر؟
قلنا: الأقرب في ذلك أن الأولى هو الدبر, فعليه أن يستر الدبر.
قال المؤلف رحمه الله: [ فإن عدم الستر بكل حال صلى جالساً, يومئ بالركوع والسجود، وإن صلى قائماً جاز ].
إذا كان الإنسان عارياً كإنسان سلبه اللصوص وأخذوا ثيابه ثم حضرته الصلاة فإنه يصلي على حسب حاله، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، وهذا يدل على عظم شأن الوقت، بل يصلي الإنسان على حسب حاله؛ لأنه الآن مخاطب بالصلاة، والله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فإذا كان مخاطباً فإنه يصلي، وحينئذ نقول: هذا العاري له حالتان: حالة جواز، وحالة أفضلية، الأفضل أن تصلي وأنت جالس، تومئ بالركوع والسجود، تومئ راكعاً وتومئ ساجداً، وتجعل سجودك أخفض من ركوعك، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: حالة الجواز، وهي أن يصلي قائماً تماماً، يقوم ويركع ويسجد.. إلى آخره، نقول: بأنه جائز ولا بأس به.
إذا لم يجد الإنسان إلا ثوباً نجساً أو مكاناً نجساً فإنه يصلي فيه ولا إعادة عليه، وهذا الذي ذهب إليه المؤلف رحمه الله ظاهر؛ لأن الله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا الشخص لم يجد إلا هذا الثوب أو هذا المكان.
ولا إعادة عليه، هذا هو الأصل، الأصل أن الإنسان إذا فعل المأمور حسب ما أمر فإنه لا يطالب به مرة أخرى، هذا الأصل, هذه القاعدة أن الإنسان إذا فعل المأمور حسب الأمر أنه لا يطالب به مرة أخرى.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا وجد ثوباً للغير يعني: أنه وجد ثوباً يملكه لكنه نجس نقول: يصلي فيه. لكن لو وجد ثوباً لزيد أو عمرو هل يصلي فيه أو لا يصلي فيه؟
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله، فقال بعض أهل العلم: يصلي فيه ويعيد، يعني: لو وجد ثوباً مغصوباً أو مسروقاً قال: يصلي فيه ويعيد.
وقال بعض أهل العلم: يصلي عارياً, ولا إعادة عليه، ولا يستعمل حق الغير.
والأقرب في هذه المسألة أن يقال: إن مثل هذا يختلف، فإذا كان المالك عادة يأذن باستعمال هذا الثوب فنقول: بأنه يصلي فيه, ولا إعادة عليه، وإذا كان لا يأذن بذلك فإنه يصلي عارياً, ولا إعادة عليه.
هذا الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة، والمؤلف رحمه الله جعله من الشروط، وبعض العلماء لا يجعله شرطاً؛ لأنه يسقط بالنسيان والسهو والجهل, فإذا نسي الإنسان ولم يعلم أو جهل أو نسي فإنه يسقط عليه.
قال: (في بدنه).
وهذا بدنه دليله سائر أدلة الاستنجاء والاستجمار, فسائر أدلة الاستنجاء والاستجمار التي سبقت لنا هذه كلها تدل على وجوب طهارة البدن حال الصلاة، كحديث سلمان وحديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة , وغير ذلك من الأحاديث.
وكذلك أيضاً من الأدلة على إزالة النجاسة على البدن: حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فإنه كان لا يستبرئ من بوله )، هذا بالنسبة للبدن.
قال: (وثوبه).
ودليله حديث أسماء رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب: ( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء، ثم صلي فيه ).
وأيضاً يدل لذلك قول الله عز وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] على أحد التفاسير.
قال: (وموضع صلاته).
موضع صلاته هذا يدل له حديث أنس رضي الله تعالى عنه في بول الأعرابي, ( لما بال في طائفة من المسجد فزجره الناس, فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكمل بوله، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه ) فهذا يدل على وجوب طهارة موضع الصلاة.
قال: [ إلا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم ونحوه ].
تقدم لنا ما هو ضابط النجاسة التي يعفى عنها، والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن النجاسة التي يعفى عنها هي نجاسة الدم اليسير في غير المطعوم، فإذا كان دماً ويسيراً وكان ذلك في غير مطعوم وفي غير مائع فإنه يعفى عن هذه النجاسة بهذه القيود الأربعة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وتقدم لنا أن الصواب في هذا أنه يعفى عن يسير النجاسة مطلقاً، وذكرنا الدليل على ذلك، سائر أحاديث الاستجمار, يقول شيخ الإسلام : بأن سائر أحاديث الاستجمار تدل على أن يسير النجاسة يعفى عنه؛ لأنه لا شك أن الإنسان إذا استجمر سيبقى شيء من أثر النجاسة، وهذه النجاسة معفو عنها، فدل ذلك على أن يسير النجاسة يعفى عنه.
لا بد أن نفرق بين مسألة إزالة الخبث ورفع الحدث، فإزالة الخبث من باب التروك والمحظورات، وأما رفع الحدث فهذا من باب الأوامر، فرفع الحدث من باب الأوامر، وأما إزالة الخبث فهو من باب النواهي والتروك والمحظورات.
