إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحيم الطحان
  5. سلسلة مقدمة في التفسير
  6. مقدمة في التفسير - مقدمة في تفسير سورة الفاتحة - أين نزلت

مقدمة في التفسير - مقدمة في تفسير سورة الفاتحة - أين نزلتللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نزلت سورة الفاتحة في مكة المكرمة، ثم تكرر نزولها في المدينة المنورة تعظيماً لشأنها، فهي مكية مدنية، والضابط للمكي والمدني: أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، والطريق لمعرفة ذلك هو الرواية والنقل لا الرأي والعقل.

    1.   

    أسئلة وأجوبة بين يدي الدرس

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

    سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فستكون موعظتنا في هذا اليوم إن شاء الله حول مدارسة أفضل سور القرآن .. سورة الفاتحة إن شاء الله.

    وقبل أن نبدأ في مدارسة تفسير هذه السورة الكريمة هناك أسئلة وجهها بعض الأخوات الصالحات في المواعظ السابقة أجيب عليها باختصار إن شاء الله ثم نتدارس ما نحن بصدده كما بينت وأخبرت.

    حكم تقبيل المرأة للمرأة عند السلام

    السؤال: هل تقبيل المرأة للمرأة حرام عند السلام؟ وهل يترك هذا الأمر لعادات كل بلد في كيفية السلام؟

    الجواب: المشروع عند لقاء المسلمين بعضهم بعضاً الذكور، مع الذكور والنساء مع النساء، والنساء مع محارمهن، المشروع هو السلام ثم المصافحة، وإذا قدم الإنسان من سفر فيعانق، ولا بأس أيضاً بالتقبيل في حال مجيء الإنسان من سفر، وأما إذا لم يكن هناك سفر والتقت المرأة بأختها أو الأخ بأخيه أو المرأة بمحرمها فما ينبغي أن يحصل إلا السلام والمصافحة، وأما التقبيل لو حصل فليس بحرام والتحريم يحتاج إلى نص شرعي يبين أن هذا يعتبر حراماً وعليه إثم -أي: على فاعله إثم في فعله- ولا يوجد ما يدل على هذا.

    نعم ليس هذا من سنة المسلمين ولذلك هو خلاف الأولى، وقد نص شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله في الأذكار على أن التقبيل بين المسلمين عند اللقاء في غير ما شرع التقبيل فيه كقدوم الإنسان من سفر مكروه كراهة تنزيه.

    وإليكن الأدلة على ذلك أخواتي الكريمات: ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي، والحديث رواه ابن ماجه في سننه أيضاً وإسناد الحديث صحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا. فقال: أفيلتزمه ويقبله؟ -يعني: يعانقه ويضمه إليه ثم يقبله من رأسه أو من وجه- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا. فقال الرجل: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم، يأخذ بيده ويصافحه ).

    وفي رواية في سنن ابن ماجه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أينحني بعضنا لبعض؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا. فقال الرجل: أفيعانق بعضنا بعضاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ولكن تصافحوا ).

    وورد في معجم الطبراني الأوسط بسند حسن من حديث أنس أيضاً رضي الله عنه وأرضاه ( أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا )، فالمشروع إذاً عند اللقاء إذا لم يكن هناك سفر المصافحة، وعند السفر المعانقة، وإذا ضم إليها التقبيل فهو جائز مشروع وورد هذا، ولذلك قال الإمام النووي عليه رحمة الله: المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي، ولا بأس بتقبيل الرجل وجه صاحبه، وهكذا بتقبيل المرأة وجه صاحبتها إذا قدما من سفر، والدليل على هذا: ما رواه الإمام الترمذي في سننه بإسناد حسن عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( قدم زيد بن حارثة على النبي عليه الصلاة والسلام وكان قدومه من سفر، فطرق الباب على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام لصوت زيد ... ) وكان يحبه كثيراً وكان قد تبناه في الجاهلية ثم بعد ذلك نسخ الله هذا مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] وزيد بن حارثة وهو أول من أسلم من الشباب الموالي رضي الله عنه وأرضاه.

    ( فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام لصوته على الباب خرج نبينا عليه الصلاة والسلام فرحاً بقدوم زيد يجر ثوبه، تقول عائشة : فاعتنقه وقبله ). وعليه إذا قدم الإنسان من سفر يجوز لصاحبه أن يعانقه وأن يقبله، وهكذا إذا قدمت المرأة من سفر يجوز لصاحباتها أن يعانقنها وأن يقبلنها فلا حرج في ذلك.

    وإذا كان الناس في حضر كما قلت فلا يشرع التقبيل، لا يقبل الناس إذا كان الناس في حضر، لا يقبل إلا الرجل العالم بالنسبة للرجال، والمرأة العالمة بالنسبة للنساء، وهكذا الأم.. هذا من باب الاحترام، يقبل الإنسان يديها يقبل الإنسان رأسها .. جبهتها هذا يشرع في كل وقت، وهذا الذي كان يفعل مع نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي سنن أبي داود وغيره بإسناد حسن أخبر أنهم كانوا يقبلون يد النبي عليه الصلاة والسلام، فتقبيل اليد وتقبيل الرأس بالنسبة للرجل الكبير بالنسبة للعالم .. للعالمة للأم للأب كل هذا مشروع وإن لم يكن هناك سفر، وأما المعانقة بين الأصحاب والتقبيل فلا يشرع هذا إلا إذا حصل سفر.

    وعليه فإذا كان الناس يقيمون في بلد ما وتقابلوا ينبغي أن يسلم بعضهم على بعض وأن يصافح بعضهم بعضاً، لو وقع الالتزام والتقبيل فلا يقال: إن هذا حرام إنما يقال: خلاف الأولى، وتركه أحسن، والعلم عند الله جل وعلا.

