إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب حد قطاع الطريق [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله تعالى حد الحرابة زجراً لمن تسول له نفسه قطع الطريق وترويع الآمنين، أو الاعتداء على حقوق الآخرين، والأصل في هذا الحد آيتا المائدة، ولكن العقوبة تختلف باختلاف الفعل الذي قام به المحاربون، وفق ما بينه الفقهاء وأهل العلم.

    1.   

    من شروط تطبيق حد قطع الطريق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئاً].

    تقدم بيان بعض الضوابط والمقدمات المتعلقة بحد الحرابة وقطع الطريق، وقد شرع المصنف رحمه الله في هذه العبارة في بيان العقوبة الشرعية المترتبة على جريمة قطع الطريق وإخافة السبيل. فبين المصنف رحمه الله أنه إذا أقدم المحاربون وقطاع الطريق على القتل وأخذ المال؛ فإن العقوبة تجمع أمرين:

    الأمر الأول: أن يقتلوا.

    الأمر الثاني: أن يصلبوا.

    يستوي المنفذ والمخطط من المحاربين في استحقاق العقوبة

    فأما بالنسبة للقتل، فبين المصنف رحمه الله يقتلوا سواء حصلت المكافأة بينهم وبين المقتول أو لم تحصل، وهذه العقوبة أشار إليها الله عز وجل بقوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة:33] فجمع لهم بين القتل والصلب، وقد جاء في أثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، أن المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يقتلون ويصلبون، وظاهر قوله أنهم يقتلون يستوي فيه المباشر للقتل والمعين عليه.

    وهذه المسألة لها صور عديدة، وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن من أشهرها قضية الحماية، وهي أن يكون قطاع الطريق على مجموعتين: مجموعة تهدد بالسلاح، ومجموعة تباشر الجريمة، فالظاهر من الأصول الشرعية والمختار من أقوال العلماء رحمهم الله أنه إذا قتل واحدٌ منهم فإنهم يستحقون القتل جميعاً، ويستوي في ذلك المباشر للقتل أو المخطط له، أو المهدد للمقتول، أو من ربطه، أو عقره، أو أغلق عليه الباب، فكل هؤلاء يجمعون في حكمٍ واحد؛ لأن الجريمة تمت بهذه الوسائل، فيستوي في ذلك المباشر والمتسبب والمعين بالرأي.

    ومن هنا فإن في زماننا قد توجد بعض الوسائل التي تحتاج إلى تفكير وعمل وجهد يُتوصل من خلالها إلى الجريمة، كما في بعض الأجهزة التي تحتاج إلى فك شفراتها السرية، أو بعض المخابئ أو بعض الأشياء التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة، فهذا الخبير لو أخذه المحاربون وتواطأ معهم على الجريمة أو أعانهم على فك هذه الأمور السرية أو الشفر، ففتح أسرارها وكشف لهم طريقة الدخول، وبين لهم كيفية حماية أنفسهم من الضرر، وكيف يستطيعون أن يصلوا إلى جريمتهم؛ فهو شريكٌ لهم، بل هو رأس الداء والبلاء، فإذا دخلوا بواسطة هذا التخطيط وهذه المعونة فقتلوا ولو واحداً فقط، فإنهم يقتلون جميعاً ويقتل هذا المدبر؛ لأنه لولا الله ثم تدبيره ومعونته على ذلك بالرأي الذي توصل من خلاله إلى الجريمة ما وقع شيء.

    ومن هنا لا يشترط في الحكم بالقتل أن يكونوا مباشرين للقتل، بل يعطى الحكم للجميع، ووقوع القتل من البعض كوقوعه من الكل؛ لأن كل واحد منهم راضٍ بالقتل، وكونه يشهر السلاح وغيره يباشر القتل يدل على أنه راضٍ بهذا الفعل؛ لأن الإعانة بإشهار السلاح هي التي تعقر المقتول، وتمنعه من أخذ الحيلة وطلب الوسيلة للنجاة والفرار، فلذلك يستوي من يشارك بالعمل، ومن يشارك بالرأي، ومن يشارك بالحماية.

    يقولون: إذا اشتركوا فقد يفعلون الجريمة كلهم، فأحدهم يقتل، والثاني يسرق، والثالث يضرب، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم الفاعل وهو القاتل فيقتلون جميعاً.

    ومن هنا لا يشترط في ثبوت القتل للجميع أن يباشر الجميع القتل، فالمعونة والحماية والتدبير والتخطيط والتهديد وإشهار السلاح، كل هؤلاء يعتبرون في حكم القاتل.

    لا تشترط المكافأة لإقامة حد الحرابة

    كذلك يستوي أن يكون قتلهم للمكافئ أو غير المكافئ، ومثل له المصنف رحمه الله بقتل الوالد لولده، فلو كان في المحاربين أب، واشترك مع غيره في قتل ولده، فحينئذٍ يستوي أن يكون مكافئاً أو غير مكافئ؛ لأن الأصل أن الوالد لا يقتل بولده، وكذلك أيضاً لو كان المقتول عبداً والقاتل حراً.

    وفرق بعض العلماء في هذه المسألة، فجعل الحكم أخف إذا كان غير مكافئ، وجعله أشد إذا كان مكافئاً، والأصل يقتضي التسوية.

    وقوله: [ومن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي] أي: كالولد إذا قتله أبوه، والعبد إذا قتله الحر، والذمي إذا قتله المسلم، لأن قتل الذمي من أشد الجرائم والعياذ بالله، ومن تتبع السنة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد الوعيد الشديد على التعرض لمن له ذمة الله ورسوله، وأنه إذا دخل بلاد المسلمين في ذمة المسلم أو ذمة إمام المسلمين أو من يقوم مقامه، فلا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخفر ذمة المسلمين، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذمة المسلمين واحدة، كما قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) أي: أدنى شخص في المسلمين؛ فلو دخل الكافر في ذمته فكأنه دخل في ذمة المسلمين جميعاً، وورد الوعيد الشديد من اشتداد غضب الله عز وجل على من خفر ذمة الله ورسوله والعياذ بالله.

    فالشاهد من هذا أنه لو اعتدى على مال ذمي، فإن الذمي إذا دخل بلاد المسلمين وله ذمة المسلمين فدمه وماله وعرضه حرام، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وكما تقدم معنا في عقد الذمة، حيث بينا كيف كان حال السلف الصالح من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم في الوفاء بالذمم، وما هو منهج الشريعة في مسألة إعطاء الكافر الذمة، فهذه الذمة لا تخفر، فلو أخفرت فإن هذا الذمي له حرمة، والاعتداء عليه قد يوجب أن يقتل المسلم به من باب الحرابة، لا من باب المكافأة.

    أي أنه إذا قتل الحر العبد فلا نسوي بين الحر والعبد لأن الشريعة فرقت في ذلك، كما في أسلوب الحصر والقصر في القرآن في قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] أي: لا تقتلوا الحر إلا بالحر، لكن هذا القتل ليس من باب المكافأة، وإنما هو من باب آخر، وهو أن قتل الذمي يعتبر حرابة للمسلمين، ومن حارب المسلمين فإنه يقتل، وهذا المعنى تسقط فيه المكافأة، بدليل أننا ذكرنا أن المقتول لو كان له أولياء، فقالوا: سامحنا وتنازلنا لوجب القتل، وهذا شبه إجماع بين السلف الصالح رحمهم الله؛ لأن القتل واجب لحق الله؛ لأن القضية قضية إشهار سلاح ومحاربة المسلمين، بغض النظر عن كونهم قتلوا مكافئاً أو غير مكافئ، فهذا لا يلتفت إليه، فالقضية ليست قضية مساواة أو قصاص؛ لأن القصاص له ضوابطه وشروطه.

