إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب حكم المرتد [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحكم على الشخص بالردة بحيث يستحق عقوبتها لابد أن تتوفر فيه شروط موجبة للعقوبة، ثم إن الردة تختلف باختلاف موجبها، فهناك من أنواع الردة ما قد يحكم بعض العلماء بعدم قبول التوبة منها، كسب النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    اشتراط الاختيار والتكليف في المرتد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار]

    بعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أدلة تحريم الردة شرع في الجزيئة الأخيرة وهي ما يترتب على الردة، فقال رحمه الله: (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار).

    قوله: (وهو مكلف)

    أي: والحال أنه مكلف، والتكليف يكون بالبلوغ والعقل، فلو قال كلمة الكفر وهو صبي لم يؤاخذ، واختلف في الصبي المميز، أما إذا كان مجنوناً فلا إشكال، والنصوص تدل على سقوط المؤاخذة عن الصبي والمجنون كما في حديث علي وعائشة رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) فهذا يدل على أن كلاً من المجنون والصبي غير مكلف، وأنه لو حصل منه ما يوجب الردة لم يحكم بردته وكفره.

    وقوله: (مختار):

    الاختيار ضد الإكراه، وعلى هذا يشترط أن يقول كلمة الكفر أو يقول ما يوجب الردة دون وجود إكراه، فلو أكره على أن يقول كلمة الكفر -والعياذ بالله- أو يفعل ما فيه الكفر، فإنه إذا توفرت فيه شروط الإكراه حكمنا بعذره؛ لأن الله تعالى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فنص سبحانه وتعالى على العذر بالإكراه، وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه وأمه، فإنه لما أكره على كلمة الكفر قالها.

    وذكرنا في طلاق المكره شروط الإكراه وهي: أن يهدد الإنسان بما فيه ضرر، وأن يكون هذا الضرر أعظم مما يطلب منه، من ناحية أن يحصل به العذر للشخص في نفسه، ويدخل في ذلك أهله وعرضه، وأن يغلب على ظنه أن المهدد يفعل ما هدد به، وألا يمكنه الفرار ولا الاستغاثة، وأن يكون التهديد حالاً لا مؤجلاً ولا مؤخراً، وألا يكون الإكراه على الباطن، بمعنى أن يقول كلمة الكفر في الظاهر، ولكنه يعتقد الإيمان في الباطن لقوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

    وهذه الشروط إذا توفرت حكم بكون الإنسان مكرهاً، فإذا كان مكرهاً سقطت مؤاخذته، فلو وضع عليه السلاح وقيل له: إذا لم تقل كلمة الكفر قتلتك، فحينئذٍ إن غلب على ظنه أنه يفعل ذلك، فيجوز له أن يأخذ بالرخصة.

    واختلف العلماء على قولين: هل الأفضل أن يصبر ويحتسب نفسه عند الله عز وجل، أم الأفضل أن يأخذ برخصة الله عز وجل؟

    من أهل العلم من قال: الأفضل أن يصبر، كما صبر الإمام أحمد رحمه الله برحمته الواسعة، فخلد الله ذكره في العالمين، لموقفه المشهود له في فتنة خلق القرآن، ونسي غيره، ومع أن غيره صبر، ولكن ما صبر عليه رحمه الله وعاناه كان عظيماً، فلم يأخذ بالرخصة، وجعل الله عز وجل له فيها مبوأ صدق في الدنيا، ونسأل الله أن يبوئه مبوأ صدق في الآخرة وأن يقدس روحه وأن ينور ضريحه وأن يجزيه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.

    ومن أهل العلم من يفصل بين من هو قدوة، أو ليس بقدوة، أو غلب على ظنه أن يكون لها أثر في دعوته، فهذا الأفضل أن يصبر، وهذا القول هو الأولى بالصواب إن شاء الله، فإنه لو نظر إلى الأحوال وما يترتب من حسن البلاء وحسن العاقبة؛ فإن بعض البلاء يزيد في إيمان الناس وثباتهم على الحق.

    1.   