    حكم مصافحة المرأة للأقارب من غير المحارم

    السؤال: ما حكم مصافحة المرأة للأقارب الذين ليسوا من المحارم؟

    الجواب: تسأل عن مصافحة أقاربها إذا لم يكونوا من محارمها، يعني: إذا أرادت أن تصافح الأقارب من الرجال من الذكور كابن عمها وابن عمتها وابن خالها وخالتها وما شاكل هذا، أي: كل من يحل له أن يتزوجها، والمحرم من لا يحل له أن يتزوجها بحال من الأحوال، فإذا أرادت المرأة أن تسلم على ذوي رحمها من الرجال فهل يشرع لها مصافحتهم؟

    الجواب: لا يجوز للمرأة أن تصافح رجلاً أجنبياً سواء كان قريباً أو بعيداً، والأجنبي هو من يحل له أن يتزوجها، كل من يحل للمرأة أن تتزوجه لا يجوز لها أن تصافحه، وهكذا الرجل لا يجوز أن يصافح المرأة إذا كان يحل له أن يتزوجها سواء بينه وبينها قرابة أو لا. نعم يصافح أخته .. يصافح ابنته .. يصافح بعد ذلك خالته .. عمته كل من لا يحل له أن يتزوجها، وما عدا هذا فحرام حرام، وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير والحديث في سنن البيهقي ورواه الإمام الروياني في مسنده والحديث صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه وهو من الصحابة الأبرار، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لأن يطعن برأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) وهكذا المرأة لأن يطعن في رأس امرأة بمخيط من حديد خير لها من أن تمس رجلاً لا يحل لها أن تمسه، أي: ليس هو من محارمها.

    وعليه فالمصافحة حرام، والذي يفعل ذلك آثم عند الرحمن وعليه أن يتوب إلى ذي الجلال والإكرام.

    إذاً: لا مانع على المرأة أن تسلم على أقاربها بدون أن يكون هناك كشف لوجه ومصافحة بيد، وليس هناك محذور شرعي فلا مانع، إن سلم عليها قريبها.. ابن عمتها .. ابن عمها من وراء حجاب ومن وراء ستار ثم ردت عليه السلام فلا مانع دون أن تحصل مجالسة وكشف لوجه واختلاط، ومن باب أولى دون أن يحصل ملامسة ومصافحة.

    حكم الصور والنقوش التي تعلق في البيت أو تكون مصورة على الذهب

    السؤال: ما حكم الصور والنقوش التي تعلق في البيت؟ وما حكم الصور التي تكون في الذهب؟

    الجواب: الصور محرمة، فيحرم على الإنسان أن يصور أو يتصور، ولا يجوز أن يعلق شيئاً من الصور في بيته أو على بدنه، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأخبرنا أن من فعل ذلك فهو ملعون وهو أشد الناس عذاباً يوم القيامة، ولا تقرب الملائكة مكاناً فيه صورة، ثبت في المسند والصحيحين من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة في البيت بقرام فيه تصاوير ) وفي رواية: ( فيه تماثيل )، والسهوة هي الطاقة والنافذة وهي الفتحة التي تكون في الجدار يوضع فيها أمتعة. سهوة في البيت. نافذة .. طاقة .. فتحة في الجدار يوضع فيها أحياناً شيء من الأمتعة من دواء، من شيء يوضع فيها، من كتاب. سهوة سترتها بقرام، أي: بستارة من خرق من قماش وضعت عليها ستارة، هذه الستارة على السهوة والستارة فيها تصاوير .. فيها تماثيل، يعني: فيها صور حيوانات مثلاً.

    تقول: ( فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام ودخل على هذا البيت ورأى هذا القرام يستر السهوة قال: يا عائشة! إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ) يعني: يشبهون ويمثلون ويصورون شيئاً خلقه الله جل وعلا، فهم يمثلونه ويجعلونه على صورته.

    وفي رواية في الصحيحين أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأمنا عائشة: ( يا عائشة! أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، يا عائشة! إن البيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة ).

    وعدم دخول الملائكة للبيت الذي فيه صورة ثابت في أحاديث كثيرة تصل إلى درجة التواتر، منها: ما ثبت في المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أبي طلحة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة ) أي: إذا كان في البيت كلب لا تدخله الملائكة وإن كان في البيت صورة لا تدخل الملائكة هذا المكان، وكما قلت: من يفعل هذا فهو أشد الناس عذاباً يوم القيامة.

    وعليه فلا يجوز أن يكون في البيت صورة في ستارة على نافذة أو على باب.

    ولا يجوز أن تكون صورة في الحلي الذي تلبسه النساء؛ لأن هذا كله يمنع من دخول الملائكة وفيه تعظيم.

    نعم رخص أئمتنا أن توجد الصورة في البساط الذي يوطأ بالأرجل لأنه ممتهن، ومع ذلك الإمام النووي عليه رحمة الله في شرح صحيح مسلم يقول: مع الترخيص وعدم الإثم في اقتناء البساط والفراش الذي فيه صورة لأنه يوطأ بالرجل فهو ممتهن، مع ذلك: لا تدخل الملائكة هذا البيت لإطلاق قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة ).

    إذاً: بما أنه يوجد صورة فالملائكة لا تدخل سواء كانت هذه الصورة على بساط أو على الستارة أو في الحلي أو في غير ذلك، أما إذا كانت في الحلي أو على الستارة هذا لا يرخص للإنسان في استعمالها ولا تدخل الملائكة، وإذا استعملها فهو آثم عاص، وأما إذا كانت في البساط فيجوز أن يستعملها وليس بعاص لكنه يحرم من دخول ملائكة الرحمة إلى هذا المكان فيفقد الخيرات والبركات.

    تعريف النقاب وبيان حكمه

    السؤال: هل النقاب لا يعتبر من حجاب المرأة؟

    الجواب: إذا كانت الأخت تقصد بالنقاب: غطاء الوجه وستر الوجه فهذا من حجاب المرأة قطعاً وجزماً، وإذا كانت تقصد من النقاب خصوص البرقع الذي يلبس فهذا لا يشترط للمرأة إنما ينبغي أن تستر وجهها ولا يجوز أن يبدو شيء من بدنها. وقد حققت هذا أخواتي الكريمات وتكلمت عليه في محاضرة مسجلة على شريط ولو سمعتن الشريط فستجدن هذا الحكم فيه جلياً واضحاً بأدلته.

    إذاً: المرأة لا يجوز أن تكشف عن وجهها، ووجهها ينبغي أن يستر كسائر جسمها، بل هو أولى بالستر من ذراعيها ومن ساقيها فهو محط الفتنة ومحل الجمال، وإذا كانت تستر الساقين وتستر الذراعين فينبغي أن تستر الوجه من باب أولى، وآية الحجاب التي فرض الله فيها الحجاب نزلت من أجل ستر الوجه فقط: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59] والمرأة إذا أرادت أن تستر بدنها وأرخت الجلباب الذي تلبسه من فوق رأسها على صدرها وضربت بخمرها على جيبها فقد سترت الوجه وسترت فتحة العنق ولم يظهر شيء من البدن.

