إسلام ويب

طرق الشيطان المريد في إضلال العبيد [3]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للشيطان طرق كثيرة لإضلال بني آدم وإغوائهم، منها: طريق البدعة والضلالة، ثم يليه طريق كبائر الذنوب وتزيينها لإيقاعه فيها، ثم طريق الصغائر، ثم التوسع في المباحات، فإذا لم يستطع انتقل إلى إشغال المؤمن بالأشياء المفضولة وترك الفاضلة، فإذا لم يستطع ألب على المؤمن جنوده وأولياءه، وحاربه أشد المحاربة، ولا نجاة من الشيطان وسبله إلا بالالتجاء إلى الله تعالى والاستعاذة به من شر الشيطان الرجيم.

    1.   

    من الطرق التي يسلكها الشيطان لإضلال بني الإنسان البدعة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    العقبة الثانية والطريق الثاني الذي يسلكه الشيطان لإضلال بني الإنسان: عقبة البدعة، والبدعة معناها: الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن.

    وللبدعة حالتان: حالة يدعي فيها المبتدع أنه يكمل شريعة الله المطهرة، فأفٍ وتف لعقله، حيث يريد أن يستدرك على شرع ربه الذي يخبرنا الله عن حال شرعه بأنه أكمل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقد تركنا نبينا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

    والنوع الثاني من أنواع البدعة: بدعة مناقضة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أخبث البدعتين وأشنعهما.

    والبدعة يفضل الشيطان إيقاع الناس فيها على ما بعدها من الكبائر والذنوب؛ لأن البدعة تستقي من ضرع الشرك والكفر، فهي متصلة به اتصالاً وثيقاً، وفي كلٍّ منهما لجوء إلى العقل، لكن هناك إلى العقل بغير وحي، وهنا إلى العقل عن طريق التلاعب وتأويل الوحي، فالعقل في كل من الأمرين: هناك كفر لأنه ما استند إلى وحي، وأما هنا فأوَّل وتلاعب، فعنده شبهة وأمره مفوض إلى الله جل وعلا، فهو مبتدع ضال، ولذلك ثبت في شرح السنة للبغوي عن سفيان الثوري عليه رحمة الله أنه قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.

    وقد كان أئمتنا يحذرون من البدعة، ويسألون الله جل وعلا الثبات على السنة، ففي مقدمة كتاب تلبيس إبليس للإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله عن الإمام الأوزاعي : أنه رأى رب العزة جل وعلا في المنام، فقال له ربنا جل وعلا: يا عبد الرحمن ! أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت: بفضلك يا رب، ثم قلت: رب أمتني على الإسلام، قال: قل: وعلى السنة. قال: قلت: وعلى السنة. ولذلك إذا ابتدع الإنسان بدعة فقد خرج من السنة وتلبس بهذا البلاء وهذا الضلال، فهو يعصي الله ويظن أنه مصيب.

    وقال أئمتنا: أشنع المعاصي ما لا ترى أنه معصية، وأشنع منه ما ترى أنه طاعة. معصية تفعلها ولا تراها معصية، ومعصية تفعلها ثم تراها طاعة فهذه أشنع المعاصي، ولذلك قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية من أوجه كثيرة أبرزها ثلاثة:

    أولها: ما تقدم عن سفيان الثوري : أن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها.

    الأمر الثاني: أن البدعة تناقض السنة وتضادها؛ لأنه إما أن يستدرك عليها ببدعته فيزعم أن بدعته تتمم، وإما أن يأتي ببدعة يرد بها سنة ثابتة.

    الأمر الثالث: أنه عندما يبتدع يعادي أهل السنة ويضللهم، ويوقع النزاع في هذه الأمة والشقاق والافتراق، فلذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.

    قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: إن الذي يتخذ البدعة ديناً لا يمكنه أن يتوب من بدعته، ولا يمكن أن يتوب من معصيته؛ لأن أول التوبة العلم والشعور بالخطأ، أن يعلم الإنسان أنه فعل منهياً أو ترك أمر إيجاب أو أمر استحباب، وأما إذا ابتدع وهو يرى أنه على هدى، وهو في الحقيقة على ردى فلن يتوب، ولذلك ما دام الإنسان يشعر بأنه مخطئ إذا قصر فهو على خير، إنما البلاء إذا قصر ويشعر أنه محسن وأنه مطيع وأنه صديق مقرب، ولذلك ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من سرته طاعته، وساءته معصيته فهو مؤمن)، والحديث في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط بسند صحيح عن أبي أمامة ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير أيضاً عن علي ، ورواه الحاكم والإمام أحمد والبزار والطبراني بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولفظ الحديث ما أشرت إليه: (من سرته طاعته وساءته معصيته فهو مؤمن).

    عباد الله! والبدعة التي يوقع الشيطان فيها الإنسان في المرحلة الثانية مردودة عليه، والله لا يقبلها منه، ولذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لـمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن البدع ستكثر في العصور المتأخرة، وحذرنا منها، وأمرنا أن نثبت أنفسنا، وأن نتمسك بسنته والطريقة التي سار عليها أصحابه الكرام رضوان الله عليهم.

    ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، والحديث في مستدرك الحاكم بسند صحيح، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، زاد النسائي في رواية وابن أبي عاصم في كتاب السنة: (وكل ضلالة في النار).

    1.   

    فشو البدع وانتشارها في الأمة

    عباد الله! والبدع قد فشت وانتشرت من أزمنة طويلة، وفي هذه الأيام عكف الناس على البدع وخيموا عليها، وهم يظنون أنهم يتقربون بفعلها إلى الله جل وعلا، فرحمة الله على الإمام أحمد عندما يقول كما يروي عنه الإمام الخلال في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا رأيتم شيئاً مستقيماً فتعجبوا. فالأصل في الحياة من زمن الاعوجاج والبدع والضلال إلا ما رحم ربك وقليل ما هم، ولذلك كان شيخ الإسلام ميمون بن مهران يقول كما في سير أعلام النبلاء في الجزء الخامس صفحة ست وسبعين: والله لو نشر فيكم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام -أي: لو بعثوا- ما عرفوا إلا القبلة. ويقول هذا في القرن الثامن، فماذا يقول ميمون لو أدرك زمننا؟ وأنا أقول لهذا العبد الصالح: لو نشر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الوقت لوجدوا أن القبلة مبتدعة وفيها بلاء، ولذلك سأذكر بعض البدع، وأبدأ بالبدع التي توجد في مساجدنا هذه الأيام.

    بدعة المحراب

    أولها ما أشار إليه ميمون بن مهران فيما يتعلق بالقبلة، فلا يخلو مسجد من مساجد المسلمين في هذا الحين من محراب، ووجود المحراب في المسجد بدعة، وما كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولا زمن الصحابة الطيبين محراب في مسجدهم ولا في مساجدهم، ووصل الضلال والبلاء والابتداع في مساجد المسلمين أنهم يكتبون فوق المحراب: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37]، أي محراب يا معشر المهوسين؟ المحراب في اللغة: بمعنى المكان العالي والغرفة المرتفعة، وقوله: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ [آل عمران:37]، أي: الحجرة المرتفعة التي تسكنها هي، فهي لم تكن في المحراب الذي يصلي فيه الإمام، لأنه إذا صلى فيستقبلها لأنها أمامه، نعوذ بالله! لا عقل ولا نقل وهذا كالذي قرأ: (فخر عليهم السقف من تحتهم)، فالمحراب هو العلية، وهو الذي أشار إليه ربنا جل وعلا في سورة سبأ عندما ذكر ما أعطى لنبيه سليمان على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وأنه سخر له الجن، قال: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13]، (محاريب) جمع محراب، وهي القصور العالية الشهيقة المرتفعة، وقيل: هي المساجد الحصينة، وفسر بالأمرين، وأما المحاريب الآن التي فشت في مساجد المسلمين، وكل من يبني مسجداً لا يستشير أهل الخير في كيفية بناء المسجد، ويصفر ويحمر ويزين ثم يجعل هذا المحراب ويكتب عليه الآيات، فهذا من البدع الرديئات.

    وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام النهي عن المحراب، ففي سنن البيهقي والحديث صححه الإمام السيوطي في كتاب ألفه في هذه المسألة سماه: إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب، والشيخ الألباني في السلسة نص على أن الحديث في درجة الحسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا هذه المذابح)، يعني: المحاريب. فأهل الكتاب يعملون في كنائسهم محاريب يزعمون أنهم يذبحون أنفسهم فيها، ويجاهدونها لله رب العالمين، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينهانا عن التشبه بهم فيقول: (اتقوا هذه المذابح)، يعني: المحاريب.

    وفي مسند البزار بسند رجاله موثقون عن عبد الله بن مسعود أنه كره الصلاة في الطاق. يعني: في المحراب. ونقل هذا عن عدد من التابعين في مصنف عبد الرزاق رضي الله عنهم أجمعين، نقل عن الحسن وعن الشعبي وعن النخعي وغيرهم أنهم كرهوا الصلاة في المحراب.

    قال الإمام الألوسي في روح المعاني في الجزء الثالث صفحة خمس وأربعين ومائة: والمحراب المتخذ في المساجد في هذه الأيام قد أنكره أئمة الإسلام، وهو لا شك من البدع المحدثة التي لم تكن زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولا صحابته، المحاريب، ولذلك نص أئمتنا على كراهة الصلاة في المحراب لثلاثة أمور:

    أولها: التشبه بأهل الكتاب.

    والثاني: أن الإمام يتميز عن المأمومين.

    والثالث: أن الإمام يستر نفسه ولا يظهر عندما يدخل لهذا المحارب، وكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة كافية في الكراهة فكيف إذا اجتمعت؟ وأشنعها أولها: أننا نشتبه بأهل الكتاب في هذا الأمر. سبحان الله العظيم! هذه بدعة.

    بدعة ثانية في هذا المسجد عكف الناس في كثير من الأماكن على ذكر الله بطريقة مبتدعة منكرة يتقربون بها إلى الشيطان، وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الرحمن، يجلسون في بيوت الله فيذكرونه باسم مفرد مظهراً: الله، الله، أو مضمراً: هو، هو، ويحرفون الكلمة الأولى عن الثانية إلى ألقاب منكرة يتلاعبون باسم الله المبارك، فبدلاً من أن يقول: الله: إه، إح، من العجلة، وهكذا هم يعون كما تعوي الكلاب في بيوت الله جل وعلا، والبلاء أن هذا يقرر على أنه من الشريعة، وأن هذا ذكر مبارك.

    يقول الرازي عندما يخرف في أول تفسيره عند الكلام على بسم الله الرحمن الرحيم، يقول: وهذا فصل لطيف في النكت المستنبطة من البسملة والفاتحة، ثم ذكر أن أبا حامد -يعني الغزالي - ذكر أن لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص، لا إله إلا الله توحيد العوام، والذكر بـ (الله الله) توحيد الخواص، والذكر بـ (هو هو) توحيد خواص الخواص، يقول الرازي : وهذا الذي ذكره الغزالي استحسنته وأيدته بالدليل، ثم ذكر كلاماً منكراً في كون (هو هو) هو أفضل الأذكار على الإطلاق، (هو هو). سبحان الله العظيم! وهذا يُفعل في بيوت رب العالمين، أين أنتم من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وخير الدعاء الحمد لله)، والحديث في صحيح ابن حبان وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه بسند صحيح عن جابر: (أفضل الذكر لا إله إلا الله)، هذا توحيد العوام؟! (وخير الدعاء الحمد لله).

    وفي سنن الترمذي بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).

    وقد رد الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله هذه البدعة، وأوذي بسببها إيذاءً كثيراً، يقول في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر في صفحة خمس وخمسين: الذكر بالاسم المفرد مظهراً: الله الله، أو مضمراً: هو هو؛ لم ترد به الشريعة المطهرة في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولا فعله أحد من أئمة الإسلام الذين يقتدى بهم، إنما مال إليه بعض المتأخرين ممن لا يعول عليه، وما يُنقل أن النبي عليه الصلاة والسلام علم علياً أن يقول: (الله الله الله) فهو حديث موضوع.

    بدعة الرقص والغناء مع الذكر المبتدع

    وقد جمع كثير من الناس في هذه المساجد مع المحراب والذكر المبتدع فعلاً منكراً لا يفعل إلا في دور الدعارة والفسق والرذالة، وهو الرقص والغناء، ويزعمون أنهم يتقربون بذلك إلى رب الأرض والسماء، فيرقصون ويتواجدون ويغنون، ويقولون: هو هو، ويقولون: نعبد الله! إنكم تعبدون الشيطان الرجيم.

    ورحمة الله على بعض السادة المتبعة حين قال في رجز يهجو به المبتدعة:

    ويذكرون الله بالتغبير ..............

    أي: بوجود آلات يغبرون بها كما قال الشافعي: خرجت من بغداد وخلفت فيها شيئاً ورائي أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. آلة العود يضرب بها لله والطرب..

    ويذكرون الله بالتغبير وينهقون النهق كالحمير

    وينبحون النبح كالكلاب طريقهم ليست على الصواب

    وليس فيهم من فتى مطيع فلعنة الله على الجميع

    هذا الذكر المبتدع الذي يفعلونه في بيوت الله جل وعلا.

    الرقص نقص والسماع وقاحة وكذا التمايل خفة بالراس

    والله ما رقصوا لطاعة ربهم ولكن للذي طحنوه بالأضراس

    أقال الله صفق لي وغني وسم الرقص والتصفيق ذكرا

    فلو كان السيادة في اخضرار لكان السلك أشرف منك قدرا

    يلبسون الثياب الخضراء ويقولون: هذا شعار الأولياء، ثم يجلسون بعد ذلك يرددون: هو هو، الله الله، لو كانت السيادة في لباس الأخضر لكان السلك أشرف قدراً.

    بدع الموالد والمواسم

    عباد الله! البدع كثيرة، بدع الموالد والذكريات التي فشت في هذه الأوقات، بدعة المولد النبوي، بدعة المواسم الأخرى التي انتشرت في هذه الأوقات، وسواءٌ سُميت بِعِيْدٍ أو سميت بأسبوع أو سميت بيوم: أسبوع النظافة، أسبوع المرور، أسبوع المساجد، عيد الميلاد، عيد المولد، بدع أحدثوها وجعلوها مواسم وعكفوا عليها، وكل هذا مما لم يأذن به ربنا جل وعلا.

    ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وللأنصار يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذا؟ قالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية فنحن نلعب فيهما في الإسلام، فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)، هذا عيدنا وهذا موسمنا، وكل ما عداه ينبغي أن نحذره وأن نترك عليه.

    وحقيقة أقول لكم إخوتي الكرام: عندما تضيع الحقائق يتظاهر الناس بالمظاهر، فنحن عندما أعرضنا عن سنة نبينا عليه الصلاة والسلام زين لنا الشيطان عيد المولد؛ ليخبرنا بأننا نحب نبي الله عليه الصلاة والسلام، وعندما أهملنا المساجد وصارت مساجدنا أحط الأبنية جعلنا له أسبوعاً نخدر فيه أنفسنا ليلعب علينا الشيطان ويقول: أنتم على هدى، أنتم تعظمون بيوت الرحمن، وإلا فأي داع يدعو للاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام؟ متى نسينا النبي عليه الصلاة والسلام حتى نحتفل به في يوم واحد في السنة؟ هو يصاحبنا عليه صلوات الله وسلامه عند الصباح وعند المساء، فمن صلى عليه عليه صلوات الله وسلامه عشراً حين يصبح وحين يمسي أدركته شفاعته، كما ثبت هذا في معجم الطبراني ، وعندما ينام الإنسان يقول دعاء النوم وفيه: (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)، فهو يلهج بذكر النبي عليه الصلاة والسلام دائماً، أما الاحتفال به في يوم واحد فلا يجوز، وهكذا بيوت الله نحن نشهدها خمسة أوقات، وننظفها ونعتني بها، فما الداعي أن يكون لها أسبوع أو يوم أو شهر؟ كل هذا من البدع التي عكف عليها الناس.

    وأما البدع المكفرة فهذه تدخل في أنواع الكفر، وضابط البدع المكفرة: أن يعتقد الإنسان بدعة يخالف فيها ما هو معلوم من دين الله بالضرورة، أو ينكر فيها شيئاً معلوماً بالإجماع، كبدعة الباطنية وغلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية وغلاة القدرية وغلاة المعطلة وغلاة الممثلة، والبدعة التي فيها ازدراء بشريعة الله المطهرة، فهذه تلحق بالعقبة الأولى بعقبة الكفر.

    1.   

    نعمة النجاة والسلامة من البدع لا تعدلها نعمة

    عباد الله! هذا الطريق من سلم منه فليحمد الله في هذا الوقت، ومن تنزه من البدع فليحمد الله على ذلك، وقد كان أئمتنا يحمدون الله على نجاتهم من العقبة الأولى كما يحمدون الله على نجاتهم من هذه العقبة، بل كانوا يقولون: لا ندري أي نعمتي الله علينا أعظم: كوننا نجونا من الكفر، أو نجونا من البدع؟!

    ثبت عن مجاهد وعن أبي العالية عليهما رحمة الله أنهما قالا: ما ندري -كل واحد يقول- أي النعمة عليّ أعظم: أن هداني الله للإسلام وحفظني من الكفر، أو أن هداني للسنة وحفظني من البدعة والأهواء؟! فهذه نعمة عظيمة.

    فإذا حصلت عند الإنسان فليحمد الله، وكان سلفنا يحذرون منها، ومن الاقتراب ممن يتصف بها كما في تذكرة الحفاظ في الجزء الأول في صفحة مائتين وست وأربعين عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول: من جلس إلى مبتدع منعه الله الحكمة. ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة بدأ يبكي فقيل له: علام تبكي؟ قال: مررت على مبتدع فسلمت عليه.

    وقال رجل لـأيوب السختياني : قف حتى أكلمك كلمة -والقائل من المبتدعين- فأجابه أيوب : ولا نصف كلمة. فإذا سلمت من هذه العقبة ونجوت منها فاحمد الله.

    1.   

    من الطرق التي يسلكها الشيطان لإضلال بني الإنسان الكبائر

    العقبة الثالثة التي يرصدها الشيطان لإضلال بني الإنسان: عقبة الكبيرة، المعصية العظيمة الشنيعة؛ لأن المعاصي بريد الكفر، فإذا وقع الإنسان فيها فينقله الشيطان بعد ذلك منها إلى ما هو أشنع، وهذا ثابت في الحلية عن أبي حفص النيسابوري أنه قال: المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت.

    ضابط الكبيرة

    وضابط الكبيرة من الذنوب: كل ذنب فيه عقوبة مقدرة في الدنيا، أو فيه وعيد خاص في الآخرة من لعنة أو غضب أو مقت أو عذاب شديد فهو كبيرة. هذا هو ضابط الكبيرة: كل ذنب فيه وعيد في الآخرة خاص، أو فيه عقوبة مقدرة في الدنيا، وعليه فالصغيرة كما قال أئمتنا: ما دون الحدين، أي: ما ليس فيه عقوبة مقدرة في الدنيا، ولا وعيد شديد في الآخرة، هذه الكبائر ينبغي للإنسان أن يحذر منها.

    فالشيطان يزينها له إذا أيس من إيقاعه في الكفر وفي البدعة عن طرق ملتوية يلبس على الإنسان فيها الأمر، فأحياناً يفتح له باب الإرجاء فيقول له: إذا وحدت الله فلا يضرك خطيئة، ورحمة الله واسعة، فلا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولذلك ليس عليك حرج إذا فعلت وفعلت من المعاصي الموبقات من زنا وشرب خمر وسرقة وغير ذلك. وهذه مصيدة من مصائد الشيطان يرصدها لبني الإنسان، فاحذر هذا أخي المسلم! والله جل وعلا أمر باجتناب الكبائر، وأخبرنا أننا إذا اجتنبناها فإن الصغائر تكفَّر لنا برحمته الواسعة، يقول جل وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].

    أما إذا فعلت الكبائر ولم تتب فأمرك موكول إلى الله، ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض إلى ربه، والله جل وعلا يقول: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، ما يلم به الإنسان ويقع فيه مما لا تنفك عنه جبلته وطبيعته من الصغائر، كما يقع أحياناً في النظر وفي شيء من ذلك، فرحمة الله واسعة إذا اجتنب الكبائر تغفر هذه الصغائر، إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32].

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا اجتنب الكبائر وفعل الطاعات تكفر عنه السيئات الصغائر الخفيفات، ففي صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وفي رواية: (كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر).

    فاتق الله في نفسك، وحذار من تلبيس الشيطان عليك أنه لا تضرك المعاصي ما دمت مؤمناً، بل إنها تضرك، وإذا لم تتب منها فأمرك لا يعلمه إلا الله.

    حيل الشيطان لإيقاع الإنسان في كبائر الذنوب

    أحياناً يفتح الشيطان على الإنسان شيئاً من الأماني، وشيئاً من الحيل التي ينصبها له بأنه ينبغي أن يفعل شيئاً من الأمور لما يترتب عليه من طاعة، فيزين له المعصية بصورة طاعة، حتى إذا فعل تلك المعصية هلك وخسر وشقي في الدنيا والآخرة، ولذلك كان أئمتنا يقولون: إن الشيطان يزين للإنسان تسعة وتسعين باباً من الخير ليوقعه في باب من الشر. ثبت هذا عن الإمام الحسن بن صالح بن حي كما في سير أعلام النبلاء، والأثر مروي عنه أيضاً في تلبيس إبليس: إن الشيطان يفتح على الإنسان تسعة وتسعين باباً من الخير ليوقعه في باب من الشر.

    إخوتي الكرام! من هذه التلبيسات التي تقع هذه الأيام ما سأذكره لكم من حوادث لنكون على بينة من أمرنا:

    جاءني مرة بعض إخواننا الكرام وقال لي: يا أخي الكريم! أنا على رأيك بأن اقتناء جهاز التلفزيون مفسدة في البيت، وإذا اقتناه الإنسان يخرج الأولاد من يده، ويتولى تربيتهم هؤلاء الممثلون المفسدون. قلت: صدقت، نسأل الله أن يثبتني وإياك وأن يثبتنا جميعاً بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ومرت الأيام فاقتنى الرجل هذا الجهاز، فعلمت بأمره وما أردت أن أتكلم معه، بما أنه ستر نفسه لعله يتوب فيما بينه وبين الله، لكن أتباع الشيطان إن تركتهم فلن يتركوك، وإذا ما دعوتهم إلى الهدى فيدعونك إلى الردى، فجاءني وقال: أوما بلغك؟ قلت: وما الذي بلغني؟ قال: اقتنيت هذا الجهاز، قلت: سبحان الله! أما كنت تقول: إنه جهاز مفسدة؟ قال: لأنظر إلى الحلقات الدينية، ولأنظر إلى المواعظ والخطب والقرآن وغير ذلك، ولا أستعمله في غير هذا، قلت: يا أخي! هذه رشوة الشيطان يفتح لك طريقاً من الخير ليوقعك في بلاء من الشر، قال: أحتاط إن شاء الله.

    ومرت فترة فقام عليه الأهل وقالوا: الجهاز الذي اشتريته لنا جهاز عادي، ليس من الأجهزة الملونة البراقة، والتلفزيون العادي هذا تلفزيون المساكين، ولكن المساكين في الدين الذين غضب عليهم رب العالمين، فنريد ما هو أخبث وأشنع، فذهب الرجل واشترى لهم تلفزيوناً ملوناً، ثم جاءني بعد ذلك إلى البيت يبكي -علم الله- ويقول: أنا الآن بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن أعصي ربي، وإما أن أطلق زوجتي، قلت: علام؟ قال: كان لا يستعمل الجهاز إلا فيما ذكرت لك، وأما الآن ففيما هب ودب، ولا ينام أحد من أفراد الأسرة إلا بعد منتصف الليل، وإذا تكلمت صاح الكبير والصغير في وجهي، فما بقي لي هيبة وخرج البيت من يدي، فماذا أعمل؟ قلت: لا أقول لك: طلق زوجك، ولا أقول لك اعص ربك، لكنني أقول: كما أدخلته أخرجه بسلام، والإنسان على نفسه بصيرة.

    إخوتي الكرام! الشيطان يزين للناس الآثام عن طريق بعض العبادات فيزين لبعض الناس أنهم يتقربون بها إلى الرحمن، ثم بعد ذلك إذا وضع رجله في الطريق سقط على أم رأسه وما يدري إلا وأنه في سقر.

    فاتقوا الله في أنفسكم عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم، إن الشيطان يسلك هذه الرشوة، إذا كانت الرشوة محرمة فرشوة الشيطان أخبث أنواع الرشى.

    يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله مخبراً عن مكانة رجل أراد الشيطان أن ينصب له فخاً وشركاً، وأن يرشيه، فانتبه وتيقظ فطرده، يقول الإمام ابن تيمية : عظمت أمر الشيخ عبد القادر الجيلاني لأمرين بلغاني عنه:

    الأمر الأول: موقفه من القدر وكلامه فيه.

    والثاني: كلامه مع الشيطان الرجيم.

    أذكر الأمر الأول لأوضحه ثم أنتقل إلى الثاني فهو محل الشاهد، أما كلامه الأول فذكره الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الثاني صفحة خمسمائة وسبع وأربعين، يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني : كان الناس إذا وصلوا إلى القدر سكتوا، وأنا لما وصلت إلى القدر فتحت فيه لي روزنة -أي: طاعة- فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، يقول: هذا الكلام هو محض التوحيد الخالص، وهو الشريعة التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فينازع أقدار الحق بالحق للحق، فلا يستسلم ويرضى بما يقع، إنما يدفعه بالقدر، نفر من قدر الله إلى قدر الله، فإذا رأينا من يتلبس بقاذورات لا نتعلل بأن هذا قدر عليه فليتركه، لا، بل ندفع هذا القدر بالقدر الثاني بنصحه والأخذ على يده، قال: بل لوجه الله جل وعلا، نازعت أقدار الحق بالحق للحق، يقول: عظمت الشيخ عبد القادر من أجل هذا الكلام.

    ويقول كلاماً شرحه الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في مائة صفحة في الجزء العاشر من صفحة أربعمائة وخمس وخمسين إلى صفحة خمسمائة وخمس وخمسين، يقول: العبد بين ثلاثة أحوال ينبغي أن يراعيها: بين أمر فيجب عليه أن يمتثله، وبين نهي فيجب عليه أن يتركه، وبين قدر فيجب عليه أن يرضى به.

    وأما كلامه مع الشيطان فالقصة ذكرها الإمام ابن رجب الحنبلي في الذيل على طبقات الحنابلة في الجزء الأول في صفحة مائتين وتسعين في ترجمة العبد الصالح عبد القادر الجيلي من علماء القرن السادس للهجرة، ولد سنة أربعمائة وستين وتوفي سنة خمسمائة وواحد وستين.

    والقصة يرويها عنه ولده موسى ، ويقول الإمام ابن رجب : إنها ثابتة، ومن أجله عظم الإمام ابن تيمية أمر الشيخ عبد القادر .

    يقول الشيخ عبد القادر: كنت في سفر فأصابني عطش شديد فأظلتني سحابة ونزل عليّ منها ما يشبه الندى والماء، فشربت منه وارتويت، ثم خرج منها نور تبعه دخان وسمعت صوتاً منه يقول: يا عبد القادر! أنت عبدي وأنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات! فقلت: اخسأ يا لعين، فقال: يا عبد القادر ! لقد أضللت كثيراً من العباد بمثل هذا. هذه رشوة، أحدث لهم شيئاً من الكرامة، ثم أكلمهم بهذا الضلال فينسلخون من دين الله من حيث لا يشعرون.

    يا عبد القادر ! قد أضللت كثيراً من العباد بمثل هذا، لكنني ما استطعت أن أضلك لعلمك، قال: اخسأ يا لعين بفضل الله لا بعلمي. فمن وجد خيراً فليحمد الله.

    يقول الإمام ابن تيمية : فعظمت أمر هذا الشيخ من أجل هذه المناظرة العظيمة، عظمت أمر الشيخ عبد القادر لأجل كلامه في القدر، ومن أجل مناظرته مع الشيطان، لذلك ينبغي -إخوتي الكرام- أن نحذر الكبائر، فالكبائر تسوق إلى ما هو أكبر منها، إلى الشرك وإلى الكفر، فكم من كبيرة جرت الإنسان إلى الكفر وأخرجته من دين الله.

    يذكر الإمام الذهبي في كتابه الكبائر في صفحة مائتين وثمان وعشرين قصة عبد صالح، نسأل الله أن يجعل سرنا خيراً من علانيتنا، وأن يثبت الإيمان في قلوبنا إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.

    يقول: كان يؤذن ويؤم الناس في مسجد في بعض البلدان سماه الإمام الذهبي في كتابه الكبائر، يقول: فلما رقى المنارة ليؤذن وقع نظره على البيوت السفلى فرأى جارية شابة فافتتن بها، فترك الأذان ونزل فطرق الباب فقالت: ما لك؟ فقال: تعلق القلب بكِ، فقالت: لا أجيبك إلى حرام، ولا أجيبك إلى عهر وزنا، فقال: أتزوجكِ، فقالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، ولن يزوجني أهلي منك إلا إذا تنصرت، فقال: أتنصر، نعوذ بالله من الخذلان! قالت: إن أهلي لا يصدقونك، فإذا أردت أن تبرهن على تنصرك، فاذهب واشتر الصليب وضعه في صدرك ثم تعال في المساء لتخطبني، فوضع الصليب في صدره ثم جاء، فأعلمت أهلها بقصته، فلما دخل ذبحوه وألقوه على المزبلة. مات والصليب في صدره، فالكبائر والمعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت، فلنحذر من هذا الطريق الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الوقت.

    1.   

    من الطرق التي يسلكها الشيطان لإضلال بني الإنسان صغائر الذنوب

    العقبة الرابعة: عقبة الصغائر، وهي ما دون الكبائر، فإذا آيس الشيطان من إيقاعك في الكفر والشرك أو البدعة ينقلك إلى الصغيرة، وضابط الصغيرة: هي ما دون الحدين، ما ليس فيه وعيد خاص في الآخرة ولا عقوبة مقدرة في الحياة الدنيا.

    فالصغيرة يزينها الشيطان لأنها تجر إلى كبيرة وإلى ما هو أكبر منها، ولذلك قال أئمتنا كما نقل هذا عن بلال بن سعد : لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.

    وكان أبو سليمان الداراني عليه رحمة الله يقول: احذر الصغيرة فإنها تجر إلى الكبيرة.

    تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الصغائر

    وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من الصغائر، وأخبرنا أنها إذا اجتمعت علينا تهلكنا من حيث لا ندري، ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الصغير، ومعجم الطبراني الأوسط والمستدرك بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً، إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل حتى تهلكه، ومثل ذلك كمثل قوم نزلوا في فلاة فأرادوا أن ينضجوا خبزهم وطعامهم، فأتى هذا بعود وهذا بعود حتى أججوا ناراً فأنضجوا خبزهم، وكذلك الصغائر تجتمع على الرجل حتى تهلكه)، والحديث رواه الإمام أحمد والطبراني في معاجمه الثلاثة عن سهل بن سعد، ورواه الطبراني في معجمه الكبيرة عن سعد بن جنادة، ورواه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أمنا عائشة رضي الله عنها: (إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً).

    نماذج للذنوب الصغائر وخطرها: النظر المحرم

    إخوتي الكرام! كم من صغيرة جرت إلى كبيرة، ثم وقع الإنسان في بلية من حيث لا يدري، النظر صغيرة، لكن حاله كما قال أئمتنا: أوله أسف، وآخره تلف، عندما يسرح نظره إلى ما حرم الله يتأسف لأنه ما حصل هذا، وعندما يخلو بنفسه يتحرق قلبه ويتلف من حيث لا يدري.

    كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

    كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر

    والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر

    يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

    صغيرة لكنه ينتج عنها تلف وهلاك وعطب.

    إخوتي الكرام! ما شاع في هذه الأيام من معاصٍ وآثام جرت الناس إلى ما هو أكبر منها من حيث لا يدرون، ما دون الزنا من خلوة ونظر وغير ذلك صغيرة، لكنه يجر إلى ما هو أشنع فهو كبيرة، ولذلك لما تساهل الناس في الصغائر وقعوا في الكبائر، ثم خرجوا من دين الله من حيث لا يشعرون.

    موضوع الشغالات الذي فشا في هذه الأيام، يحضر الشغالة ويتساهل في إحضارها، ثم في النظر إليها، وهكذا حتى يتمكن القلب منها فيقع في سخط الله من حيث لا يدري.

    تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق

    رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق

    كم من إنسان خلا بامرأة أو بشغالة فأدى به الأمر إلى التلف والهلاك والخروج من دين الله في نهاية الأمر.

    إخوتي الكرام! لابد من الحذر والبعد عن سخط الرحمن ومعاصيه صغيرة أو كبيرة، يذكر الإمام ابن حزم في كتابه طوق الحمامة في صفحة مائة واثنتين وثلاثين، عن سليمان بن أحمد الشاعر من أئمة العلم، يقول: اجتمع مع امرأة صالحة كبيرة في السن فقالت له: لا تأمن امرأة قط، قال: وعلام؟ قالت: أحكي لك قصتي، والقصة مذكورة في هذا الكتاب، ويرويها ابن حزم بالسند إليه، وما بينه وبين هذا الرجل إلا راو واحد فقط.

    تقول: كنا في طريقنا إلى الحج ونحن خمس نسوة في باخرة، فكان بعض من يقودون الباخرة فيه دمامة ووصفه كذا وكذا، تقول: فكان الناس إذا جاء الليل وأخذوا مضاجعهم وناموا وهدءوا، يأتي هذا الخبيث إلى الواحدة فيضع عضوه -ذكره- في يدها، فتمكنه من نفسها، وهي في طريقها إلى الحج، تقول هذه المرأة الكبيرة: فأخذت الموسى والسكين وقلت: والله! إن جاءني لأفعلن وأفعلن، تقول: فلما انقضت نوبة أخواتي ومن معي جاء إلي فوضعه في يدي، فلما أخذت الموسى لأقطعه صاح فأراد أن يهرب، فقلت: مكانك، افعل بي ما فعلت مع أخواتي، فلا تأمن امرأة قط.

    الشغالات هدمن البيوت في هذه الأوقات، والسائقون يرسل ابنته إلى المدرسة، تذهب مع سائق كافر، بول الحمار أطهر منه! سبحان الله! صارت بناتنا الجواهر المكنونات يقودهن الكفار في قوارع الطريق، يأخذها لتذهب وتدرس! أفٍ لها ولدراستها ولتدريسها، ولا أشبع الله بطن أهلها، تذهب وتدرس لتأتي بدريهمات ويخسر عرضه ودينه.

    أصون عرضي بمالي لا أبدده لا بارك الله بعد العرض في المال

    خطر الخلوة بالنساء والتحذير من ذلك

    وإذا أردتم أن تتحققوا ما ينتج بعد ذلك عن هذا فاسمعوا لبعض القصص، وما تعلمونه من الواقع كثير وكثير، يقول عبادة بن الصامت ، وهو من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والقصة يرويها عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثاني صفحة ثمانية، يقول: ألا ترون حالي؟ لا أقوم إلا رفداً، أي: مساعدة ومساندة من شيخوختي وضعفي. لا أقوم إلا رفداً، ولا آكل إلا ما لوق، أي: إلا ما بلي بالماء وغمس في الماء، ثم وضع على النار ليلين.

    لا أقول إلا رفداً، ولا آكل إلا ما لوق؛ وإن صاحبي قد مات فلا حركة به -يقصد عضوه وذكره- ومع ذلك ما يسرني أنني خلوت بامرأة وأن لي الدنيا وما فيها؛ خشية أن يأتي الشيطان فيحركه فيتحرك، على أنه لا سمع له ولا بصر. سبحان ربي العظيم! هذا حال عبادة بن الصامت ، ما يريد أن يخلو بامرأة في هذه الحالة وله الدنيا وما فيها، فكيف ترسل ابنتك الشابة مع من هو أخبث من إبليس؟! كيف سيكون الحال بعد ذلك عندما يأخذها ويتجول معها؟!

    وينقل الإمام الذهبي في الجزء الثاني في صفحة ثلاثمائة وتسع وتسعين، والأثر في طبقات ابن سعد عن أبي موسى الأشعري ، قال: والله لأن يمتلئ منخري من ريح جيفة أحب إلي من أن يمتلئ من ريح امرأة.

    أتظن -أيها الإنسان- أن هذا السواق الذي تجلس ابنتك أو زوجته وراءه إذا سلم من الاتصال المباشر يسلم من التصور؟ يعكس المرآة عليها ينظر طول ما هي جالسة، ثم إذا خلا يتصورها ويستمني بصورتها في اليوم مرات، أقول هذا الكلام لعل من يرسل ابنته يستحي من الرحمن، أتظن أن الأمر يكره؟ لأن أشم ويمتلئ منخري من ريح جيفة خير لي من أن يمتلئ من ريح امرأة.

    وكان أئمتنا يحذرون من ثلاثة أمور إذا وقع الإنسان فيها وقع في الثبور، وهذه الأمور الثلاثة وقع التحذير منها عن ميمون بن مهران كما في سير أعلام النبلاء، ووقع التحذير منها عن يونس بن عبيد كما في سير أعلام النبلاء أيضاً، وعن ابن مسعود كما في سنن الدارمي في الجزء الأول صفحة تسعين، كانوا يقولون: إياكم أن يجرب الإنسان نفسه في ثلاث، فينبغي عليه أن يحذرها، وأن يبتعد منها.

    لا يدخل على السلطان، هذا الأمر الأول، احذره وابتعد عنه.

    ولا يكلم أهل الأهواء؛ فإنك لا تدري ما يقع في سمعك.

    ولا يخلو بامرأة، وإن طلبت منه أن يعلمها القرآن.

    هذه الأمور الثلاثة هلاك وعطب، يقول الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: المرأة إذا أظهرت لها بياض أسنانك أظهرت لك عما هنالك. فاتق الله واحذر من الخلوة، لا داعي للشغالات، ولا داعي للسواقين، ولا داعي لمس البيوت بلعنة رب العالمين، لا داعي لهذا، وكل إنسان يتقي ربه جل وعلا في بيته وفي أسرته، ولذلك كان أئمتنا يحذرون من هذا الأمر غاية التحذير، ومن التساهل في أمر النساء.

    يقول سعيد بن المسيب كما في حلية الأولياء: ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من قبل النساء.

    وكان يقول: بلغت أربعاً وثمانين سنة، وإحدى عيني لا أبصر بها، والأخرى أعشو بها، ووالله لا شيء أخافه في المدينة إلا النساء. هذا وهو سعيد بن المسيب !

    ويذكر أئمتنا كما في سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع في صفحة مائتين وخمس وستين، والقصة في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قصة يرويها عن بعض بني إسرائيل: أن بعض بني إسرائيل كان يعمل بمسحاة، فرفع المسحاة فأصاب والده فجرحه وقطع يده، فقال: ما دمت تسبب في إيذاء والدي والله لا تصحبني يدي، فقطع يده. وهذا الفعل حتماً لا يجوز، لكن الإنسان أحياناً يقع في الخطأ، ويظن أنه يعظم الله فأمره موكول إلى الله.

    يقول: فشاع أمره في بني إسرائيل، فأرادت بنت الملك الذي كان في ذلك الوقت أن تذهب إلى بيت المقدس، فاختاروا من يرسلون معها فوقع الاختيار على هذا، فلما رشحوه اعتذر، فألح الملك عليه، فذهب إلى بيته فجب ذكره، أي: قطعه، فوضعه في قف، أي: في صندوق مغلق، ثم جاء للملك وقال: هذا عندك أمانة، ثم ذهب مع ابنته وحدد له الملك في ذاك الوقت من بني إسرائيل أن ينزل في مكان كذا وأن يعود في مكان كذا، فتأخر؛ لأن البنت كانت في الطريق لا تستجيب له، ولعلها كانت تريد ما تريد، لكن الرجل يتقي ربه وقد حصن نفسه، فلما رجع قال الناس للملك: ما تأخر إلا لأنه كان يفعل بها ويفعل، فاستدعاه الملك وقال: علام تأخرت؟ لأقطعن رأسك. ثم قال: أيها الملك! إن أردت ذلك فأعطني القف، الصندوق الذي وضعته عندك أمانة، فلما أحضره فتحه وإذا بذكره كهيئة الكف قد تجمع، قال: هذه حالتي، وما اتصلت بابنتك ولا أعرف شأنها، فخلى الملك سبيله، ثم مات القاضي فأرادوا أن يجعلوه قاضياً فامتنع، فألحوا عليه فذهب وحمى عوداً من الحديد وكحل به عينيه وأعمى نفسه، ثم جلس في مجلس القضاء لا يبصر أحداً حتى لا يحابي أحداً بنظر أو غيره، ثم بعد هذا لجأ إلى الله في السحر وقال: يا رب! إن فعلت هذا تعظيماً لك فرد عليّ جوارحي، فرد الله عليه يده وذكره وعينيه، والله على كل شيء قدير.

    والقصة منقولة -كما قلت- عن بني إسرائيل، ولا نصدقها ولا نكذبها، ولا مانع من الاستئناس بها، والشاهد: أن هذا الرجل لما امتحن بمصاحبة هذه المرأة، لو كان متاعه وعضوه معه لفعل وفعل، فهو بين بليتين: بين أن يقطع هذا وبين أن يقع في بلاء، فرأى أن هذا أيسر من ذاك، فكيف يكون حال الناس في هذا الوقت عندما تساهلوا في هذا الأمر، يزين لك الصغيرة، فإذا وقعت فيها نقلك إلى ما هو أشنع وأشنع.

    1.   

    من الطرق التي يسلكها الشيطان لإضلال بني الإنسان المباحات

    عباد الله! إذا أيس الشيطان من الصغيرة يوقعك في الأمر الخامس وهو المباح، فيجعلك تضيع أوقاتك بلا فائدة، وهذا خسران مبين، فرأس مال الإنسان في هذه الحياة عمره، وأجل محصول عنده وقته، وإذا ضيع الإنسان وقته فيما لا ينفع هذا من علامات غضب الله عليه، وتضييع الوقت من المقت، وإذا استطاع الإنسان أن يأخذ جوهرة فأخذ مدرة أو بعرة فهو مجنون، فكيف إذا استطاع أن يحصل الدرجات العلى عند الله جل وعلا فضيعها في ما لا ينفع؟!

    وقد ثبت في سنن الترمذي وغيره عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)، فهل يليق بك أن تضيع هذه النخلات، وأن تشتغل بالهذيان والكلام الذي ليس من ورائه فائدة في مباحات لا فائدة منها في الحياة ولا بعد الممات؟! والحديث -إخوتي الكرام- في سنن الترمذي ورواه ابن حبان والحاكم أيضاً عن جابر رضي الله عنه.

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أكثر الناس يضيعون أوقاتهم فيما لا ينفعهم، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)، أي: خاسر مضيع مفرط، (الصحة والفراغ)، فأنت نحو صحتك وفراغك إما أن تكون مغبوطاً، وإما أن تكون مغبوناً.

    فحذار حذار من وساوس الشيطان في تضييع أيام الزمان بلا فائدة، فأنت خلقت لأمر عظيم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولذلك كان أئمتنا يحذرون من هذا، ويحذرون من الفضول ومن ضياع الوقت وفيما لا ينفع.

    يقول الفضيل بن عياض عليه رحمة الله: إني لأعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. كم كلمة تكلم! إني لأعلم -ويقصد بذلك نفسه عليه رحمة الله- من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة.

    وكان أبو سليمان الداراني يقول: والله لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من أن أقوم ليلة، وإن فضول الطعام ليجر إلى فضول الكلام، إلى الهذيان، وإلى ضياع الأيام بلا فائدة، وإذا ترك لقمة من عشائه يستيقظ للصلاة نشيطاً قوياً، وإذا ملأ بطنه إذا استيقظ لصلاة الفجر يصلي وحاله كصلاة المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، فاحذر من الوقوع في هذه العقبة!

    1.   

    من الطرق التي يسلكها الشيطان لإضلال بني الإنسان الاشتغال بالمفضول عن الفاضل

    العقبة السادسة: هي أن يشغل الشيطان بني الإنسان بالمفضول عن الفاضل، أي: فيما أجره قليل عما أجره كثير، فعندما لم يستطع الشيطان أن يضيع عليك أفضل ربح ضيع عليك كماله وتمامه فشغلك بأمر أجره قليل مع أنه طاعة، عن أمر أجره كبير مع أنه طاعة، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح البخاري وغيره عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قال هذا في الصباح وهو موقن فمات قبل أن يمسي دخل الجنة، ومن قال هذا في المساء وهو موقن به فمات قبل أن يصبح دخل الجنة).

    هذا سيد الاستغفار، فالأعمال الشرعية فيها سيد ومسود، وفيها فاضل وأفضل، فحافظ على ما له أجر كثير عن العمل الذي أجره قليل.

    يذكرون في ترجمة الحسن البصري عليه رحمة الله، والقصة أوردها الإمام ابن رجب عليه رحمة الله في جامع العلوم والحكم في شرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، والحديث في صحيح مسلم. يقولون: إن الحسن البصري أرسل بعض أصحابه لقضاء حاجة وقال: مروا على ثابت البناني ليذهب معكم في قضاء حاجة مسلم، فمروا عليه فقالوا: أرسلنا الحسن إليك لنذهب في قضاء حاجة مسلم، فقال: إني معتكف، فذكروا هذا للحسن فقال: أما علم أن قضاءه لحاجة أخيه أعظم من حجة بعد حجة؟! هذا عمل فاضل وهذا فاضل، لكن قضاء الحاجة أعظم من هذه الطاعة القاصرة على النفس.

    إذاً: ينبغي أن نقدم من الطاعات ما هو أحب إلى رب الأرض والسماوات على غيرها، فعندما تتزاحم الطاعات نأخذ بأفضلها وبأكملها وبأعظمها أجراً.

    الأمر السابع الذي يسلكه الشيطان ولم يسلم منه أحد: أن يسلط جنده وأولياءه على إيذاء المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم إذا عجز هو عن فتنتهم عن طريق الوسوسة. وهذا الأمر سيأتي الكلام عليه في محاضرة قريبة إن شاء الله طلبها مني بعض الإخوة، فأؤجل الكلام عليها إن شاء الله، وعند الكلام عليها أبين أن الإنسان إذا كان مع الشيطان يجاهد نفسه في هذه العقبات الست فهو في جهاد أكبر، وأما العقبة الصغيرة التي لا ينجو منها أحد، وهو القتال مع أولياء الشيطان ومراغمتهم ورد كيد إلى نحورهم، فهذا هو جهاد أصغر، وإذا فشل الإنسان في هذا الجهاد فهو في الجهاد الأكبر أفشل وأفشل.

    نسأل الله جل وعلا أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه، اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ومحبتك، يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا عليه حتى نلقاك به.

    اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير ساعاتنا ساعة نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واختم بالصحة والسلامة غدونا وآصالنا، اللهم اغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755795315