    القضية هنا مبنية على محاربة جماعة المسلمين, ومن هنا ننظر إلى الأصل الذي قرره العلماء في الحرابة، وهو أن الحرابة لا تكون إلا إذا أشهروا السلاح على المسلمين، فبإشهار السلاح يكونون قد خرجوا على جماعة المسلمين، ومن هنا يستوي أن يقتلوا مكافئاً أو غير مكافئ، فالعقوبة من باب آخر، وليست من باب المؤاخذة بالجريمة.

    1.   

    القتل والصلب إذا اعتدوا على المال وقتلوا النفس

    ومن هنا نبين أن العقوبة بالقتل والصلب والقطع لا يشترط فيها بعض الشروط المشترطة في القتل، أو السرقة ونحو ذلك.

    وقد بين المصنف رحمه الله أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالعقوبة أن يقتلوا ويصلبوا، والقتل في أصح القولين أن تضرب أعناق المحاربين، وذهب بعض العلماء إلى أن الصلب يكون قبل القتل، بأن يصلبوا ثم يطعنوا بالحربة وهم مصلوبون، والصحيح أن يقتلوا ثم يصلبوا، وأن القتل بعد الصلب فيه مثلة وتعذيب.

    فأما صلبهم فبأن يربط المقتول على خشبة يقال لها: صلب، لأنها على شكل علامة الصليب توضع من وراء يديه، وهذه الخشبة المعترضة تربط فيها يداه، وأما القائمة فيربط فيها جسده على وجه لا تسقط به، ثم ترفع الخشبة بعد ربطه وإحكامه عليها، وتوضع في مكان وتثبت، فيصلب بعد قتله.

    وقد اختار بعض السلف أنه يصلب ثم يقتل، وراعوا في ذلك السنة، وهي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة)، وقد قال في الحديث الصحيح: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) فهذا أصل في الشريعة؛ ولأن القصاص يكون ضربة بالسيف وهذا أرفق، فبذلك يعتبر هذا هو الأصل.

    وذهب بعض العلماء إلى أنه يصلب ثم يقتل، وقد استدل الذين قالوا: إنه يصلب ثم يقتل، فقالوا: إن الصلب عقوبة، والعقوبة تكون للحي لا للميت، ومن هنا نصلبه حياً ثم نقتله بعد الصلب، فلا بد أن يمس جسده الصلب، ثم بعد ذلك يقتل، أما إذا قتل ثم صلب فالصلب لا معنى له. وهذا ضعيف؛ لأن الصلب قد يكون فيه تعذيب لنفس المصلوب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً) أي في الإثم، وبين أن الميت يتأذى، وأثبت هذا حتى في قبره، ولذلك لا يمنع أنه إذا صلب يعذب، وأن هذا لا نعرفه نحن ولا نطلع عليه، فأمور الآخرة غيبية.

    ثانياً: أن الصلب لا يمنع أن الشريعة أرادت القتل لأنه قتل، وأرادت الصلب زجراً لغيره، ومن هنا فقولهم: إن الصلب لا معنى له بعد القتل ليس صحيحاً؛ لأن الحرابة فيها معنيان كسائر الحدود: أنها تعاقب الشخص وتطهره من إثمه وجرمه، وكذلك أيضاً تزجر غيره، ولذلك قال الله تعالى في الحدود الشرعية وفي العقوبات: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، وقال سبحانه وتعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] وكل هذا من أجل زجر المجتمع.

    ومن هنا فقولهم: إنه لا بد أن يكون الصلب عقوبة للمصلوب ليس بوارد من كل وجه، وعليه فالصحيح أنه يقتل ثم يصلب.

    وهذا الصلب حكمه في الشرع واجب، بمعنى أنه متصل بالعقوبة، وأنه يجب على السلطان والقاضي إذا نفذ حد الحرابة بالمحاربين وتم الشرط المعتبر للجمع بين العقوبتين أنه يقتلهم ثم يصلبهم، فهو واجب، وهو حق من حقوق الله عز وجل؛ لنص الآية الكريمة عليه.

    مدة صلب المحاربين

    وقد اختلف العلماء في الصلب على وجهين:

    الوجه الأول: أنه غير محدد ولا مقدر.

    الوجه الثاني: أنه محددٌ مقدر.

    فالذين قالوا: إنه غير محدد، قالوا: يصلب حتى يشتهر أمره، وحينئذٍ لا يحدون بالزمان ولا بالصفة بأن يتغير أو يخشى تغيره أو نحو ذلك، بل يقولون: يجعل مصلوباً في داخل المدينة، وإذا كان الصلب في مكان الجريمة أبلغ في زجر الناس وتخويفهم، فيوضع في نفس مكان الجريمة، فالذي يراه القاضي أو الإمام أصلح وأمكن في زجر الناس وتخويفهم من حدود الله عز وجل والوقوع في محارمه فليفعله، فقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: يصلب حتى يشتهر أمره، ولم يحد في ذلك حداً، وهو قول بعض السلف.

    وقال بعض العلماء: يصلب ثلاثة أيام، كما اختاره الشافعي وطائفة من السلف رحمهم الله.

    والذين قالوا: حتى يشتهر أمره؛ قد يحصل اشتهار الأمر بنصف النهار، بأن يجتمع الناس كما في القرى الصغيرة وفي الأماكن المحدودة ويطلعوا على عقوبته ويتعظوا ويعتبروا ويتسامع الناس بذلك ويروه، فحينئذٍ إذا رأى ذلك كافياً أنزله وأعطي لأهله لكي يغسلوه ويكفنوه ويصلى عليه، فالمحارب المسلم لا زال له حق الإسلام، فبعد قتله وصلبه يعطى لأهله فيقومون بحقه من تغسيل وتكفينٍ وصلاة عليه.

    والذين قالوا: إنه يصلب ثلاثة أيام: أجيب عنهم ورد قولهم بأن هذا التوقيت ينبغي أن يكون فيه نص من الشرع يدل عليه، وليس هناك دليل على أن الصلب لابد وأن يكون ثلاثة أيام، والأزمنة تختلف، ولذلك قد يصلب لمدة يومين وينتن، ويؤذي الناس برائحته، فيكون فيه أذية للأحياء، مع أن المقصود قد يتحقق بأقل من ثلاثة أيام. ومن هنا فإن التوقيت بثلاثة أيام ضعيف، والصحيح ما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله أن الصلب يكون حتى يشتهر أمره على الوجه الذي يردع الناس ويزجرهم، وهذا هو المقصود الشرعي من هذه العقوبة.

    لا يشترط في الحرابة لتطبيق العقوبة بلوغ المال نصاب السرقة

    بين المصنف رحمه الله أن من قتل وأخذ المال قد اختلف العلماء فيه على قولين:

    فمنهم من قال: يشترط أن يبلغ المال حد النصاب، وقد تقدم معنا بيان حد النصاب، والدليل الشرعي على تحديده وخلاف العلماء رحمهم الله.

    ومن أهل العلم من قال: إن هذا المال الذي يأخذه المحارب ويستوجب قتله أو قطع يده ورجله من خلاف -كما سيأتي- لا يشترط فيه أن يكون قد بلغ حد النصاب في السرقة، وهذا القول هو الصحيح؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى حد للسرقة نصاباً، وفي الحرابة لم يثبت في الكتاب ولا السنة تحديد للقطع فيها بالنصاب.