    وقبل نزول هذه الآية -أعني: آية الحجاب- كن نساء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يكشفن عن وجوههن وأيديهن، فما كنت امرأة منهن تتبذل تبذل الساقطات في هذه الأيام فتخرج مكشوفة الفخذين أو مكشوفة الصدر أو الظهر .. هذا لا يوجد، إنما كانت المرأة تكشف وجهها وتكشف يديها، فأمرن بالحجاب.

    أي حجاب أمرن به؟ بستر ما كان يكشف، أي: بستر الوجه والكفين الذين كانا يكشفان فقط.

    إذاً: الحجاب فرض أصالة لتغطية الوجه واليدين ليستر هذان العضوان كما تستر سائر أعضاء المرأة، والعلم عند الله جل وعلا.

    أخواتي الكريمات! كما قلت في الشريط وضحت هذا غاية الوضوح، وذكرت الأحاديث عن نساء السلف وأن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تخبر أنها في حالة الإحرام وهي مع النبي عليه الصلاة والسلام والصحب الكرام إذا حاذى الرجال النساء تسدل كل امرأة حجابها فتستر وجهها فإذا جاوز الرجال النساء وابتعدوا عن النساء تكشف المرأة وجهها لأنها بين صاحباتها وأخواتها.

    وذكرت أيضاً أثر أسماء وهو صحيح ثابت في المستدرك وغيره أنها قالت: ( كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهكذا فاطمة بنت المنذر كانت تقول: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهن أجمعين.

    وعليه فغطاء الوجه واجب، وهذا من جملة حجابها ولا يجوز للمرأة أن تكشف عن وجهها.

    أخواتي الكريمات! رخص الله للمرأة إذا كانت قاعدة -أي: قعد سنها عن طلب النكاح فلا ترغب في النكاح ولا يرغب الرجال في نكاحها- إذا كانت قاعدة أن تكشف عن وجهها، يقول الله: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

    إذاً: يجوز للمرأة إذا بلغت سبعين سنة وأكثر فتجعد وجهها وصار طبقات يجوز لها في هذه الحالة أن تكشف عن وجهها وعن يديها وأن تظهر بالملابس الطويلة أمام الرجال الأجانب وإن لم يكن عليها جلباب فوق ثيابها.

    وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60] أي ثياب تضعها؟ الجلباب بحيث يبدو الوجه.. تبدو اليدان ولا تلبس جلباباً واسعاً فوق ثيابها الطويلة التي تجرها على الأرض، ثم قال الله: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] أي: المرأة التي وصلت سبعين وثمانين وتسعين ومائة إذا سترت وجهها ويديها فهذا أفضل لها عند ربها.

    الذي أريده من هذا أخواتي الكريمات: إذا كانت المرأة القاعد يرخص لها أن تكشف عن وجهها وندبها الإسلام إلى ستر وجهها فكيف للصبية الشابة؟ أي: القاعد يرخص لها في كشف الوجه والأفضل أن تستره، فكيف يكون الأمر بالشابة؟ هل الشابة صارت قاعدة حتى تجعل نفسها كالقاعدة: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ [النور:60] لا يأملن ولا يطمعن في الزواج ولا يطمع في زواجهن أحد فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60].

    أي ثياب؟ هل تكون أمام الناس عارية؟ هذا لا يمكن (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يعني: لا حرج عليها أن تكشف عن وجهها وأن تبدي يديها فالفتنة قد انقطعت والرغبة فيها قد انقطعت والذي يراها لا يتأثر ولا يحصل في قلبه شهوة، وهي أيضاً لا تفتتن ولا تفكر في هذا الأمر، وعليه فلا مانع أن تكشف الوجه واليدين من أجل سهولة الحركة بالنسبة لها وهي ضعيفة قد تحتاج إلى كشف هذا من أجل أن تستعين في الطريق بأخذ حاجة ثم مع هذا: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

    وأما المرأة الشابة فيحرم عليها أن تكشف وجهها، ولا يجوز أن يرى وجهها إلا محرم أو زوج والعلم عند الله جل وعلا.

    حكم هجر المرأة لزوجها بسبب المشكلات العائلية

    السؤال: ما حكم المرأة التي تهجر زوجها بسبب مشاكل عائلية؟

    الجواب: سبحان الله العظيم! هل يتصور هذا؟ امرأة تهجر زوجها؟! من أجل مشاكل عائلية جرى بينها وبينه شيء من الخصومة والملاحاة فهجرته، هذا حقيقة معيب ومنقصة ومذموم وهو حرام، وينبغي أن تعلمن أخواتي أن أعظم الناس حقاً على المرأة زوجها، كما أن أعظم الناس حقاً على الرجل أمه، وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم ومسند البزار بسند صحيح كالشمس من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها. قلت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه ) فالرجل أعظم الناس حقاً عليه أمه، والمرأة أعظم الناس حقاً عليها زوجها.

    إذاً: هذا الزوج الذي هو أعظم الناس حقاً عليها حتى من أبويها هل يليق بها أن تهجره؟ لا ثم لا، وإذا هجرته ونفرت عنه وهو يريدها ستلعن من قبل ملائكة السماء ويسخط عليها رب الأرض والسماء حتى يرضى عنها زوجها، وقد ثبت هذا في المسند والصحيحين والحديث في أعلى درجات الصحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات وهو عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح ). وفي رواية في صحيح البخاري: ( إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها ) يسخط الله عليها والملائكة تلعنها حتى يرضى عليها زوجها، فكيف يليق بالمرأة أن تهجر زوجها من أجل مشاكل عائلية؟ هذا لا يصلح، ولو قدر أن الزوج تأثر منها فهي ينبغي أن تبدأ بالصلح وأن تتعرض له وأما أن تفارقه وأن تهجره فهي بهذا ترتكب كبيرة وأثمها شنيع فضيع، والمرأة إذا أطاعت ربها ورضي عنها زوجها تدخل جنة ربها كما ثبت هذا في سنن الترمذي وابن ماجة ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك من رواية أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ) ولذلك ينبغي على النساء أن ينتبهن إلى هذا الأمر، ولا يحل للمرأة أن تهجر زوجها لمشاكل عائلية.

