أما بعد:
فلقد شرعنا في مدارسة الباب السادس والسابع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، وعنوان الباب السادس: باب في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول.
والباب السابع مرتبط بهذا: باب ما جاء من الرخصة في ذلك.
وقد أورد الإمام الترمذي في هذين البابين أربعة أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام من رواية أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث الأول من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)، فقال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت مستقبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله، قال الإمام أبو عيسى : حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح.
وبقية الأحاديث مر ذكرها ويأتي الكلام عليها مع هذا الحديث إن شاء الله ضمن فقه الحديث بعون الله.
إخوتي الله! كنا في المبحث الأول نتدارس رجال إسناد هذه الأحاديث الشريفة الصحيحة، ووصلنا إلى ترجمة الإمام الزهري عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، وبقي شيء يحتاج إلى تعليق عليه، قبل أن أتكلم عليه أحب أن أجيب على ورقتين أرسلهما الإخوة الكرام في موعظة البارحة.
هذه الأحاديث الثلاثة تقرر ما تقدم معنا من مبحث الأدب الذي كنا نتدارسه وهي:
الحديث الأول: رواه أبو داود في سننه، وابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه أيضاً، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في السنن، والإمام المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والحديث إسناده صحيح كالشمس من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله)، وفي رواية: (وتفلته بين عينيه)؛ لأنه حقر ما عظمه الله جل وعلا، ولم يكرم ما كرمه الله، بل امتهن هذه الجهة المباركة، فمن بصق إلى جهة القبلة في صلاة أو في غيرها يأتي يوم القيامة وهذا البصاق بين عينيه وفي جبينه وهو بين الناس على رءوس الأشهاد؛ ليظهر الله قلة أدبه في ذلك الجمع العظيم، والحديث ذكره الحافظ في الفتح في الجزء الأول صفحة ثمان وخمسمائة، وهو أيضاً في الترغيب والترهيب، وهو صحيح، والأخ ذكره ونسبه إلى ابن حبان فقط، وقد رواه هو وغيره، فلينظر في موارد الظمآن على صحيح ابن حبان في صفحة ثلاث ومائة، وفي صحيح ابن خزيمة في الجزء الثاني صفحة اثنتين وستين، وهو في مصنف ابن أبي شيبة في الجزء الثاني صفحة خمس وستين ومائتين.
فالحديث صحيح ولا كلام عليه، وهذا يقرر ما سبق أن ذكر البول والغائط هو من باب الإنكار لكل ما يمتهن، يعني: لا ينبغي أن تستقبل تلك الجهات بشيء يمتهن، من بول أو غائط أو تفل، وكذا من مد رجل.. وغيره، كل هذا ينبغي أن تنزه جهة القبلة عنه، فهي جهة مكرمة مباركة.
وقلت: إذا كان هذا للقبلة فيثبت للمصحف أيضاً من باب أولى، فما ينبغي أيضاً أن توجه تفلاً إلى جهة المصحف، ولا تمد رجلاً، فينبغي أن نتعامل مع شعائر الله بالأدب، فهذا علامة تعظيم الرب وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
[الحج:32].
والحديث الثاني بمعنى الحديث الأول، نقله الأخ من الدر المنثور في الجزء الخامس كما حدد وراجعته هناك فوجدته في صفحة واحدة وخمسين، ولكن الحديث رواه غير البزار ، فقد رواه ابن حبان أيضاً في صحيحه في المكان المشار إليه، ورواه ابن خزيمة ، ورواه البزار ، وإسناد الحديث حسن، وهو في الفتح في المكان المتقدم، وفي الترغيب والترهيب في الجزء الأول صفحة مائتين وواحدة، وفي مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة عشرين، وعزاه للإمام البزار كما هنا، ولفظ الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه)، يعني: الذي بصق جهة القبلة يبعث يوم القيامة (وهي) أي: نخامته (في وجهه) في أشرف أعضائه امتهاناً له.
وفي رواية: (تبعث النخامة يوم القيامة في القبلة وهي في وجه صاحبها)، يعني: النخامة التي توجه جهة القبلة في هذه الحياة تبعث يوم القيامة وتكون في وجه صاحبها، وفي جبينه بعد الممات يوم القيامة، والحديث -كما قلت- صحيح.
والحديث الثالث ذكره الأخ وهو تابع لهذا الحديث، لكنه من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأرضاه، وفي إسنادها ضعف، وهي في المجمع في المكان المشار إليه، رواها الإمام الطبراني في معجمه الكبير، والإمام المنذري ألحقها برواية ابن عمر، قال: وفي رواية أبي أمامة -دون أن يذكر الرواية بكاملها- (من بزق في جهة القبلة جاءت يوم القيامة أحمى ما تكون حتى تقع بين عينيه)، (أحمى ما تكون) أي: فيها حرارة زائدة تحرق جبينه؛ لأن البصاق والتفال الذي يخرج منك فيه حرارة، فهي يوم القيامة تكون حارة أكثر من الحرارة التي انبعثت من نفسك عندما تفلت وبصقت بسخونة، فتأتي يوم القيامة أحمى ما تكون، وتكون بين عيني صاحبها. هذه رواية أبي أمامة في معجم الطبراني الكبير، ورواية حذيفة الأولى، ورواية عبد الله بن عمر الثانية تشهدان لرواية أبي أمامة، ورواية أبي أمامة رواها أيضاً ابن أبي شيبة في المصنف مع رواية عبد الله بن عمر موقوفةً عليه من كلامه.