    فلو قال قائل: إننا نلحق هذا بهذا. قلنا: لا يصح ذلك، فإننا وجدنا أن عقوبة الحرابة جمعت بين قطعين: قطع اليد والرجل من خلاف، وهذا لا يكون في السرقة إلا بجريمة مكررة -أي: مرتين- فدل على أن مقصود الشرع تعظيم الجناية، وحينئذٍ فكوننا نقيسها على السرقة ليس بوارد؛ لأنها جاءت فيها عقوبة السرقة مضاعفة مرتين، فإذا قالوا بالنصاب فيلزمهم أن يقولوا: يكون النصاب مضاعفاً؛ لأنه قطع لليد والرجل من خلاف، ومن المعلوم أن السارق تقطع يده، فقطع العضوين لا يكون إلا مكرراً إلا على القول الذي تقدم أن بعض العلماء يختارون أن السارق إذا تكررت سرقته بد قطع يده أنها تقطع رجله.

    والشاهد من هذا أن القول بالتوقيت ضعيف، والصحيح أنه لا يحد في قطعه، وبناءً عليه فلو هجمت عصابة مسلحة على محل تجاري في الاستراحات أو في البراري على القول بأن الحرابة تكون خارج المدن، أو هجموا داخل المدن عياناً أمام الناس فأشهروا السلاح، وجاء واحد منهم وأخذ من الصندوق أو أخذ من الرفوف شيئاً لا يساوي النصاب، حتى لو أخذ علبة عصير لا تعادل النصاب وشربه واستباحه أو أخذه معه، فإنه في هذه الحالة يكون قد تحقق المقصود من الاعتداء على المال، وهذا من أبلغ ما يكون، أي أنه إذا نظر إلى حد الحرابة وجد أن قضية التهديد بالسلاح مؤثرة جداً في إثبات جريمة الحرابة، حتى يوصف بكونهم قد حاربوا الله ورسوله.

    ومن هنا نجد طائفة من العلماء اشترطوا أن يكون من المحاربين إشهار للسلاح، فمحور الجريمة يعود على الخروج والعصيان الظاهر، وحينئذٍ يستوي أن يكون ما أخذوا من المال يساوي النصاب أو لا يساويه، لأننا ما جئنا هنا لنطبق حد السرقة حتى نشترط ما يشترط في السرقة، ولذلك لم نشترط الحرز، فلماذا أسقطنا شرط الحرز؟ ومن المعلوم أن السرقة تكون خفية والحرابة تكون علانية، فتبين أن هذه جريمة وتلك جريمة أخرى مختلفة عنها.

    وبما أن جريمة الحرابة علانية فإن فيها تحدياً عظيماً للمسلمين بخلاف جريمة السرقة فهي خفية، وفيها استتار ونوع من الرعاية للحرمة والخوف والهيبة، لكن أن تكون عياناً بياناً تحت وطأة السلاح أمام الناس فإن هذا شيء آخر، والحرمة فيها أشد، فينبغي أن تكون العقوبة أبلغ، ومن هنا لا يشترط أن يكون المال الذي يأخذونه قد بلغ النصاب، وأن العبرة في اعتدائهم على المال.

    إذا ثبت هذا فحينئذٍ يستوي أن يأخذوا أو يتلفوا، فالعصابات المسلحة لو أنها دخلت بيوت الناس فأتلفت شيئاً من المال أثناء دخولهم كأن كسروا مثلاً زجاجات المحلات، وقتلوا ولو شخصاً واحداً، ثبت القتل وثبت الاعتداء على المال، وحينئذٍ يقتلون ويصلبون.

    القتل والصلب هو حد من اعتدى على المال وقتل النفس

    أعلى ما يكون في حد الحرابة أن يجمع بين القتل والتصليب وبعض العلماء فرقوا فقالوا: لا يجمع بين القتل والصلب إلا إذا اجتمع الاعتداء على النفس والاعتداء على المال، ثم فصلوا في الاعتداء على المال، فقالوا: لا نأمر بصلبهم بعد القتل بناءً على اعتدائهم على المال إلا إذا كان السبب الباعث لهجومهم واعتدائهم إرادة وطلب المال، وعلى هذا القول يفرق بين القتل من أجل أخذ المال، وبين القتل دون قصد أخذ المال.

    ففي الصور التي يجمع فيها بين العقوبتين: أن يأتي إلى محل تجاري أو إلى بنك ويهجم عليه فيقتل الحارس أو يقتل أي شخص ممن هم موجودون ثم يأخذ المال، فحينئذٍ يتبين أن الجريمة من أجل أخذ المال، وأنهم قتلوا من أجل الوصول إلى المال، وفي هذا الوجه يجتمع العلماء على أنه يقتل ويصلب.

    الصورة الثانية: وهي محل الخلاف، وذلك أن يكون مقصودهم القتل، مثل أن يقع بين العصابة وبين شخص آخر عداوة ويريدون قتله، فيأتون إليه في منزله أو في عمله ويدخلون تحت وطأة السلاح فيقتلونه ثم يأخذون ماله، ففي هذه الحالة لم يكن أخذ المال مقصوداً، وإنما جاء تبعاً لجريمة القتل، وعلى القول الذي يشترط أن يكون القتل من أجل أخذ المال، يقولون: لا يصلبون، وإنما يقتلون.

    والصحيح أننا نقول: إنه يجب صلبهم سواء قتلوا من أجل أخذ المال، أو قتلوا بدون قصدٍ وأخذوا المال ولم يكن قصدهم من القتل أخذ المال وإنما إرعاب الناس، أو العداوة أو الأذية ونحو ذلك.

    وقوله: [ وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر ] القتل وأخذ المال جريمتان، ويستوي أن تكون من الجميع أو من البعض.

    فمن الجميع مثلاً: ثلاثة أشخاص تعرضوا بسلاحهم لرجل ومعه زوجته وأخته، وكل واحد منهم قتل واحداً وأخذ المال الذي معه، حينئذٍ كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل وآخذ للمال، ولا إشكال في هذه الصورة أن القتل يكون من الجميع وأخذ المال من الجميع.

    أما من البعض: فمثلاً: جاءت عصابة أو جاء قطاع طريق وهجموا على قرية أو مدينة، فدخلوا محلاً تجارياً، فأشهر أحدهم السلاح على من بداخل المحل، وقام الآخر بطعن شخص تعرض له، فقتله، وقام الثالث بجمع الأموال الموجودة في الخزنة.

    إذاً: أحدهم هدد وهو الذي رفع السلاح، والثاني باشر جريمة القتل، والثالث باشر جريمة السرقة، وفي هذه الحالة قلنا: لا يشترط، وهناك تفصيل عند بعض العلماء، ولكن الصحيح هو مذهب الجمهور أنه لا يشترط أن يكون الجميع قتلة، ولا يشترط أن يكون الجميع أخذوا المال، ولا يشترط أن يكون الجميع هم الذين يمارسون العمل، فالكل حكمهم واحد: أن يقتلوا ويصلبوا، هذا الذي نختاره، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى.

    1.   

    حكم المحارب إذا قتل ولم يأخذ المال

    وقوله: [ وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ] هذه الدرجة الثانية من العقوبة، وهي القتل دون الصلب، وفيها أثر ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) ففرق بين أن يكونوا قد اعتدوا على المال مع القتل، وبين كونهم قتلوا فقط، ومن هنا اختار الإمام أحمد وأصحابه وهو مذهب بعض العلماء أيضاً، أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال أنهم يقتلون ولا يصلبون، وهذه الصورة كثيراً ما تقع في حالات البغي والاستكبار، وهي العصابات التي تريد إثبات عدوانها على المجتمع بتخويف المجتمع وإرهابه، وليس لها مطمع بالمال أكثر، وإنما تريد زعزعة أمن الناس، وإقلاقهم وإشعارهم بأنهم أهل قوة وشوكة وغلبة، ويقع هذا من العصابات في العمران والصحاري.