    حكم استماع الأغاني وواجب المسلم نحو ما يقام من حفلات الرقص والغناء

    السؤال: بعض الناس يقول: ممكن أن يستمع الإنسان الغناء وأن يرفه عن نفسه .. إلى آخر ذلك، وأن بعض الأخوات بدأن يستمعن الأغاني من قبل هذه الفتيا الضالة الباطلة، وأخت أخرى أيضاً سؤالها قريب من هذا بأنه قد تأتي امرأة ساقطة إلى مكان لأجل حفلة غناء ورقص وتغني بعد ذلك أمام الناس فماذا ينبغي أن يكون عندنا من تحصين ومن احتراس نحو هذا الأمر الخبيث المشين؟

    الجواب: أخواتي الكريمات! أما الغناء فلا خلاف عند أئمتنا المعتبرين في تحريمه واستماعه فسق والتلذذ به كفر، استماع الغناء فسق ومن استمعه فهو فاسق عاص لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ومن بدأ يتلذذ به ويطرب فهذا أشنع وأشنع، استماعه فسق والتلذذ به كفر، وكنت وضحت حكم الغناء في محاضرة طويلة اسمها: (جواب الحنفاء عن حكم الغناء)، فلو سمعتن الشريط أخواتي لعله في حدود ثلاث ساعات يتبين لكن الحق في هذه المسألة، وهو عند أئمتنا الأربعة أهل المذاهب المتبعة أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد محرم بالاتفاق، وبعد ذلك إذا وجد ترخص من بعض العلماء فهو بين أمرين: إما أنه يفتي ويترخص وهو مفت ماجن لا يتقي الله في كلامه، وإما أنه لا يعرف حقيقة الغناء، الغناء كما قال أئمتنا: كلام موزون مقفى. أي: له قافية محددة على حسب القصيدة التي يقولها المغني والمغنية.

    كلام موزون مقفى يقال بتكسر وتخنث. أي: يحتوي ويشتمل على فحش وخنا. أي: فيه فحش وفيه خنا وفيه بذاءة وفيه سفاهة وفيه حض على الشهوات والمنكرات. هذا الغناء لا خلاف في تحريمه، وقد دلت آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام على تحريمه فكن على علم بذلك.

    استماع الغناء فسق والتلذذ به كفر، وكما قلت: إذا ترخص بعض الناس فإما هو متساهل مفرط ماجن وإما أنه لا يعرف حقيقة الغناء حتى يقول: ممكن أن يستمع الناس الغناء وأن يترخصوا فيه وأن يرفهوا على أنفسهم، فالغناء حرام، وجميع آلات العزف والموسيقى حرام، سواء كانت مثيرة أو لا، فلا فارق بين جميع آلات اللهو في التحريم، وقد ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله في صحيح البخاري من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) الحر. أي: الفروج والزنا. والحرير: يلبسه الرجال. والخمر يسمونها بغير اسمها، والمعازف قال أئمتنا: جمع معزفة، وهي جميع آلات اللهو بلا خلاف بين علماء اللغة، ثم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث أنهم يمسخون قردة وخنازير إلى يوم القيامة.

    إذاً: المعازف والمزامير بأنواعها والغناء الذي ذكرت تعريفه حرام بلا خلاف بين أئمة الإسلام، ولذلك لما قيل للإمام مالك عليه رحمة الله: إن أهل المدينة يترخصون في الغناء ويستمعون إليه. قال: ويحكم لا يفعل ذلك عندنا إلا الفساق.

    وقيل للإمام مالك وقبله لـابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وقيل لعدد من أئمة الإسلام هذا السؤال فأجابوا بهذا الجواب، قيل لـمالك ولـابن عباس ولغيرهم: ما حكم الغناء؟ فكان كل واحد من ابن عباس والإمام مالك والقاسم بن محمد هؤلاء الذين سئلوا هذا السؤال يقولون للسائل: إذا كان يوم القيامة وميز الله بين الحق والباطل ففي أيهما يكون الغناء؟ فيكون الجواب من السائل: الغناء يكون في قسم الباطل، فيقول ابن عباس والقاسم بن محمد والإمام مالك للسائل: قد أفتيت نفسك. يعني: إذا وقفنا بين يدي الله وميز الله بين الحق والباطل وبين المحقين والمبطلين هل الباطل يكون مع الحق وفي كفة الحق أم مع الباطل وفي كفة الباطل؟ فالسائل هو بنفسه كان يقول: يأتي يوم القيامة الغناء فيكون مع الباطل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، أنت نفسك تقول هذا إذاً لم تسألنا؟

    وهذا كما يسأل الآن كثير من الناس عن الدخان ما حكمه؟ هذا التتن الذي يشرب، قل له: نافع أو ضار؟ يقول: ضار. فقل له: أفتيت نفسك، إذا كان يضر وفيه هذه الرائحة المنتنة وإتلاف للأموال وضرر على الأبدان وسبب لمرض السرطان أنت تقول هذا، ثم تقول: ما حكمه؟ أما عندك عقل؟ وهنا أنت تقول: إذا كان يوم القيامة سيكون الغناء في كفة الباطل، فهذا ضلال وحرام وانتهى الأمر، فماذا بعد الحق إلا الضلال.

    وعليه أخواتي الكريمات الغناء حرام، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يبتعدون عن الحرام بجميع أشكاله وألوانه، قال الإمام عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه لمؤدب أولاده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء الذي مبدأه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن.

    والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء رقية الزنا، وما أحد سمع الغناء إلا زنا أو تمنى، وعليه فما يترخصه بعض الناس ترخص مردود.

    وأما ماذا نفعل نحو ما يقام من حفلات رقص وغناء؟

    أخواتي الكريمات! أول ما يجب أن نحصن أنفسنا وإذا حصن الإنسان نفسه فهنيئاً له، لو أن الخلق كلهم دخلوا جهنم ودخلت أنت الجنة فلا يضرك، ولو أن الخلق كلهم دخلوا الجنة ودخلت أنت النار فأنت الخاسر، فنحن إذا حصنا أنفسنا فهذه نعمة عظيمة من الله علينا، ثم بعد ذلك نحذر الأمة على حسب استطاعتنا، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

    1.   

    أقوال العلماء في مكان نزول سورة الفاتحة

    بعد الإجابة المختصرة على هذه الأسئلة أدخل أخواتي الكريمات في تفسير سورة الفاتحة.

