إسلام ويب

تفسير سورة لقمان - الحروف المقطعة في أوائل السور [6]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عجائب ما قيل في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور أنها نغم موسيقي أتي به للإطراب، وهذا القول إنما قال به من لا يوثق بعلمهم ولا يركن إلى دينهم، فإنهم مصابون بلوثات مكرية خبيثة، ومتأثرون بأعداء هذا الدين من المستشرقين، وأحوال هؤلاء تغني من عرفها عن البحث عن بطلان ما يقولونه في كتاب الله تعالى.

    1.   

    أمور الكمال الثلاثة: العلم والقدرة والغنى وإمكان وقوعها في الأمة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، وأنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    أمور الكمال مردها لثلاثة أمور: علم: فيكاشف بما يخفى على غيره، قدرة: يمكن مما يعجز عنه غيره، غنى: يستغني عما يحتاج إليه غيره، ولإيضاح هذا أوضح كل نوع بمثال.

    مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس العلم

    أما النوع الأول: وهو أنه يعلم ما يخفى على غيره، فهذا كما قلت سابقاً من جملته هذه القصة، أنه سيتم فتح بيت المقدس سنة (582ه)، فهذا عن طريق الكرامة، أكرمه الله بهذا وأطلعه على أمر مغيب سيقع وقد وقع، أي حرج في ذلك؟ وهل لهذا نظائر؟

    لهذا نظائر مثبتة عند أئمتنا في كتب التوحيد لا ينكرها إلاّ مكابر، عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطب على منبر مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أرسل جيشه ليقاتل في بلاد الفرس في نهاوند، وأمر عليهم سارية، فبينما هو يخطب كشف الله له عن بصيرته، وهذه هي المكاشفة: أن يعلم ما يخفى على غيره، يلقى في قلبه شيء من أمور الغيب التي تخفى على الحاضرين.

    فكشف الله له عن حال الواقعة، فـسارية في أصل الجبل ومعه جيشه، والعدو يتسلق من الناحية الثانية ليرقى الجبل، وبالتالي سيهزم جيش الإسلام والتوحيد ويقتلون عندما يكون الجيش الكفري فوقهم، فنادى عمر بأعلى صوته وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل! أي: اصعد الجبل. ينادي من المدينة إلى بلاد نهاوند، يرى الحادثة ثم ينادي، فسمع سارية صوت عمر، ورقى بجيشه الجبل، ونصرهم الله جلّ وعلا على الفرس.

    وهذه القصة كما قال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة: قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر - إسنادها حسن، وقد ألف الحافظ الحلبي جزءاً في تصحيحها وتعداد طرقها، وقد نقلها أئمتنا في كتب التوحيد، وذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:47)، وهي مذكورة في شرح الطحاوية، ورواها الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (ص:228).

    جاء المعلق على كتاب مدارج السالكين، فذكر تعليقاً يضحك الثكلى، وحقيقة هذا التعليق مما ينبغي ألاّ يقول به عاقل، يقول: إن عمر بن الخطاب عندما كان يخطب على المنبر أخذته سِنة، فنام وهو على المنبر، فصاح في نومه لما رأى سارية وجيشه: يا سارية الجبل الجبل! سبحان الله! عمر ينام على المنبر، أنا أقول: إذا نام عمر على المنبر، فلو تغوط الخطباء بعده لكان قليلاً.. عمر الذي إذا رآه الشيطان سالكاً فجاً سلك فجاً غير فجه، عمر هذا الوقور المهيب ينام على المنبر، سبحان ربى العظيم! وهو يخطب!

    قضى عمر مرة نسكه فقام المزين -الحلاق- يحلق رأسه فتنحنح، فأحدث المزين في سراويله من أثر تنحنح عمر... عمر ينام على المنبر؟! هذه الهيبة، وبلغه عن امرأة ريبة، فاستدعاها، فجاءها الرسول وقال: أجيبي أمير المؤمنين، فولولت وصاحت قالت: ما لي ولـعمر؟ كيف سأقابله؟ ففي الطريق أسقطت وهي حامل، ثم بعد أن حصل منها ما حصل، قال عمر للصحابة: ما تقولون في دية الجنين؟ فقالوا: أنت مؤدب يا أمير المؤمنين وليس عليك شيء، فقال علي: عليك ديتها، ولابد من دفع دية، ولكن اختلف علماؤنا هل تدفع الدية من بيت المال، أو على عاقلة الخليفة أو القاضي إذا استدعى امرأة ومن هيبته سقط الجنين الذي في بطنها!

    عمر ينام على المنبر؟! ثم سلمنا لك أنه نام، ورأى تلك الموقعة وصاح في نومه.. سلمنا، كيف سمع سارية ذلك الكلام؟ هل أيضاً سارية نام وسمع صوت عمر في النوم؟

    يا إخوتي الكرام! لا يجوز أن نخرج الكرامة عن واقعها وظاهرها وحالها، هي كرامة، أمر خارق للعادة، كالمعجزة، لكن تلك تقع على يد الرسول، وهذه على يد العبد الصالح الولي القانت لله جلّ وعلا، تلك على يد نبي، وهذه على يد ولي فقط، فهي خارق ما جرت العادة بمثله، ولو كانت على حسب المعروف المألوف لما كانت كرامة، ولما كانت معجزة إذا وقعت على يد نبي.

    وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فـعمر)، ما معنى محدثون؟ ملهمون، مكاشفون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فـعمر، قال الحافظ ابن حجر عليه رحمه الله في الفتح: وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإن يكن في أمتي أحد فـعمر) لم يورده مورد الترديد، يعني: إذا فرض وجود واحد من هذا الصنف في هذه الأمة فهو عمر، لا، إنما أورده مورد التحقيق، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الأمم السابقة كان فيها هذا الصنف وهذا النوع، يكاشفون ويحدثون من غير أن يكونوا أنبياء، ومن غير أن ينزل عليهم وحي السماء، فهذه الأمة من باب الأولى أن يكاشف فيها الصالحون، وأن يخبروا بشيء مما يقع عن طريق الكرامة، وهي أمر خارق للعادة، عن طريق الكرامة؛ لأن هذه الأمة أكرم على الله من الأمم السابقة.

    فإذا كان هذا الأمر في الأمم السابقة فهو في هذه الأمة من باب الأولى، كما تقول لهذا العبد الصالح، إن يكن لي صديق فأنت! وأنت لا تشك في صداقته، ولا تريد نفي الصداقة أيضاً عن غيره، إنما تريد أن تجزم بأنه صديق لك من غير تردد، فإذاً أورد مورد التحقيق لا مورد التشكيك والترديد.

    وهناك قول ثان لكنه ضعيف، أن الحديث أورد مورد الترديد، والسبب أن الأمم السابقة كانت تحتاج إلى ما يثبت إيمانها ما بين الحين والحين بواسطة الكرامات، وأما هذه الأمة ففيها هذا القرآن الذي تكفل الله بحفظه، وفيه تبيان كل شيء، وهو معجز، فهذا بمثابة معجزة تتكرر كل لحظة، ولذلك لا داعي لأن يوجد فيهم مكاشفون محدثون ملهمون، كما كان في الأمم السابقة، فيوجد لكن بقلة، لكن في الأمم السابقة يوجد بكثرة، وعلى التعليل الأول وهو الأقوى: يوجد في هذه الأمة أكثر مما وجد في الأمم السابقة، فهي أكرم على الله من الأمم السابقة.

    إذاً: ما جرى لا إشكال فيه، وليس هذا عن طريق الحروف المقطعة، ولا عن طريق النظر في النجوم، واستنباط سعود ونحوس، ولا عن طريق حساب الجُمّل، بل أكرمه الله بهذا، وأوقع الله ذلك كما أخبر، وهو على كل شيء قدير.

    وللإمام ابن تيمية عليه رحمة الله رسالة عظيمة هي قاعدة في المعجزات والكرامات، وهي غير رسالته: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهذه القاعدة التي في المعجزات والكرامات موجودة ضمن مجموع الفتاوى (11/311)، قاعدة في المعجزات والكرامات، وطبعت أيضاً هذه الرسالة مستقلة، إذاً: هذا علم يخفى على غيره.. يا سارية الجبل الجبل، وهنا الأمر كذلك.

    مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس القدرة

    مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس القدرة، أي يقدر على ما يعجز عنه غيره:

    هل بإمكان أحد منا أن يحول التراب إلى ذهب؟ لا، لكن قد يُقدر الله بعض الصالحين، على أن يمسك قطعة التراب ويضغط عليها وتصبح ذهباً خالصاً، وهذا قد وقع، ولا ينكر هذا إلاّ من هو ضال مخرّف، متى وقع هذا؟

    يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/399) عند تفسير قول الله جل وعلا في سورة القصص، حكاية عن العبد المخذول قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، يقول: قال بعض الناس، (عَلَى عِلْمٍ عِندِي) أي بصنعة الكيمياء، أي: أنه يحول التراب والخشب إلى ذهب، يقول الإمام ابن تيمية: وصنعة الكيمياء زغل وتلبيس وغش وتدليس وليست بحقيقة، ولا يمكن أن يقلب المعادن إلى غير ماهيتها، فالخشب خشب، والحديد حديد، والذهب ذهب، ولا يمكن أن نقلب النحاس إلى ذهب على الإطلاق، لكن بإمكاننا أن ندلس ونغش، أي نطليه بذهب ونقول: هذا ذهب، لكن إذا أخذه الصائغ يكشفه، ويقول: هذا نحاس مطلي بذهب، أما أن نقلبه الحقيقة والعين، وأن التركيب بدل أن تكون ذرات نحاس تصبح ذرات ذهب؛ هذا مستحيل.

    قال الإمام ابن كثير : وأما قلب الأعيان عن طريق الكرامة فهذا جائز وواقع؛ لأن ليس بقدرة المخلوقات، إنما بمشيئة رب الأرض والسموات، كما جرى لـحيوة بن شريح المصري، إمام الديار المصرية في زمنه عليه رحمة الله، ورضي الله عن حيوة بن شريح المصري، توفي سنة (158هـ)، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو ثقة وفوق الثقة، ترجمه الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/185)، وترجمه في الكاشف فقال: له أحوال وكرامات، وهذا في تفسير ابن كثير، وهو في تذكرة الحفاظ.

    من كراماته: أن سائلاً سأله، ولم يكن عند حيوة بن شريح ما يعطيه، وعلم صدق السائل وحاجته، فأخذ مدرة من الأرض -قطعة طين يابسة متجمدة- فأجالها في يده، وألقاها في يد السائل، فقلبها الله ذهباً خالصاً.

    وفي تذكرة الحفاظ قصة أخرى، وهي: أن رجلاً دخل عليه ورأى فقره وحاجته، فقال: أما يسأل حيوة بن شريح ربه، يعني ليغنيه، يقول: فنظر إليّ فأخذ حصاة فرماني بها وإذا هي ذهب خالص، فقلت: ما أفعل بها؟ قال: أنفقها على نفسك، وأما بعد ذلك تريد أنت أنني أسأل ربي أن يكفيني، فأنا في نعمة وستر وعافية، خذ هذه الحصاة، ولا تظن أنني فقير لهواني على الله، انظر الحصاة أرميها إليك فتصبح ذهباً، وأما أنا ففي ستر وعافية.