    فالعصابة حينما تقدم على القتل المجرد دون أخذٍ للمال فهذا غالباً ما يكون من أشد الأذية والإضرار بالناس، لأنهم يريدون إرعاب الناس، ومن هنا قال العلماء: إن من تأمل حد الحرابة وجد أنه يضر الناس في أعظم مصالحهم بعد الدين، وهو عصب حياتهم وهي التجارة، لأن هذا النوع من الجرائم كان مؤثراً تأثيراً شديداً في أمن السبل، وأمن السبل لا يراد فيه غالباً إلا انتقال الناس؛ لأن السفر أكثر ما يقع للتجارة، وابتغاء فضل الله عز وجل، ومن هنا قال بعض الأئمة: إن الله عز وجل رحم عباده بالتجارة، وبين أن التجارة ابتغاء لفضل الله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]، وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وقال:فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] فجعل المال من رزقه وعطائه لعباده وخلقه، فإذا وقعت الحرابة قطعت سبل الناس، وحينئذٍ تجد بعض القرى قد يموت فيها الناس ويهلكون، ولا يستطيعون أن يتوصلوا إلى طعام، ولا دواء ولا كساء؛ لأن التاجر لا يستطيع أن يخاطر بنفسه ولا بروحه.

    وهذه هي الميزة التي ينبغي لكل من يدرس الفقه الإسلامي خاصة فقه الجنايات أن لا ينظر إلى العقوبة مجردة، وإنما ينظر إلى الجريمة التي شرعت من أجلها العقوبة بجميع صورها، وينظر إلى آثارها، فأكثر ما تأتي العقوبة مراعية للأثر المترتب على الجريمة، حتى إنك لو تأملت شيئاً قليلاً في السرقة فقط، لو تأمل الإنسان العقوبة مجردة عن أسبابها قد يزيغ رأيه والعياذ بالله، ويعزب رشده، كيف تقطع اليد من أجل مبلغ من المال والنفس والروح أعظم، وكيف يقتلون هنا ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، من أجل مال يسير، خاصة إذا كان دون النصاب.

    لكن إذا نظرت إلى أن الشخص الواحد الذي يحمل سلاحه في العراء وفي الصحراء يهدد أمة، لا قافلة أو شخصاً أو شخصين.

    وأيضاً: فإنه يعين غيره أن يسلك مسلكه، فلو سكت عنه الناس وسكتت عنه الشريعة ولم تعاقبه، لفتحت باب الإجرام والمجرمين، فينظر الإنسان للآثار، ولذلك فإن الذين يشهرون بالإسلام ويرفعون عقيرتهم بأذية المسلمين في باب الحدود والجنايات كلهم لا يعقلون؛ لأن الذي عنده عقل ينظر إلى الجريمة من جميع الجوانب، وهؤلاء ينظرون يقولون: كيف يقتل وكيف يصلب! هذا شيء بشع، أن يؤتى بالشخص ويعلق مصلوباً أمام الناس، فينظرون إلى الجاني ويرحمونه، ولا ينظرون إلى الأمم التي تخوف في أموالها ودمائها وأعراضها ومصالحها، وكيف يضرب في عصب الحياة، ليس على سبيل القرية أو المدينة، بل قد يكون ذلك على سبيل الأمصار والأقطار، ومن هنا ففي العقوبة التي وردت في الشريعة في حد الحرابة ينبغي أن ننظر إلى الآثار المترتبة على الجريمة كاملة، ولا ننظر إلى مجرد شخص يأتي ويعتدي فقط، أو: هل المال بلغ النصاب أو لم يبلغ النصاب؟ أو كيف نعاقب بهذه العقوبة الشديدة على شيء تافه؟

    فلو أنه أخذ مالاً يسيراً أو كسر زجاجاً فإننا نعتبره معتدياً على المال ونستبيح قطع يده ورجله من خلاف.

    وعلى هذا فإننا نقول: إن من اعتدى على الأنفس ولم يعتدِ على المال فإنه يقتل ولا يصلب، وهذا هو الذي يدل عليه أثر حبر الأمة وترجمان القرآن، وهو الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

    1.   

    جناية المحاربين على أطراف بدن الإنسان

    وقوله: [ وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه ] الجناية على الأطراف تقدم تفصيلها وضوابطها في الشريعة، ومتى يحكم بالقصاص ومتى لا يحكم بالقصاص، والجناية على الطرف بأن قطعوا يد شخص، أو ضربوه حتى أصابها الشلل، أو فقئوا عين شخص، أو قطعوا لسانه، أو قطعوا أصابعه، كل هذه الجنايات على الأطراف فيها القصاص بالضوابط التي تقدمت في باب القصاص.

    والمصنف رحمه الله يختار هنا القول بالتفريق بين حق الله وحق المخلوق، وأن الجناية لو وقعت منهم على أطراف الناس وأعضائهم بما يوجب قوداً... قال: تحتم استيفاؤه.

    ومن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن القتل يأتي على جميع ذلك، وأنه لا يقتص في الأطراف، وأنه يحكم بحد الحرابة وخاصة على القول الذي يقول: إن الأمر إلى الإمام، فإذا كان الإمام رأى أن المصلحة بالقتل قتلهم ولو لم يقتلوا، وهذا القول الثاني الذي اختاره بعض أهل العلم رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط في حكم القاضي بالقتل أن يكونوا قد قتلوا.

    وعلى هذا القول لو جنوا على الأطراف ولم يقتلوا ورأى الإمام المصلحة في قتلهم قتلهم، وهذا موجود في مذهب المالكية والظاهرية وبعض أئمة السلف، وقالوا: الإمام هو المخير، والقاضي هو الذي له النظر، فلو جاءوا ودخلوا بالسلاح على بيت رجل وهددوه، ثم قاموا فقطعوا رجل شخص، وآخر قطع يد ابنته، والثالث اعتدى على عين ففقأها، فإذا استبشع هذا القاضي، وقال: لا أريد القصاص إنما أريد قتل هؤلاء؛ لأن هذه الجريمة بهذا الشكل أرى أنه لا يردع الناس فيها إلا القتل، فقضى القاضي بالقتل، فالصحيح أن له ذلك، وأنه لا يتعين القتل بحالة قتلهم.

    وفي هذه الحالة إذا قلنا: إن له ذلك فإن القتل يأتي على جميع جناياتهم على الأطراف ونحوها،وأما إذا قلنا: إنه ليس من حقه أن يقتل إلا إذا قتلوا كما يختاره المصنف رحمه الله وهو مشهور في المذهب، فحينئذٍ ينظر فإذا جنوا على الأطراف بما يوجب قصاصاً تحتم استيفاؤه، فلو عفا صاحب الجناية فإنه لا يلتفت إلى عفوه، بل يؤاخذهم القاضي أو الإمام بجريرتهم، سواء عفا صاحب الحق أو لم يعف، فالأمر سيان، فيقطع ما قطعوا من الأطراف.

    وإذا قلنا بذلك فلو أن شخصاً من مائة شخص من المحاربين اعتدى على طرف إنسان فإنها تقطع أطراف الجميع؛ لأنهم يرون أنهم في حكم الشخص الواحد كما تقدم في القتل.