    سورة الفاتحة أخواتي الكريمات إذا أردنا أن نفسر آياتها وأن نعلم دلالاتها وأن نعرف معناها ينبغي أن نقدم بين يدي تفسير آياتها معالم بارزة لهذه السورة، هذه المعالم هي بمثابة إثبات شخصية السورة -أي: سورة الفاتحة- تثبت هذه المعالم شخصيتها وتميزها عن غيرها، فكل سورة من سور القرآن لها معالم بارزة، ولها شخصية ثابتة متميزة، هذه المعالم وهذه الشخصية تدور حول ستة أمور سنتدارسها قبل تفسير سورة الفاتحة إن شاء الله.

    الأمر الأول: نزولها، أين نزلت سورة الفاتحة.

    الأمر الثاني: موضوع سورة الفاتحة.

    الأمر الثالث: فضل سورة الفاتحة.

    الأمر الرابع: أسماء سورة الفاتحة.

    الأمر الخامس: آيات سورة الفاتحة.

    الأمر السادس: صلة سورة الفاتحة بما قبلها وما بعدها من السور، وهذه الأمور الستة ينبغي أن تذكر في مطلع تفسير كل سورة لتتميز كما قلت كل سورة من سور القرآن عن سور القرآن الأخرى والعلم عند الله جل وعلا، فلنبدأ أخواتي الكريمات في مدارسة هذه المعالم التي تثبت شخصية بارزة مستقلة واضحة ظاهرة لسورة الفاتحة.

    أولاً: أين نزلت سورة الفاتحة؟

    ذكر أئمتنا الكرام في ذلك ثلاثة أقوال مآلها إلى قول واحد، أذكر الأقوال وأجمع بينها بإذن ذي العزة والجلال، والأقوال الثلاثة منقولة عن السلف الكرام:

    القول الأول: نزلت سورة الفاتحة في مكة المكرمة، وعليه يقال لها: مكية.

    القول الثاني: نزلت في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، وعليه يقال لها مدنية.

    والقول الثالث: جمع بين القولين، وكما قلت: مآل الأقوال إلى شيء واحد أن سورة الفاتحة تكرر نزولها، فنزلت في مكة في أول الأمر لأجل قراءتها في الصلاة، ثم لعظم شأن هذه السورة ومنزلتها نزل بها جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام مرة ثانية على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، وبعض الآيات كانت تنزل مرتين على النبي عليه الصلاة والسلام في مكة وفي المدينة لما لها من مكانة من بين الآيات، وهنا سورة الفاتحة لها مكانة معينة ومنزلة خاصة معتبرة من سائر سور القرآن فتكرر نزولها، فمثلاً آية الروح في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] نزلت في مكة ثم نزلت في المدينة على نبينا صلوات الله وسلامه، تكرر نزولها وتكرر سبب نزولها.

    وهنا سورة الفاتحة نزلت في مكة المكرمة من أجل أن يقرأ بها في الصلاة، ثم بعد ذلك تنويهاً بشأن هذه السورة ولفتاً لأنظار العباد إلى منزلتها وإلى مكانتها نزل بها جبريل مرة ثانية على نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه في المدينة المنورة، فهذا القول الثالث يجمع بين القولين وعليه نقول: سورة الفاتحة لها هذه الخصيصة مكية مدنية، نزلت في مكة ثم تكرر نزولها فنزلت في المدينة، وهذه الأقوال الثلاثة كما قلت نجمع بينها فتصبح قولاً واحداً، فمن قال: إنها مكية أخبر بأمر صحيح باعتبار بداية نزولها، ومن قال أنها مدنية أخبر عن أمر صحيح باعتبار نزولها في المرة الثانية، والقول الثالث جمع بين الأمرين قال: تكرر نزولها فنزلت في مكة على النبي عليه الصلاة والسلام ثم نزلت عليه في المدينة المنورة، هذه الأقوال الثلاثة مآلها إلى شيء واحد وهي معتبرة.

    وهناك قول غريب جداً حكاه أبو الليث السمرقندي في تفسيره ونقله عنه الإمام ابن كثير واستغربه ورده وهو حقيق بالغرابة والبعد، وهو أن نصف سورة الفاتحة نزل بمكة، ثم نزل نصفها الآخر في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، فنصفها الأول في مكة المكرمة ونصفها الآخر في المدينة المنورة، فنصفها مكي ونصفها مدني وهذا قول غريب جداً، والقول الذي جمعت به بين الأقوال الثلاثة هو المعتبر وهو أنها مكية مدنية.

    وأما أنها مكية فهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه، وسبب ذلك أن الصلاة فرضت في مكة والمسلمون كانوا يصلون في مكة، وما علم في الإسلام صلاة من غير أم القرآن، أي: من غير الفاتحة، ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) ما علم أن المسلمون كانوا يصلون بغير فاتحة، فإذا كانت الصلاة مفروضة في مكة المكرمة فهذا يعطينا دلالة قوية على أن سورة الفاتحة نزلت في مكة المكرمة؛ لأنه ما علم صلاة بغير فاتحة، والصلاة فرضت بالإجماع في مكة المكرمة، وعليه فسورة الفاتحة نزلت في مكة المكرمة، هذا دليل معتبر. ودليل ثاني يحتم أيضاً نزول سورة الفاتحة في مكة: أن الله يقول جل وعلا في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] والسبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وقد فسر نبينا صلى الله عليه وسلم السبع المثاني بفاتحة الكتاب، كما في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي والحديث رواه الطبري في تفسيره وابن مردويه في تفسيره وإسناده صحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد لله رب العالمين هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم ) وقيل لها: السبع المثاني أي سبع آيات وهي فاتحة الكتاب.

    1.   

    سبب تسمية سورة الفاتحة بالمثاني

    سميت بالمثاني لعدة أمور معتبرة:

    أولها: لأن فيها ثناء عظيماً على ربنا الكريم سبحانه وتعالى، ولذلك ( إذا قرأ الإنسان: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] يقول الله: حمدني عبدي، وإذا قرأ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] يقول الله: أثنى علي عبدي وإذا قرأ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] يقول الله: مجدني عبدي )، وفي رواية: ( فوض إلي عبدي )، ( وإذا قرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]... إلخ السورة، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )، ففيها ثناء وتعظيم، ثناء على الله له الحمد، يتصف بالرحمة التامة الكاملة فهو رحمان رحيم إليه يؤول العباد ويحكم بينهم يوم الدين، فهو الملك الحقيقي في ذلك اليوم، وهو مالك ذلك اليوم لا ملك ولا مالك إلا هو سبحانه وتعالى، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] ففيها ثناء عظيم على الله، ولذلك قيل لها: السبع المثاني.