نعم إخوتي الكرام! إن البصاق تجاه القبلة حرام، سواء كان الإنسان في الصلاة أو في غيرها كما قرر هذا الإمام النووي وابن حجر وأئمة المسلمين حيث قالوا: لا يجوز أن يتفل الإنسان جهة القبلة سواء كان في صلاة أو في غيرها، والبصاق تجاه القبلة حرام، ومن فعل هذا فقد آذى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وملائكته، وقد ثبت في سنن أبي داود وصحيح ابن حبان ، والحديث إسناده حسن من رواية السائب بن خلاد رضي الله عنه: (أن رجلاً أمّ قومه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فبصق في القبلة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ثم بعد أن انتهى من صلاته قال: لا يصل لكم هذا، وما سمع هذا الرجل كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حانت الصلاة الأخرى أراد أن يتقدم بقومه وأن يصلي بهم فمنعوه وأخروه وقدموا غيره، وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يصل لكم هذا. فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام مستفسراً عن سبب ذلك، فأخبره أنه بصق تجاه القبلة، وقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إنك آذيت الله ورسوله).
والحديث رواه الإمام الطبراني بسند رجاله ثقات من رواية عبد الله بن عمر ، ولفظ الحديث: (إنك آذيت الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام- وملائكته)، أي: عندما بصقت تجاه القبلة.
ولذلك أثر عن عدد من السلف رضوان الله عليهم أجمعين أنهم ما بصقوا تجاه القبلة، ولا جهة اليمين منذ أن هداهم الله إلى هذا الدين القويم، وهذا هو الأدب الذي كان يتصف به سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فكما لا ينبغي أن تبصق تجاه القبلة كذلك لا يجوز أن تبصق جهة اليمين في الصلاة أو في غيرها؛ لأن جهة اليمين أيضاً مكرمة، لأن الملك الذي يكتب الحسنات في تلك الجهة، فإن قيل في جهة الشمال أيضاً: ملك يكتب السيئات، فنقول: هذا لم يشرعه لنا خير البرية عليه الصلاة والسلام، وجهة الشمال إن كان فيها ملك فإنه لا يتأذى ذلك الملك وإن كان فيها، لكن لا يجوز أن نبصق جهة اليمين؛ لأنها جهة مكرمة، وقد قال بعض أئمتنا: إن مقعد الملك الذي في جهة الشمال أيضاً في جهة اليمين، وإن كان ينسب إليه أنه الشمال، أي: هو من باب كتابة السيئات فقط تنسب إلى الشمال، لكن مقعده مع مقعد الملك الذي يكتب الحسنات بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها في جهة اليمين، هذا قرره أئمتنا، وهذا فعله سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
وهذا المنع -كما قلت- من البصاق تجاه القبلة وفي جهة اليمين مطلقاً، سواء كنت في مسجد أم لا، في الصلاة أم لا، لا ينبغي أن تبصق إلى هاتين الجهتين، والبصاق إما إلى جهة الشمال، وإما إلى تحت رجليك وقدميك، وإما أن تبصق بثيابك وأن تحكه ببعضه أو بمنديل معك.
أول هذه الآثار رواه أيضاً الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة عشرين، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فأراد أن يبصق وما عن يمينه فارغ، يعني: لا يوجد أحد يمشي بجواره من جهة اليمين، فكره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، لعله كان أحد يمشي معه في جهة الشمال وعن يمينه فارغ، فكره أن يبصق جهة اليمين، وجهة الشمال يوجد فيها أحد بجواره فبصق تحت قدمه أي: تحت رجليه، أو أن يبصق في خرقة معه أو في ثيابه ويدلك الثياب ببعضها.
والأثر الثاني: الذي رواه عبد الرزاق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت.
والأثر الثالث: الذي رواه عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين: أنه كان معه ولده في السفر فبصق عن يمينه فنهاه وزجره وقال: إنك تؤذي صاحبك. يعني: الملك الذي في هذه الجهة المباركة، إنك تؤذي صاحبك، ابصق عن شمالك.
فهذه ثلاثة آثار: أثران عن صحابيين، وأثر عن هذا التابعي الخليفة الراشد رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد أورد أيضاً الإمام ابن أبي شيبة في المصنف في الجزء الثاني صفحة خمس وستين وثلاثمائة آثاراً متعددة عن السلف الكرام في كراهة البصاق تجاه القبلة وجهة اليمين فلتراجع في مصنفه، قال أئمتنا: فإن تعذر أن يبصق تحت رجليه؛ إما لأنه في مسجد أو بلاط أو سجاد، وجهة الشمال مفروشة أو يوجد فيها أناس، قال الحافظ ابن حجر : فعليه أن يبصق في ثوبه، قال: فلو فقد الثوب؟ أي لو قدرنا أنه لا يملك خرقة أو ثوبه لا يطاوعه أن يبصق فيه، إما لكونه لا يملك إلا ثوباً واحداً ضيقاً وليس معه عباءة ليبصق فيها، فإن تعذر أن يبصق في ثوبه؟ قال: فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه، ثم قال: والبصاق تجاه القبلة حرام سواء كان في المسجد أو لا.
فهذه الآثار التي ذكرها هذا الأخ الكريم تدلنا على هذا الأدب الذي ينبغي أن نتأدب به نحو هذه الجهة المباركة، وأن هذا ليس في خصوص البول والغائط، وإنما كل ما يمتهن لا ينبغي أن نتوجه به إلى جهة القبلة، تعظيماً لهذه الجهة المباركة، وكذلك جهة اليمين.