    1.   

    حكم المحارب إذا أخذ المال ولم يقتل

    وقوله: [وإن أخذ كل واحد من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا، قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا، ثم خلي] هذه المرتبة الثالثة في العقوبة، أنهم لو اعتدوا على المال ولم يقتلوا وكان اعتداؤهم على المال ما يعادل نصاب السرقة فأكثر، فحينئذٍ تقطع يد المحارب ورجله من خلاف، وهذا صريح آية المائدة.

    وإذا قطعت يده ورجله من خلاف فإن القطع للموضعين يكون في ساعة واحدة، ولا يؤخر قطع الرجل عن قطع اليد، وتقطع يده اليمنى مع رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر القرآن: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33].

    فتقطع يده اليمنى بناءً على أنهم يرون أنه سرق، واشترطوا أن يكون قد أخذ ما يعادل نصاب السرقة، والتي تخالف اليد اليمنى هي الرجل اليسرى، ومن هنا تقطع اليد مع الرجل من المفصل في اليد والرجل وتحسم بالزيت المغلي بالنار، لأجل قطع النزيف، وقد تقدم معنا الحسم في حد السرقة.

    وبناءً على هذا لا يرى المصنف رحمه الله أنهم إذا اعتدوا على الأموال أن يقتلوا، وهذا هو القول الذي اختاره الحنفية رحمهم الله فهم يوافقون الحنابلة في أنه إذا اعتدى المحاربون على الأموال فيشترط أن تكون الأموال قد بلغت نصاب السرقة، ويشترطون حرمة المال، إلى غير ذلك مما يشترط في اعتبار المال المسروق، فإذا اختل الشرط لم تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

    وعند غير الحنابلة حتى عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمه الله اختار أنه لا يشترط النصاب، والدليل على ذلك: أولاً: أن الآية الكريمة لم تنص على اشتراط النصاب ولم يأت في السنة ما يدل على اشتراط النصاب.

    وثانياً: أن القطع في الحرابة غير القطع في السرقة، فالقطع في الحرابة جاء بطريقة مخالفة للسرقة من جهة الزيادة؛ إذ لم يتقيد بقطع السرقة الذي هو قطع اليد، ومن هنا لا نشترط فيها ما يشترط في السرقة؛ بل نقول: إن للشرع مقصوداً في هذا، ونزيد على ذلك أنه لو رأى الإمام أن من المصلحة قتلهم بالاعتداء على الأموال قتلهم بذلك.

    مثال ذلك: لو أن عصابة من قطاع الطريق هجموا على محلات تجارية فأتلفوا وأفسدوا ما فيها، ولم يأخذوا معهم شيئاً يعادل نصاب السرقة، فإنا نقول بتعزيزهم لأجل السلاح حين أشهروه، وإن كانوا في السبل أخافوا السبيل، وخرجوا على جماعة المسلمين بهذا السلاح، وجاءوا علانية وجهرة لا خفية كطريق السرقة، فإذا قلنا باشتراط النصاب حينئذٍ لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

    ولكن إذا لم نشترط النصاب ونظرنا إلى الأصل الذي ذكرناه أن الحرابة فيها خروج وتمرد وتحدٍ للمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ حينئذٍ لا نشترط أن يكون الذين اعتدوا عليه من المال قد بلغ نصاب السرقة، ولا نشترط أيضاً أخذهم لهذا المال، وبناءً على ما قرره المصنف يشترط فيه الأخذ، ولكن على ما نختاره لو أنهم لم يأخذوا بل أتلفوا، وأكثر ما يفعله أهل الفساد والطيش أنهم يتلفون أموال الناس ويعتدون عليها، فيأتون إلى المحلات التجارية وهي أسواق المسلمين فيها أرزاقهم ومصالحهم، ومملوكة لمسلم له حرمة، وله ذمة الإسلام، ثم يأتي عياناً بياناً ويشهر السلاح، ثم يتلف هذا المال أمام الناس من غير أن يأكله أو يشربه وإنما يفتح العلب ويهريقها على الأرض، ثم يتلف الأشياء الموجودة من الأطعمة، فمثل هؤلاء لا يردعهم أن يقال بتعزيرهم.

    قد يرى الإمام أن هذه عصابات قد تستشري، هذا يعلم هذا، وهذا يجر هذا، ولا يقطع دابرها بشيء مثل أن ينظر للأصلح والأوفق للمجتمع، فإن رأى أنه اعتداء معتبر على المال نظر هل يكفي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن ذلك يردع الناس، ووجد له أثراً فيكتفي به، لكن إذا وجد أنهم متمردون عصاة، وأنهم يجرئون غيرهم، وأنها لا تنحسم مادة شرهم إلا باستئصالهم من المجتمع، فإذاً: لا يتقيد الأمر بالنصاب ولا بالأخذ، لأن الإتلاف اعتداء، بل إن الإتلاف أسوأ من الأخذ؛ لأن الذي يأخذ الطعام يأكله ويرتفق به فهو يراعي حرمة الطعام؛ لأنه يريده لنفسه ويرتفق به حتى لو أخذه وباعه، لكن أن يأخذ المال، أو الطعام الذي جعله الله عز وجل طعمة لخلقه فيرمي به في الأرض، ويتلفه دون أن ينتفع به الإنسان، فهذا من أبلغ ما يكون جناية وجرماً.

    وفي حكم هذا لو أنهم أخذوا السفينة ونهبوا ما فيها صدق عليها أنهم أخذوا، وانطبق الشرط الذي ذكره المصنف، لكن لو أنهم أغرقوا السفينة بما فيها من طعام وأرزاق، ولم يأخذوا شيئاً فهذا يكون له حكم الحرابة، ويوجب الحد الذي ذكرناه، وجعل الأمر والنظر للإمام أبلغ، وهو إن شاء الله أقرب إلى الصواب؛ لأن مقصود الشرع حسم مادة الشر، وإيقاف البلاء عن المجتمع، وعدم فتح باب الفتنة على المسلمين بالجرأة على دمائهم وأموالهم ونحو ذلك.

    وقوله: [ قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى]:

    هذا هو القطع يكون من خلاف، وبعض العلماء يفصل بين أن تكون يده هي التي يعمل بها، فمثلاً: لو أن أكثر عمله ومصالحه باليسرى قطعت اليسرى مع الرجل اليمنى؛ لكن المحفوظ عن الجماهير أنها تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى.

    وقوله: [ في مقام واحد ] وهذا من أبلغ ما يكون عقوبة وزجراً، ولو أن قاطع طريق قطعت يده ورجله بحكم الله، لكان ذلك من أبلغ ما يكون في ردعه وردع غيره أن يسلك سبيله، فلن تسول له نفسه يوماً من الأيام أن يخرج على المسلمين ويشهر سلاحه من أجل أن يعتدي على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم، إذ كلما حدثته نفسه رفع كفه التي قطعت، وجاء يقف من أجل أن يذهب أو يروح وإذا برجله المقطوعة تذكره، ما الذي سيكون له؟ وما الذي سيجنيه من فعله وتمرده على المسلمين في مصالحهم ومرافقهم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54] فهي آيات بينات وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة:50] أي: لا أحد أحسن من الله حكماً ولا أتم شرعاً وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

    1.   

    حكم استخدام التخدير عند تطبيق الحدود

    وقوله: [وحسمتا]: لأن النزيف قد يهلكه، فتحسم بالزيت حتى تنسد أفواه العروق، لأنها لو تركت من دون حسم فإنه سينزف، وإذا نزف فإنه يموت، وهكذا الرجل تحسم حتى لا ينزف، وفي زماننا يمكن إيقاف النزيف بالطرق الطبية المعروفة، فلا بأس أن توقف، ولكن لا تخدر يده أو رجله، وإنما يذوق ألمها كما آلم المسلمين جماعة وأفراداً، فيتألم ويذوق الألم، ولا يجوز شرعاً أن يخدر؛ لأن هذا لا يجعله يحس بشيء، ولا يجد مرارة الذنب وأثر الجريمة كما ينبغي، لكن إذا قطعت يده وهو تحت وطأة الألم، فصاح وتأوه وتضرر وتألم، حتى أبلغ صياحه الناس، وسمعه الخلق وتأثروا؛ وقع المقصود شرعاً.

    ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نزلت عليه هذه العقوبة دون وجود معالم رفق؛ لأن الله يقول في الحدود: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] فليس هناك رأفة بمن يستحقها، وهذا من عدل الله الذي قامت عليه السماوات والأرض، والرحمة توضع في موضعها، لكن هناك من يرحمون القاتل الجاني! ويقولون: كيف تقتلونه؟ وهم دعاة الحقوق، يقولون: كيف ييتم أطفاله، وكيف ترمل نساؤه؟

    وذلك لأن عقولهم قاصرة، ونظرتهم عمياء، ألا شاهت وجوههم، ينظرون إلى القاتل أنه سييتم أطفاله، وترمل نساؤه، ولا ينظرون إلى من قتل وأزهقت روحه بالباطل، أف لهم وما يدعون، وهذا من الباطل، والمبطلون دائماً نظرتهم قاصرة، ومعارفهم محدودة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه الحكيم العليم، وهؤلاء لا حكمة عندهم ولا علم، لأن من يقف في وجه شرع الله عز وجل فقد سلب البصيرة والعياذ بالله، وانطمس نورها من قلبه، وذهب فرقان الحق ونوره من صدره، فأصبح كما قال الله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [الأنعام:71] فلا يدري ولا يعي ما يقول.

    فهؤلاء الذين ينظرون إلى الجاني دون المجني عليه لا شك أن نظرتهم قاصرة، فنحن نقول: إنها لا تخدر اليد، ولا يرأف به ولا يشفق عليه ولا يرحم، وإنما يعاقب بعقوبة الله، ويذوق ألمها ويحس بهذا الألم وبمرارته، بغض النظر عن كونه قطعاً أو غير قطع، قطعاً في الحرابة أو قطعاً في السرقة.

    وقوله: [ثم خلي] أي: يترك، ولا يوجد عقوبة زائدة، فإذا قيل: تقطع يده ورجله من خلاف فهذا حد الله، ولا يزاد على حدود الله المقدرة.

    1.   

    تطبيق حد الحرابة على استباحة الأعراض

    من أهل العلم من أدخل في الحرابة الاعتداء على الأعراض، فإن الاعتداء على العرض أعظم من الاعتداء على المال، وقد يتمنى الإنسان أن يقتل دون عرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الدم والعرض، فقال: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) فالاعتداء على العرض يقع في الجرائم والعصابات المنظمة التي تختطف النساء، أو تستدرج الأطفال والقاصرين، أو تستدرج بفعل الفواحش تحت وطأة السلاح، فهذا من الاعتداء على العرض.

    ولذلك فالنظر في الحرابة بنظرة شمولية لا يتوقف عند مسألة الاعتداء على المال وعلى النفس فقط؛ بل ننظر إلى مقاصد الشريعة كما يقول الإمام ابن القيم ، وذلك هو شرع الله.

    ومن نظر النظرة العامة الشاملة فإنه نظر النظرة التي ترضي الله عز وجل، لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].

    فالعقوبات ينبغي أن تكون مستوفية لجميع ما يقع من الجرائم، فلقائل أن يقول: ما ورد إلا القتل وقطع اليد والرجل من خلاف والنفي. ونقول: إن الشريعة قد تنبه بالأدنى على الأعلى، فنبهت بالقتل على غاية ما يقع من الاعتداء، ونبهت بالاعتداء على المال، وهناك وسط بينهما وهو العرض، فله نفس الحكم وهذا له نظائر في الشريعة، ومن هنا لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض في الجرائم المنظمة، والعصابات التي تتخصص بإشهار السلاح في الاعتداء على الأعراض داخل المدن، أو الاعتداء على العرض خارج المدن، أو الاعتداء على العرض داخل المدن استدراجاً إلى خارج المدن تحت وطأة السلاح، فهي محاربة، وحكمها حكم الحرابة.

    وقد بينا أن الصحيح أن القاضي له الحق أن يعاقب بالقتل إذا رأى أن حسم مادة الشر تكون بذلك، ومن هنا لو أن عصابة مرت عليها سيارة داخل المدينة، فأوقفت السيارة وأخرجت منها امرأة واختطفت هذه المرأة، فالاختطاف في داخل المدينة للنساء يكون من البيوت.. من السيارات.. من المجامع العامة.. من مجامع النساء.. كله يعتبر حرابة، وهو أشد وأعظم من أن يعتدى على المال.

    أين العرض من المال؟ وأي شيء أشد شناعة وفظاعة من يؤتي إلى حرمات المسلمين التي يتمنى الإنسان أن يسيل دمه ولا يرى عرضه ينتهك، ولذلك فالاعتداء على العرض يدخل في الحرابة إذا كان داخل المدن، سواء كان بالقتل لفعل الفاحشة، أو التهديد بالقتل لفعل الفاحشة، أو الإخافة، وقد تجد مجموعة يأتون إلى مجامع النساء ويشهرون السلاح ويحدثون الرعب بين النساء، أو بين من يقوم على مصالحهن ومرافقهن كمساكن النساء، كل هذا إذا تكرر ينظر فيه وتدرس كل قضية على حدة، وينبغي أن ينظر القاضي إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وينظر الإمام إلى ما يقطع دابر أمثال هؤلاء عن المسلمين.

    وإذا نظرنا إلى حكمة الله وسنن الله عز وجل وجدنا أن نقم الله عز وجل في العرض أعظم من نقمه في الأموال، فقل أن يتعرض أحدٌ لأعراض المسلمين إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر إذا لم يتب ويرجع عن ذلك.

    والشهوة قد تعمي الإنسان وتصمه، سواء كان الاعتداء بالحرابة أو غير الحرابة، فلن تجد أحداً يستبيح أن يستغوي المرأة أو يغازلها أو يستدرجها للفحش والفساد، ويزين ويحبب إليها ذلك وهي ضعيفة، ويغريها من أجل فعل الفاحشة، إلا وجدت مكر الله عز وجل به عاجلاً أو آجلاً، أو هما معاً والعياذ بالله.

    ومن هنا نجد أن من سنن الله عز وجل تعظيم أمر العرض؛ لأنه ليس لقمة سائغة يلوكها من شاء، بل يغص بها الإنسان، ولن يموت حتى يرى ما يسوؤه كما أساء إلى أعراض المسلمين، إن أساء إليهم في الغيبة سلط الله عليه ما يسوؤه في غيبته، وإن أساء إليهم في المشهد لن يموت ولن يخرج من الدنيا حتى يريه الله بأم عينيه ما يقرح قلبه ويبكي عينه كما قرح قلوب المسلمين وأبكى عيونهم.