    لا تشترط الذكورة في المرتد

    قوله: [ رجل أو امرأة ]

    يستوي في الردة الرجل والمرأة، فإذا وقعت الردة من الرجل أو المرأة؛ فإن كلاً منهما يعاقب بعقوبة المرتد، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الردة من المرأة توجب عقوبتها، وأن المرأة إذا ارتدت يقام عليها حد الردة كما يقام على الرجل.

    وخالف في هذا المسألة بعض السلف كـابن عباس رضي الله عنهما وبعض الصحابة، وهو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع، قالوا: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وسيأتي أن النص عام في قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإنه من صيغ العموم التي تدل على شمول الحكم للرجال والنساء على حد سواء.

    أقوال العلماء في حكم استتابة المرتد

    قوله: (دعي إليه ثلاثة أيام).

    أي: دعي إلى الإسلام والرجوع مدة ثلاثة أيام، وهذا ما يسمى بالاستتابة، وهي أن يطلب منه الرجوع عن هذا الأمر الموجب للكفر ثلاثة أيام، فيعرض عليه أن يتوب إلى الله ويرجع.

    وهذه الاستتابة يتفق جميع العلماء على استحبابها، وقد وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرغبها فيها كما في قصة معاذ رضي الله عنه، ودرج على ذلك العلماء والأئمة.

    ولكن السؤال: هل يجب أن يستتاب، أم أنه يجوز لولي الأمر أن يقتله فوراً؟ فلو رفع إلى القاضي وشهد الشهود أنه مرتد وبقي على ردته ولم يرجع؛ فهل يجوز للقاضي أن يقتله ابتداءً بعد ثبوت ردته؟ أو قال كلمة الكفر أمام القاضي، فأمر القاضي بقتله فوراً؛ هل يجوز له ذلك أم يجب عليه أن ينتظر ثلاثة أيام؟

    جمهور العلماء رحمهم الله على وجوب الاستتابة، وأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، وذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية، وصححها غير واحد من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول طاوس بن كيسان رحمة الله على الجميع، أن هذا على الاستحباب وليس على الحتم والإيجاب.

    واستدل الذين قالوا بالوجوب بقصة عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جاءه رجل من اليمن، فقال له: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل ارتد عن دينه إلى دين السوء -كان يهودياً ثم أسلم، ثم رجع إلى اليهودية- فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فقتلناه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً؛ لعله أن يتوب، لعله أن يرجع إلى ربه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. رواه مالك في الموطأ. فيقولون: هذا الأثر يدل على وجوب الاستتابة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك.

    واستدل الذين قالوا بعدم وجوب الاستتابة بالأدلة الصحيحة الصريحة في السنة بوجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولم يأمر باستتابته، وهذا يدل على أنه يحكم بردته، وتزول عنه عصمة الإسلام بمجرد كفره، ولو كانت الاستتابة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

    وأكد هذا قصة معاذ رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، وفيها: (أن معاذاً رضي الله عنه دخل على أبي موسى ، فوجد رجلاً مكبلاً بالحديد أو موثقاً، فقال: ما شأن الرجل؟ قالوا: إنه كان على اليهودية ثم أسلم ثم رجع إلى دينه، فقال معاذ رضي الله عنه عندها: لا أجلس حتى تقتلوه، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالها ثلاثاً- فقتل).

    قالوا: والصحابي إذا قال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، دل على أنه في حكم المرفوع؛ لأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه لم يسأل: هل استتبتموه أم لا، دل على عدم وجوب الاستتابة، والرواية الأصلية ليس فيها ذكر الاستتابة.

    لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الرجل كان قد أمهل شهراً، وقيل: عشرين يوماً، والروايات مختلفة في هذا، لكن قول معاذ رضي الله عنه: (لا أجلس حتى يقتل قضاء رسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه)، فاحتج بالنص على ظاهره دون ذكر استتابة، وهذا يدل على أنه لا تجب الاستتابة، وإنما يجوز فعلها؛ لأنها سنة عند الخليفة الراشد، ولكن هذا ليس على سبيل الحتم والإيجاب.