    وسميت بالمثاني لاعتبار ثان: لأنها استثنيت وادخرت ورفعت وخبئت لهذه الأمة، ما أنزلها الله على أمة قبل هذه الأمة، إنما استثناها وادخرها وخبأها لهذه الأمة فأنزلها عليها. إذاً: هي من الاستثناء، سبع مثانٍ مستثناة لهذه الأمة.

    وقيل -وهو اعتبار ثالث-: سميت بالسبع المثاني؛ لأنها تثنى وتكرر وتردد وتعاد في كل ركعة وهكذا مع كل سورة، عندما يقوم الإنسان للركعة الثانية يكرر الفاتحة في الركعة الثالثة يأتي بالفاتحة في الركعة الرابعة يأتي بالفاتحة، وإذا أراد أن يقرأ سورة يقدم قبلها الفاتحة.

    إذاً: يصلى بهذه السورة في كل ركعة ولا يؤتى بها في أول ركعة فقط، وهي استثنيت في هذه الأمة وفيها ثناء عظيم على ربنا الكريم سبحانه وتعالى.

    إذاً: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم ) هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    أمور ترجح مكية سورة الفاتحة

    قول الله في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] قلنا: المراد من السبع المثاني: سورة الفاتحة، ما وجه الدلالة على أن سورة الفاتحة مكية؟

    نقول: سورة الحجر مكية بإجماع العلماء، والله يقول فيها: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87] أي: أنزلنا عليك الفاتحة وإذا كانت الفاتحة نزلت والله أخبر عن نزولها في سورة الحجر فدل على أن الفاتحة مكية لأن سورة الحجر مكية.

    إذاً: لابد من القول بتقدم نزول سورة الفاتحة في مكة المكرمة لأمرين:

    الأول: ما علم صلاة بغير فاتحة.

    والثاني: لقول الله تعالى في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] والسبع المثاني هي فاتحة القرآن العظيم، على أن بعض علمائنا ادعى وحكى أن سورة الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وهذا القول هو أحد أقوال ستة قيلت في بيان أول ما نزل على الإطلاق.

    1.   

    أقوال العلماء في أول ما نزل من القرآن الكريم

    المعتمد أن أول ما نزل: صدر سورة (اقرأ)، خمس آيات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] هذا المعتمد أن أول ما نزل صدر سورة (اقرأ) سورة العلق.

    القول الثاني: قيل سورة المدثر. وسورة المدثر أول ما نزل بعد سورة العلق، وسورة اقرأ فيها إشعار بتكليف نبينا عليه الصلاة والسلام بالنبوة وسورة المدثر هي إشعار بتكليفه بالرسالة وتبليغ الدعوة: يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2].

    القول الثالث: قيل: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] هي أول ما نزل.

    القول الرابع: سورة المزمل.

    القول الخامس: سورة الفاتحة.

    القول السادس: البسملة.

    هذه ستة أقوال أرجحها أولها وهو المعتمد عند أئمتنا، ولفظ الحديث في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها في حديث ذهاب نبينا عليه الصلاة والسلام إلى غار حراء لما جاءه جبريل: ( قال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ )، يقول علماؤنا: يستحيل أن يكون قد نزل شيء من القرآن قبل نزول سورة العلق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ما أنا بقارئ، فقال له في المرة الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:1-3] فقوله: ما أنا بقارئ هذا لو نزل عليه شيء وقال: ما أنا بقارئ لكان إخباراً بخلاف الحقيقة ويتنزه نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقوله: ما أنا بقارئ يدل دلالة قاطعة على أنه لم ينزل قبل صدر سورة اقرأ شيء من القرآن، والعلم عند ربنا الرحمن.

    1.   

    القرآن المكي والقرآن المدني وبيان ضابطه

    أخواتي الكريمات! عند مبحثنا في هذا المبحث الأول: أين نزلت سورة الفاتحة والمعتمد -كما قلت- أنها نزلت في مكة وتكرر نزولها في المدينة فهي مكية مدنية. هنا قد يخطر ببال بعض الإخوة والأخوات سؤال وهو: ما تعريف المكي والمدني وما ضابطه، ولعلمائنا الكرام في ضابط المكي والمدني ثلاثة أقوال قول منها مقبول معتبر وقولان ضعيفان مرجوحان مردودان في نهاية الأمر.

    المعتبر في تعريف المكي والمدني: أن المكي ما نزل قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، فهو مكي.

    والمدني: ما نزل بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام فهو مدني وإن لم ينزل في المدينة. يعني: ما نزل من القرآن بعد هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام مدني في أي مكان ولو نزل في مكة، ما نزل في عام الفتح على النبي عليه الصلاة والسلام من قرآن وهو في مكة يعتبر مدنياً، فما نزل قبل الهجرة مكي، ما نزل بعد الهجر مدني، أي: ما نزل من قرآن في خلال ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة فهو مكي، وما نزل من القرآن بعد ذلك في خلال عشر سنين فهو مدني في أي مكان نزل.

    إذاً: هذا الضابط لاحظ الزمان ولم يلاحظ شيئاً آخر، لم يلاحظ المكان ولا المخاطبين، فالزمان هو الفارق بين المكي والمدني، قبل الهجرة مكي، وبعد الهجرة مدني، وهذا التعريف كما قال أئمتنا جامع مانع لا يرد عليه أي اعتراض، جامع أي: جمع جميع القرآن، فلا يوجد آية ولا سورة من القرآن تخرج عن هذا الضابط، فالقرآن إما قبل الهجرة نزل وإما بعد الهجرة، وعليه جمع جميع أنواع المعرف في التعريف وهو مانع أي: مانع من اختلاط أحد القسمين في الآخر، فهو حاجز بينهما، قبل الهجرة مكي وبعد الهجرة مدني، فلا تدخل هذه الأنواع في بعضها ولا تلتبس.

    ويشترط في التعريف -كما قال أئمتنا- أن يكون جامعاً مانعاً، يجمع جميع أنواع المعرف في التعريف ويمنع من دخول بعضها في بعض فيميز كل قسم على حدة وجهة، وهذا هو المعتبر كما قلت وعليه المعول.

    وهناك قول ثانٍ في تعريف المكي والمدني أذكره وأرده، لاحظ المكان فقال: ما نزل في بقعة مكة مكي، وما نزل في بقعة المدينة وضواحيها مدني، فهنا ملاحظة المكان لا الزمان سواء نزل قبل الهجرة أو بعد الهجرة، وهذا الضابط -كما قال أئمتنا- هو وإن كان مانعاً -يعني: يمنع دخول أحد القسمين في الآخر- لكنه ليس بجامع.. كيف ليس بجامع؟

    عندنا قرآن لم ينزل بمكة ولا في المدينة، عندنا قرآن نزل في تبوك على حدود الشام عندما ذهب النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، هذا القرآن ما نزل لا في مكة ولا في المدينة، عندنا قرآن نزل في الطائف على النبي عليه الصلاة والسلام، ما نزل في مكة ولا في المدينة، وقرآن نزل في أسفار النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، في الحديبية وغيرها.

    إذاً: هناك قرآن لا يدخل في هذا التعريف، فسيخرج شيئاً من القرآن عن هذا التعريف وعليه فهو غير جامع، فما جمع جميع أنواع المعرف في التعريف، ولذلك فيه ضعف وهو مردود.

    القول الثالث: المكي هو ما فيه (يا أيها الناس) (يا بني آدم) والمدني ما فيه: (يا أيها الذين آمنوا) فما خوطب فيه الناس بوصف الإيمان فهو مدني؛ لأن أهل المدينة مؤمنون وما خوطب فيه المخاطبون بلفظ (يا بني آدم .. يا أيها الناس) فهو مكي؛ لأن أكثر أهل مكة ليسوا بمؤمنين، وهذا غير جامع ولا مانع فهو أضعف الأقوال وهو مردود.

    أولاً: غير جامع فهناك عدد من السور ليس فيها لا يا أيها الناس ولا يا أيها الذين آمنوا ففي أي القسمين سندخلها؟ مثل قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] أين نزلت؟ لا تدخل في هذا التعريف لا في المكي ولا في المدني، فعندنا قرآن كثير لا يدخل في هذا التعريف، وهو غير مانع. عندنا سور فيها (يا أيها الناس) وهي مدنية بالاتفاق سورة البقرة مدنية وفيها: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] وعندنا هكذا سور مكية فيها (يا أيها الذين آمنوا). إذاً: هو غير جامع وغير مانع فهو أضعف الأقوال ويليه في الضعف كما قلت وأقل ضعفاً منه الذي لاحظ المكان، والمعتمد ملاحظة الزمان.

    خلاصة الكلام: أقوال علمائنا الكرام في بيان ضابط المكي والمدني ثلاثة أقوال، منها ما لاحظ الزمان ومنها ما لاحظ المكان، ومنها ما لاحظ المخاطبين، وملاحظة الزمان أقواها فما نزل قبل الهجرة فمكي، وما نزل بعد الهجرة فمدني، هذا التعريف جامع مانع.

    والذي لاحظ المكان ما نزل في مكة مكي وما نزل في المدينة مدني، هذا التعريف مانع لكنه غير جامع.

    ومن لاحظ في تعريفه المخاطبين فما فيه (يا أيها الناس) مكي و(يا أيها الذين آمنوا) مدني، غير جامع غير مانع والعلم عند الله جل وعلا.

    طرق وضوابط معرفة القرآن المكي من المدني

    أيها الأخوات: قبل أن ننتقل إلى المبحث الثاني وهو موضوع سورة الفاتحة أحب أن أبين الطريق لمعرفة المكي والمدني وذلك للعناية التي حظي بها القرآن، ولذلك كان سلفنا الكرام يقولون: ما أنزل الله آية من القرآن إلا وأحب أن يعلم العباد فيم أنزلت وأين نزلت. أي: في أي شيء نزلت وأين نزلت هذه السورة؟ في أي بقعة؟ لأنه كلما كثرت جهات الضبط للشيء كلما قل احتمال الخطأ فيه، وهذا القرآن ضبطت سوره وآياته ومكان نزوله وأسباب نزوله، وضبط بعد ذلك فيه محكمه متشابه، وناسخه منسوخه، ولا توجد ناحية من نواحي القرآن إلا وأفردت فيها مؤلفات ومصنفات، وكلما كثرت وسائل الضبط كلما قل احتمال الخطأ، ولذلك تحقق قول الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وأئمتنا ضبطوا الحضري والسفري والصيفي والشتائي، والليلي والنهاري، أي: القرآن الذي نزل في النهار والقرآن الذي نزل في الليل .. في الحضر .. في السفر .. في الصيف .. في الشتاء، كل هذا ضبط، وكما قلت: كلما كثرت حالات الضبط وجهات الضبط للشيء كلما قل احتمال الخطأ فيه، فضبط من جميع جهاته، فهذه السورة ضبط أين نزلت وعرف بعد ذلك هذا الضابط.

    قد يقول قائل: هذه الضوابط من أين تؤخذ؟ يعني: هل هناك مجال للاجتهاد في أن يقول الإنسان: هذه السورة مكية أو مدنية، أو أن هذا موقوف على النقل فقط؟

    والجواب على هذا أخواتي الكريمات: لا طريق لنا إلى القول بأن هذه السورة مكية وهذه مدنية إلا النقل، فالطريق في بيان المكي والمدني من القرآن النقل لا العقل، والرواية لا الرأي، ولا دخل للعقل ولا للرأي ولا للاجتهاد في هذا المقام.

    الرواية عن من؟ عن صنفين اثنين: إما عن الصحابة الكرام فإذا صح الإسناد إلى واحد منهم وأن هذه السورة نزلت في مكة في المدينة فهذا القول الذي يصح عن الصحابي له حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يقال عن طريق الرأي ولا الاجتهاد ولا الاستنباط، ثم هؤلاء الصحابة هم عايشوا نزول القرآن وعاصروا نزوله فقولهم في ذلك له حكم الرفع كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذه مكية وهذه مدنية.

    والصنف الثاني الذي نأخذ قوله في بيان المكي من المدني هم التابعون، وقول التابعي أن هذه السورة مكية أو هذه مدنية يقبل بأحد شرطين اثنين:

    الشرط الأول: أن يكون قائل هذا القول من أئمة التفسير الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة، كـمجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فإذا قال مجاهد وسعيد بن جبير هذه السورة مكية أو مدنية، بما أنه تلقى تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فهذا يجعل لقوله منزلة عالية فهو أخذه من شيخه فهو له حكم الرفع المرسل. مرسل، أي: بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام واسطة، لكن له حكم الرفع لأنه لا يدرك بالرأي، بما أنه أخذ تفسيره عن الصحابة فهذا المرسل الذي في أصله شيء من الضعف يتقوى بقوة قائله، وهي أنه تلقى تفسيره عن الصحابة الكرام.

    وإذا لم يكن القائل ممن تلقى تفسيره عن الصحابة الكرام فنقبل قوله بشرط آخر، وهو: أن يتعزز. أي: أن يتقوى بمرسل آخر.

    إذاً: أن يقول التابعيان: هذه سورة مكية أو هذه مدنية وما واحد منهما أخذ غالب تفسيره عن الصحابة الكرام، فالتابعيان يتقوى قولهما ببعضهما فيصبح لقولهما حكم الرفع -كما قلت- المرسل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وبما أن القائل لهذا القول اثنان فيتقوى كل قول بالآخر فنعتمد عليه ونعول عليه في هذا المقام.

    إذاً: إما أن يقول ذلك صحابي أو تابعي أخذ التفسير عن الصحابة أو وافقه تابعي آخر على هذا القول.

    اعتماد النقل والرواية لا العقل والرأي في بيان المكي والمدني من سور القرآن

    وخلاصة الكلام: العمدة في بيان المكي والمدني من القرآن الرواية لا الرأي، والنقل لا العقل، فلا أثر للاجتهاد في هذا المقام مطلقاً، وعليه أخواتي الكريمات ما ذهب إليه محمد عبده في تفسير المنار وهكذا في تفسير جزء عم وقرر أن سورة الفاتحة مكية صحيح، لكن ما بنى هذا على دليل نقلي، إنما بناه على دليل عقلي عن طريق الاجتهاد. وخلاصة تقريره لذلك يقول: هداية الله سواء كانت هداية خلق وإيجاد أو هداية بيان وإرشاد تبدأ صغيرة ثم تكبر، فالإنسان في أول أمره نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم بعد ذلك عظام ثم تكسى لحماً، ثم يولد طفلاً رضيعاً، ثم ثم ثم، هذه نعمة الخلق والإيجاد تبدأ صغيرة ثم تكبر، الشجرة نواة ثم يخرج بعد ذلك نبت ثم يتفرع بعد ذلك، يقول: هذا في الخلق والإيجاد يكون صغيراً ثم يكبر، وهكذا في الهداية والإرشاد تأتي النعمة مجملة ثم تفصل، يقول: وسورة الفاتحة جمعت مقاصد القرآن الكريم بأسره، فجميع مقاصد القرآن الكريم من إيمان بالله العظيم وبيان طريق الهداية وبيان طريق المنعم عليهم وبيان طريق الضالين والمغضوب عليهم وبيان مآل العباد إلى ربهم، وجزاء كل منهم على حسب سعيه مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].. هذه الأمور كلها التي في الفاتحة مجملة فصلها القرآن بعد ذلك في سورة أخرى.

    إذاً: هنا هداية مجملة هداية -كما قلت- إرشاد مجملة، ثم فصلت في سورة القرآن، وهكذا في الخلق نعمة مجملة ثم بعد ذلك كبرت وتوسعت وتفرعت، وهنا هداية إرشاد مجملة ثم وضحت في سائر السور، ولذلك في أول سورة البقرة يقول الله جل وعلا: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] ثم وضح بعد ذلك هذه الهداية التي أشار إليها في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. ما هو الصراط المستقيم؟

    ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] أي: طريق القرآن، القرآن هو صراط الله المستقيم من أخذ به كان من المهتدين، فهذه الهداية المجملة في الفاتحة فصلت في سائر سور القرآن، وهكذا كما قلت نعمة الخلق والإيجاد تكون صغيرة ثم تتوسع وتكبر، وهنا هداية مجملة ثم فصلت في سائر السور.

    هذا التعليل الذي أتى به هذا الإنسان في تقرير هذا القول نقول: مع وجاهة هذا التعليل واعتباره مع وجاهته هو طريق باطل لا يجوز أن نعول عليه في بيان المكي والمدني، فالتعويل في ذلك على الرواية والنقل لا على الرأي والعقل.

    نعم لا مانع أن نقول بعد ذلك: سورة الفاتحة ثبت أنها مكية، ثم نزلت في المدينة بعد ذلك لا مانع -كما قلنا وجمعنا بين القولين- لكن هذه لم تقدم نزولها؟ لم كانت مكية؟ نقول: مكية لأنها فيها هذه الهداية مجملة ثم فصلت بعد ذلك، لا مانع.

    على أن محمد عبده ما اقتصر على القول بمكية سورة الفاتحة بل زاد فقال: هي أول سورة نزلت على الإطلاق؛ لأن فيها الهداية المجملة ثم فصلت بعد ذلك. وقوله: أول سورة نزلت هذا باطل قطعاً وجزماً لمعارضته الثابت في الصحيحين من أن أول ما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام صدر سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] خمس آيات منها.

    إذاً: فالقول بأن سورة الفاتحة هي أول ما نزل قول باطل، نعم هي مكية، والحكمة من نزولها في مكة كما قلت أنها هداية مجملة تفصل بعد ذلك، هذا لا مانع منه، لكن هي مكية لثبوت هذا عن طريق الرواية ولا دخل للرأي في ذلك، ثم كانت الصلاة في مكة وما علم صلاة من غير فاتحة. والعلم عند الله جل وعلا.

    وخلاصة الكلام أخواتي الكريمات: سورة الفاتحة نزلت في مكة المكرمة ثم تكرر نزولها في المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه تعظيماً لشأنها، فهي مكية مدنية، والضابط للمكي والمدني ما نزل قبل الهجرة فهو مكي وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، والطريق لمعرفة المكي والمدني هو الرواية لا الرأي والنقل لا العقل، والعلم عند الله جل وعلا.

    وأما الأمر الثاني: هو موضوع سورة الفاتحة الذي تتميز به عن سائر سور القرآن أتكلم على هذا فيما يأتي إن شاء الله.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسلمياً كثيراً.

    اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً! اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا! اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756348526