    وأيضاً نعرف أن من مقاصد الشريعة تعظيم أمر العرض، ولذلك لا يمكن إغفال الاعتداء على الأعراض، خاصة أننا في هذا الزمان حيث تساهل الناس -إلا من رحم الله- في هذا الأمر حتى أصبح بعض الفحش والفساد عند الناس شيئاً مألوفاً، فيأتي الرجل ويعتدي على العرض فيكلم المرأة الأجنبية أو يغازلها أو يؤذي سائقها ونحو ذلك عياناً بياناً أمام الناس، بلا حياء من الله ولا حياء من خلقه وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

    فكم من عينٍ امتدت إلى أعراض المسلمين ينتظرها العمى في لقاء الله عز وجل، وكم من عينٍ تمتعت بأعراض المسلمين سيذيقها الله عز وجل عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ومن تاب تاب الله عليه.

    وكل شخص ينبغي أن يضع نصب عينيه أن أمر العرض ليس هيناً، ومقاصد الشريعة عند دراسة الاعتداء على العرض لا يمكن أن تغفل ذلك، وعليه فإننا نقول: إذا كانت هناك عصابة أو جماعة تحت وطأة السلاح اعتدوا على العرض، فهذا على مراتب:

    اعتداء يبلغ الغاية القصوى ويستدرج المرأة ويقتلها مثلما يقع في بعض العصابات، يفعلون الفاحشة ثم يقتلون المرأة، فلا مانع أن يجمع الإمام والقاضي لهؤلاء بين القتل والصلب، ولا يختص القتل والصلب بالقتل وأخذ المال، فلو أنهم اعتدوا على عرض من أعراض المسلمين في الأسفار، فأوقفوا السيارات في طرقها، وأنزلوا النساء منها، وفعل بعضهم الفاحشة والعياذ بالله وقتل، فإنهم يقتلون ويصلبون كما جمعنا بين الاعتداء بالقتل وأخذ الأموال بين القتل والصلب، فالعرض أولى وأشد وأعظم حرمة عند الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو مقصود شرع الله، أي: أن ينزجر الناس عن حدود الله ومحارمه، والعرض أشد حرمة من المال، فإذاً نقول: إذا أنزلوا وقتلوا قتلوا وصلبوا.

    فلو أنهم أنزلوا النساء واعتدوا بالزنا، ورأى الإمام أن هذه حادثة سابقة، وأنه يُخشى إن فتح الباب، أو أنه لو أقام عليهم الحد أن هذا لا يردعهم؛ خاصة إذا كانوا غير محصنين، فحينئذٍ إذا رأى أن المصلحة في قتلهم فله قتلهم.

    كذلك لو أنهم أنزلوا النساء فكشفوا ستر المرأة، واستهزءوا بها، فهذا اعتداء على العرض، لكنه دون الاعتداء الأول، وكذلك لو أنهم تكلموا.

    فهناك أذية باليد كأن يمد يده على غطاء المرأة، وهنا أذية باللسان كأن يتكلم بكلام فحشٍ وبذاءة ونحوها من الأذية، فهذه أخف عقوبة، فينظر القاضي والوالي ما هو الأصلح في زجر هؤلاء وعقوبتهم بفعلهم.

    فالشاهد من هذا أنه يدرج في مسألة الاعتداء في الحرابة الاعتداء على الأعراض، ويستوي في ذلك أن يحصل غاية الاعتداء بالقتل وفعل الجرائم، أو يكون بدون ذلك من الأذية، كما يحدث في مضايقات النساء ونحوه، فإنها إذا كانت تحت وطأة السلاح والتخويف والتهديد فهي في حكم الحرابة.

    1.   

    حد الحرابة بالنفي

    وقوله: [فإن لم يصيبوا نفساً ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى البلد]

    هذه من العقوبة في الحرابة وهي النفي، وقد اختلف العلماء في النفي على وجهين:

    الوجه الأول: الحبس، فيدخلون إلى السجن ويحبسون.

    الوجه الثاني: أن يشرد بهم فلا يستقرون في مكان إلا بعث في طلبهم من بلد إلى بلد حتى يتوبوا إلى الله عز وجل ويرجعوا قبل أن يقدر عليهم، وهذا الوجه الثاني من أقوى الأوجه، ولا مانع من الأخذ بالوجه الأول في بعض الظروف التي يصعب فيها التشريد، خاصة إذا خشي من تركهم أن يسري فسادهم إلى البلدان والأمصار والقرى التي يشردون إليها.

    فالصحيح التشريد، ولكن لا يمنع في بعض الظروف أن يأخذ بسجنهم وحبسهم إذا رأى الإمام ذلك ووجد فيه مصلحة لجماعة المسلمين.

    وهذا النفي إذا لم يكن منهم قتل ولا اعتداء على المال أو العرض، فمثلاً: جاءوا وخوفوا السبل؛ لكنهم لم يأخذوا الأموال ولا اعتدوا، كما يقع في بعض الأماكن، حيث تأتي بعض العصابات وتحتكر السبيل، فلا تدع أحداً يمشي أو يمر بهذا السبيل إلا بعد تخويف وتهديد وإرعاب؛ لكنهم لا يعتدون على الأموال ولا على الأنفس، فحينئذٍ يشرد بهم وينفوا من الأرض على ما اختاره المصنف رحمه الله وطائفة من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وهو قول ابن عباس في الأثر المشهور عنه.

    1.   

    الأسئلة

    التوفيق بين آية المائدة وحديث العرنيين في تقديم القتل على الصلب

    السؤال: جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل الذين قتلوا الراعي، بل قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وهم قد قتلوا الراعي، فلماذا لم يقتلوا في الحال أثابكم الله؟

    الجواب: قضية العرنيين فيها كلام طويل للعلماء رحمهم الله، واختلف أئمة التفسير في الجمع بين آية المائدة وبين حديث العرنيين، حتى إن بعض العلماء يرى أن الآية ناسخة لحديث العرنيين، وأن حديث العرنيين جاء على وجه خاص لأن فيه شيئاً من التمثيل، والصحيح أنه لا تعارض بين الآية والحديث، وكلٌ قد خرج من مشكاة واحدة وهو الوحي: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] عليه الصلاة والسلام إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] فأما بالنسبة للعرنيين فحصل منهم أمران:

    الأمر الأول: الاعتداء على بيت مال المسلمين.

    الأمر الثاني: الاعتداء على الراعي نفسه.

    وهناك أمر ثالث ورد في بعض الروايات واختاره بعض العلماء أنه حصل منهم موجب الردة، أي: أنهم ارتدوا، حتى أن بعض العلماء لما جاء في سبب نزول الآية ذكر أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان يرى أن الآية نزلت في العرنيين، وأن قضية العرنيين هي سبب نزول آية المائدة، ولكن خالف الجمهور في هذه المسألة، وهناك قول أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب آخر من الأسباب، وهو أن الآية نزلت في قوم ارتدوا، وهو القول الثالث في سبب نزول الآية، وهذا القول الذي قيل فيه: إنها نزلت في قوم ارتدوا، يعني العرنيين، لأنه وقع منهم الردة بناءً على الرواية التي ذكرناها وأشرنا إليها.

    وحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي مسألة العرنيين مسألة ما نحن فيه؛ لأن العرنيين إن جئت تنظر إلى الاعتداء على المال فهو موجود، والاعتداء على الأشخاص بتسميل عين الراعي، لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم بالنار، فكان يؤخذ المرود ويُحمى بالنار ثم يوضع في عينه حتى تسيل، وهذا من أشد ما يكون مثلة، ومن هنا قالوا: هذه العقوبة لا تتأتى مع الأصل الشرعي في النهي عن المثلة، وهذا الذي جعل بعض العلماء لم ينظروا إلى رواية تسميل عين الراعي، وإنما نظروا إلى أصل الحديث؛ لأن بعضهم ينظر إلى أصل الرواية وهي أنهم اعتدوا على المال وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فمن هنا قالوا: إن هذا تمثيل منهي عنه شرعاً؛ لأنه لا يجوز التمثيل بعين الجاني إلا إذا مثل بعين غيره فإنه حينئذٍ يمثل به فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194].

    فالشاهد من هذا أننا ننظر إلى جريمتهم في حق الراعي وجريمتهم في حق المال، وردتهم عن الإسلام، فهذه ثلاث جرائم، والنبي صلى الله عليه وسلم جمع لهم بين عقوبة المال في قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبين عقوبة المثل في تسميل أعينهم، وبين عقوبة القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وهذا هو القتل البطيء، فهو لم يقتلهم مباشرة لكنه قتلهم قتلاً بطيئاً؛ لأنه إذا حبس الماء عنهم قتلوا، ومنع الماء عن العطشان نوع من القتل، وقد ذكرنا هذا في القتل بالسببية، وجاء في الرواية: (فلقد رأيت أحدهم يكدم بفمه الأرض -من شدة العطش - وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).

    فهذا فيه قتل وفيه قطع، وفيه عقوبة للردة بقتلهم واستباحة دمائهم، وفيه عقوبة للمال بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وفيه عقوبة بالمثل بتسميل أعينهم، فإذا نظرنا إلى أنه لا بد أن يقتلهم مباشرة جاء على هذه كلها، وهو عليه الصلاة والسلام مشرع للأمة، فلما أعطى كل جريمة حقها وحظها كان هذا غاية العدل والقضاء وأتم ما يكون عليه القضاء والحكم، فكل جريمة وقعت منهم وجد لها علاج، ووجد لها عقوبة، وهذا ما نعنيه بالنظرة الشمولية في العقوبة، أي: أن الإنسان حينما ينظر نظرة شاملة للجريمة ويجد عقوبتها مناسبة لكل شيء وقع من الجاني؛ فهذا أبلغ في عقوبة الجاني وأبلغ في ردع الغير عن أن يسلك مسلكه، والنبي صلى الله عليه وسلم له المقام الأعظم والمنزلة الأتم في الحكم بين العباد صلوات ربي وسلامه عليه.

    ولما أمسك الرجل بردائه صلوات الله وسلامه عليه، قال له: اعدل يا محمد! قال: (ويحك! ومن يعدل إن لم أعدل؟)، فمن الذي يعدل إذا لم يعدل النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فالشاهد من هذا أنه عدل، فأعطى حق الله عز وجل بقتلهم بالردة، وأعطى المخلوق حقه حينما سمل أعينهم، وأعطى بيت مال المسلمين حقه حينما قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

    فلا يشكل حديث العرنيين على الآية، إنما يشكل إذا نظرنا إليه من بعض الجوانب وقيل إنه ليس فيه قتل، وقد قلنا: إنهم إذا اعتدوا على المال وقتلوا فإنهم يقتلون، فكيف لا يوجد قتل وقد قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    والصحيح أنه قتل بطيء؛ لكن هذا النوع من القتل لا نستخدمه في حكم الحرابة؛ لأنها جاءت نصوص تورد الشبهة، وهي نصوص النهي عن المثلة والتعذيب، ومن هنا لما تعارض عندنا هل هذا سابق للنهي أو متأخر عنه قلنا: الاحتياط أن نأخذ بالنهي؛ لأن آخر الأمرين نهيه عليه الصلاة والسلام عن المثلة، وعلى هذا فلا إشكال ولا تعارض إذا حمل على أول الأمر، والله تعالى أعلم.

    مشروعية صلاة الجماعة ثانية

    السؤال: هل الجماعة الثانية لمن فاتته الصلاة مشروعة؟ وهل فضلها مثل فضل الجماعة الأولى أثابكم الله؟

    الجواب: يجوز للمسلم أن يحدث جماعة ثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والذين منعوا إحداث الجماعة الثانية احتجوا بحديث ابن مسعود في صلاته عليه الصلاة والسلام حينما تأخر عن الصلاة، فصلى الصحابة رضوان الله عليهم، وكان قد تأخر بقباء عليه الصلاة والسلام، فلما أتى المسجد لم يعرج عليهم، ومضى إلى بيته، قالوا: فهذا يدل على أن الجماعة الثانية لا تجوز.

    والواقع أنه ينبغي لطالب العلم أن ينظر بين الدليل وبين الدعوى، فهم يقولون: لا تجوز الجماعة الثانية ويمنعون من إحداثها، وعدم الجواز والتحريم لا يؤخذ من الفعل، لأن دلالة الفعل محتملة، ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المسجد ووجدهم قد صلوا ولم يصل في المسجد جماعة يحتمل وجوهاً: منها: أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد الجماعة في المسجد ثانية. ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام -وهو الأقوى- لم يرد كسر خواطر الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنك لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء وأحدث الجماعة الثانية فيكون هذا حرجاً كبيراً لمن أمهم وصلى بهم، وهذا واضح جلي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، وهذا يجعل الصحابة مرة ثانية يتأخرون أكثر، ويؤخرون الجماعة أكثر؛ لحضوره عليه الصلاة والسلام ورغبة في الصلاة وراءه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

    فالشاهد أننا لا نجد في الفعل ما يدل على التحريم، بل غاية ما نقول: إن السنة أن يمضي إلى منزله، لكن في النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في غيره، ومن هنا لا يقوى هذا الحديث على صرف النصوص الواردة في الصلاة في المسجد عموماً.

    وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بدليل الأولى، حينما قال: (من يتصدق على هذا ؟ فقام أبو بكر فصلى معه) أولاً: كون الصحابي يقوم ويصلي في المسجد من أصدق الدلائل على أنه لا يذهب إلى بيته، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البيت والصحابي صلى في المسجد، فلو كان الذهاب إلى البيت واجباً، لقال له: يا هذا! اقطع صلاتك واذهب إلى بيتك وصل فيه، ولا يجوز أن تصلي في المسجد، ولا يجوز أن يسكت عن تنبيهه عما هو منهي عنه ومحرم شرعاً، وأنتم تقولون: لا يحدث جماعة ثانية.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يتصدق) أسألك بربك! لو وجد شخص لم يصل أيقول عليه الصلاة والسلام: من يتصدق؟

    ثالثاً: لو لم يكن الصحابة قد عهدوا وألفوا أن يصلي المتأخر وإن وجد غيره صلى معه هل يأتي ويقوم الرجل ويصلي؟

    ولذلك قال: (من يتصدق على هذا؟) كأنه وجده بدون جماعة؛ لأنه ألف أن يكونوا في جماعة، ولكنه تعذر وجود من لم يصل، فقال: (من يتصدق) فالذي صلى يعيد الصلاة مرة ثانية.

    رابعاً: يندب إلى إعادة الصلاة مع أنه ينهى عن إعادة الصلاة مرتين.

    فكله تحسين للأجر، أليس هذا أصل في تحبيب الشرع وترغيبه أن يكون المصلي الثاني مع جماعة؟ إذا قلت: نعم، نقول: نبه بالأدنى على الأعلى، فإذا صحت الجماعة الثانية بإعادة الصلاة الأولى فلأن تصح بدون إعادة من باب أولى وأحرى، فهذا هو الذي نختاره؛ وهو أن الصحيح جواز إحداث الجماعة الثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755969910