    ومن الأدلة لهم أيضاً: حديث ابن عباس في الصحيح المتقدم الذي استدل فيه معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب قتل المرتد دون ذكرٍ للاستتابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لقال: من بدل دينه فاقتلوه بعد ثلاث، أو اقتلوه بعد أن تستتيبوه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فدل هذا على عدم وجوب الاستتابة، وأولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى أن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة.

    قوله: [ وضيق عليه ] أي: يسجن ثم يضيق عليه حتى يرجع ويتوب إلى الله عز وجل.

    قوله: [ فإن لم يسلم قتل بالسيف ] كلهم متفقون على أنه إذا عرض عليه الإسلام بعد الثلاث ولم يقبل أنه يقتل.

    1.   

    توبة من سب الله أو رسوله

    قال المصنف رحمه الله: [ولا تقبل توبة من سب الله أو رسوله].

    هذا أحد القولين عند العلماء، وجمهور العلماء رحمهم الله على قبول توبته، وأنه إذا تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه، وهذا هو الصحيح على ظاهر النصوص التي دلت على قبول توبة الكافر: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38] وقد كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبون الله عز وجل، ويسبون الدين، وإذا قبلت توبة من سب الله عز وجل، فمن باب أولى أن تقبل توبة من سب ما دونه.

    ولكن الذين قالوا: إنه لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه فيها حقاً لآدمي، وحقاً لله عز وجل، وحق الآدمي لا نعلم هل يسامحه النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟

    وهذه الشبهة ضعيفة؛ لأننا أعطيناه الحرمة لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وقد دلت النصوص في الأصل على أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه يتوب الله عليه، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور أنه إذا تاب توبة نصوحاً أنه تقبل توبته.

    1.   

    حكم من تكررت ردته

    قال المصنف رحمه الله: [ولا من تكررت ردته].

    هذا هو الذي يعرف بالزنديق، يسلم ثم يقول كلمة الكفر، فيرتد ثم يرجع مرة ثانية، ويسلم ثم يرتد، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، والصحيح أنها تقبل توبته.

    لكن لو أن القاضي أو ولي الأمر اطلع على أنه يتلاعب وقتله فله وجه، وقد يكون ذلك أنكى فيه وأقطع لدابر أهل الفساد؛ لأنه ربما يردع غيره.

    وهذا ما يعتبر بفقه الخلاف، فنأخذ بالقول المرجوح في أحوال خاصة إذا وجد استشراء الناس وتساهلهم بحدود الله عز وجل فأراد الإمام أن يزجرهم، فله أن يأخذ بالقول الأوثق والذي فيه النصيحة، وله أن يجتهد في ذلك طلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد، وليس هناك مفسدة أعظم من الاستخفاف بالدين والشرع، فالزنديق هو الذي يكفر ويقول كلمة الكفر ثم يرجع ثم يكفر ثم يرجع، والذين يقولون: لا تقبل توبة الزنديق يقولون: قد شهد على نفسه بالكذب، وشهد على نفسه أنه يتلاعب بتوبته.

    ومن هنا أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصته مع بعض المرتدين أنه قبل توبتهم، ثم رأى رجلاً وقال: إنك كنت قد فعلت هذا عام أول ثم أمر بقتله، أي أنه تكررت ردته وتوبته مرتين، فلم يقبل منه ذلك وقتله واستحل دمه.

    وأياً ما كان فالنصوص الصريحة في أن من تاب تاب الله عليه، وأن علينا أن نأخذ بظواهر الناس، وأن نكل سرائرهم إلى الله، واستباحة دم من أظهر الإسلام أمر صعب جداً، ولذلك ينبغي الاحتياط في هذا والبقاء على الأصل، إلا أن لولي الأمر أن يجتهد في مسائل خاصة.

    قوله: [بل يقتل بكل حال]

    أي: لا تقبل منه التوبة ويقتل بكل حال، فتنفعه التوبة فيما بينه وبين الله، فلو قُتل يُقتل على الظاهر؛ لأنه ثبت كذبه، ثم لو أنه كان في المرة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صادقاً وقتل؛ فإن العلماء متفقون أن ذلك ينفعه بينه وبين الله، ولكن الإشكال أنه إذا كانت توبته على الظاهر هل لنا أن نقبل هذا الظاهر أو لا؟

    لأنه قد ثبت بالظاهر أنه تلاعب، وأنه كذب، وقصة وحشي تدل على قبول التوبة.

    1.   

    توبة المرتد

    قال المصنف رحمه الله: [وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه؛ فتوبته مع شهادتين إقراراً بالمجحود به ]

    فرق رحمه الله في التوبة إذا ارتد المرتد بالأمور التي تقدمت من الشرك وجحود الربوبية ونحو ذلك، وبين التوبة من الذنب بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فأما مطلق التوبة فإنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه إذا شهد شهادة الإسلام والتوحيد رجعت له عصمة الإسلام، ويعتبر هذا توبة ورجوعاً منه إلى الله عز وجل، ومن تاب تاب الله عليه.

    وأما إذا كان قد أنكر حرمة الزنا أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وقال: الصلاة ليست مفروضة، وليس في الإسلام صلاة، أو ليس في الإسلام زكاة، كما قال أهل الردة ونحو ذلك، فقلنا: إذا كان جاهلاً يعلَّم، وإذا كان عنده شبهة تزال، وأما إذا كان عالماً وأنكر هذا الشيء؛ فإن توبته أن يتشهد ثم يرجع عما كان يعتقده من عدم فرضية الصلاة وعدم فرضية الزكاة؛ لأن ما شرع بسببه يزول بزواله، ويبطل بزواله، فنحن حكمنا بردته بإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة، فلا نحكم بإسلامه إلا إذا أقر بهذا الذي أنكره، فلو أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يرجع عن جحوده؛ فإنه ما زال على كفره، ولا يحكم بتوبته من ردته.

    قوله: [ أو قوله أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام ]

    هذا بالنسبة للتوبة العامة، والأصل الشهادة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم السكران إذا ارتد حال سكره

    السؤال: هل السكران يحكم بردته إذا فعل أو قال ما يوجب الردة أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإن السكران لا يحكم بردته إذا قال أو فعل أثناء سكره وزوال عقله ما يوجب الردة، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] فبين سبحانه وتعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول فلا يؤاخذ بقوله.

    وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علياً رضي الله عنه كان قد أعد مهر فاطمة رضي الله عنها وجاء بشارفين وأناخهما بباب حمزة، ثم انطلق يهيئ بعض الأغراض للمهر، فشرب حمزة رضي الله عنه الخمر قبل أن تحرم، فلما شرب الخمر غنته جاريتان، فانتشى ثم قام إلى البعيرين، وجبَّ سنامهما، فجاء علي رضي الله عنه، قال: فرأيته، فهالني ما رأيت، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى له ما فعل حمزة ، فأتاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وسأله ووبخه على ما فعل، فرفع حمزة رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟

    فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع النبي صلى الله عليه وسلم القهقرى، أي: علم أنه سكران، وأنه لا يدري ما يقول، فرجع القهقرى وانصرف، ولم يأمره رضي الله عنه أن يجدد إسلامه، ولذلك قالوا: إن هذا يدل على أن السكران لا يؤاخذ بقوله، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، أعني أن السكران لا يعتد بقوله لا في ردة ولا في طلاق ولا غير ذلك؛ لأن النص دل على أنه لا يعلم ما يقول، وثانياً: عذر حمزة حال سكره.

    وهذا كما يقول العلماء في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟) يقولون: إن هذا ردة؛ لأنه استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم واستهزاء، وشراح الحديث نصوا على أن هذا اللفظ لو قاله الصاحي كان ردة، ومن هنا يجعلونه عنواناً في عذر السكران إذا قال ما يوجب الردة، وأن من تلفظ بكلمة الكفر حال السكر يعتبر معذوراً، وهذا أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم.

    إذا أسلم المرتد بعد موت مورثه وقبل قسمة تركته

    السؤال: إذا ارتد شخصٌ حكمنا أنه لا يرث من مورثه المسلم، فهل إذا أسلم بعد موت مورثه وقبل أن تقسم التركة؛ هل يكون له الحق أو لا، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:

    فبعض العلماء يقول: إنه لا يرث ما دام أن الميت توفي وهو على الكفر والردة، فحينئذٍ انقطع حقه ولا حق له في التركة، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وقال به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن المرتد لا يرث حتى ولو أسلم قبل قسمة التركة.

    أما إذا أسلم قبل موت مورثه فإنه يرثه بلا خلاف، لكن الإشكال إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، فتبين أن له ثلاث حالات:

    أولاً: أن يسلم قبل الموت، فهذا يرث إجماعاً؛ لأنه مسلم.

    ثانياً: أن يسلم بعد الموت وبعد قسمة التركة فلا يرث إجماعاً؛ لأنه انتهت العلاقة، وانتهى السبب الموجب.

    ثالثاً: إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، ففيه خلاف: فمن أهل العلم من يقول: العبرة بالموت، لأن الإرث يثبت بموته، وهذا هو الصحيح، والأدلة دالة على ذلك؛ لأن الله تعالى نص على ذلك في كتابه، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإرث بمجرد الموت، وعلى هذا تكون العبرة بحاله عند موت الشخص، فإذا كان مسلماً حال موت المورث فهو يرث وإلا فلا.

    وأما الذين قالوا: إنه قبل القسمة يرث لو أسلم بعد الموت، فاستدلوا بقضاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: بحديث قسم الجاهلية وقسم الإسلام، وأنه إذا أسلم فقد أدرك القسمة، والعبرة بالقسمة، ومن هنا قالوا: إنه إذا أسلم قبل قسمة التركة فإنه يرث، والصحيح أنه لا يرث ما دام أنه توفي مورثه وهو على الكفر، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله.

    وصورة المسألة لو أن رجلاً له ولد ارتد، ثم توفي هذا الرجل يوم الإثنين ولم تقسم تركته، فرجع الولد وتاب عن ردته يوم الثلاثاء وقسمت التركة يوم الأربعاء، فحينئذٍ يرد الخلاف، لكن لو قسمت الثلاثاء ورجع الولد عن ردته الأربعاء لم يرث بالإجماع، فهذه المسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، وهي من مسائل الإرث.

    حكم زوجة المرتد

    السؤال: إذا تزوج الرجل امرأة مسلمة وهو مسلم ثم ارتد، فما حكم النكاح بينهما؟ وهل يجوز له أن يطأها في العدة إذا فسخ النكاح بينهما أثابكم الله؟

    الجواب: يجب عليه فراقها، فيفرق بين المرتد والمسلمة، ولا يجوز للمسلمة أن تمكن زوجها المرتد من نفسها، ويفسخ العقد بينهما قولاً واحداً بين العلماء رحمهم الله.

    وهناك تفصيل في مسألة العدة، فإذا كانت في عدتها وحصل وطأ فإنه في هذه الحالة يكون وطأً لأجنبية، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكن نفسها منه، ومن المؤسف أن تسمع المرأة زوجها يسب الدين ويسب الرب وتعاشره، وتكون معاشرة على الزنا إذا ارتد والعياذ بالله، وينبغي عليه أن يجدد إسلامه ويتوب، ثم يجدد عقده، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له وأن ينبه عليه الناس، حتى يعرفوا ما معنى الردة.

    هم يعرفون أن الردة أمر عظيم وليس بالأمر السهل، ولكن المرأة تسمع زوجها كلما غضب ينتهك حدود الله عز وجل ويكفر بالإسلام، ثم بعد ذلك كأن شيئاً لم يكن، فهذا أمر في غاية الخطورة، ولذلك -نسأل السلامة والعافية- تعيش معه في الحرام، ولا يجوز له أن يطأها بعد ردته، إلا بعد تجديد العقد ورجوعه عليها على الصفة المعتبرة شرعاً، والله تعالى أعلم.

    أسباب محق بركة العلم

    السؤال: ما أسباب محق بركة العلم أثابكم الله؟

    الجواب: روح العلم بركته، وإذا أراد الله عز وجل بعبده خيراً بارك له في علمه، وتظهر بركة العلم إذا استجمع الإنسان أسباب البركة، وأول سبب وأول علامة على أن الإنسان أنه سيبارك له في علمه أن يجد توفيق الله له بالإخلاص، فإذا وجد أنه يذهب إلى حلق العلماء مخلصاً لوجه الله عز وجل ولا يريد شيئاً سوى ذلك، وأنه يريد به وجه الله والدار الآخرة، فهو موفق، ومن كان كذلك كان سعيه مشكوراً، والله عز وجل شكر سعيه فيضع له البركة في علمه.

    وكم من أناسٍ تعلموا القليل بإخلاص فرزقهم الله السداد والخلاص وفتح عليهم وبارك في أقوالهم، وبارك في علومهم، ونفع بهم الإسلام وأهله!

    الأمر الثاني: من الدلائل التي تدل على بركة العلم أن يحرص الإنسان على أخذ هذا العلم عن أهله، فكل علم ورث من العلماء العاملين فهو مبارك؛ لأن السلسلة متصلة، وكما بورك للعلماء السالفين ليباركن الله للعلماء اللاحقين ما داموا على نهجهم، وساروا على طريقهم.

    ومما يبارك الله به للعالم في علمه تقواه لله عز وجل؛ لأن التقوى سبب البركة، ومعنى ذلك: أن يكون علمه مشهوداً بالطاعات وبالأعمال الصالحة، فكل من تعلم العلم فوجد أن العلم يهذبه في أخلاقه، ويقومه في سلوكه، وأنه بهذا العلم يجد سريرة نقية تقية سوية ترضي الله عز وجل، ويجد سيرة محمودة عند الله وعند عباده، يحرص فيها على الفضائل واكتساب الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الفاضلة والتواضع، وحب الخير للمسلمين، وصفاء القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن الحسد والبغضاء، وانتقاص الناس، واحتقارهم، والابتعاد عن الغيبة والنميمة، والسب والشتم؛ فإن الله لا يبارك له في جميع أمره وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].

    فطالب العلم هو الذي طلب العلم وعمل به، وظهر العلم في قوله وعمله، ففتح الله له أبواب البركات من السماء والأرض، فوجدت البركة في قوله وعمله ونفعه للمسلمين، واقرأ سيرة السلف الصالح كيف كانوا مباركين، فتجدهم إذا علموا نفع الله بعلمهم.

    الناس لهم آذان صاغية وقلوب واعية، وتجد من دلائل البركة أنه إذا جلس يعلم أبناء المسلمين شغلهم بما ينفع، وشغلهم بما يفيد، وشغلهم بما يعود عليهم بالخير؛ ولذلك تجد العلماء والأئمة الماضين يكررون في كتبهم أموراً واضحة، لكنها عظيمة البركة والخير، حتى أصبحت دعائم الإسلام وشرائع الإسلام من البديهيات عند المسلمين، ولكن تجد المتأخرين، وتجد بعض طلبة العلم محقت البركة من علمهم؛ لأنه إنما يدخل يريد شيئاً معيناً، وكانوا يقولون: من أسباب البركة في العلم أن الإنسان يحرص على تعلم صغار العلم وضبطه قبل كباره، والآن انظر إلى بعض طلبة العلم حينما ندخل في باب من أبواب العبادة، فيمسك الأمور الواضحة ويكررها ثم يكررها، ويستمع ويصغي ولا يناقش حتى يضبط الأصل، وبمجرد أن ينتهي من حلقته ومجلسه يقوم وعنده علم وعنده فائدة.

    لكن بمجرد أن يأتي فينظر إلى حلق العلم ويستمع إلى العلماء، فإذا وجد مسائل خلافية ومناقشات وردود، أحب وقال: هذا العلم، وإذا وجد غرائب المسائل حضر، وقال: هذا والله العلم، هذا والله الدرس، في الغرائب والردود والمناقشات، ثم من مسألة إلى مسألة ومن مناقشة إلى مناقشة، وإذا جلست معه بعد الشهر والشهرين تجده قد ضاع وتاه، ولا يمسك من ذلك إلا القليل.

    فعلى الإنسان أن يتعلم الأصول، هذه الأصول التي بدأ طالب العلم يحتقر نفسه أن يتعلمها، هي عزك هي كرامتك، إن لم تعتز بدينك وتبدأ بالألف قبل الباء، وبالباء قبل التاء، وتتهجى هذا العلم وتأخذه حرفاً حرفاً، وتضبطه مسألة مسألة حتى البديهيات، وتتواضع مع هذا العلم؛ فلن تفلح في العلم، ولا تعظم نفسك وتقول: كيف أجلس وأكرر مسائل واضحة!

    وانظر إلى دواوين السلف الذين كرروا الأمور البديهية، وهل العلم إلا تكرار المعلوم؛ لأن هذا التكرار له أثر على النفسية وعلى التطبيق، كم مرة تكرر الفاتحة في اليوم في صلاتك وتتقرب إلى ربك، وكم تسجد وكم تركع وأنت تكرر الصلاة، كل هذا لكي تصبح عقيدتك راسخة لا تقبل التحويل، ولذلك ما عرف في أهل دين ثبات مثلما عرف للمسلمين، وقل أن يرجع أحد من أهل الإسلام عنه إلى دين آخر بفضل الله عز وجل ثم بفضل الأمور العديدة، ومنها: تكرار هذه الأمور وضبطها.

    وانظر إلى طلاب العلم الذين أخذوا صغار المسائل، وكلما جلس في مجلس يلخص المسائل الصغيرة ويضبطها ويقرأها المرة تلو المرة، ويحرص على تكرارها، فيجد البركة والخير، فلا ينتهي بعد شهر أو شهرين إلا وقد حفظ ثلاثة أو أربعة أبواب؛ لأن عنده أموراً هي الأساس ثم بعد ذلك يبني عليها، أما الولع بالخلافات والردود، وأن يجلس طالب العلم في المجلس ويقرأ على الشيخ الكتاب فيقول له الشيخ: هذا كذا، فيقول: لماذا كذا؟ ولماذا لا يجعلونه كذا؟ ولماذا يقولون كذا؟ ولماذا يفعلون كذا؟ حتى يصبح معلماً للعلماء، فبدلاً من أن يأتي متعلماً إذا به قد صار معلماً!

    قال أحد الحكماء لطالب عنده أكثر من مناقشته: يا بني ما علمت أن مجلسك هنا. أي: كان المفروض أنك تجلس مكاني، لا أن أجلس أنا هذا المكان، بسبب كثرة الاعتراضات.

    فكثير من العلم نزعت بركته بسبب كثرة الاعتراضات، وقد كان في الماضي إذا أفتى العالم وجد الآذان صاغية، والقلوب واعية، والناس مستجيبة، وإذا بالبركة والخير والنفع يحل للناس، ولكن اليوم ما إن يفتي واحد فتوى إلا وخرجت مئات الفتاوى، ثم وجدت هذا يعلق على هذا، وهذا يرد على هذا، وعندها محقت بركة العلم وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33] فالذي يريد العلم الصافي عليه أن يحرص على أخذ صغار العلم قبل كباره، وهو علم الربانيين، وعليه ألا يتعاظم نفسه أمام العلم، فهذا مما يزيد بركة العلم.

    وجماع الخير كله أن يسأل العبد ربه، وأن يقول: ربي إني أسألك علماً نافعاً؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه علماً نافعاً، فإذا كان العلم نافعاً من الله عز وجل، فهو المبارك.

    نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل علمنا حجة لنا لا حجة علينا.. ألهمنا الصواب، وأحسن لنا الخاتمة والمآب، وارفع بالعلم درجاتنا، وكفر به خطيئاتنا، وآمن به روعاتنا، وأصلح به أمورنا، يا حي يا قيوم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959802