تقدم معنا أن هذا لا يجوز، وأن هذا ليس من تعظيم كلام الرحمن، فلا تعلق آية الكرسي ولا غيرها، وقد نص أئمتنا على ذلك، ففي كتاب المصاحف لـابن أبي داود صفحة أربعين ومائتين قال: كره الثوري تعليق المصاحف على الجدران، وقال الإمام النووي في التبيان في آداب حملة القرآن في صفحة سبع وثلاثين ومائة وصفحة خمسين ومائة: مذهبنا يكره نقش الحيطان والثياب بالقرآن وبأسماء الله جل وعلا، ويلحق بالنقش تعليق شيء منقوش، أي: مكتوب بخرقة أو ورقة أو ما شاكل هذا، فهذا ليس من تعظيم القرآن، ولا ينبغي أن يعلق الإنسان شيئاً من آيات القرآن على الجدران، وأما إذا نقش على الجدران فالكراهة تزداد؛ لأن مآل هذا إلى السقوط.
الجواب: لا حرج؛ ولكن لا تمد رجليك إلى جهة المصحف، وأما إذا كان المصحف في الحجرة، أو كنت تقرأ به على سريرك وفراشك، ثم وضعته بجوارك ونمت وهو بجوارك فلا حرج، بحيث لا يوضع في مكان ممتهن بل يوضع على درج معين في الحجرة، في مكتبة أو على رفٍ فوق السرير، وفي كتاب المصاحف لـابن أبي داود صفحة ست عشرة ومائتين قال: سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها قيل لها: أرأيت المقرمة؟ وهي ستر فيه نقوش توضع على الفراش، يقال له: شرشف، قيل لها: أرأيت المقرمة التي يجامع عليها أقرأ وعليها المصحف؟ قالت: وما يمنع؟ إن رأيت شيئاً فاغسله وإن شئت فحكه، يعني: إذا كان هناك شيء على هذه الستارة فاغسله أو حكه، ثم يوضع عليه المصحف وأنت تقرأ فلا حرج، وليس في ذلك امتهان له.
وسأل رجل عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين فقال: أقرأ والمصحف على الفراش الذي أجامع عليه؟ قال: نعم، لا حرج في ذلك، وعليه لو وضع المصحف -كما قلت- معه على السرير أو في الحجرة ونام فلا حرج، بشرط ألا يكون في تلك الهيئة امتهاناً لكلام الله جل وعلا، وقد بوب على هذا بعنوان: المصحف يوضع على المقرمة.
قال محمد بن الزبير: ورأى عمر بن عبد العزيز ابناً له يكتب في حائط فضربه.
ورجال الإسناد كلهم ثقات أثبات إلا محمد بن الزبير ، فقد أخرج حديثه الإمام النسائي ، والإمام أبو داود لكن في كتاب فضائل الأنصار لا في السنن، وهو كما قال الحافظ في التقريب: محمد بن الزبير الحنظلي البصري متروك من الثالثة، وأما جميع رجال الإسناد فثقات. أبو الطاهر هو أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح أبو الطاهر المصري ثقة من العاشرة، وحديثه في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي والبيهقي.
قال: أنبأنا ابن وهب وهو عبد الله بن وهب المصري شيخ لـأبي الطاهر ، ويعتبر شيخ الإسلام في زمنه والفقيه، ثقة حافظ عابد، حديثه في الكتب الستة، أخبرني سفيان الثوري، وتقدم معنا ترجمة حديثه في الكتب الستة، وهو شيخ الإسلام توفي سنة إحدى وستين ومائة، وهو شيخ عبد الله بن وهب.
قال: عن محمد بن الزبير روى عنه الثوري ، ومحمد بن الزبير روى عن عمر بن عبد العزيز ، لكن محمد بن الزبير الحنظلي البصري متروك، مع أن الأثر لو صح لكان مرسلاً، والمرسل يحتج به لولا ما في محمد بن الزبير من ترك، حكم عليه أئمتنا بالترك -كما قلت لكم- وهو من رجال سنن النسائي ، وكتاب فضائل الأنصار للإمام أبي داود .
والحديث وإن لم يثبت فقد تقدم معنا أنه لا ينبغي أن يوضع المصحف على الأرض؛ لأنه ليس من تعظيم كلام الله عز وجل.
المعتمد نعم، وفي ذلك تفصيل، فالعاقل يعامل على حسب كلامه، فعندما تقول لزوجتك: طالق ثلاثاً، طلقت عليك ثلاث طلقات باتفاق المذاهب الأربعة، فلم تعد تحل لك حتى تنكح آخر، ولو قلت: طالق واحدة حسبت عليك طلقة، وعندما تقول: طالق اثنتين فطلقتين، وعندما تقول: طالق ثلاثاً وهكذا، فأنت عاقل تدري ما تقول، فتحاسب على حسب كلامك، ولذلك لو قال: والله العظيم مائة مرة لا أفعل كذا ثم فعله وحنث فعليه مائة كفارة، ولو قال: والله العظيم والله العظيم والله العظيم مائة مرة لا أفعل كذا ثم حنث فعليه كفارات بعدد أيمانه وحنثه، هذا هو المعتمد.