وذكرنا قاعدة فيما سبق, أن ما يتعلق بالتروك والمحظورات والنواهي يشترط فيها ثلاثة شروط؛ لكي تترتب عليها آثارها, وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: الذكر.
والشرط الثاني: الاختيار.
والشرط الثالث: العلم.
وعلى هذا لو أن الإنسان صلى وفي ثوبه نجاسة ونسي أن يزيلها، هو علم بالنجاسة لكن نسي أن يزيل هذه النجاسة, فنقول: إن صلاته صحيحة؛ لأن إزالة الخبث من باب المحظورات أو من باب التروك.
وكذلك أيضاً لو أن إنساناً صلى وبعد أن انتهى من صلاته علم أن في ثوبه أو في بدنه أو في بقعته نجاسة فنقول: إن صلاته صحيحة.
ولو أن إنساناً صلى مكرهاً على حمل النجاسة فنقول: بأن صلاته صحيحة.
فعلى هذا إذا صلى الإنسان ثم بعد ذلك تذكر أن في ثوبه نجاسة أو في بدنه أو في بقعته نقول: بأن صلاته صحيحة, ولا شيء عليه.
قال: (وإن علم بها في الصلاة أزالها, وبنى على صلاته).
إذا علم أن في ثوبه نجاسة فنقول: بأنه يزيلها ويبني على صلاته، ويدل لذلك: حديث أبي سعيد وحديث جابر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بنعليه, ثم خلعهما في الصلاة، فخلع الصحابة رضي الله تعالى عنهم نعالهم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن خلعهم نعالهم فقالوا: خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أخبرني أن بهما أذى, فخلعتهما ).
إذاً: إذا علم المصلي أن في سترته التي ستر بها نجاسة فإنه يزيلها؛ لما تقدم من حديث أبي سعيد وجابر رضي الله تعالى عنهما، فإن كان لا يتمكن من إزالتها لكونه لا يبقى عليه شيء يستتر به فإنه يستأنف الصلاة، يطهر ثيابه, ويستأنف الصلاة من أولها.
الأصل أن الأرض كلها مسجد؛ لحديث جابر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فالأرض كلها مسجد، هذا هو الأصل, كما في الصحيحين، وعلى هذا لا نستثني من هذا الأصل إلا ما دل له الدليل.
وقد استثنى المؤلف رحمه الله فقال: (إلا المقبرة).
المقبرة لا تصح الصلاة فيها، والمقبرة هي: مدفن الموتى، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن المقبرة لا تصح الصلاة فيها سواء دفن فيها واحد أو أكثر من واحد. هذا هو الصواب.
وأما قول بعض العلماء رحمهم الله: لا يضر قبر ولا قبران فهذا فيه نظر.
فالصواب: أن المقبرة ما دام أن الدفن وجد فيها أن الصلاة لا تصح، ويدل لذلك حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، وهذا إسناده جيد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأيضاً ما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، فدل ذلك على أن المقابر لا تتخذ مساجد.
وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا في بيوتكم، لا تجعلوها مقابر )، فدل ذلك على أن المقابر لا يصلى فيها.
والعلة في النهي عن الصلاة في المقبرة: سد ذرائع الشرك؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تعظيم أهل القبور، وصرف شيء من أنواع العبادة لهم.
وأما قول بعض العلماء: بأن العلة هي خشية النجاسة؛ وذلك بسبب تولد النجاسة من الأموات أو من لحوم الأموات فهذا فيه نظر، فالصواب في ذلك: أن العلة كما لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، العلة هي: سد ذرائع الشرك؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تعظيم أصحاب القبور.
قال: (والحمام).
الحمام هو: مكان المغتسل، مكان المغتسل هذا لا تصح الصلاة فيه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ).
قال: (والحش).
الحش: مكان قضاء الحاجة، والحش أيضاً لا تصح الصلاة فيه، إذا كان الحمام وهو مكان المغتسل لا تصح الصلاة فيه فالحش من باب أولى.
والعلة في النهي عن الصلاة في الحمام والحش: أن هذه الأشياء هي موارد الشياطين وأماكنهم.
وأيضاً علة أخرى, وهي: أيضاً أنها مظنة النجاسة, خصوصاً الحش، الحش هو مظنة النجاسة. والنجس هل يصح الصلاة فيه؟ تقدم لنا أنه يشترط طهارة الموضع الذي يصلى فيه.
قال: (وأعطان الإبل).
أيضاً أعطان الإبل لا تصح الصلاة فيها؛ لحديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا ). فدل ذلك على أن أعطان الإبل لا تصح الصلاة فيها.
واختلف العلماء رحمهم الله في تفسير أعطان الإبل على رأيين:
الرأي الأول: أن المراد بأعطان الإبل هي: المواضع التي تقيم فيها وتأوي إليها، هذا هو المراد، فإذا كان هناك صير وأحواش تقيم وتأوي إليها هذه الإبل فإنه لا تصح الصلاة فيها.
والرأي الثاني: أن المراد بأعطان الإبل المواضع التي تردها بعد أن ترد الماء.
والصواب في ذلك: أنه شامل للأمرين، يشمل هذا وأيضاً يشمل هذا.
قال: (وقارعة الطريق).
أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لا تصح الصلاة في قارعة الطريق، ودليل ذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في أبي داود وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن، وذكر منها: قارعة الطريق )، لكن هذا الحديث لا يثبت، وحينئذ نقول: الصلاة في قارعة الطريق صحيحة، لكن ليس للإنسان أن يصلي في قارعة الطريق؛ لأن الطريق هذا ليس ملكاً خاصاً, وإنما هو ملك عام لعموم الناس، فكونه يتحجر عليهم ويصلي فيه هذا منع لهم من الاستطراق، لكن لو صلى نقول: بأن صلاته صحيحة، ولا يلزم من كونه يحرم عليه ذلك أن تكون صلاته باطلة, هذا ليس بلازم.
وقوله: قارعة الطريق يعني: ما تقرعه الأقدام بالمشي عليه، هذا المراد به، وعلى هذا ما كان عن جوانب الطريق يمين الطريق ويسار الطريق يعني: جوانب الطريق هذا تصح الصلاة فيه.
فأصبحت الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها: المقبرة، والحمام، والحش، وأعطان الإبل.
أيضاً بقي أمر خامس, وهو المحل النجس، المحل الذي فيه نجاسة نقول: لا تصح الصلاة فيه.
أما القرآن: فقول الله عز وجل: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] يعني: جهة الكعبة.
وأما السنة: فحديث المسيء صلاته؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال له كما في حديث أبي هريرة : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).
والاتفاق قائم على ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (استقبال القبلة).
هذا الأصل، الأصل في الصلاة وجوب الاستقبال، وأن استقبال القبلة شرط، إلا أنه يستثنى من ذلك مواضع:
الموضع الأول: في صلاة النافلة في السفر، فإنه لا يشترط الاستقبال، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يشترط له الاستقبال سواء كان راكباً أو راجلاً، يعني: سواء كان يمشي على رجليه أو كان راكباً على سيارته أو في الطائرة أو في القاطرة, المهم إذا كان في السفر وكان أيضاً في صلاة النافلة فإنه لا يشترط له الاستقبال، وقلنا: سواء كان راكباً أو راجلاً، ويدل لذلك: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه, يومئ برأسه )، وهذا في الصحيحين، وأيضاً مثله حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فنقول: بأنه يسقط الاستقبال في هذه الحالة.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يشترط الاستقبال حتى في تكبيرة الإحرام، يعني: حتى في تكبيرة الإحرام ليس شرطاً أن تتجه تجاه القبلة وتكبر للإحرام, هذا ليس شرطاً، وهذا هو الصواب، وهو الذي ذهب إليه ابن القيم رحمه الله، وعلى هذا يحمل حديث أنس في سنن أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة استقبل بوجهه، ثم كبر ) هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما لم يذكروا ذلك، وعلى هذا نقول: بأن هذا على سبيل الاستحباب، وهذا القول هو الصواب.
قال المؤلف رحمه الله: [ والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره فيصلي كيفما أمكنه ].
الموضع الثاني: إذا كان الإنسان عاجزاً عن الاستقبال يتضرر في الاستقبال فنقول: في هذه الحالة يسقط عنه استقبال القبلة؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها ).
فالحالة الثانية: إذا عجز عن الاستقبال لكونه خائفاً أو غيره فيصلي كيفما أمكنه، فمثلاً لو أن إنساناً لحقه عدو أو سبع أو نار أو في حال قتال العدو فإنه يسقط عنه الاستقبال في هذه الحالة؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، يصلي وهو هارب من العدو أو هارب من السبع أو النار حيث ما كان وجهه، ولا يلزمه استقبال القبلة، يسقط عنه استقبال القبلة.
ذكر المؤلف رحمه الله موضعين، وبقي عليه ثالث، وهو:
الموضع الثالث: إذا كان يلحقه مشقة ظاهرة في الاستقبال, فنقول: في هذه الحالة يسقط عنه الاستقبال، ومن باب أولى إذا كان يتضرر, فإنه في هذه الحالة يسقط عنه الاستقبال.
مثلاً: لو كان الإنسان مريضاً ممتداً على السرير وعليه الأجهزة، فكونه يستقبل القبلة حال الصلاة فيه مشقة عليه، فنقول: في هذه الحالة يسقط عنه استقبال القبلة؛ لعموم قول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).
فأصبح عندنا يسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع:
الموضع الأولى: في النافلة في السفر, سواء كان الإنسان راكباً أو كان راجلاً فإنه يصلي على سيارته أو في طائرته أو قاطرته حيثما كان وجهه، ولا يشترط الاستقبال.
الموضع الثاني: إذا كان عاجزاً عن الاستقبال إما لخوف ونحو ذلك, فإنه يسقط عنه الاستقبال؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].
الموضع الثالث: في حال المشقة الظاهرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر