إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحيم الطحان
  5. شرح مقدمة الترمذي
  6. شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [6]

شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [6]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دين الإسلام دين النظافة والطهارة الظاهرة والباطنة، ومن الطهارة الظاهرة عند الخلاء: الجمع بين الماء والحجارة لمن أراد الأفضل مع جواز الكل عند المسلمين، وقد حكي عن بعض السلف كراهة الاستنجاء بالماء، كما حكي عن بعض الشيعة وجوب الاستنجاء بالماء عند تيسره، كما اختلف العلماء في وجوب الإيتار في الجمار، فذهب إلى وجوب الثلاث الشافعية والحنابلة عملاً بظاهر الحديث، وقال أبو حنيفة ومالك باستحباب الإيتار، وإنما المقصود الإنقاء ولو بجمرة واحدة.

    1.   

    معنى الاستطابة والاستجمار

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

    فكنا نتكلم عن الاستطابة والاستجمار، وأن بعض العلماء ذكروا أن الاستجمار مأخوذ من الجمر الذي يوضع فيه البخور، فيكون الطيب، وبعضهم قال: هو التخلية من النجاسات بعد الخلاء، وهذا تطيب وهذا تطيب، لكن هناك تطيب تحلية، وهنا تطيب تخلية، لكن كل منهما تطيب، ودين الله تخلية عن الرذائل والتحلي بالفضائل، هنا تخلى عن الأذى فطيب نفسه، وهناك وضع شيئاً من الطيب فاستجمر وطيب نفسه، وهذا أحد المعنيين في الاستجمار؛ لأنه نقل عن الإمام مالك أن المراد بالاستجمار التجمر بالطيب واستعماله، من استجمر فليوتر قال: من تطيب فليوتر، وقول مالك هذا حكي رجوعه عنه، وبقي عليه بعض المالكية، واستقر المذهب على القول الثاني.

    إذاً القول المعتمد في الاستجمار: استعمال الأحجار الصغار لإزالة الأذى من بول أو غائط، وسمي استجماراً لأمرين: لأنه شابه الجمار التي نرمي بها الجمرات، وشابه استجمارنا بالعود عندما نستجمر به أي حصل بذلك تطيب.

    أما الاستطابة ويقال لها: الإطابة، فهي كناية عن الاستنجاء، وسمي الاستنجاء بها لأن المستنجي الذي يغسل الأذى ويستجمر ويمسح الأذى هو يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث، وهذا يوافق أحد المعنيين في الاستجمار، لكن الاستطابة والإطابة شاملة للغسل والمسح، والاستنجاء شامل للغسل وللمسح، والاستجمار خاص بالمسح فقط.

    قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الثالث صفحة خمس وعشرين ومائة: قال العلماء: الاستطابة والاستجمار والاستنجاء لتطهير محل البول والغائط، فأما الاستجمار فمختص بالمسح بالأحجار، وأما الاستطابة والاستنجاء فيكون بالأحجار وبالماء.

    وانظر معاني ما تقدم في كتاب النهاية في غريب الحديث في معنى الاستنجاء في الجزء الخامس صفحة ست وعشرين في الاستنجاء عند إزالة النجس، وانظر الاستجمار في مادة جمر في الجزء الأول أيضاً من النهاية في غريب الحديث لـابن الأثير ، وانظر المعنى الثالث للاستجمار وأنه بمعنى حصول التطيب باستعمال الجمار في شرح الموطأ للزرقاني في الجزء الأول صفحة ست وأربعين، وفي المنتقى في الجزء الأول صفحة واحدة وأربعين.

    1.   

    تحقيق قول الإمام مالك في معنى الاستجمار

    قال الإمام النووي في الموضع المتقدم: وهذا الذي ذكرناه من معنى الاستجمار هو الصحيح المشهور الذي قال به الجماهير من طوائف العلماء من اللغويين والمحدثين والفقهاء، وقال القاضي عياض -وهو المعنى الثاني-: اختلف قول مالك وغيره في معنى الاستجمار فقيل: هو إزالة الأذى بالأحجار الصغار، وفي ذلك معنى التطيب للإنسان، وقيل: الاستجمار في البخور، ( من استجمر فليوتر )، أي: من تبخر فليجعل ذلك ثلاثاً، يأخذ منه ثلاث قطع أو ثلاث مرات فيتبخر بها.

    وفي المنتقى في الجزء الأول صفحة أربعين في المكان المشار إليه آنفاً قال: اختلف مالك وأصحابه في الاستجمار، فروى سحنون بضم السين وفتحها، وهو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب الحمصي الأصل، المغربي القيرواني صاحب المدونة في الفقه المالكي، ولقب بـسحنون ، وهو اسم طائر في بلاد المغرب يوصف بالذكاء والفطنة، فلذكاء هذا العبد الصالح لقب بـسحنون وهذا الاسم نادر في بلاد مصر، وأما في بلاد المغرب فما أكثره! فكأنهم يحافظون على عاداتهم القديمة، وهم يسمون به الآن على أنه علم، قال أئمتنا في ترجمته: هو من أكابر فقهاء هذه الأمة، ولم يكن بينه وبين الإمام مالك أحد أفقه منه، وقد توفي عليه رحمة الله ورضوانه سنة أربعين ومائتين، وكان يقول: إنني أخرج من الدنيا ولا يسألني الله عن مسألة قلت فيها برأيي، وهو من أئمة المالكية، والإمام مالك توفي سنة تسع وسبعين ومائة، فبينهما ستون سنة تقريباً.

    ومن كلامه يقول: سرعة الجواب للصواب أشد فتنةً من فتنة النار، فانتبه لنفسك إذا كنت ذكياً أن تجيب بسرعة، وهذا محمول لكن راع نفسك من العجب الذي يهبطك، فهو أشد من فتنة المال! قال سحنون : قال لنا علي بن زياد - أبو الحسن التونسي ، توفي سنة أربع وثمانين ومائة للهجرة، كما في المدارس في طبقات أصحاب الإمام مالك في الجزء الأول صفحة ست وعشرين وثلاث مائة، وهو ثقة مأمون خير متعبد بارع في الفقه ممن يخشى الله عز وجل، وهو أول من أدخل الموطأ إلى بلاد المغرب، وكان معلم سحنون وأستاذه- يقول علي بن زياد : قلت لـمالك : كيف الوتر في الاستجمار؟ من استجمر فليوتر؟ فقال: أما أنا فآخذ العود فأكسره ثلاث كسر وأستجمر بكل كسرة منهن ثلاث مرات، فإن كان العود مدقوقاً أخذت منه ثلاث مرات، فكلمه رجل من قريش وأنا شاهد: إن العرب تسمي الاستنجاء بالحجارة من الغائط استجماراً، ليس هو استعمال الطيب، فرجع إلى ذلك مالك ، وكان قد فسره بالوتر باستعمال الدهن والبخور والعود، قال علي بن زياد : وقوله الأول أحب إليه، وهو أن الاستجمار يراد منه التطيب بالعود والطيب، وقال سحنون : والقول الذي رجع إليه مالك هو أحب إلي، يعني: أن الاستجمار هو إزالة أثر الأذى بالحجارة.

    وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر مثل قول مالك الأول بأن الاستجمار هو الإيتار عند التطيب بالعود ثلاث مرات.

    قال الزرقاني في الموطأ في الجزء الأول صفحة ست وأربعين: حمله بعضهم -يعني الاستجمار- على استعمال البخور، يقال: تجمر واستجمر، وحكاه ابن حبيب - وهو سحنون أبو سعيد عبد السلام بن حبيب - عن ابن عمر ، ولا يصح هذا التفسير عن ابن عمر ، وحكاه ابن عبد البر عن مالك عنه من رواية المالكية في أعيان المذهب رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    قال الزرقاني -وهو مالكي-: وروى عنه ابن خزيمة خلافه، أي: روى عن الإمام مالك خلاف هذا القول، ولا تناقض؛ لأنه رجع عندما قال له رجل من قريش: إن العرب تعد الاستجمار وتفسره باستعمال الأحجار في إزالة الأذى والحدث، فما نقله ابن خزيمة كما سأذكره وهو ثابت في صحيح ابن خزيمة باعتبار ما آل إليه الإمام مالك وهو القول الثاني، وهذا الذي ذهب إليه سحنون، والقول الأول هو الذي بقي عليه شيخ سحنون أبو الحسن علي بن زياد ، ومثل هذا الكلام موجود في شرح التقريب لـولي الدين العراقي وللشيخ العراقي في الجزء الثاني صفحة ست وخمسين.

    وأما قول الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: بأن الاستجمار استعمال الأحجار عند قضاء الحاجة؛ هذا منقول عنه في صحيح ابن خزيمة في الجزء الأول صفحة اثنتين وأربعين، وانظروه أيضاً في معالم السنن للإمام الخطابي في الجزء الأول صفحة خمس وثلاثين قال: سئل ابن عيينة عن معنى: من استجمر فليوتر، فسكت، ومن لم يكن عنده علم فجوابه أن يسكت، فقيل له: أترضى بما قال الإمام مالك في معنى الاستجمار وفي تفسيره؟ فقال: وماذا قال؟ فقال له السائل قال: الاستجمار: الاستطابة بالأحجار، فقال سفيان بن عيينة أبو محمد : إنما مثلي ومثل مالك كما قال الأول:

    وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولةَ البزل القناعيس

    وابن اللبون هو ولد الناقة الذي أكمل سنتين وطعن في الثالثة، فأمه ولدت وصارت ذا لبن ترضع (إذا ما لز في قرن) يعني: إذا ما ربط وجمع في قرن أي: في حبل مع جمل فحل قوي جميل كبير لا يستطيع أن يصول صولته، لم يستطع صولة البزل، والذي خرج له البازل وهو من أكمل ثمانية أي تسع سنين من الإبل، القناعيس: الناقة العظيمة إذا كانت طويلة السنام، يقال لها: قناعيس، فلا يستطيع ابن اللبون صولة هذه البزل القناعيس، وهذا حقيقةً من تواضعه مع أئمتنا، وهذا حالهم مع بعضهم رضي الله عنهم أجمعين، يقول: ما مثلي ومثل الإمام مالك إلا كما قال الأول:

    وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

    هذا فيما يتعلق بمعنى الاستنجاء والاستجمار والاستطابة.

    1.   

    حكم الاستنجاء

    أما حكم المسألة فقال الإمام النووي في المجموع في الجزء الثاني صفحة مائة: يجوز الاقتصار بالاستنجاء على الماء، كما يجوز الاقتصار على الحجارة، والأفضل أن يجمع بينهما، وإذا جمع بينهما فليستعمل الحجارة أولاً ثم يتبعها بالماء، فلو استعمل الماء سقط استعمال الحجارة؛ لأنه لا معنى له.

    أزال العين بالحجارة، ثم ليزيل الرائحة والأثر بالماء، وأما إذا أزال العين والأثر والرائحة فلا معنى لاستعمال الحجارة بعد استعمال الماء! قال: وهذا الأمر متفق عليه بين المذاهب الأربعة وعليه وجماهير العلماء.

    فإذا جمعت حجارةً أو ما يقوم مقامها من ورق أو خرق أو خشب ثم تتبع ذلك بالماء؛ فأنت تخفف مباشرة اليد بملاقاة الأذى، ثم تتطيب تمام التطيب عندما تستعمل الماء، فأزلت الأثر بالحجارة، وخففت ملاقاة النجاسة بيدك الشمال عندما أزلت العين بحجارة ثم غسلت هذا بالماء، فأكمل الأحوال أن تمسح هذا النجوة بورق أو حجر ثم تغسله، ولو اقتصرت على الماء جاز، ولو اقتصرت على الحجارة جاز، قال: ولو اقتصر على أحدهما فالأفضل أن يقتصر على الماء قال: وفي ذلك خلافان مردودان.

    قول من كره الاستنجاء بالماء وأدلتهم

    الخلاف الأول: نقل عن بعض السلف المعتبرين، حيث قالوا: لا يجوز الاستنجاء بالماء، وفي مصنف ابن أبي شيبة في الجزء الأول صفحة أربع وخمسين ومائة بوّب باباً لهذا فقال: من كان لا يستنجي بماء ويبتدئ بالحجارة، يعني إذا كان عنده ماء لا يستعمله، إنما الحجارة هي المطلوبة عنده في إزالة الأذى، وهؤلاء سأذكر أقوالهم وأبين بعد ذلك ما أرادوه في هذه الأقوال كما قرر أئمتنا الأبرار، وهذه الآثار التي سأذكرها آثار صحيحة ثابتة عنهم كالشمس وضوحاً في رابعة النهار، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الأول صفحة واحدة وخمسين ومائتين، فانظروا هذه الآثار.

    منها أثر عن حذيفة بن اليمان رضوان الله عليهما، قيل له: أتستنجي بالماء؟ قال: إذاً: لا تزال يدي في نتن، أي: كيف تجعل اليد تباشر النتن والأذى.

    والأثر الثاني ما ثبت من رواية نافع عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، يقول نافع : وكنت آتيه بالحجارة من الحرة، وأجمعها عنده في المكان الذي يقضي فيه حاجته، فإذا استنجى بها وتجمعت حملتها وطرحتها في الحرة وأتيته بأحجار أخرى.

    والأثر الثالث: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: ما كنا نستنجي بالماء، رواه الطبراني في معجمه الكبير، كما في مجمع الزوائد في الجزء الأول صفحة اثنتي عشرة ومائتين، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ، وتقدم معنا إنه صدوق، لكن طرأ عليه الاختلاط بعد ذلك فلم يتميز حديثه السابق من اللاحق، فترك حديثه من أجل ذلك، وتقدم معنا أن البخاري روى له معلقاً في صحيحه، ومسلم في صحيحه لكن مقروناً، وأخرج عنه أهل السنن الأربع، ليث توفي سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة.

    ورواية عبد الله بن الزبير في المصنف من غير طريقه، ولذلك قال الحافظ في الفتح: إسنادها صحيح.

    ونص أثر عبد الله بن الزبير قال: (ما كانوا يغسلون أستاههم بالماء)، يعني إذا قضوا حاجاتهم، رواه الطبراني في الكبير، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة إلا أنه ينسب إلى التخليط والغلط، ومروي كما قلت في مصنف ابن أبي شيبة من غير طريقه، ولذلك حكم عليه الحافظ بأن إسناده صحيح.

    وأثر حذيفة يقول عنه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الأول صفحة خمس ومائة: روينا عن حذيفة رضي الله عنه أنه كان يستنجي بالماء إذا بال، وهذا يعارض ما تقدم من أنه كان لا يستنجي بالماء ويقول: إذاً لا تزال يدي في نتن! ولعله -والعلم عند الله- لا يرى أن ذلك يمنع منه الإنسان، وإنما كان يتنزه عن ذلك.

    وقالت أمنا عائشة رضي الله عنها كما في سنن البيهقي في المكان المشار إليه: من السنة غسل المرأة قبلها.

    إذاً هذه ثلاثة آثار عن هؤلاء الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم تنفي الاستنجاء بالماء.

    وهناك آثار أخرى عن التابعين الكرام ذكرها -أيضاً- النووي في المجموع:

    منها أثر عطاء رضي الله عنه قال: غسل الدبر محدث.

    ومنها أثر سعيد بن المسيب قال: إنما يفعل ذلك النساء، أي: النساء يغسلن ذلك المكان إذا قضين الحاجة، أما الرجال فإنهم يستجمرون، قال: وكان الرجال يبتدئون بالحجارة.

    وقال ابن السني من أئمة المالكية: نقل عن مالك أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستنج بالماء، وأنكر مالك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وابن حبيب المالكي وهو سحنون الذي تقدم معنا أنه منع من الاستنجاء بالماء قال: لأنه مطعوم، يطعمه الإنسان ويشربه فما ينبغي أن يتلفه في إزالة ذلك الخبث.

    الرد على من كره الاستنجاء بالماء

    هذه الآثار عن الصحابة والتابعين أولها الإمام النووي بعدة أمور قال: لعلهم يقصدون أنه لا يجب الاستنجاء بالماء، وأن هذا لا يتعين، وهذا محل اتفاق ووفاق، فلا يتعين علينا أن نستجي بالماء، ولعلهم يرون مع ذلك أن الاستجمار بالأحجار أفضل من الاستنجاء بالماء، وإن كان الصواب خلافه لكن هذا رأي لهؤلاء، ولعلهم كرهوا الاستنجاء بالماء وفضلوا الاستجمار عليه لأنه ينتفع به الإنسان، فيشربه ويطعمه فما ينبغي أن يتلفه في إزالة ذلك الخبث.

    ثم قال الإمام النووي عليه رحمة الله: والدليل على جوازه بالماء الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة، وسيأتينا في الباب الخامس عشر من أبواب سنن الترمذي -بعد باببين بعون الله- باب الاستنجاء بالماء وأتكلم على أثر أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، والاستطابة أي: أن يبدأ بحجارة أو ورق ثم على الماء، وفيه الرد على من نفى وقوعه من خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، يعني من كره الاستنجاء بالماء من سلفنا، فهذا مردود عليه، وهنا تحت هذه الترجمة أحاديث ترد هذا القول وتثبت خلافه، والاستنجاء -كما قلت- هو أكمل أحوال الاستطابة إذا أراد الإنسان أن يقتصر على أحد الأمرين: على الماء أو على الحجارة، ولذلك قال الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن في الجزء الثاني صفحة خمس عشرة بعد الألف -الأجزاء مرتبة ترتيباً تسلسلياً، لم ترتب أرقام كل جزء على حدة- يقول: الاستنجاء بالماء مروءة آدمية ووظيفة شرعية.

    وقد نقل عنه هذا الكلام الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثامن صفحة واحدة وستين ومائتين واستحسنه.

    إذاً: هذا الخلاف الأول وهو مردود عند بحثنا في أحكام الاستطابة أفضل كيفية للاستطابة استجمار ثم استنجاء، فإن اقتصرت على أحدهما فجائز، والأفضل منهما الماء، واضح هذا! ومن كره هذا من السلف فقلت: لعلهم يقصدون لا يجب الماء، لعلهم رأوا أن الاستجمار أفضل عندهم لأنه لا يباشر الأذى بيده، ولأن الماء مطعوم فلا يريد أن يضيعه في هذه الحالة، لكن ثبت في الآثار والأحاديث الصحيحة عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام جواز ذلك وتفضيله وتقديمه على غيره كما سيأتي معنا بحث المسألة عند حكم الاستنجاء بالماء، وأما الآن فقط فهو باب الاستنجاء بالحجارة، الباب الذي بوب عليه الإمام الترمذي عليه رحمة الله.

    1.   

    ذكر من كره الاستجمار مع وجود الماء والرد عليهم

    أما الخلاف الثاني فقال به الزيدية والقاسمية من الشيعة كما في المجموع للإمام النووي في الجزء الثاني صفحة واحدة ومائة، فقالوا: لا يجوز الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء، فإذا وجدت ماءً لا يجوز أن تستجمر، وإذا استجمرت فإنه لا يجزئك وتكون قد عصيت الله عز وجل.

    قال الإمام النووي : وهؤلاء لا يعتد بأقوالهم؛ يعني الزيدية والشيعة والظاهرية، ونحو هذه الأقوال التي خرجت عن المذاهب الأربعة المتبعة، ثم قال: هم محجوجون أيضاً بالأحاديث الصحيحة الكثيرة الشهيرة بأن الاستجمار بالأحجار يجزئ.

    1.   

    عدد الأحجار في الاستجمار

    بعد أن بينت أن الاستجمار جائز، والأفضل منه الماء إذا اقتصرت على أحدهما، والأفضل منه أن يجمع بينهما استجماراً واستنجاءً، فإذا استجمر ما هي عدد الأحجار التي تجزئه في الاستجمار؟

    الإمام الترمذي أورد في هذا الباب حديث سلمان رضي الله عنه وفيه النهي عن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار: ( ألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار )، فهل هذا الإيتار واجب، ولا يجوز النقصان عنه إن حصل الإنقاء، أو هو مستحب فإذا حصل إنقاء بمرة فالإيتار مستحب؟ هذا ما سنتدارسه في هذه المسألة في الأمر الثالث في فقه الحديث إن شاء الله.

    أهل المذاهب الأربعة المتبعة على قولين في هذه المسألة، إمامان على قول وإمامان على قول، أذكر القولين وأدلة كل قول منهما بإذن الله جل وعلا.

    القول الأول: وجوب ثلاثة أحجار

    ذهب الإمام الشافعي وتلميذه الإمام المبجل أحمد بن حنبل ووافقهم أبو ثور -وكان قرين وصاحب الشافعي - وابن حزم من المتأخرين ذهبوا إلى إن الإيتار واجب، ويراد بالإيتار هنا ثلاثة أحجار، فهذا أقل الوتر الذي ينبغي أن يحصل به الإنقاء، فإن حصل الإنقاء بحجر أو حجرين وجب عليك أن تزيد إلى الثلاث، فإن حصل الإنقاء بالثلاث حصل الإنقاء والمطلوب وهو الإيتار، وإن لم يحصل الإنقاء بالثلاث وجب عليك أن تزيد من الأحجار بمقدار ما يحصل الإنقاء، فإذا انتهيت عند عدد السبع فلو زدت حتى وصلت إلى ثمانية يستحب لك أن تزيد حجراً وتصبح تسعاً، لكن الإيتار فيما زاد على الثلاث مستحب، والإيتار بمعنى الثلاث التي هي أقل الوتر في الاستجمار واجب، ولو اقتصرت على حجرين وحصل الإنقاء التام الكامل فأنت عاص إلا أن تتبع هذا بحجارة ثالثة.

    وقالوا: يحصل الإيتار إذا كان حجراً كبيراً وله أطراف ثلاثة فاستجمرت بكل طرف منه كما لو أخذت ثلاثة أحجار، وخالف في هذه الصورة ابن حزم ، وقلت لكم: لا يعتد بخلافه في هذه المسألة ولا في غيرها.

    قال الإمام النووي عليه رحمة الله: فإن قيل: فما الفارق بين هذه الصورة وبين رمي الجمار؟

    فهناك لا بد من سبعة أحجار، فلو أخذنا حجراً له سبعة أطراف ورمينا به لا يجزئ؛ لأن المقصود بالرمي هناك عدد الرمي، وأما هنا فالمقصود أن تمسح ثلاث مسحات، فإذا كانت الحجرة لها ثلاثة أطراف، ومسحت بها كان كما لو أخذت حجرة صغيرة ومسحت بها وحجرة ثانية وحجرة ثالثة، المقصود ثلاث مسحات.

    القول الثاني: المقصود الإنقاء ولا يشترط عدد معين من الحجارة

    والقول الثاني ذهب إليه الإمام أبو حنيفة والإمام مالك وحكاه العبدري عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وهو وجه عند الشافعية، لكنه شاذ ضعيف كما قال النووي ، قال أصحاب هذا القول: المقصود الإنقاء، فإن حصل بحجر أجزأ، أو بحجرين أجزأ، أو بثلاث أجزأ، أو بأربع أجزأ، والإيتار مستحب سواء ثلاث أو ما زاد عليها، فالإجزاء إنما يحصل بالإنقاء، فإذا أنقيت حصل المطلوب، ثم يستحب لك أن توتر للأحاديث التي سيأتي ذكرها (من استجمر فليوتر)، فيستحب لك أن توتر، لكن الحكم يتعلق بالإنقاء، وليس بذلك حد معين مقدر، وقد استدلوا بأدلة كثيرة أبرزها ثلاثة.

    وكما قلت مراراً ينبغي أن نعلم أدلة أئمتنا لنعلم أنهم ما قرروا حكماً إلا وأخذوه من سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، أما كون السنة تحتمل هذا وهذا فهذا موضوع آخر، وبعد ذلك من رجح أحد الاحتمالين فهو إن شاء الله على هدى، أما أن يقال: هذا قول أخذ برأي، أو بني على قياس، أو ما شاكل هذا من كلام اللغط الذي يقال في هذه الأيام فكل هذا غلط، وينبغي أن ينتزع من الأذهان! ويقول بعض الناس في هذه الأيام: أبو حنيفة من أهل الرأي، وأنا ما أعلم هل فقه يكون من غير أثر؟! وتقدم معنا شهادة سيد المسلمين في زمانه عبد الله بن المبارك أن أبا حنيفة أفقه الناس، والله إذا لم يكن أبو حنيفة كصاحب أثر فهذا الكلام عار على عبد الله بن المبارك! وهو ثابت عنه، وهل يكون فقه من غير أثر؟! وتقدم معنا سابقاً: إن الفقيه إذا لم يكن صاحب أثر فهو أعرج، كيف سيمكث الفقه وليس عنده آثار يستنبط منها.

    وأما إمام دار الهجرة نجم السنن الإمام مالك ، وتلميذه الشافعي شئت أم أبيت، وتلميذ تلميذه الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، فالتلميذ وهو الشافعي خالف الشيخ، ووافقه تلميذ آخر، ففي هذه المسألة قولان معتبران دلت عليهما سنة نبينا عليه الصلاة والسلام.

    وكنت ذكرت أن ترجيحات البخاري في صحيحه يوافق فيها أبا حنيفة من بين المذاهب الأربعة المعتبرة، فهل البخاري صاحب رأي أيضاً؟! فاستمع لهذه الحجج المبنية على آثار معتبرة، وإلى البحث في علل الأحكام الشريعة المعتبرة.

    أدلة الحنفية والمالكية على عدم وجوب الإيتار في أحجار الاستجمار

    الدليل الأول قالوا: دليل ثابت في السنة تقدم معنا في المسألة الأولى وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج).

    قالوا: قوله: (فليوتر) لفظ الوتر يأتي بمعنى الفرد -واحد وثلاثة وخمسة وسبعة وما زدت- قوله: (فليوتر) دليل على أن الواحد يجزئ إذا حصل الإنقاء، هذه دلالة أولى، فإن قلتم: إن المراد من الوتر ثلاثة فنقول: نهاية الحديث أزالت الإشكال: (من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)، يعني إذا كان المراد من الإيتار بما تفسرونه وهو ثلاثة أحجار، (من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)، وعليه فالتثليث وما زاد عليه من الإيتار؛ خمس أو سبع مستحب وليس بواجب.

    وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، والدارمي وابن حبان والحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي والبيهقي كما تقدم معنا، وذكرت الكلام الذي حوله ومن صححه وحسنه من الأئمة، منهم النووي ، وابن حجر ، والعيني .

    وعليه فهذا دليل من السنة صحيح طريف، صححه عدد من الأئمة، نعم حوله كلام وهذا موضوع آخر، وقلت: لعله فقه لشواهده، وللاختلاف بعد ذلك فيمن اختلف حوله من الرواة، فبعضهم جهله، وبعضهم عرفه وقبله كما تقدم معنا، وتقدم معنا رد العيني على ابن حزم في هذا الحديث في الموعظة الماضية.

    ويشهد لهذا المعنى العام: الحديث الثابت في الكتب الستة إلا سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استجمر فليوتر)، ولفظ الوتر شامل للواحد وللثلاثة ولما زاد من أعداد الوتر، وقالوا: لا يوجد دليل على التعيين، نعم إذا حصل الإنقاء بحجر يستحب لك أن تزيد إلى الثلاث، إذا حصل الإنقاء بحجرين يستحب أن تزيد إلى الثلاث، فإذا حصل الإنقاء بالثلاث فلا داعي أن تزيد، وإذا حصل الإنقاء بأربع فيستحب لك أن تزيد إلى خمس، فالاستحباب متفقون عليه أنه يوتر في حال استجماره، لكن ليس بواجب، وعليه نجمع بين الأدلة ونعملها كلها، ولا نهمل شيئاً منها، فما ورد من إنكار فسروه بالعدد الذي تريدونه، فالثلاث نقول: على الاستحباب، وعلى عدد الفرد الواحد نقول: هذا أقل ما يحصل الوتر، إن حصل الإنقاء أجزأ، وإن زيد إلى الثلاث فهو أفضل.

    وعليه فالروايات التي صرحت بأننا لا نقتصر على أقل من ثلاث أي: في حال الأكمل والأفضل والأحسن والأتم الأكمل، لا سيما كما قال الحنفية والمالكية: الغالب فيمن يستجمر أنه لا ينقي المحل بحجر واحد، وعليه فما ورد من ثلاث فهذا باعتبار الغالب، لكن لو قدر أنه ما خرج من الإنسان غائط كثير، وكان الغائط منه كما يشبه البعر كما هو حال جمهور الصحابة في العصر الأول رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا مسحه بحجرة واحدة فقد أنقى المحل، وحصل المطلوب وحصل المقصود، نعم إذا لم يحصل لا يكفي لا الثلاث ولا الخمس، ولذلك كان علي رضي الله عنه يقول كما في مصنف ابن أبي شيبة وسنن البيهقي في الجزء الأول صفحة ست ومائة: إن من قبلكم كانوا يبعرون بعراً، -يعني هذا بالنسبة لغالب الناس- فأتبعوا الحجارة بالماء، وهذا كان هو وصف أكثر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

    ثبت في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وعند البيهقي وأبي نعيم في دلائل النبوة أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قال: (إني لأول المسلمين رمى بسهم في سبيل الله عز وجل، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى كان يخرج منا كما يخرج من البعير والشاة بعر متجمد متماسك ما له خلط)، أي: من شدة جفافه كأنه لم يخلط بشيء مائع فلا ليونة فيه، وعليه فهذا الحديث دليل على أن الثلاث الأحجار ليست متعينة بل ولا واحدة، نعم إن حصل الإنقاء بواحدة فإنه يستحب الثلاث لورود ذكرها في بعض الروايات، وإن حصل الإنقاء باثنتين فإنه يستحب الإيتار مطلقاً، فإن حصل الإنقاء بالثلاث فلا داعي للزيادة، ومحل اتفاق الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أنه إذا حصل الإنقاء بأربع فإنه يستحب أن يوتر إلى الخمس وليس بواجب، وهذا هو الدليل الأول.

    الدليل الثاني: قالوا: إن المقصود من الاستجمار إنقاء المحل، وليس استعمال الأحجار في الاستجمار عبادة لا يدرك معناها كما هو الحال في رمي الجمار في الحج، فلا يجوز أن تقتصر على خمس أو ثلاث، وإنما المراد منه إنقاء المحل، وإزالة النجس والخبث والأذى، فإن حصل بحجر أو بحجرين أو بعشر أو حتى بعشرين فقد حصل المطلوب.

    الدليل الثالث يقرر هذا وهو: أننا أجمعنا على أنه لا يشترط الإيتار عند الاستنجاء بالماء، فلا يستنجى مرتين أو ثلاثاً فإن نقى المحل أجزأه، وهنا الاستجمار مثله، فما دام المقصود الإنقاء فقد حصل المطلوب.

    هذه ثلاثة أدلة ترون وضوحها وظهورها وسطوعها.

    أدلة الشافعية والحنابلة على وجوب الإيتار في الاستجمار

    أما أهل القول الأول وهم الشافعية والحنابلة فدللوا على ذلك بدليلين ثم أجابوا عن دليل الحنفية والمالكية، وعليه فيصبح عندنا خمسة أدلة عندهم حجتان ثم ثلاثة ردود على تلك الأقوال بمثابة تقوية لقولهم، بعد أن نستعرض المسألة يكون لنا -كما قلت- مراراً نظر من باب الإنصاف بين أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    الدليل الأول: الأحاديث الكثيرة التي أشار إليها الإمام الترمذي عندما قال: وفي الباب عن عائشة وخزيمة بن ثابت ، وجابر ، وخلاد بن السائب عن أبيه وهو السائب بن خلاد رضي الله عنهم أجمعين، هذه أربع روايات، ورواية سلمان الخامسة، وسأزيدها أيضاً عشر روايات فيصبح معنا خمس عشرة رواية في الباب تقرر الاستجمار بالحجارة والإيتار فيها، وقالوا: حديث سلمان عندما قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم)، وما في معناه مما ورد في الباب دليل لنا على أن الثلاث مطلوبة.

    تقدم أنه (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن نستنجي باليمين، وأن نمس الذكر باليمين)، وهذان باتفاق أهل المذاهب الأربعة أنه لكراهة التنزيه، وليس بمحرم، وهنا في هذا الباب بثلاثة أحجار لبيان الأكمل، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: يكره لكم تنزيهاً أن تقتصروا على حجر أو حجرين وإن حصل الإنقاء، فنجعل هذا الحكم كما حصل في الأحكام المتقدمة في الاستنجاء باليمين، أو الاستجمار بها، أو مس العضو باليمين، وهذا الذي قال به الحنفية والمالكية، فما عطلوا مدلول هذه الأحاديث، نعم يدل على أنه لا ينبغي أن نقتصر على أقل من ثلاث، لكن هذه الدلالة إذا جمعت بينها وبين ما تقدم فإنه يتضح لك أن هذا للاستحباب، ويمكن أن تقول: هذا باعتبار العادة الغالبة في أكثر الناس؛ لا يمكن أن ينقوا المحل بأقل من ثلاثة أحجار.

    الدليل الثاني: ذهب إليه بعض الشافعية والحنابلة، وذكره القاضيان أبو الطيب الطبري ، وحسين كما قال النووي ، وتقدم معنا ذكرهما عند البول قائماً أنهم يستشفون بذلك اتباعاً للنبي عليه الصلاة والسلام واقتداءً به فيبولون مرةً واحدةً في السنة قياماً، ذهب هذان القاضيان المباركان إلى القياس فأوجبوا الثلاث في الاستجمار قياساً على رمي الجمار في الحد وفي الوتر، فكما أنه لا يجزئك هناك أن تقتصر على أقل من سبع قالوا: لا يجزئك أن تقتصر على أقل من ثلاث كما ورد بها الحديث وقالوا: الاستجمار عبادة تتعلق بالأحجار، يستوي فيها الثيب والأبكار، ليخرج بذلك حد الزنا فلا يستوي فيه الثيب والبكر؛ فالثيب يرجم، والبكر يجلد، فكان للعدد فيها اعتبار قياساً على رمي الجمار.

    قال الإمام النووي عليه رحمة الله: لا حاجة إلى الأقيسة مع هذه الأدلة الصحيحة.

    أقول والعلم عند الله: القياس مع وجاهته قياس مع الفارق؛ لأن الرمي عبادة تعبدية محضة ليست معقولة المعنى، ولذلك قلنا: لا يجزئ أن ترمي إلا بسبع حصيات؛ لأن المقصود عدد الحصى، وأما في الاستنجاء المقصود المسحات، والمسحات مقصود منها أن تزيل الأذى، وعليه اختلف الأمر، وما نص في بعض الأحاديث على أنه لا بد من ثلاثة أحجار فغاية ما يقال: هذا للاستحباب لا للإيجاب، والعلم عند الكريم الوهاب.

    رد الشافعية والحنابلة على أدلة القائلين بعدم وجوب الإيتار

    بعد هذا قالوا: أما أدلة الحنفية والمالكية فيمكن أن يجاب عنها بأن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج) يحتمل أمرين اثنين:

    الأول: (فلا حرج) يعني: فلا حرج عليه إذا استعمل الماء، ولا يتعين عليه أحدهما، هذا للتخيير بين الاستنجاء والاستجمار، لا للتخيير بين الإيتار وعدمه، (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا -أي إذا استنجى بالماء- فلا حرج)، كأنه يقول: لا يتعين عليك أحد الأمرين: إن استنجيت بالماء فهذا مطلق بلا عدد، والمقصود الإنقاء، وإذا استجمرت لا بد من ثلاثة أحجار إن حصل إنقاء وإلا يستحب لك أن توتر لتنتهي عند وتر.

    ثم قالوا بعد ذلك: وعلى التنزل بأن المراد منه (فلا حرج) أي: فلا حرج عليه في ترك الإيتار عند الاستجمار لا للتخيير بين الاستجمار والاستنجاء بالماء، قالوا: وهذا فيما زاد على الثلاث، فلا حرج إذا استجمرت بأربع ونقيت وتركت الخامسة فلا حرج عليك في ذلك وهذا محل اتفاق بين المذاهب الأربعة، ويستحب لك أن توتر؛ لوجود روايات نصت على عدم الاقتصار على الثلاث، وهل هذا النص للوجوب أو للاستحباب؟

    هذا لا بد من تعيينه، فإن كان للوجوب فعلى العين والرأس، وإن كان للاستحباب فما بقي في هذا التنصيص دلالة -كما تقدم معنا- في النهي عن الاستنجاء والاستجمار باليمين، وعن مسح العضو باليمين، والعلم عند رب العالمين.

    الدليل الثاني عندهم في رد قول الحنفية بأنه لا المقصود هو الإنقاء، ولا يشترط عدد معين وإنما يستحب أن تختم بوتر، قالوا: لو كان المراد الإنقاء في الاستجمار لما كان لاشتراط العدد معنى، وقد اشترط العدد في الاستجمار دون الماء للفارق بين إزالة الأذى بالماء وبين إزالته بالحجارة، ولو كان المراد كما يقولون: هو الإنقاء دون العدد لما نص على (فلا يستنجي بأقل من ثلاث)، ولقال: فليستجمر أو ليستنج بأي عدد كان فيطلق، أما وأنه نص على أنه لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاث فدل على أن هذا هو المقصود، وليس المقصود الإنقاء فقط كالماء، والاستجمار يختلف عن الماء، والماء يختلف عنه.

    والرد على القول الثالث عندهم بأنه لا يشترط العدد في الماء، قالوا: نعم لا يشترط، ونحن معهم؛ لأن الماء يزيل العين والأثر، فدلالته على الطهارة والإنقاء دلالة قطعية، فلم يحتج الأمر إلى افتقار بعدد، فأنت عندما تغسل بماء قطعاً تطهرت، فلا داعي أن تستظهر الطهارة بعدد، أما إذا استجمرت بحجر واحد فهل طهرت قطعاً أم لا؟

    لا يدل الاستجمار بالحجارة على الطهر الكامل بدون ثلاثة أحجار، فلا بد من أن تستظهر، قالوا: وهذا كحال العدة، فالعدة إذا كانت بالأقراء فإنها تختلف عما لو كانت بالحمل، وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فلا تعلم براءة الرحم قطعاً وجزماً، أما عندما تحيض فاحتمال أن الحامل حاضت، وعند الشافعية يمكن لحامل أن تحيض، واحتمال أن هذا دم للحامل التبس علينا أمره.

    فإذاً: العدة بالأقراء لا تكون علامةً قطعيةً بالقرء الأول على حصول البراءة وتمام الطهر، بخلاف الولادة قال: إذا ولدت تأكدنا الآن من سلامتها وانتهائها من عصمة زوجها وخروج ما في بطنها، وأما غير الحامل فلا بد من قرء ثم قرء ثم قرء لنكون على بينة من الأمر، وهنا دلالة الماء قطعية، ودلالة الاستجمار ظنية، كما أن دلالة الوضع قطيعة على براءة الرحم، ودلالة القرء ظنية، فنحن نستبرئ الرحم بثلاثة قروء ويكفينا وضع الحمل لو وضعت بعد موت أو طلاق ولو بساعة فإنها تنقضي عدتها.

    قالوا: دلالة الماء قطعية فلا يشترط العدد، ودلالة الحجارة ظنية فلا بد من عدد، حقيقةً: هذا القول قول معتبر، لكن أريد أن أقول: إذا لم يحصل الإنقاء بالأول والثاني والثالث واستجمرنا بعد ذلك في الرابع، فإذاً ليس المقصود هو العدد بعينه وإنما المقصود الإنقاء، فإذا تحقق من الإنقاء انتهى، والناس يختلفون في حال قضاء حاجتهم، فكما قلت: قد يخرج منه بعرة واحدة لا لوث له، فيكفيه حجر صغير ينقي المحل ويستحب له الإيتار، وقد يخلط خلطة فلا يكفيه ثلاثة ولا ما هو أكثر، فالمقصود هو الإنقاء، وهذه هي العلة -فيما يظهر والعلم عند الله- للاستنجاء وللاستجمار، وعليه إذا حصل المطلوب.

    الراجح في عدد الأحجار في الاستجمار

    خلاصة الكلام: اتفق أئمتنا الكرام على أنه إذا لم يحصل الإنقاء إلا بثلاث فهذا واجب، وإذا حصل الإنقاء عنده لا يستحب الزيادة عليه، وإذا حصل الإنقاء بسبع فما زاد على الثلاث يستحب الإيتار، هذا متفق عليه.

    وإذا حصل الإنقاء في أقل من ثلاثة أحجار قال الشافعية والحنابلة: لا يجزئ فلا بد من أن يكمل إلى ثلاث.

    وقال الحنفية والمالكية: يجزئ ويستحب له أن يكمل إلى ثلاث.

    وفيما يظهر -والعلم عند الله عز وجل- أن قول الحنفية والمالكية أظهر في الدلالة وأوجه؛ لما تقدم معنا من أحاديث تدل على أن الأمر ليس متعيناً ولا واجباً، وأن هذا العدد الذي نص عليه نأخذ به ولا نهمله ألا وهو الاستحباب، وفي ذلك جمع بين الأدلة جميعها، ولا نقول: إننا ألغينا بذلك قول الحنابلة والشافعية، بل هذا يحافظ عليه بقول الحنفية، إننا لا زلنا نستحب ونطالب الإنسان بفعله، أما إذا قلنا قول الحنابلة والشافعية فقد ألغينا القول الثاني، نحن إذا قلنا: لم يحصل الإنقاء والإجزاء بحجرين؛ فما صح استنجاؤه وبطلت صلاته! فلا بد من أن يفرق بين الأمرين، فأين المتشدقون هنا وهناك أنهم أصحاب رأي، وأنهم غلبوا الأقيسة على النصوص الشرعية! وكما رأيتم الدليل الأول مفترق بين الفريقين، فهؤلاء استدلوا بأحاديث ثابتة في الأمر، وهؤلاء استدلوا بأحاديث، وبقيت الأدلة الأخرى كلها نظرية.

    كلهم يطلب مقصود الشارع في هذه المسألة، وذكروا ما عندهم، فنحن إذا اتسعت صدورنا لفهم أئمتنا -وهذا واجب علينا رغم أنفنا فلنعرف قدرهم، ولنقف عند حدنا- ونقول: المسألة فيها سعة، وهذا ما قرره أئمتنا الكرام البررة، وإذا أردت أن تجول في المسألة وأن ترجح فلا حرج، ولكن يبقى وجوباً عليك الإقرار بأن هذه الأقوال معتبرة، وأن من قال بها فهو على هدى، وإذا أردت أن تشتط وتقول: هذه آراء، فإما أن تقولوا بها أو بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فتستحق أن يقطع لسانك من هذا الكلام الذي تكثر به الشغب على أئمة الإسلام! فليست آراء لتقابلها بآراء خاتم الأنبياء على نبينا صلوات الله وسلامه.

    ووالله الذي لا إله إلا هو ما أحببنا أئمتنا إلا لاتباع نبينا عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن نعلم هذا وأن نعيه، وإذا عرفت أدلتهم فكن على بينة من أمرك، ثم أنت بعد ذلك تختار وما أحد ألزمك، لا بقول أبي حنيفة ، ولا بقول أحمد عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، لكن صدرك يتسع لغيرك، فهذا قول قال به إمام مشهود له بالهدى، دل على قوله أدلة شرعية معتبرة، قل: القول حق، لكن أنا فيما يظهر لي القول الثاني أرجح وأنت على هدى، لكن هذا لا بد منه.

    1.   

    الرد على ابن حزم في قوله بعدم قيام أي شيء مقام الحجر في الاستجمار

    قبل أن ننتقل إلى المبحث الثالث والرابع في تخريج الأحاديث التي أشار إليها الإمام الترمذي بقوله: (وفي الباب روايات متعددة كثيرة) أحب أن أنبه على أمر فكونوا على علم به، وقد خالف فيه ابن حزم لشذوذه فانتبهوا له، وهو قول الإمام النووي في المجموع في الجزء الثاني صفحة ثلاث عشرة ومائة انظر لهذه العبارة: (اتفق العلماء كافةً) إلا ابن حزم هذا الذي شذ، لم إلا ابن حزم ؟ لأنه لا يعتبر في الأصل ولا يعتبر بخلافه، (اتفق العلماء كافةً على أنه يقوم مقام الحجر كل جامد -انتبهوا لهذه الضوابط، ومعرفة مراد الشارع فيما أمرنا أن نستجمر به- طاهر مزيل للعين وليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان).

    قوله: (ليس له حرمة) يعني: ليس بمحترم، كأن يكون مثلاً من الطعام، أو بجزء من الحيوان؛ لأنه سيأتينا النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث من أجزاء الحيوانات.

    يقول: (كالخشب والخرق والورق ونحو هذا)، يعني لو استنجيت أو استجمرت -وقلنا: لفظ الاستنجاء شامل للماء وللحجارة ويقوم مقام الحجارة- بورق، أو بخرق، أو بخشب، كل هذا يجزئ بالصفات المتقدمة، فالخشب والورق والخرق جامد طاهر يزيل العين، ليس له حرمة، وليس بجزء من حيوان.

    وشذ ابن حزم فقال في المحلى في الجزء الأول صفحة ثمان وتسعين -انظر للعبارة الشديدة- قال: هذا خلاف لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام!

    يا عبد الله! أئمتنا جاءوا يخرفون ويخالفون نبينا المعصوم عليه الصلاة والسلام، اتق الله في عبارتك! يقول: هذا خلاف لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار، ظاهري جامد، وقوله هذا مثل ما تقدم معنا هناك أنه لا يستنجي بيمينه، قال: يجوز أن يستجمر لحاجة البول بيمينه وأما الغائط فلا يستنجي باليمين.

    وقلنا: هذا لغط وكلام باطل! والذكر لا يراد منه خصوصه، بل يراد الآلة الأمامية من الرجل، والآلة الأمامية من المرأة وعليه الفرج كذلك، وهي في المرأة أن تمس فرجها بيمينها، ولا أن تستجمر بيمينها، فانظر للجمود الذي عنده، ثم سيجعل جموده سنةً! ويجعل الخروج عنه مخالفةً للنبي عليه الصلاة والسلام، ولو قال: هذا مرجوح فلا بأس، وإنما يقول: هذا خلاف لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو قول العلماء كافة، أفيكون العلماء كافة خالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام وابن حزم في القرن الخامس للهجرة وافق أمر النبي عليه الصلاة والسلام؟!

    إخوتي الكرام! عندما نذكر شذوذ ابن حزم يعلم الله أننا لا نريد بذلك تنقيصه ولا تحقيره كما تقدم معنا في ترجمته، وقلت: إن جميع أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، وترحمنا عليه وترضينا بأكثر من أخطائه، لكن لا بد عندما يقارن مع أئمتنا أن نبين قدره معهم، وليس بيننا وبين الشافعي صلة ولا نسب، ولا بيننا وبين ابن حزم عداوة ولا خصومة، فكل منهما نتبرك بذكره ونرجو شفاعته عند ربنا جل وعلا، لكن إذا قورن ابن حزم بأئمتنا فلا بد من أن ننصف أئمتنا، نقول: هذا شذوذ منه، ونعطي السامعين عبارات لا من أجل تحقير هذا الإمام المبارك، وإنما من أجل عدم التعويل على كلامه.

    والإمام ابن كثير عليه رحمة الله في البداية والنهاية يذكر مناماً رآه نفسه رأى فيه شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة ربنا، يقول: فقلت له: يا إمام! لم لم تضمن كتابك المجموع أقوال ابن حزم بل أعرضت عنها وما ذكرتها؟ فقال: قال لي: في المجموع إنه لا يعجبني، فقلت له: أمتناقض في الأصول والفروع؟ قال: نعم، ثم قلت له: فمثل لي ابن حزم ونحن في أرض فيها صحراء وفيها شيء من الشجر الذي لا ثمر له، قلت له: هذه هي الأرض التي زرعها ابن حزم انظر إليها هل فيها ثمر أو تصلح للجلوس؟ فقال: لا تصلح إلا للجلوس على ضوء القمر، يعني من القيل والقال ثم تحدث بعد ذلك في المسائل!

    يقول: ثم استيقظت، وكان قد خيل لي وأنا نائم أن ابن حزم سامع كلامنا.

    هذه القصة يوردها ابن كثير في البداية والنهاية ثم لما يرويها في يقظة ويقر هذا الكلام يقول: هذا واقع ابن حزم مع أئمتنا، وكما قلت: لا نقول هذا تنقيصاً فانتبه لذلك! وقد ترجمت له في غالب ظني في أكثر من محاضرة، وبينت ما للرجل وما عليه، لكن إذا قورن بأئمتنا فلا ابن حزم ولا غيره ممن جاء بعده يعدلون إماماً من أئمتنا، فلننصف أئمة الإسلام جميعاً، ولا يجوز أن نشتط بحيث نجعل المتأخرين أفضل من أئمتنا السلف الطيبين المتقدمين.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، واغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755985537