فالمالكية والشافعية قالوا: إن أراد باليمين الثاني والثالث وما بعده توكيد للأول دون إنشاء يمين بديل فتعتبر يميناً واحدة، وهذه عندما تكون صيغة اليمين معقودة بدون ذكر عدد ما، أما لو قال: والله العظيم ثلاثاً أو ثلاثين فهذه لا تعد توكيداً بل هي أيمان متعددة، إنما التي يكررها بلفظها ثم يقول: أنا قصدت بالثانية والثالثة وما بعدها توكيد الأولى، هذا إذا كان عنده نية، أما إذا لم يكن عنده نية فالأصل في الكلام الإنشاء والتأسيس لا التوكيد والتقرير، هذا هو الأصل.
فلو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثم قال: أنا متيقن في قلبي أنني أريد توكيد الطلاق الأول ولا أريد إيقاع طلاق جديد، فهي واحدة ولو قال مائة؛ لأنه متيقن، وهو واعٍ مدرك، وإذا لم تكن له نية فكل واحدة تعتبر تأسيساً جديداً، وطلاقاً غير الذي سبق، واحد واثنان وثلاثة على حسب ما يصدر منه، فعند الشافعية والمالكية: إذا قصد التأكيد بالثانية وما بعدها فهي يمين واحدة، وإذا أراد التأسيس وإنشاء يمين أخرى والاستئناف فهي أيمان متعددة عند المالكية عن كل يمين حنث فيها كفارة، وللشافعي قولان في ذلك، كل هذا إذا كان حلف على فعل واحد.
وأما عند الإمام أحمد وأبي حنيفة ، وهو المعتمد عند الحنابلة: أنه إذا حلف يميناً ثانية وثالثة ورابعة أراد التأكيد أو أراد التأسيس والاستئناف فالحكم واحد، وهو أنها أيمان متعددة وعليها كفارات بمقدار ما يصدر منه من أيمان، سواء قصد التأسيس وإنشاء يمين جديد، أو التقرير والتوكيد لليمين الأول، فكل لفظ منه يعتبر يميناً مستقلاً، وإذا حنث فعلى كل لفظ صدر منه حنث فيه كفارة فليعد أيمانه وليكفر عنها.
وعليه لو قال: والله العظيم.. والله العظيم.. والله العظيم ثلاثاً لا أفعل كذا ثم فعله، فعند أبي حنيفة وأحمد : عليه ثلاث كفارات، قصد التأسيس أو التأكيد؟ قصد الاستئناف أو تقرير ما سبق، فإن قصد الاستئناف قلنا بالاتفاق: ثلاثة أيمان، لكن هل فيها ثلاث كفارات؟ نعم عند الأئمة: الثلاثة، والإمام الشافعي له قولان في هذه المسألة.
وهناك قول آخر للإمام أحمد وهو: أن الأيمان المتعددة في موضوع واحد تعتبر يميناً واحدة، سواء قصد التأسيس أو قصد التقرير والتوكيد لما سبق.
إن العاقل يحاسب على حسب ما يصدر منه، فأنت تملك الكلام فما الذي حملك على أن تحلف ثلاثاً؟ فأنت الذي ألزمت نفسك، فالتزم بما ألزمت به نفسك؛ ألزمت نفسك بثلاثة أمور فالتزم بها، أما أن تطلق ثلاثة وثلاثين ثم تأتي وتقول: يا ابن عباس! رضي الله عنهما كما -إشارة إلى المفتي- قال ابن عباس : يركب أحدكم الصعب والذلول ثم يأتي ويقول: يا ابن عباس ! يقول: هلا اتقيت الله ليجعل لك مخرجاً؟ لم لم تطلق طلقة واحدة فقط؟ من الذي ألزمك بالثلاث؟ لو طلقت واحدة كان الأمر بيدك، أما أن تطلق ثلاثين ثم تأتي وتقول: يا ابن عباس! فماذا يفعل لك ابن عباس.
وما استشكله بعض الإخوة بأنه لو حلفنا ثلاث مرات: والله العظيم، والله العظيم، والله العظيم، فالمعتمد كما قلت عند الجمهور أنه عليه ثلاث كفارات إذا حنث، ولو حلف بدل الثلاثة ثلاثين يميناً فإن عليها ثلاثين كفارة إذا حنث فيها، ولو قلنا: إن الأشياء التي حلف عليها مختلفة وحنثت فيها فبالاتفاق كل يمين تحنث فيه ففيه كفارة، أما إذا كان المحلوف عليه شيئاً واحداً، فهذا على حسب ما تحدد من أيمان، والعلم عند ذي الجلال والإكرام.
أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمر له عمر
نعم كان الحديث يكتب قبله بصفة فردية، أما بالصفة التي تأخذ وصف الجمع والتدوين والتأليف، فهو أول من جمعه على هذا النحو، وقلت: توفي سنة خمس وعشرين ومائة للهجرة، وقيل: ثلاث وعشرين، وقيل: أربع وعشرين كما تقدم معنا، وانتهينا من ترجمته العطرة الطيبة المباركة.
أما التهمة التي أثاروها حوله: فهي أنه كان يتصل بالأمراء والخلفاء.
أول ما قدم هذا العبد الصالح على عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين، أراد عبد الملك بن مروان أن يمتحنه وأن يتأكد من مكانته في العلم، فقال له: أتفرض؟ يعني: أتعلم الفرائض؟ قال: نعم، قال: ما تقول في رجل مات عن زوجة وأم وأب؟ فقال: للزوجة الربع، وللأم الربع، وللأب الباقي، فقال له عبد الملك : أصبت الفرض، وأخطأت اللفظ، يعني: كان ينبغي أن تقول: الأم لها ثلث الباقي، وثلث الباقي ربع، فالمسألة من أربعة، ربعها للزوجة، ويبقى معنا ثلاثة، ثلث الباقي واحد، والنصف للأب، فهو قال: للزوجة الربع، وللأم الربع، والنصف للأب، قال: أصبت الفرض، فلا يمكن أن تتغير الفريضة عن هذا، وهذه المسألة إحدى العمريتين، ولكن أخطأت اللفظ، فلا ينبغي أن تقول: للأم الربع؛ لأنه ما فرض الله للأم ربعاً، وإنما فرض لها الثلث ثلث الكل أو ثلث الباقي، وثلث الباقي يساوي الربع هنا، لكن ينبغي أن تقول: ثلث الباقي.
إن الخليفة يصحح لـمحمد بن شهاب الزهري ويقومه، فهل الاتصال بهذا الخليفة منقصة؟
ثم قال له: أتعرف القرآن؟ وسأله عن القرآن وعن علومه، وعن الفقه، وعن الحديث، وغيرها من العلوم، وهذه كانت صفة الخلفاء السابقين، فلا يكون خليفةً إلا بعد أن يوجد فيه شروط الاجتهاد، فهذا أبو جعفر المنصور كان صاحباً وقريناً للإمام مالك في الطلب، ولا ينزل عن وزنه في العلم، لكن شغل عن الرواية وعن التحديث بأعباء الخلافة، ولا تظن أنه كعلمائنا في هذه الأيام، لا أقول كالحكام فهذا موضوع آخر، فأكبر عالم في زماننا لا يستطيع أن يجاري أبا جعفر في علم الكتاب والسنة، بل في علم اللغة والتاريخ والشعر وغير ذلك، فكما قلت: أئمة جهابذة؛ لكن لهم صبغة الحكم وتدبير شئون الرعية، وأولئك -أي مالك وغيره- اعتزلوا هذا الجانب.
ثم سأل عبد الملك الزهري عن بيع أمهات الأولاد؟ فأجاب ابن شهاب بما يحفظه من سنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فكبر في عين عبد الملك بن مروان ، وأجله إجلالاً كبيراً، هذا محمد بن شهاب الزهري الذي خالط الخلفاء والأمراء، وكما قلت: تكلم بعض الصالحين فيه، فاستغل هذا الكلام بعض الملعونين، وأراد أن يبني حول الإمام محمد بن شهاب الزهري ضلالات ويقول: كان من المجاهرين وكان كذا وكذا، وحاشاه كما ستعلمون.
إن أول من تكلم في الزهري لدخوله في أمر الحكم قرينه وصاحبه الإمام مكحول الشامي الذي توفي سنة بضع عشرة ومائة للهجرة، أي: قبل الإمام ابن شهاب، ومكحول الشامي قال عنه أئمتنا: هو لأهل الشام كـالحسن البصري لأهل البصرة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة، وأخرج له البخاري في جزء القراءة خلف الإمام ولم يخرج له في صحيحه، قال مكحول : أي رجل محمد بن شهاب الزهري أبو بكر ؟ أي رجل هو؟ لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك!
قال الإمام الذهبي : قلت: بعض من لا يعتد به لم يأخذ عن ابن شهاب ولم يرو عنه؛ لأنه خالط الخلفاء والأمراء، ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة، وأين مثل الزهري؟ قال الإمام مالك عليه رحمة الله: رأيت ثلاثين ممن يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام عند هذه السلاطين، فما كتبت عنهم ولا رويت، لا أستهينهم، ولكن لا أراهم أهلاً لهذا الشأن، فلما قدم محمد بن شهاب الزهري وكان شاباً كنا نزدحم على بابه؛ إجلالاً له، ولذلك قال الإمام الذهبي : وأين مثل الزهري؟
إن ما حصل من مخالطة ابن شهاب للخلفاء والأمراء إنما هي مخالطة شرعية، نعم قد حذرنا من المخالطة الردية، فمن خالط الأمير من أجل حظ نفسه فهو شيطان خبيث، ومن خالط الخليفة والمسئول من أجل متاع زائل فهو أيضاً على ضلالة، لكن إذا خالطه من أجل النصح ومن أجل مصلحة الأمة الإسلامية، فهل في ذلك منقصة؟ هذا ما كان يجري من محمد بن شهاب وكان لا تأخذه في الله لومة لائم.
إن كانت المخالطة من باب المباينة وتصديق الأمراء بكذبهم، ومساعدتهم على جورهم وظلمهم، فهذه منقصة ليس بعدها منقصة، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا، ففي سنن الترمذي والنسائي ومستدرك الحاكم وكتاب الحلية لـأبي نعيم ، والحديث رواه الإمام الخطابي في كتاب العزلة، وإسناد الحديث صحيح، صححه الترمذي والحاكم وأقره عليه الذهبي من رواية كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة، أربعة وخمسة )، أحد العددين من العرب، والآخر من العجم، أي: أن الخمسة من العجم، والأربعة من العرب، ( فقال عليه الصلاة والسلام: اسمعوا هل سمعتم؟ إنه سيكون عليكم أمراء، فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولن يرد عليّ الحوض يوم القيامة، ومن لم يدخل عليهم، ولم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد عليّ الحوض يوم القيامة ).
إذاً: المذموم أن تدخل على الأمير لتصدق بالكذب، وأن تعين على الظلم، فلو قدر أنك دخلت على أمير وما صدقت بالكذب، ولا أعنت على الظلم، فهل يشملك الذنب؟ الجواب: لا، إذاً: لا بد من وضع الأمر في موضعه الشرعي، نعم غالب من يدخل على الأمراء ليحصل مصلحة خاصة، ويصدق بالكذب، بل يزيد الأمير كذباً على كذبه، ويساعده أيضاً على الظلم والغش، ولا يهمه أمر الأمة من أولها لآخرها ويداهن ولا يناصح ولا يتقي الله فهذا أمر آخر، ولكن لو قدر أنه دخل ونصح وقام بما يجب عليه نحو هذا الأمير ونحو الرعية، وساعد أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فليس عليه منقصة، ثم إن مجالس الأمراء في الغالب مجالس فتنة، والإنسان إذا دخل يرى ما عندهم من الدنيا فقد تضعف نفسه وتتفلت من الحق من أجل تحصيل عرض الدنيا، وقد تقدم معنا عند دراسة فرقة القدرية، كلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، والأثر في مسند الدارمي قال: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخلن على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يجادلن أهل الأهواء.
وتقدم معنا كلام سيد المسلمين في زمنه سليمان بن مهران الإمام الأعمش عندما قيل له: هنيئاً لك قد أحييت العلم لكثرة من يأخذ عنك، فقال: لا تعجب فإن من يتعلم العلم ثلاثة أصناف: صنف يموتون قبل الإدراك، وصنف يلزمون السلطان فهم شر عباد الرحمن، وصنف لا يفلح منهم إلا القليل.
إذاً: هذه المجالس من دخل إليها ولم يتق الله فيها فهو مذموم، فالعلة في عدم الإنكار وما في تلك المجالس من فتنة خشية أن يفتن الإنسان، ولو قدر أن إنساناً كـمحمد بن شهاب الزهري خالط وشارك أيضاً في الحكم، ولكنه اتقى الله، وما وقع في زلل ولا معصية، وكان يسدد ويقارب، وشريعة الله جل وعلا أمرتنا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها، فكان يبذل ما في وسعه، ولا يقر على خطأ، ويقضي عليه بمقدار ما استطاع، هو لا يمكن أن يقوم بخطأ ولا منقصة، ولا يمكن أن يجري على يديه معصية، ثم لا يدخر وسعاً في القضاء على المعاصي التي وجدت في زمنه فهذا محمود مشكور.
إن الخلافة العباسية فيها من الملأ أكثر مما في الأموية بكثير، فهل وجود مثل هذا الإمام في ديوان الخلافة فيه منفعة للإسلام والمسلمين أو مضرة؟ لا شك أنها منفعة عظيمة، ولما ازداد ظلم الزنادقة وأرادوا أن يحجروا على الخليفة أشار على الخليفة المقتدي ، فقال: إن قاتلناهم كانت فتنة بين المسلمين وخسارة على كل حال، ولا حيلة إلا أن نقنت في الفجر ثلاثين يوماً كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، عل الله أن يريحنا من هذا السلطان مسعود الذي يفعل ما يفعل، وقنت هو والخليفة مدة شهر وفي تمام الشهر أخذ الله روح ذلك الطاغية، فعندما دخل ابن هبيرة الوزارة حصل هناك إصلاح وخير، ورضي الناس ذلك، وأما قبله وبعده فما أحد رضي عن حكم بني العباس ولا من كان قبلهم ولا من جاء بعدهم.
لما أراد عضد الدولة وكان يميل إلى الرفض وإلى التجهم، وهو حامل لواء الاعتزال في زمنه، ووزيره كذلك، لما أراد أن يبحث عن مذهب أهل السنة قال لوزيره: مذهب طبق الآثار، ألا يوجد عالم من علمائهم يجتمع بنا؟ أما يوجد حولنا إلا هذه الشرذمة من المعتزلة، فأين أهل السنة؟ فقال له وزيره: لا يغرنك شأنهم فكلهم حشوية لا يدرون ما يقولون، فماذا تريد منهم؟ يريد هذا النجس الخبيث أن تكون له الحظوة عند عضد الدولة الذي هو خليفة المسلمين في زمنه، وهذا في القرن الرابع للهجرة.
فقال: لا بد من البحث، ثم سأل فأخبر عن أبي بكر بن الباقلاني توفي سنة 403هـ وشيخه ابن مجاهد أبو عبد الله محمد بن أحمد تلميذ أبي الحسن الأشعري ، توفي سنة سبعين وثلاثمائة للهجرة، فأرسل عضد الدولة إليهما، فأما ابن مجاهد فقال: لن أذهب؛ لأن هؤلاء أهل رفض واعتزال وضلال، وأنا شيخ المسلمين فكيف أذهب إليهم؟ قال ابن الباقلاني : يا إمام! إن لم نذهب أنا وأنت فمن يمثل أهل السنة في مجلس السلطان؟ أما بلغك ما فعله المأمون بالإمام أحمد ؟ لما اعتزله أهل السنة التف علماء الاعتزال حوله، وبعد علماء أهل السنة عن الخليفة، حتى صار أهل الضلال مستشاريه، وصاروا خواصه وأصحاب سره، ففتنوه وامتحنوا أهل السنة، وأراقوا دماءهم، يعني: أنه لو أن أهل السنة اتصلوا بـالمأمون ما قال بدعته ولا دعا إليها، فإما أن تذهب إلى عضد الدولة وإما أن أذهب أنا، قال ابن مجاهد : أما أنا فلن أذهب، ومع أنه على ورع وهدى وصواب، لكن لا بد من معالجة المشكلة، فقال أبو بكر الباقلاني : أما أنا فسأذهب، ثم ذهب وكان صغيراً في السن، ولا يجرؤ أحد أن يقترب من الخليفة، فلما دخل المجلس جلس بجوار الخليفة مباشرةً، فنظر إليه وكاد أن يتقطع قلبه، ولولا أن يفعل ما شأنه أن يستنكر، لأمر السيافين أن يضربوا رقبته؛ لأنه يجرؤ أن يجلس بجواره، ثم بعد ذلك ما انفض المجلس حتى قضى على الرفض وعلى الاعتزال، وذاك الوزير الضال أيضاً انتهت مهمته، وأزيل من وظيفته، وكفى الله أهل السنة كل شر بواسطة هذا العبد الصالح.
فكان الإمام الدارقطني صاحب السنن إذا لقي أبا بكر بن الباقلاني يقبله فيقال له: من هذا؟ فيقول: هذا الذي نصر الله به السنة.
وفي صحيح البخاري عند ذكر حادثة الإفك، دخل الإمام الزهري على الوليد بن عبد الملك ، فقال الوليد بن عبد الملك للإمام الزهري : أبلغك أن علياً كان ممن خاض في حديث الإفك؛ وهو الذي تولى كبره منهم وله عذاب عظيم؟ وكان الوليد على طريقة النواصب الذين يعادون علياً ويتلمسون مدخلاً للطعن فيه، فقال الزهري : يا أمير المؤمنين! حدثني رجلان من قومك أنت من يثق بهما: أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن علياً رضي الله عنه كان مكلماً في شأنها، وضبط مسلماً، أي: مسلماً ما يتكلم وما خاض في الإفك وهو بريء من ذلك، نعم لم يتولى الدفاع عنها، لكن ما تكلم فيها بشيء، وغاية ما قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (سل الجارية تصدقك).
قلت: فعل هذا من أجل أن يقيم برهاناً على عفتها وطهارتها أقوى من برهانه، فراجعه الوليد بن عبد الملك وقال: هو الذي تولى كبره، فقال: حدثني رجلان من قومك عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن علياً كان مسلِماً في شأنها، ما تكلم بشيء، والأثر رواه عبد الرزاق أيضاً، وابن مردويه في تفسيره، وأبو نعيم في الحلية.
وثبت في مسند يعقوب بن شيبة : أن الزهري دخل على هشام بن عبد الملك بعد الوليد ، فقال له: يا أبا بكر ! من الذي تولى كبره منهم في حادثة الإفك؟ قال: هو عبد الله بن أبي ابن سلول يا أمير المؤمنين، قال: كذبت، هشام بن عبد الملك يقول للزهري : كذبت، فانظر لمن يقال عنه: إنه ذهب وخالط السلطان ماذا قال؟ قال: لا أب لك، أنا أكذب؟! والله لو نزل مناد من السماء فقال: إن الكذب حلال فاكذبوا لما كذبت؛ لأنه يخدش مروءة الإنسان، ولو لم يكن هناك عقوبة على الكذب لما كذبت؛ لأنه لا يليق بصاحب المروءة أن يكذب، وقد حدثني أربعة من قومك عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص الليثي ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من أئمة التابعين رضي الله عنهم أجمعين، عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
[النور:11]، هو عبد الله بن أبي بن سلول. فهي أعلم أم أنت؟ أنت الذي تقول: كذبت، والذي تولى كبره هو علي ، هي أعلم أم أنت؟ انظر لهذا الجواب: لا أب لك، وقف عند حدك، فماذا قال هشام ؟ قال: هيجنا الشيخ فهاج، يعني: من حقه أن يقول هذا الكلام من يجرؤ أن يقول للخليفة: لا أب لك؟ عقوبته على الفور أن تقطع رقبته في مجلسه أمام أصحابه، ثم أراد هشام أن يعتذر من الذي وقع منه، فقال: هيجنا الشيخ فهاج، يعني عندما قلنا له: كذبت لم يتحمل، فمثل الزهري عندما داخل الخلفاء والأمراء واتقى الله، أي منقصة تلبس بها؟
خلاصة الكلام: من دخل على السلطان فلم يصدقه بكذبه ولا أعانه على ظلمه، وإنما نصحه ونصح للأمة بدخوله، فله أجر ولا يناله الذم، وأما من دخل من أجل أن يداهن ويخادع، ومن أجل أن يحصل عرضاً من الدنيا قليل فالويل له عند الله الجليل، وربك أعلم بمن اتقى، ونحن نجزم أن من دخل من أئمتنا على المسئولين فإنهم كانوا يقومون بواجب الله عليهم نحو هذا المسئول ونحو الرعية، فكانوا ينصحون ويتقون الله جل وعلا وينفعون الخلق كما حصل من الإمام محمد بن شهاب الزهري وغيره، وما يرجف به المستشرقون في هذه الأيام من أن محمد بن شهاب الزهري كان طوعاً للحكام ورغباتهم، فهذا كله ضلال وافتراء، ولا يخفى على أحد أن حكام بني أمية كانوا يبغضون علياً رضي الله عنه وأرضاه، وكان محمد بن شهاب يجهر بمكانة علي ومنزلته وفضله حتى في مجالس الخلفاء والأمراء، فأي مداهنة كان يتصف بها؟
ولذلك ينبغي علينا أن نتقي الله في كلامنا، وليس معنى أنه من خالط الحكام والسلاطين من أجل مصلحة شرعية أنه داهن أو نافق.