    وكان إذا أخذ عطاءه -كما في تذكرة الحفاظ، وتهذيب التهذيب في ترجمته- وكان عطاؤه ستين ديناراً، كان يفرقه قبل أن يصل إلى بيته، فإذا دخل إلى البيت ونام وجده تحت فراشه، ستون ديناراً، فعلم ابن عم له بذلك، فأخذ عطاءه فوزعه، فذهب إلى بيته فنام، ثم قلب الفراش فما رأى شيئاً، ونظر تحت الفراش بحيث كاد أن يحفر الأرض فما حصّل شيئاً، فجاء لـحيوة بن شريح، وقال: أفسدت عليّ مالي وضيعته، قال: وما ذاك؟ قال: أنت تعطي عطاءك للمحتاجين، فإذا رجعت إلى بيتك وجدته، ففعلت مثل فعلك فلم أجد شيئاً، فقال: أنا أعطيت ثقة، وأنت أعطيت تجربة، أي: أنا أعطيت واثقاً بالله جلّ وعلا، وأما أنت فتريد أن تجرب رب العالمين سبحانه وتعالى، فخذلك وأوكلك إلى نفسك: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

    حقيقة قدر على ما يعجِز عنه أهل الأرض قاطبة، لا أقول إن الجهد البشرى الطبيعي الاعتيادي يعجز عن هذا، التكنولوجيا المتطورة في هذه الحياة هل بوسعها أن تحول الحديد إلى ذهب؟ نحن لا ننكر على الإطلاق، لكن بمشيئة رب الأرض والسموات: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].

    وحقيقة الأمر كما قال الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3]، كيف هذا؟

    يا عبد الله! كل العالم بما فيه من عرشه إلى فرشه، من جنود الله وطوع أمره، فإذا كنت في بيتك واحتجت، وقال الله للوسادة التي تتوسدها: كوني ذهباً، فأي شيء يعجزه؟ تحتاج إلى ربط القلب بالله حلّ وعلا، ولو أخذ الناس بهذه الآية لوسعتهم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].

    يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله في الرسالة المشار إليها: إذا صح الإيمان علماً وعملاً، واحتاج صاحبه إلى كرامة وخارق عادة فلا بد أن تخرق له العادة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].

    إذاً: هذا خارق العادة فيما يتعلق بجانب القدرة، وهو من أمور الكمال.

    مثال لما يكون فيه خارق العادة في جنس الغنى

    خارق العادة فيما يتعلق بجانب الغنى: أن يستغني عما يحتاج إليه العباد، كيف هذا؟ العباد بحاجة إلى طعام وشراب، ولا يستغني أحد من البشر عن ذلك قد يجعل الله بعض عباده مستغنياً عن ذلك، وهو على كل شيء قدير، وقد وقع هذا.

    ذكر الإمام الذهبي في ترجمة العبد الصالح إبراهيم التيمي، والقصة في تذكرة الحفاظ (1/73)، توفي إبراهيم التيمي وما أكمل أربعين سنة عليه رحمة الله، وكان يقول: كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فتبعتموها.

    وكان يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه.

    وبلغ من شهامته ومروءته أن شرطة الحجاج العبد المخذول عامله الله بما يستحق، وقد أفضى إلى ما قدم، ولا أحد يتعصب لأهل الباطل، فيقول: ما فائدة التجريح؟ فالحب والبغض أوثق عرى الإيمان، يقول الذهبي عليه رحمة الله، عندما ترجم الحجاج (4/343) الذي قصمه الله سنة (95هـ)، بعد أن ترجمه يقول:

    نسبه ولا نحبه، ونُبغِضُهُ في الله، فإن الحب في الله والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، فإذاً نحب من أطاع الله ونُبغِض من عصى الله، ليس موضوع تجريح.

    أرسل الحجاج شرطته في طلب إبراهيم النخعي وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السن، فطلبت الشرطة إبراهيم النخعي، فقيل: في المسجد، فقام إبراهيم التيمي ليقدم نفسه فداءً لـإبراهيم النخعي، وما خرج النخعي بعد ذلك حتى مات الحجاج متوارياً منه، فقال: أنا إبراهيم، فأخذه الحجاج وحبسه في الشمس حتى تغير وذبل، فجاءت أمه تزوره فما عرفته من تغير حالته حتى كلمها، إبراهيم التيمي صاحب الكرامات، حديثه في الكتب الستة رضي الله عنه وأرضاه.

    ثم مات فرأى الحجاج في نومه قائلاً يقول له: مات في سجنك رجل من أهل الجنة، أما تتوب وتستحي من الله، فلما استيقظ سأل: من الذي توفي في السجن هذه الليلة؟ فقالوا: إبراهيم التيمي، قال: حُلمٌ من الشيطان، ألقوه على مزبلة، هذا الحجاج العبد المخذول، انظر لهذه المروءة وهذه الشهامة عند هذا العبد إبراهيم التيمي.

    يقول الذهبي في ترجمته: كان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب.

    ليس في وسع الإنسان هذا، وهو محتاج إلى الطعام والشراب، فهذا خارق للعادة، وهو كرامة في جنس الغنى، يستغني عما يحتاج إليه العباد.

    وترجمه في سير أعلام النبلاء أيضاً، فقال: دخل عليه بعض قرابته فقذف له حبة عنب، فقال: منذ (40) يوماً لم أطعم، ثم أخذ هذه الحبة فلاكها في فيه ثم لفظها!

    هذه كرامة، وكون الإنسان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، هذا خارق للعادة، لكن كما قلنا: هذه كرامة.

    1.   

    تقرير ما وقع من إخبار ابن برجان بوقت فتح القدس على وجه الكرامة

    والكرامة تقع في العلم، فيطلع الله بعض عباده على ما يخفى على غيره، وتقع في القدرة فيمكنه الله من فعل ما يعجز عنه غيره، وتقع في الغنى فيستطيع أن يستغني عما يحتاج إليه غيره، وعليه فما وقع من أبي الحكم بن برجان هو من باب الكرامة، ولا إشكال في ذلك مطلقاً.

    وأي غرابة أن يكرم الله ذلك العبد عبد السلام بن عبد الرحمن بن برجان، الذي توفي سنة (536هـ)، وأن يخبره الله بأنه سيكون فتح بيت المقدس سنة (582هـ) في رجب، وحصل هذا، والله على كل شيء قدير، لاسيما كان هذا في عهد عبدين صالحين، العبد الأول وهو ملك بلاد الشام في ذلك الوقت، التابع للخلافة العباسية، من الذي يقال له شهيد وما استشهد، لكن حقق الله له أُمنيته كما يقول الذهبي، فلا ينطق أحد باسمه إلا وينعته بالشهادة، مع أنه مات على فراشه، نور الدين الشهيد ، ما أحد يقول إلا نور الدين الشهيد محمود بن زنكي، وهو شيخ وأُستاذ وأمير صلاح الدين الأيوبي، كان صلاح الدين الأيوبي من قواده ومن جنوده، وفتح الله على يد هذا العبد الصالح محمود بن زنكي التركي، وصلاح الدين الأيوبي الكردي بلاد مصر، بعد أن بقيت بلاد ردة وإلحاد ثلاثة قرون، من (270هـ) على يد العبيديين الملعونين الذين يُسمَّون بالفاطميين، ومؤسس الدولة في المغرب عبيد الله بن ميمون القدَّاح الذي ادعى أنه من آل البيت، وهو يهودي ربيب مجوسي، ثم ادعو الرفض وحقيقته الكفر المحض، من الذي قضى على تلك الدولة؟ صلاح الدين الأيوبي، في عهد محمود نور الدين زنكي، كان ذلك سنة (567هـ)، أي قبل وفاة محمود زنكي بسنتين، لأنه توفي سنة (569ه)، وأما صلاح الدين الأيوبي فامتدت حياته حتى فتح الله على يديه بيت المقدس، وتوفي سنة (589ه) بعد شيخه بعشرين سنة، وفتح بيت المقدس كان سنة (582ه)، أي: بعد فتح بيت المقدس بسبع سنين.

    وقد أعد نور الدين محمود زنكي منبراً، ونُجِّر في حياته، وجعله في بيته، من أجل أن يتم فتح بيت المقدس ليكون ذلك المنبر في المسجد الأقصى، لكن ما حقق الله أُمنيته، ومات قبل ذلك، فجاء بعد ذلك تلميذه وقائده العبد الصالح صلاح الدين الأيوبي فحقق ذلك، وأتى بذلك المنبر الذي عُمل في عهد نور الدين، وخُطِب عليه في (4 شعبان سنة 582ه)، وحقق الله تلك الكرامة لذلك الرجل الصالح محمود زنكي نور الدين.

    يقول علماؤنا: ما جاء بعد الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز خير للمسلمين منه، وكان يقول: وددت لو أن الله بعثني من بطون السباع وحواصل الطير! فأي مانع أن يكرم الله ذلك العبد الصالح في عهد إمارة هذا العبد الصالح بتلك المكاشفة وذلك العلم، وقد كان هذا العبد الصالح: محمود بن زنكي نور الدين يطلعه الله جلّ وعلا على بعض الأمور عن طريق الكرامات.

    نبذة عن نور الدين الشهيد وكراماته

    انظروا إلى هذه القصة التي أوردها الإمام الذهبي عليه رحمه الله في سير أعلام النبلاء (20/531) في ترجمته، حاصل هذه القصة أن الفرنج النصارى لما حاصروا دمياط في عهد نور الدين الشهيد بقي عشرين يوماً لا يأكل شيئاً، إنما يقتصر على الماء حتى تغير من ضعفه، وهو مدمن اللجوء إلى ربه، فرأى إمام الجيش الذي يصلي بهم الصلاة النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤية، وقال له: بشر نور الدين بأن الفرنج سيغلبون ويخذلون ويولون، وأنه سيحصل النصر والتمكين لـنور الدين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام هذا لإمام الصلاة بعد أن شكى إمام الصلاة حال المسلمين للنبي عليه الصلاة والسلام كما قلت في النوم، وقال: بشره، فقال: يا رسول الله أخشى ألاّ يصدقني، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: قل له علامة صدقي يوم حارم، هذا سر يعرفه نور الدين الشهيد.

    يقول: فلما صليت الفجر جئت إلى نور الدين الشهيد عليه رحمه الله، فهبت أن أكلمه وكان له هيبة عظيمة، فقال: ما لك؟ تخبرني أو أخبرك، قلت: أخبرني ما عندك، قال: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في النوم وأخبرك بكذا وكذا، وإذ هذا الإمام الصالح قد رأى النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً، وهنيئاً لتلك الرعية بذلك الإمام، ثم قال إمام الصلاة لهذا القائد البطل المغوار: أريد أن تخبرني عن سر يوم حارم.

    انتهينا الآن، الرؤيا أطلعك الله عليها وكاشفك الله بها، لكن ما خبر يوم حارم؟ ما هو هذا السر؟ أنا لا أعلمه، إنما قال لي النبي عليه الصلاة والسلام: إذا لم يصدقك نور الدين فقل: العلامة يوم حارم!

    قال: لما التقينا مع الفرنج في تلك الموقعة اعتزلت عن العسكر، وعفرت جبهتي في التراب، وقلت: يا رب! إن الجند جندك، والبلاد بلادك، والعباد عبادك، ومن أنا بينهم؟ فأسألك أن تجبر خاطرهم، وأن تعطيهم ما يليق بكرمك، أما أنا فلا قيمة لي ولا شأن، لكن هؤلاء عبادك، وهذه بلادك، فاجبر خاطرهم وأعطهم ما يليق بكرمك!

    يقول: فغلب الله الفرنجة وكسرهم ونصرنا عليهم، هذا يوم حارم، هذا الدعاء الذي حصل سر بيني وبين الله ما اطلع عليه أحد، والنبي عليه الصلاة والسلام في الرؤية يقول لك: هذه كلمة السر، إذاً: هنا مكاشفة عن طريق الرؤية، وهذه كرامة، وأي غضاضة وغرابة في هذا؟!

    يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله: الكرامة في هذه الأمة كالمطر، وما نعرفه مما وقع عياناً فلا يحصى، فإذاً: لا إشكال في أن يقول ذلك العبد الصالح: إن فتح بيت المقدس سيكون في وقت كذا عن طريق خارق للعادة، عن طريق كرامة يكرمه الله بذلك، وهو على كل شيء قدير.

    التفريق بين الكرامات والمخاريق والحيل

    نعم، ينبغي أن نفرق بين الكرامة وبين المخاريق والحيل، هذا لابد من التفريق بينه وبين الكرامات، فإنسان يعمل لنا مخاريق وشعوذة ويدجل ويلبس، هذا ليس بكرامة، ولعل الله جل وعلا يمد في الحياة لأتكلم على خوارق العادات، وعلى ما فيها من عظات، فما كان يجري من الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل على الزندقة سنة (311ه)، خوارق للعادات لكن كلها مخاريق!

    وهكذا كان ما يجرى على يد العبد المخذول الثاني محمد بن تومرت الذي توفي سنة (524ه)، وهو الذي كان يلقب جماعته بالموحدين، وهم ضالون معطلون، فهم أول من أدخل التعطيل إلى بلاد المغرب، وكان يدعي أنه المهدي المعصوم المبشر به في الوحي المعلوم محمد بن عبد الله بن تومرت. بلغ من شطط الحلاج وهذا العبد المخذول أنهما يأخذان بعض الناس إلى المقبرة، فيدفنانه وهو حي، ثم يقولان له بواسطة مواطأة بينه وبين هذا المدفون: سنحضر الآن الأحياء، وأنا أقول إنني أحيي بعض الموتى، فإذا ناديتك فاخرج من قبرك وكلمني على أنك ميت وبعثت.

    ثم -كما قال الإمام ابن كثير -: من أعان ظالماً سلطه الله عليه، فكان يناديهم فبعد أن يخرجوا، ويقولوا نحن كنا أمواتاً وأنت أحييتنا وأنت وأنت، يعيدهم ويدس عليه التراب ويقتلهم، جزاءً وفاقاً، ومن أعان ظالماً سلطه الله عليه، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4]، هذه مخاريق، وهذه شعوذة، لا يجوز أن ندخل هذا الآن في شيء من الكرامات.

    وهكذا ما يقع أحياناً من حذق وفراسة وذكاء، ويخبر الإنسان ببعض الأمور عن طريق النظر في الأسباب العادية، هذا لا يقال له كرامة، وأنا أعرف بعض الناس ممن هو عادي، ولا أتهمه، فأقول: هذه ليست كرامة له، العلم عند الله، لكن مثل هذا ممكن أن يقال عن طريق الذكاء وعن طريق الفراسة، إذا كان عند الإنسان حذق ومهارة، بواسطة التأمل في الحوادث الواقعة، فقيل له: هناك طاغوت في بعض البلاد، هل ستطول مدته أو ستقصر؟ فقال: ستطول جداً، وأنا أذكر هذا الكلام، قاله من سنين طويلة لعلها تبلغ عشرين سنة أو أكثر، وواقع الأمر حصل هذا، فهذا إما كرامة ولا مانع، أو إما على حسب النظر في الأسباب العادية إذا كان عنده ذكاء وحذق.

    فلابد أيضاً من التمييز، ويمكن أن يكون هنا نظر، وهنا شيء من الحذق، فكان بعض المنجمين عندما يولد مولود، يقول: سيعيش كذا، على حسب أعمار الغالب؛ لأنه في الغالب سيعيش، فإذا عاش واحد فقط، يقولون: صدقت فراستك، لكنه لو مات مائة لا يقولون: كذبت فراستك، يحفظون ما يؤيد قوله ولا يحفظون ما يخالف هذا، فالأصل في هذا أنه سيعيش، والموت طارئ سيأتي على كل حي، لكن سيعيش إلى عمر أمثاله.

    إذا كان الأمر كذلك أرى أن الأمة مخدرة، وليس عند العباد في هذه الأوقات رجوع إلى رب الأرض والسموات، إذاً: هذا الطاغوت سيجلس مستريحاً دون مناوئة، وهذا إما عن طريق حذق والنظر في الأسباب التي يمكن أن يدركها الذكي، وإما عن طريق كرامة إذا كان رجلاً صالحاً، والعلم عند الله.

    إذاً: لابد من التفريق بين الكرامة وبين المخاريق والشعوذة، وبين ما يمكن أن يستنبط عن طريق الذكاء والحذق والفراسة الرياضية الطبيعية.

    1.   

    القول العاشر في معاني الحروف المقطعة أنها نغم تطرب له الآذان

    القول العاشر: وهو آخر ما قيل في بيان معنى الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم، وكما قلت: الثامن والتاسع والعاشر كلها مردودة مرفوضة، أقوال لا يجوز القول بها، القول التاسع قلنا فيه شعبة من شعب الباطنية، وادعاء الكهانة وعلم الغيب.

    القول العاشر: قال به علماء محدثون في العصر المنحط، قالوا: إن معنى هذه الحروف المقطعة معلوم، ولا داعي لأن نبذل جهداً ووسعاً وكلفة في الوقوف على المراد منها، قالوا: هذه نغم موسيقى أودعه الله جلّ وعلا في كتابه لتطرب له الآذان، فهذا القرآن حوى جميع العلوم، ومن جملة هذه العلوم علم الموسيقى، وعليه عندما نأتي بـ الم [لقمان:1] نقول: لحن موسيقي، نغم موسيقي، الغرض من ذلك أن تطرب الأذان لسماع هذا النغم، هذا هو معناها، ولا يقصد منها غير ذلك.

    قال بهذا عبد الكريم الخطيب، في كتابه الذي سماه أيضاً -وهذه بلية- التفسير القرآني بالقرآن، وكان هذا رئيس قسم التفسير في الرياض، وكان يدرس علم التفسير وعلوم القرآن في الدراسات العليا، ولعل التعبير الأدق لها: سفلى!

    يقول: (الم) نغم موسيقي، يقرر هذا في كتابه (1/23-25) يقول: لا داعي للاجتهاد في البحث عن معناها، فهي مطلع موسيقي تقوم عليه وحدة النغم، في ترتيل آيات السورة، وكل حرف منها له نغم مستقل.

    وهذا القول قال به أيضاً عبد الرزاق نوفل، صاحب كتاب: معجزة الأرقام والترقيم في القرآن الكريم، وصاحب كتاب: أسئلة حرجة، وقد أفضى إلى ما قدم، أسئلة حرجة، وهل صدره سيكون حرجاً أو منشرحاً؟ العلم عند الله، أما كتبه فقد ملأها قاذورات وضلالات، يقول في هذا الكتاب وهو من أوله إلى آخره سفاهة وسخط، ولم يبن على دليل (معجزة الأرقام والترقيم): الحروف المقطعة لمَ كانت تسعة عشر حرفاً؟ لمَ سبعة عشر حرفاً؟ وهذا قاله قبله بعض المهووسين، فجاء هو وانتحله، وادعى أن المسألة لا زالت ذكرى، وهو أول من يبحث فيها، ويلفت الأذهان إلى الأرقام والترقيم، لكن المسألة ذكرت قبله وأنها هوس، قال به بعض الناس ورد عليه.

    يقول الرازي في تفسير سورة الفاتحة (1/ 178): إن قيل: لم خلت الفاتحة من سبعة أحرف، وهي: (الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء)؟ قال: لأن هذه الحروف مشعرة بالخزي والعذاب، والله يقول عن جهنم: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44]، فكل حرف من هذه الأحرف يشعر بعذاب، ففاتحة الكتاب سلمت من هذه الأحرف؛ للإشارة إلى أن من قرأ فاتحة الكتاب لا يدخل باباً من أبواب النار، ثم قال مقرراً هذا: الثاء من الثبور، والجيم من جهنم، والخاء من خزي، والزاي من الزفير والزقوم، والشين من الشقاوة، والظاء من لظى، والفاء من فراق.

    لكن يمكن أن نعكس عليك هذا، فنقول أيضاً: الحروف المذكورة في الفاتحة تدل على أسماء جهنم، وعلى الشدة والخزي والعار، فنقول لك: الذال تدل على الذلة، والغين تدل على الغواش، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، والنون تدل على النار، والحاء تدل على الحميم، والميم تدل على المهاد، أهذا بحث؟ أهذا تفسير أم هذا تكسير؟!

    الفاتحة خلت من سبعة أحرف لأن أبواب جنهم سبعة، هذه تشعر بالخزي، طيب ما الفارق بين الجيم والحاء؟ الجيم من جنهم والحاء من حميم، لم ذكرت الحاء ولم تذكر الجيم؟ هذا لا يقال، ولا يجوز أن ندخل العقل في غير مجاله، الكتاب من أوله إلى آخره كله حول هذا الهوس، ذكر الآيات، وجعل جزء الآية آية من أجل أن يوفق أنها تسعة عشر حرفاً أو سبعة عشر حرفاً؛ ليوفق بينها وبين آيات زعم أنها بهذه الأحرف، طيب، الآية لمَ لا تكملها من أولها، بل تأخذ جزءاً منها وتتلاعب؟

    بيان حال من يجعل الحروف المقطعة نغماً موسيقياً وتزييف قولهم

    يقول في (ص:48): هناك من أوجه الإعجاز الأخرى، منها ما هو سابق في الزمان كإعجازه الموسيقي، ثم ذكر أن الحروف التي جاءت في فواتح السور رمزاً لحركة السورة الموسيقية، وما زالت أوجه إعجازه الموسيقية تترا، وهذا -كما قلت- له كتب كثيرة، كلها تحمل الجيف والقاذورات والبلاء.. إعجاز موسيقي!

    لما جاء في كتابه (أسئلة حرجة) إلى أحاديث الدجال ونزول عيسى بن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، تقدم معنا محمد عبد رشيد رضا، وبعد ذلك الآن صاحب كتاب مواعظ العلم والإيمان، والذي انتقل من الشك إلى الإيمان، والله أعلم بالإيمان الذي انتقل إليه المخذول مصطفى محمود ، وكلهم ينكرون موضوع خروج الدجال ونزول عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، يقول في (ص:99): أحاديث الدجال كلها خرافة، وأحاديث نزول عيسى بن مريم كلها مدسوسة.

    ثم بعد ذلك في مكانين (ص:28، 64) سؤال حرج: أين الله؟ يقول: من الضلال ما يعلمه الناس لأولادهم أن الله في السماء.

    أهذا ضلال! طيب، النبي عليه الصلاة والسلام يقول للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، يقول: لأنه في عصر الفضاء، بقي الأولاد يتناقضون مع ما يتلقونه في بيوتهم، ومع ما يشاهدونه في حياتهم، فقد غزا الناس الفضاء ووصلوا للقمر، وما رأوا الله، فلو كان في السماء لرأوه، هذا كقول فرعون تماماً، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:36-37].

    أيها المخذول! هل الإله جل وعلا عندما نقول في السماء، يعني في هذه الأجرام السماوية السبعة؟ إذا كان كرسيه وسع السموات والأرض! فالمراد من السماء العلو المطلق، أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، إما أن تقول السماء بمعنى العلو فـ(في) ظرفية على حقيقتها، وإما أن تقول: أأمنتم من على السماء وهو فوقها؛ لأن السماء كالأرض، فكيف يكون الله في داخلها، السماء والأرض سواء، والله جل وعلا ليس في شيء من مخلوقاته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، والله منفصل مباين لخلقه في ذاته وصفاته وأفعاله، وعلى عرشه بائن من خلقه، لا ذاته في شيء من المخلوقات، ولا المخلوقات في شيء من الخالق، منفصل عنهم سبحانه وتعالى وهو العلي العظيم، فالسموات والأرض سواء، نعوذ بالله من هذا الخذلان!

    أما هنا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، عندما أقول: أين الله؟ في السماء، نقصد من السماء العلو المطلق، وإذا كنا نقصد من السموات الأجرام المعروفة فهنا يكون (في) بمعنى على، كقوله تعالى: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] أي: على جذوع النخل، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] أي: على مناكبها، فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] أي: على الأرض، سيحوا عليها وامشوا عليها، ولا تمشي في داخلها وتكون في وسطها، وهنا كذلك على السماء أو فيها بمعنى العلو، فيقول: الآن بدأ يتناقض الجيل، عندما نقول لهم: الله في السماء، وقد غزي الفضاء وما حصل هذا.

    فيقول: هذا إشارة إلى علم الموسيقى!

    وهذا القول قاله أيضاً محمد صبيح في كتابه: بحث جديد عن القرآن (ص:95)، فنقل عن زكي مبارك، وانتبهوا -إخوتي الكرام- من أين جاء هذا القول اللعين، أن الأحرف المقطعة هي نغم موسيقي.

    نقل زكي مبارك عن المسيو بلانشو ، وهذا كما تقدم معنا نقل عن مصطفى محمود عن الكاتب البولندي، أن المراد من الدجال هو التكنولوجيا والعلم الحديث، لأنه أعور، يقول: ليس له صلة بربه، هذا العور الذي فيه، وهنا ينقل عن المسيو بلانشو، أي أنه صار المستشرقون يتكلمون في تفسير كلام الله ونرجع إليهم، يقول: الحروف المقطعة هي مطلع موسيقي تقوم عليه وحدة النغم في ترتيل آيات السورة.

    يقول هو عن المسيو بلانشو: الحروف المقطعة إشارات وبيانات موسيقية يتبعها المرتلون، وكانت الموسيقى القديمة بسيطة ليست كالموسيقى الحديثة معقدة بآلات كثيرة، يقول: فكانت الموسيقى القديمة من حرف أو حرفين أو ثلاثة، لا تتجاوز خمسة أحرف، فجاء إذاً القرآن موافقاً للموسيقى البسيطة! وهذا وراءه بعد ذلك أنه من صنع البشر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حاكى الناس في هذا الأسلوب الذي كانوا يفعلونه، فلأن الموسيقى القديمة كانت بسيطة بدائية، فجاء القرآن على هذه الوتيرة وعلى هذه الشاكلة.

    يقول زكي مبارك: ونحن مع اعترافنا واعتدادنا بهذا القول، نتوقف حتى تظهر الكنائس الحبشية والكنائس الشامية مدى صحة هذا القول، وهل الموسيقى كانت عندهم بسيطة ليست معقدة من حرف أو حرفين إلى خمسة، فإن كان كذلك فيصح تفسير الحروف المقطعة بأنها موسيقى موافقة للموسيقى القديمة، نعوذ بالله من هذا الخزي!

    هذا القول الذي وقف زكي مبارك عنده لهذا الحد، وقال: نتوقف حتى تحكم الكنائس، وما ارتضاه أيضاً محمد صبيح وقال: نحن نتفق بأن له قيمة، لكن هذا القول لا ينبغي أن يهمل، إنما هو قول معتبر، وهو يقرب من قول المتقدمين: إنها حروف لتنبيه السامعين، وأقول: أين هذا من ذاك؟

    فهناك قلنا التنبيه كما يكون بلفظ يفهم يكون بلفظ لا يفهم، فنقول: (يا أيها الذين آمنوا)، (يا أيها النبي)، (يا أيها الناس)، (يا بني آدم)، ونقول أيضاً: (الم)، أما قياس هذا على هذا، ففي منتهى الفساد، فإذاً هذا تفسير عاشر، وهو باطل منكر.

    كلام سيد قطب عن موسيقى القرآن والاعتذار له

    سيد قطب عليه رحمة الله وغفر الله له ولجميع المسلمين والمسلمات، في تفسيره: في ظلال القرآن، وقع أحياناً عليه رحمة الله من غير قصد في شيء من هذا، ولم يتنبه له عليه رحمة الله، فمثلاً في تفسير سورة النجم يقول عنها: منظومة موسيقية عُلوية منغمة، يسري النغم الموسيقي في دمائها المقطعي وفي إيقاع فواصلها.

    وأنا أقطع قطعاً بأن هذا العبد الصالح؛ ولا نزكي أحداً على الله جل وعلا، ونسأل الله أن يجعله في جنات النعيم بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أنه لا يقصد من أن هذه على أوزان الموسيقى، إنما يقصد هنا من الموسيقى: صوت يلتذ منه السامع، عندما يقرأ: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، لكن هل يجوز أن نعبر عنه بأنه نغم موسيقي وإيقاع موسيقي؟ هذا يبقى زللاً يرد على قائله مهما كان شأنه، لكن شتان أن ترد خطأ المخطئ إذا كان صالحاً وتعثر، وبين أن ترد خطأ من يضلل ويفسد في دين الله، شتان بين هذا وذاك، هذا ترد خطأه برفق وتلتمس له عذراً وتدعو له، وأما ذاك فتحذر الأمة منه، فينبغي أن نفرق بين هذا وذاك!

    فإذاً: هذا في الحقيقة زلل ينبغي أن يحذف!

    ويكرر سيد قطب عليه رحمة الله هذا في تفسيره، يقول: إيقاعها الموسيقي ونغمها الموسيقي، هذا لا يجوز أن يقال في تشبيه هذه الأمور المستحسنة بهذه الأمور المسترذلة، لاسيما والموسيقى لها في هذا العصر شأن لا يخفى على الناس.

    وسيد قطب عليه رحمة الله لا يقول الموسيقى حلال، بل يقول إنها حرام، لكن يعبر عن إيقاع فواصل الآيات بأنها نغم موسيقي، يأخذ من الموسيقى تشبيهاً معروفاً وهو اللذة والطرب، وابتهاج الأذن بسماع هذا الترتيل المبارك، ولا يقصد أن الموسيقى حلال.

    معنى أن أبا موسى الأشعري أوتي مزماراً من مزامير آل داود

    بعض الزائغين عملت له مقابلة، فقال: الموسيقى حلال، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لـأبي موسى الأشعري: (إنني استمعت إلى قراءتك، وقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، وهذا مما يدل على حل الموسيقى، ثم أخبر عن نفسه بأنه يطرب لفلانة وفلانة ويسمع لفلانة ولفلانة.

    أيها العبد المضل بعد أن كنت ضالاً: من الذي أباح لك أن تستمع لغناء المرأة، لو قلنا إن الموسيقى حلال، وعندك عود تضرب به في بيتك أو تضرب لك زوجتك، فمن الذي أباح لك أن تسمع لـأم جرثوم وشادية وبلية؟ من الذي أباح لك؟ أريد أن أعلم من الذي أباح لك أن تسمع للمغنيات الفاجرات؟ فكون الموسيقى كما تقول حلالاً، وتتلاعب بمدلولات النصوص هذا خذلان، خذلان ثان: أن تسمع للنساء، أوليس الغناء والموسيقى هو من الخضوع بالقول بالاتفاق؟ وهل المرأة عندما تغني يكون كلامها جزلاً فصلاً أو بترقيق وتمطيط، والله يقول للنساء عندما تكلم الرجال دون غناء: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32]، فماذا بعد الغناء والموسيقى من خضوع عندما تسمع لتلك الخبيثة؟ وتستدل بأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أوتي مزماراً من مزامير آل داود، نعوذ بالله من الخذلان وانطماس البصيرة!

    إخوتي الكرام! الحديث رواه الإمام أحمد، ورواه الشيخان في صحيحيهما، والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه وهو يقرأ القرآن في الليل، وقال له: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، ثبت في رواية المستدرك للحاكم (3/466) أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: (لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيراً)، والمراد من مزامير آل داود: أي أوتيت صوتاً حسناً كصوت نبي الله داود وأوتاره عندما كان يقرأ الزبور، قيل لذلك مزماراً: تشبيهاً له باللذة المطربة التي تقع في المزمار، لكن ما كان عند نبي الله داود مزمار.

    فالمراد مزمار من مزامير آل داود: أنك أوتيت صوتاً عذباً رطباً ندياً، كما كان لذلك العبد الصالح عندما يجلس ويقرأ الزبور في الصحراء، الطيور تظله من عذوبة صوته، فأوتيت صوتاً حسناً، كما أوتي ذلك العبد الصالح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وليس المراد المزمار والموسيقى.

    ولذلك ثبت في الحلية عن أبي عثمان النهدي أنه قال: دخلت على أبي موسى الأشعري، فسمعته يقرأ القرآن، فكان صوته ألذ وأحسن من الصنج، والبربط، والناي.

    الصنج: حديدتان يضرب بهما، والبربط يقول العلماء: آلة تشبه العود.

    والناي: الزمارة.

    فصوته ألذ من هذه، أي: إذا كان أهل الفجور يتلذذون بهذه، والطبيعة الإنسانية تتلذذ بهذا، كما يتلذذ الإنسان بالزنا، فليس في هذا دليل على حله، وليست اللذة مقتضية للحل، كون الإنسان إذا سمع المزمار يطرب لا يدل على أنه حلال، كما أنه إذا زنا يلتذ، إنما صوت أبي موسى الأشعري ألذ من صوت العود والزمارة والصنج، كما ثبت هذا في الحلية عن أبي عثمان النهدي بسند صحيح.

    فإذاً ليس المراد: أنه كان عنده آلة يزمر بها، بل صوت حسن، يشبه صوت المزمار في الحسن والعذوبة.

    وبهذا ينتهي الكلام على الأحرف المقطعة في بعض سور القرآن، وأما تفسير سورة لقمان فسنتدارسه في الموعظة الآتية إن شاء الرحمن.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755957298