نسأل الله أن يجعل سرنا خيراً من علانيتنا، وهذا آخر ما يتعلق بترجمة الإمام الزهري رحمه الله.
وكلمة أبي زائدة، هذا هو المقرر في كتب التراجم في التقريب وفي التهذيب، وفي سائر كتب التراجم، وقد روى عن أبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وروى عنه الإمام الزهري وغيره.
انظر إلى هذا الأدب، ولعل بعض الناس في هذه الأيام لو سمع هذا يقول: ما الدليل على أنه لا ينبغي أن نكون في حجرة والشريف تحتنا؟ يعني هل هذا سوء أدب؟ انظر هل أقره النبي عليه الصلاة والسلام أو قال له: هذا وهم لا أثر له؟ قال: (السفل أرفق بي)، قال: كيف نرقى سقفاً أنت تحته لا يمكن، مكان أنت فيه نحن لا نرقاه، نحن في الليل ننام في ناحية الحجرة من أجل ألا نكون فوقك يا رسول الله، قال: فتحول النبي عليه الصلاة والسلام في العلو ونزل أبو أيوب وأهله إلى السفل.
فقال عليه الصلاة والسلام: (لا، ولكني أكرهه)، قال أبو أيوب : فإني والله أكره ما تكره، طعام فيه ثوم لا يدخل بيتي أبداً، قال أبو أيوب : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى -يعني: تأتيه الملائكة- فما ينبغي أن يشم منه رائحة الثوم، ويزوره أصحابه، يأتيه خيار سكان السماء وخيار سكان الأرض.
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم في الجزء الرابع عشر صفحة إحدى عشرة: وفي الحديث دلالة على التبرك بآثار أهل الخير في الطعام وغيره.
عند مثل هذه الأحاديث: أئمتنا كانوا يرون تلك الأحاديث ليست من باب الخصوصية لنبينا عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه أفضل الموجودين في ذاك الوقت، فكانوا يتبركون به عليه صلوات الله وسلامه، ولو قدر أن هناك رجل صالحاً في مكان ما، فسوف نتتبع فضلاته من الطعام ونأكلها تبركاً بآثار يده عندما يأكل، وهذا يقرره شيخ الإسلام الإمام النووي ، وينبغي أن نضبط كلامنا وأن نتقي ربنا، ولا يأت أحد ينسب هذا القول إلى عبد الرحيم الطحان ، بل يقول: هذا الذي قاله شيخ الإسلام الإمام النووي ، وإذا كان أئمتنا يخرفون أو أنهم على بدعة وضلالة فنحتاج أن نبحث عن دين آخر؛ لأن هذا الدين جاء عن طريقهم فلا نثق بعد ذلك بهذا الدين، وحاشاهم من التخريف والبدعة وهم أئمة الإسلام.
ورضي الله عن عبد الله بن المبارك ، قال: طلبت العلم فحصلت منه شيئاً، وطلبت الأدب فرأيت أهله قد بادوا، حقيقةً ذهب الأدب مع هؤلاء الكرام، انظر لهذا الإحساس ولهذا الشعور، ولهذا الإدراك.
وانظر لأدب سلفنا مع أبي أيوب؛ لأنه فعل هذا لنبينا عليه الصلاة والسلام، أما يستحق من الصحابة الكرام أن يكرموه؟ بل ويضعونه على رءوسهم، هذه هي الأمة التي نشأت على الأدب، وجرى الأدب في ذراتها، لما ذهب أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه إلى البصرة، وكان ابن عباس رضي الله عنه أميراً عليها من قبل علي رضي الله عنه، ومر بها أبو أيوب ، فنزل ضيفاً على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، انظر الآن لمكافأته على فعله لنبينا عليه الصلاة والسلام؟ وتقدم معنا خبر جرير البجلي أنه عاهد الله ألا يرى أنصارياً إلا ويخدمه؛ لما رأى من خدمتهم للنبي عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن عباس نفسه وأهله من البيت إكراماً لـأبي أيوب وقال: هذا تنزل فيه، ولا يزاحمك فيه أحد، كما نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيتك، أنت تفرغ له حجرة ونحن نفرغ لك البيت بكاملها، ثم أعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً، وفي رواية: عشرين ألفاً من الدراهم وأربعين مملوكاً، يقول: أنت أكرمت النبي عليه الصلاة والسلام، ونزل عندك مدة طويلة قرابة السنة حتى بنيت حجرته الشريفة عليه صلوات الله وسلامه، وفرغت له حجرةً كاملة، ولما نزل أسفل بيتك أبيت إلا أن يكون في العلو عليه الصلاة والسلام، فنحن نفرغ لك البيت بكامله، وأنا وأهلي نخرج منها وأنت تستريح مع أهلك في هذا البيت، ولما خرج من البصرة أعطاه عشرين ألفاً أو أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً أو أربعين مملوكاً، مكافأة له على خدمته لنبينا صلى الله عليه وسلم.
والأثر رواه الحاكم بسند صحيح في المستدرك، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وإسناده صحيح.
إخوتي الكرام! كانت خاتمة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه أنه دفن عند سور القسطنطينية وهو مرابط في سبيل الله، وسأذكر هذا إن شاء الله فيما يأتي، ونذكر بقية مباحث الحديث إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب الأرض والسموات، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر