إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [7]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا أكره شخص شخصاً آخر على قتل رجل فقتله، فإنه يقتص من الآمر والمأمور جميعاً، وهناك حالات يقتص فيها من الآمر دون المأمور، منها: أن يكون المأمور غير مكلف، وأن يكون جاهلاً بحكم قتل المسلم، وأن يكون الآمر سلطاناً معروفاً بالعدل، ويقتص من المأمور إذا كان عالماً بتحريم القتل فقتل، وإن اشترك اثنان في قتل واحد وسقط القصاص عن أحدهما وجب على الآخر، وإن عدل إلى الدية وجبت عليهما.

    1.   

    القتل بالإكراه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما].

    تقدم في المجلس الماضي استفتاح المصنف رحمه الله لهذا الفصل بحكم قتل الجماعة للواحد، وبناءً على ذلك فسينصب كلام الإمام رحمه الله في هذا الموضع على القتل بالاشتراك، وهو يأتي على صور: منها ما ذكرناه سابقاً أن تشترك جماعة في قتل معصوم الدم فيقتلونه، ويكون فعل كل واحد منهما مفضياً إلى القتل، وقد بينا حكم ذلك.

    لكن هناك اشتراك من نوعٍ ثانٍ، وهو اشتراك السببية والمباشرة، بحيث يشترك اثنان في القتل على سبيل الإكراه، وقد تقدم معنا في كتاب النكاح -حينما بينا أحكام الطلاق- حكم طلاق المكره، وبينا حقيقة الإكراه لغة واصطلاحاً، وأن الشريعة الإسلامية أعطت هذا النوع من الأمور حكماً خاصاً، لكنه هنا في باب القتل لا رخصة فيه، مع أن الأصل أن المكره معذور بحكم الإكراه، ولكن في باب القتل إذا أكره على قتل معصوم؛ فإنه يُقتص من المُكرِه والمُكرَه معاً، فبين المصنف رحمه الله أن القصاص واجب على الاثنين: على الشخص الذي أكرَه، وعلى الشخص الذي أُكرِه فقتل؛ والسبب في ذلك: أن الذي أكرِه على القتل نجى نفسه بقتل أخيه المسلم، وحينئذٍ يكون كمن قتل غيره ليأكله وينجو.

    أقوال العلماء في قتل المكرَه

    ذهب جمهور العلماء رحمهم الله -وهو مذهب المالكية والحنابلة في المشهور، والشافعية على الصحيح- إلى أنه إذا أكرِه شخصٌ على قتل معصومٍ فإنه لا يستجيب للإكراه، ولا يحق له شرعاً أن يقتل ذلك المعصوم، والسبب في ذلك: أن دم المعصوم محرمٌ كدمه هو، فإذا قال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك؛ فإنه في هذه الحالة ينجي نفسه بقتل أخيه، ومن شرط الإكراه حتى يكون مؤثراً -كما تقدم معنا في كتاب الطلاق-: أن يكون الذي يطلب من الشخص أهون من الذي يهدد به، فحينما يقول له: طلق زوجتك وإلا قتلتك. فالطلاق أخف من القتل، فحينئذٍ يكون مكرهاً، لكن لو قال له: طلق زوجتك وإلا أخذت منك عشرة ريالات. فتكون العشرة رخيصة، فالعشرة ليست في الضرر والمفسدة كالطلاق، فهذا بلاء يصبر عليه.

    فإذا قيل له: إن لم تقتل زيداً نقتلك، وإن لم تقتل فلاناً -وهو معصوم الدم- نقتلك. فالواجب عليه أن يمتنع؛ لأنها نفسٌ محرمة، معصومة في الشرع، لا يجوز أن يستبيح حرمتها ولا أن يسفك دمها فيزهقها بدون حق، ومن هنا لا يعتبر الإكراه موجباً للرخصة، وهذا أصح قولي العلماء.

    وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله فقالوا: إنه لا قصاص لا على الذي أكرَه ولا على المُكرَه؛ لأن الذي أكره وهدد لم يباشر القتل وإنما قتل غيره، والقصاص للقاتل، وهذا لم يقتل، وليس هناك قصاصٌ على الذي هُدِّد -المكرَه- لأنه خرج عن اختياره، وإذا خرج عن اختياره لم يحاسب، وليس هو بقاتلٍ حقيقة؛ لأن الغير ألجأه، ومن هنا قالوا: كما لو دفع فسقط على الغير فقتله؛ فإنه لا يقتص منه.

    أدلة القائلين بأنه يقتص من المكرِه والمكرَه

    والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، والدليل على ذلك:

    أولاً: ما ذكرناه من أنه ليس بمكره حقيقة؛ لاستواء ما طلب منه وما هدد به، فلم يتحقق به الشرط المعتبر شرعاً للإكراه.

    ثانياً: أن المكرَه الذي أمر بالقتل يُقتص منه؛ لأنه كالشخص الذي أمسك حية فأنهشها للغير فقتلته، فإن الذي قتل في الحقيقة هو الحية، لكن الذي قربها منه وأوصلها إليه وكانت سببية للقتل مؤثرة هو الممسك، ومن هنا يكون الذي أكره وحرك على القتل دافعاً للشخص لسببية لم يشك في تأثيرها في إزهاق الروح؛ لأنه لولا الله ثم هذا الإكراه والضغط لما حصل الإزهاق ولما حصل القتل، ومن هنا يكون الذي أَكرَه قاتلاً من هذا الوجه.

    ثالثاً: أننا لو قلنا: إنه لا يُقتص من المكره؛ لعاث الناس في الأرض فساداً، فكل شخصٍ يريد أن يقتل شخصاً ما عليه إلا أن يضع سلاحه على شخصٍ آخر ويقول له: اقتل فلاناً وإلا قتلتك، وحينئذٍ ينجو القتلة من القتل، ويذهب معنى القصاص الذي أمر الله عز وجل به وشرعه لعباده.

    وأيضاً: أهل الفساد يتذرعون بالإكراه لخروجهم من تبعة القصاص، ومن تبعة القتل وما ترتب عليه من القصاص والقضاء، ومن هنا فقول من قال: (إنه يقتص من الآمر والمأمور) قولٌ صحيح؛ لأن الذي أمر وهدد فعل فعلاً أفضى إلى القتل وأثر فيه تأثيراً قوياً، بحيث لو انعدم هذا التأثير لما حصل الإزهاق والقتل، والذي قتل باشر، فحينئذٍ لا يسقط القصاص عن الذي باشر؛ لأنه لا رخصة له؛ لأنه فدى نفسه بأخيه، فكانت أنانية لا يقرها الشرع، وليس مثله مرخصاً له أن يقتل، وعلى هذا يقتص من الاثنين الآمر والمأمور على أصح قولي العلماء، وقد اختار المصنف هذا ودرج عليه.

    شروط الاقتصاص من المكرِه والمكرَه

    وقوله (ومن أكره مكلفاً) فخرج من أكره غير المكلف، ومن هنا لو أكره مجنوناً أو صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك، وهدده بما يخاف، فإنه في هذه الحالة يُقتص من الذي أمر ولا يُقتص من الذي باشر؛ لأن غير المكلف يسقط القصاص عنه، ومن شروط القصاص: أن يكون القاتل مكلفاً، فلو أنه هدد صبياً وقال له: اقتل فلاناً، فإن الصبي لا يعقل الأمور ولا يميزها، وقد رفع الله عنه القلم، فأسقط عنه المؤاخذة، فلذلك جماهير السلف والخلف -إلا قولاً ضعيفاً- أن الصبي ولو كان مميزاً غير مكلف؛ لظاهر النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على عدم تكليفه، فإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: يشترط في القصاص من الاثنين (الآمر والمأمور) أن يكونا مكلفين.

    والعكس: فلو أن مجنوناً وضع السلاح على عاقل ومكلفٍ وقال له: إن لم تقتل قتلتك، فإن الحكم لا يختلف، لكن إذا قتل هذا المأمور؛ فإنه يقتص منه ولا يُقتص من الآمر؛ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه، وهذا لا يباح في الشريعة.

    وقوله: (على قتل مكافئه) من شرط القصاص -كما سيأتي- وجود المكافأة، أي: أن يقتل مكافئاً، فلو كان الذي قتله أعلى منه ففي هذه الحالة ننظر: فتارة يكره حر على قتل عبدٍ؛ فإنه لا يقتل الحر بالعبد، أو مسلمٌ يُكره مسلماً على قتل كافر، فإذا كان هذا الكافر مباح الدم فلا تأثير؛ لأنه لا قصاص مثل الحرب، أو غير معصوم الدم كالزاني المحصن، أو أكرهه على قتل كافرٍ أو على قتل عبدٍ، وهما حران؛ فإنه لا يُقتص منهما.

    لكن لو أن مسلماً أكره ذمياً على قتل ذمي، فإن الذمي والذمي مرتبتهما واحدة، فيُقتص منهما، وفي هذه الحالة يُقتل الذمي بالذمي، لكن لا يُقتل المسلم بالذمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في حديث عليٍ الصحيح: (لا يُقتل مسلم بكافر)، فبين المصنف رحمه الله أن شرط القصاص من الاثنين: أن يكون المقتول مكافئاً لهما، فإذا كان مكافئاً لأحدهما؛ اقتص من ذلك الذي يكافئ، وسقط القصاص عن غير المكافئ، كما لو اشترك مكلف وغير مكلف.

    وبناءً على ذلك لو أن المسلم أكره الذمي على قتل ذمي؛ اقتص من الذمي القاتل، ولم يُقتص من المسلم المكرِه، وإنما يعزر، على تفصيل عند العلماء في مسألة الإكراه إذا سقطت عن الطرف الثاني، والعكس: فلو أن ذمياً أكره مسلماً على قتل ذمي؛ وجب القصاص على المُكْرِه الذمي دون المُكْرَه المسلم؛ لأنه غير مكافئ له؛ لأن الكافر ليس بكفء للمسلم فيقتص منه، وهذا على مذهب الجمهور، خلافاً للحنفية رحمهم الله الذين يرون أن المسلم يقتل بالذمي، لكن الأحناف رحمة الله عليهم لا يرون في الإكراه قصاصاً، وعندهم قاعدة في هذه المسألة وهي حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، قالوا: إن الذي قتل عنده شبهة، وهي الإكراه، والذي هدد لم يقتل حقيقة، فلا قصاص على الذي هدد؛ لأنه لم يقتل حقيقة، وقد أمر الله بالقصاص من القاتل حقيقة، ولا قصاص على المكرَه؛ لأن فيه شبهة، وقد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات.

    وهذا قول ضعيف بل باطل لما ذكرناه؛ فكلٌ منهما قاتلٌ من وجه، فإنك لو نظرت إلى الجماعة يشتركون في قتل واحد، لوجدت الإكراه أشبه باشتراك الجماعة في قتل الواحد، كما لو أن أحدهما أمسكه على وجهٍ يحصل به الزهوق، وأزهق الآخر روحه؛ فإنه في هذه الحالة يُقتص من الاثنين: من الذي تعاطى السبب المؤثر في الإزهاق، والذي قتل حقيقة، فكل منهما قاتل.

    ويجاب كذلك بأن حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الشبهة فيه مؤثرة، وهنا الشبهة غير مؤثرة؛ لأن الإكراه لم يثبت حقيقة، وكذلك نقول لهم: الشبهة تكون مؤثرة وموجبة للإسقاط في الحدود والقصاص إذا كانت قوية، وهنا لم تقو على إسقاط حكمٍ شرعي، فكل من الآمر والمأمور قاتل من وجه؛ إذ لولا الله ثم هذا الإكراه لما حصل هذا القتل، فهو قاتل وهو يريد القتل، وهو الذي حرك المأمور والمُكرَه على القتل.

    والذي قتل وهو المأمور -المكرَه- لا إشكال فيه؛ لأن الإزهاق حصل بفعله، وحينئذٍ يُقتص من الاثنين، فأما الشبهة التي ذكروها فإن الإكراه شرطه: أن يكون ما هدد به أعظم ضرراً مما طُلب منه، وهذا لم يتحقق، فإن المطلوب مساوٍ لما هدد به، وحينئذٍ لم يكن مكرهاً حقيقة.

    ثم أيضاً: العجب أن الحنفية رحمة الله عليهم من أضيق المذاهب في تحقيق الإكراه، والحكم بالإكراه، فعندهم الإكراه التام، والإكراه الناقص، والإكراه الملجئ وغير الملجئ، وهذا لأنهم لا يرون الإكراه إلا في حدود ضيقة جداً، ويرون أن الإنسان ينعدم به التصرف كلية كما لو رمي شخص فسقط على الغير وهو مكره؛ لأنه لا يستطيع أن يميل يمنة أو يسرة، فالإكراه عندهم مضيق، وهنا اعتبروه شبهة، مع أنه إكراه غير مؤثر، حتى في الطلاق ومسائل الطلاق، ومثل هذا الإكراه الناقص لا يرونه إكراهاً مؤثراً، ولذلك نقول: الصحيح هو مذهب الجمهور، خاصة وأننا إذا نظرنا إلى حكمة الشرع ومقصوده من القصاص كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، فإن هذا ينعدم؛ إذ لا ضير على أحد بل حتى على المجرمين، لا بأس ولا خوف عليهم، وكلما أراد مجرم أن يقتل شخصاً آخر ما عليه إلا أن يهدد شخصاً جريئاً على أن يقتل، أو شخصاً كثير الخوف على القتل فيقول له: اذهب واقتل فلاناً وإلا قتلتك.. وهكذا.

    الشروط التي يتحقق بها الإكراه

    وقوله: (ومن أكرَه) لا بد من تحقق شروط الإكراه وهي:

    أولاً: أن يكون الشخص الذي يهدد قادراً على تنفيذ ما هدد به.

    ثانياً: أن يكون الذي هدد به فيه ضرر كالقتل هنا، فيقول له: إن لم تقتل أقتلك.

    ثالثاً: أن يغلب على ظن المكرَه أن الشخص الذي هدده صادقٌ في قوله، وعازمٌ على ما وعده من تنفيذ وعده ووعيده، فإذا كان الشخص يعرف فيه اللعب وعدم الصدق، ويعرف فيه المبالغة في الأشياء؛ فهذا مثله لا يعتد بقوله؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لا ينفذ، فلا يكون مكرهاً إلا إذا غلب على ظنه أنه ينفذ.

    رابعاً: أن يكون الشخص الذي هدد وأُكرِه -المأمور- لا مندوحة عنده، وليس عنده طريقة يستنجد بها، أو ليس عنده طريقة أن يفر أو يستغيث بالغير.

    والحقيقة أنه في زماننا قد يُكْرَه الشخص وقد يهدد دون أن يكون بالصور القديمة، بحيث يقال له: لم تقتل فلاناً في حدود الساعة العاشرة -مثلاً- نقتلك، فهذا له حكم الإكراه، لكن نفس المسألة نحن نقول: عند من يقول: إن الإكراه يسقط القصاص لا إشكال، فيصير إذا هدد بهذه الحالة والطريقة فهو مكره ويسقط القصاص، لكن نحن نقول: إن الإكراه لا يسقط القصاص؛ لعصمة النفس المقتولة، والشخص الذي نفذ ما هدد به ليس بمكره حقيقة؛ لأنه لم يطلب منه ما هو أقل مما هدد به، ولذلك يقتص منهما معاً.

    حالات وجوب القصاص أو الدية على الآمر والمأمور

    وقوله: (فقتله فالقتل أو الدية عليهما).

    قوله: (فالقتل) أي: إن طلب أولياء المقتول القصاص عليهما، على المكرِه والمكرَه، سواءً قتلا معاً أو قتل أحدهما، كأن يمسك أحدهما ويفر الآخر، ففي هذه الحالة يقتص من الممسك به، ثم بعد ذلك إذا عثر على الآخر يُقتص منه. فقوله: (أو الدية عليهما) إذا قال أولياء المقتول: نحن لا نريد القصاص، ولا نريد أن يقتل، بل نريد الدية، فالدية عليهما، يدفع المكرِه نصف الدية، والمكرَه النصف الثاني.

    وهناك أقوال أخرى في المسألة: فمنهم من يقول: القتل على الآمر دون المأمور، وهناك من يقول: القتل على المأمور دون الآمر، فهي أربعة أقوال في المسألة: يقتص منهما، لا يقتص منهما، يقتص من الآمر دون المأمور، يقتص من المأمور دون الآمر، فهذه أربعة أقوال في المسألة، وكل منها -كما ذكرنا- له وجهه.

    فالذي يقول: يقتص منهما، دليله ما ذكرنا، والذي يقول: لا يقتص منهما، دليله الشبهة، والذي يقول: يقتص من الآمر دون المأمور يقول: لأن المأمور مكره ومعذور، والآمر هو الذي حركه، فأشبه ما لو أمسك حية وقتل بها، والذي يقول: يقتص من المأمور دون الآمر قال: لأن المأمور هو الذي باشر، وكان المفروض ألا يستجيب له، وليس بمكره، والآمر فيه شبهة؛ لأنه لم يقتل حقيقة.

    والصحيح ما ذكرناه: أنه يقتص من الجميع، وإذا ثبت أنه يقتص من الجميع فالدية على الجميع، أي: على الاثنين، ويستوي في هذا أن يهدد شخصاً، أو يهدد أكثر من شخص، ما دام أنهما باشرا القتل، فلو أن جماعة هددت شخصاً واحداً، وكلهم قالوا له: إن لم تقتل نقتلك، فصار كالاشتراك في القتل، ومن هنا نفهم لماذا صدر المصنف الفصل بقتل الجماعة بالواحد، ثم جاء بمسألة قتل المكرَه والمكرِه، وهذا من باب القتل بالسببية.

    فالأول: اشتراك في الفعل وهو القتل، أن تشترك جماعة في الإزهاق، والثاني: أن تشترك جماعة في القتل بسببية ومباشرة.

    1.   

    الحالات التي يقتل فيها الآمر دون المأمور

    قال المصنف رحمه الله: [وإن أمر بالقتل غير مكلف، أو مكلفاً يجهل تحريمه، أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه، فقتل، فالقود أو الدية على الآمر ].

    من ترتيب الأفكار ذكر المسائل المفرعة على مسائل الأصول، فقتل الجماعة بالواحد هي مسألة أصل في هذا الباب، وأمر الغير أن يقتل بالإكراه وبدون إكراه، بالإغراء، أو بالتغرير، والكل يجمعها أصل واحد وهو الاشتراك في القتل، فلما كان الاشتراك في القتل له تأثير عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد، فصدر رحمه الله بمسألة قتل الجماعة بالواحد، ثم أتبعها بمسألة السببية، وإذا جاءت مسألة السببية، فتارة تكون السببية بالأمر، وهذه يسمونها: السببية الحسية؛ لأن هناك سببية تؤثر حساً، وسببية تؤثر عرفاً، وسببية تؤثر شرعاً، فالسببية الحسية منها: مسألة الإكراه حساً، كشخص هدد أنه سيقتل، فهذا بالحس ندرك، أنه إذا ضغط عليه سيقتل، فهذه اشتراك للسببية في الحس.

    والسببية بالعرف: مثل أن يأتي ويقدم له طعاماً وهو ضيفه، وفي الطعام سم -أعاذنا الله وإياكم- فأكل السم فمات، وهذه قد تقدمت معنا، فإنه قد درج في العرف على أنه إذا قدم الطعام للضيف فإنه يأكله، فصارت سببية مؤثرة بالعرف؛ لأنه قد يقول قائل: إن الشخص الذي أتى بالطعام وقدمه للضيف ما جاء ووضع السم في بطنه، وليس هو الذي باشر قتله، وإنما الشخص هو الذي باشر وأكل، فيتحمل مسئولية نفسه، فنقول: لا، لما كان العرف يحرج هذا الضيف ويلجئه إلى أن يأخذ من هذا الطعام؛ صار العرف يثبت أن صاحب الضيافة يحتاط لضيفه ويصون له طعامه، فصار هذا موجباً لقوة التأثير في السببية؛ لأنه في بعض الأحيان تكون السببية قوية، وأحياناً تكون ضعيفة، فيقولون: إن هذه سببية مؤثرة بالعرف.

    وهنا في مسألتنا بالحس مثلاً: الشهود إذا شهدوا بالزور فإنهم ليسوا هم الذين قتلوا، وإنما القاضي قضى، والذي قتل هو الذي نفذ حكم القاضي، لكن سببية الشهادة شرعاً تثبت القتل، والشرع يلزم بقتل هذه النفس، فهي مؤثرة استناداً إلى الشرع، وقس على هذا، ففي مسألة الشهادة، الحس يثبت أن الإكراه يدفع المكرَه دون اختياره، فهناك اشتراك من نوعٍ آخر، وهو أن يأمر غير المكلف.

    الحالة الأولى: أن يكون المأمور غير مكلف

    قال رحمه الله: [ وإن أمر بالقتل غير مكلف ]

    كأن دعا صبياً وقال له: اذهب واقتل فلاناً، والصبي لا يعصي، كأن يكون والداً له، أو يكون شريراً يخاف منه الصبي ويفزع، فقال له: اذهب واقتل فلاناً، فذهب وقتله؛ فإنه يسقط القصاص عن الصبي؛ لأنه غير مكلف، ويجب القصاص على الآمر؛ لأنها مثل مسألة الإكراه، فالصبي أو المجنون يندفع بدون شعور.

    والمجنون قد يفعل بتمييز، فإن بعض المجانين عنده نوع تمييز، وبعضهم يكون فعله بدون تمييز، فمثلاً: بعض المجانين -أعاذنا الله وإياكم- يقال له كلام معين فيحدث عنده رهبة أو خوف، وعندها يتصرف بتصرفات معينة تفضي إلى القتل، سواء قتلت صبياً أو امرأة أو رجلاً، ما دام أنه يعلم أن هذه الإثارة لهذا الشخص غير المكلف مفضية إلى إزهاق الروح التي أزهقت وماتت؛ فإنه قاتل كفعل الإكراه في المكرَه؛ لأن مراده التأثير، ولذلك فالصبي قد يُدفع إلى القتل بالقوة أو بالتخويف والتهديد، وعقله قاصر، ويضيق شرط الإكراه في الصبي أكثر منه في غير الصبي؛ لأن غير الصبي يكون عنده من العقل والتمييز والإدراك للأمور ما يستنجد معه بالغير، أو يستغيث به بعد الله بالغير، أو يمكر، أو يحتال، ولكن الصبي لا حيلة له غالباً، فمن هنا إذا أمر غير مكلف؛ فالحكم أنه يسقط عن غير المكلف لوجود موجب الإسقاط، كما لو قتل الصبي منفرداً فإنه لا قصاص عليه، فيسقط القصاص عن غير المكلف، ويثبت القصاص على الآمر المكلف.

    ويدخل في هذا أيضاً المجنون، فالصبي والمجنون كلٌ منهما إذا أُمر بالقتل فقتل فإنه يقتل الآمر، إذا قال أولياء المقتول: نريد القصاص والقود.

    الحالة الثانية: أن يكون المأمور يجهل تحريم القتل

    قال المصنف رحمه الله: [أو مكلفاً يجهل تحريمه].

    انظر إلى فقه المسألة؛ حيث إن المصنف رحمه الله ذكر لك أن هذا النوع من السببية إما أن يوجب القصاص على الاثنين كما في الإكراه، وإما أن يوجبه على أحدهما دون الآخر، فإذا أوجبه على أحدهما دون الآخر نوع رحمه الله في المثال، فجعل الصورة الأولى التي يسقط القصاص فيها عن المأمور الذي هو الصبي غير المكلف، والصورة الثانية يثبت القصاص على الآمر، وهنا إذا أمره السلطان أن يقتل ظلماً، وهو يعرف أن السلطان عادل، أو قال له القاضي: اقتل فلاناً، فإنه من جنس الأول.

    فذكر رحمه الله أنه إذا وجد العذر في المأمور؛ كأن يكون صبياً أو مجنوناً، فهنا العذر في ذات الشخص، وصورة أمر القاضي أو أمر الوالي يشترط فيها شروط: منها: أن يكون معروفاً بالعدل، أو يكون الشخص الذي أمر بالقتل مغرراً به، أو يجهل تحريم القتل، فهذه كلها صور سيذكرها المصنف رحمه الله من باب تطبيق القاعدة.

    فقوله: (أو مكلفاً يجهل تحريمه) يصبح العذر موجوداً في المأمور، فإذا أمر مكلفاً يجهل تحريمه، كأن يكون حديث عهد بإسلام، فجاءه شخص وقال له: يا فلان! إذا قتلت فلاناً دخلت الجنة، وهو لا يدري؛ لجهله بأحكام الشريعة، ولم يلبث أن دخل في الإسلام يريد الجنة، فجاء وقتل فلاناً، فقلنا له: لم قتلت أخاك، هذا لا يجوز في الإسلام؟ فقال: أنا كنت أظنه يجوز، بل كنت أظن أنه يدخل الجنة.

    وقد ذكروا في بعض العصور الإسلامية وقوع مثل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- وكان من عجيب ما فعله أحد قضاة المسلمين بالآمر أنه ابتدأ بتعزيره، فعذبه أشد التعذيب، ثم بعد ذلك أمر بقتله، فما اقتصر على الاقتصاص منه؛ لأنه نظر إلى الكذب على الله عز وجل - نسأل الله السلامة والعافية- والجرأة على أن يقول الإنسان: إن قتل معصوم يوجب دخول الجنة، ولا يستطيع الإنسان أن يشهد لنفسه بدخول الجنة.

    فالشاهد: أن حديث العهد بالإسلام قد يغرر به وينخدع، أو يفعل فعلاً كان يفعله في جاهليته وكفره، وهو يظن أنه لا بأس بفعله بعد إسلامه، فكل من خاصمه أمسك سلاحه وقتله، فلما أسلم ودخل في الإسلام لم يطمئن قلبه بعد ببيان الأحكام، فجاء وقتل مباشرة، ظناً أن مثل هذا الفعل جائز، فهذا يعذره العلماء، وهو ما يسمى: العذر بالجهل، وهي مسألة دقيقة جداً عند المحققين من أهل العلم.

    أما أن يأتي شخص إلى الحج والعمرة، ويدخل في أحكام الحج على مزاجه وعلى كيفه، ثم يقول: أنا كنت أجهل الحكم، ويقال له: ليس عليك شيء؛ فإن هذا مما لا ينبغي، فالعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة مسموعة، وهذا ليس بمعذور، وعذره يعتبر إعانة على الإخلال والتقصير والعبث بالأحكام الشرعية، أما أن يكون هناك شخص يكون الجهل فيه واضح التأثير في إسقاط الحكم. كحديث العهد بالإسلام وليس عنده وقت يتعلم لكي يدرك مقاصد الشريعة ويبين له ما حل وحرم، فمثل هذا يكون جهله مؤثراً، وكذلك الشخص في البرية البعيدة التي لا يوجد فيها علماء.

    وعلى كل حال: سواء كان الجهل عذراً أو ليس بعذر أولاً يحرر ما هو الجهل الذي يعذر بمثله، ومن هو الشخص الجاهل الذي يعذر مثله، ثم بعد ذلك ينظر في مسألة العذر بالجهل، كالمسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله؛ لأن العذر فيها فعلاً مؤثر؛ فحديث العهد بالإسلام لم يسعه الوقت الذي يعلم فيه تحريم قتل أخيه، فيعذر لجهله، ويسقط القصاص في هذا.

    الحالة الثالثة: أن يكون الآمر سلطاناً معروفاً بالعدل

    وقوله: (أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه).

    كالقاضي يكون عنده سياف، فقال له: خذ فلاناً واقتله. فإذا عُرف الوالي أو السلطان أو القاضي بالعدل، وعَرف المأمور منه العدل، وأنه لا يظلم، فهذا عذر به جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الغالب كالمحقق، فلما كان غالبه العدل والإنصاف، وعرف منه العدل؛ فإن مثله يعذر، أما لو كان معروفاً بالعكس فلا يعذر، لكن الإشكال في الشخص الذي يعلم أنه أمر بقتله ظلماً؛ ولذلك قال: (لا يعرف)، فكون المأمور جاهلاً بظلم الآمر، سواء كان قاضياً أو سلطاناً أو غيره، فيعذر، وأما إذا كان عالماً؛ فاختار طائفة من العلماء أن القصاص على المأمور دون الآمر، ما لم يكن الآمر قد أثر عليه وضغطه على وجه يرتقي به إلى الإكراه، فحينئذٍ القصاص على الآمر والمأمور.

    قال المصنف رحمه الله: (فالقود أو الدية على الآمر)، أي: في هذه الحالة القود أو الدية على الآمر؛ لأن المأمور جاهل بظلم الآمر، أو غير مكلف، أو يجهل تحريم القتل، وكلها أعذار موجبة لسقوط القصاص عنه.

    1.   

    الحالة التي يقتل فيها المأمور دون الآمر

    قال المصنف رحمه الله: [وإن قتل المأمور المكلف عالماً بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر].

    قوله: (وإن قتل المأمور المكلف عالماً) أي: حال كونه عالماً بحرمة قتل من يقتله؛ فإنه في هذه الحالة يكون القصاص على المأمور وحده.

    إذاً: هناك القصاص على الآمر، وهنا القصاص على المأمور، ومن هنا ندرك فائدة ترتيب المصنف لهذه المسائل بعد مسألة الإكراه، فالإكراه يقتص منهما معاً، وإن حصل الخلل في المأمور اقتص من الآمر وحده، فإن كان المأمور لا خلل فيه ويعلم أنه أمر بالظلم، وأنه أمر بقتل معصوم، فأقدم على القتل، فالقصاص على المأمور دون الآمر.

    فأصبحت الصور ثلاثاً:

    يقتص من الآمر والمأمور في حالة الإكراه، إذا كان كلٌ منهما قد استوفى شروط القصاص والقود.

    ويقتص من الآمر دون المأمور إذا كان المأمور به عذر، مثل أن يكون غير مكلف، أو يكون جاهلاً بحرمة القتل في الإسلام مثل حديث العهد بالإسلام، أو جاهلاً جهلاً معيناً؛ كأن يكون الشخص الذي أمر بقتله مظلوماً، وظن أنه يقتل بالحق، فحينئذٍ في هذه الثلاث الصور يقتص من الآمر دون المأمور؛ لأن في المأمور عذراً يمنع القصاص منه.

    والصورة الأخيرة: إذا كان المأمور مكلفاً عالماً غير معذور، فإنه في هذه الحالة يُقتص من المأمور دون الآمر، إلا في مسألة الصبي، فقد ذكرنا أن بعض العلماء قال: في مسألة الصبي يقتص من الآمر دون المأمور، لكن في الصورة الثالثة -وهي التي يقتص فيها من المأمور دون الآمر- قالوا: لأن المأمور أقدم على القتل بدون إكراه وبدون ضغط، ففي هذه الحالة يُقتص منه؛ لعلمه بحرمة دم المقتول، وعلمه بحرمة القتل، فليس فيه عذر يمنع من القصاص منه.

    ولو قال قائل: إنه أمر، فنقول: إنه أمر على وجهٍ لم يكن الأمر فيه سبباً مؤثراً -أي قوي التأثير - في الإزهاق، فليس هو مثل الإكراه، حيث إن أمر الإكراه سبب قوي التأثير في الإزهاق، لكن هنا الأمر ليس بسببٍ مؤثر في الإزهاق، إلا فيما استثنيناه في مسألة الوالي إذا أكره أو ضغط، فحينئذٍ تنتقل المسألة إلى مسألة المكرِه والمكرَه، فيقتص منهما، ويجب القصاص والقود عليهما.

    1.   

    إذا اشترك اثنان في قتل وسقط القصاص عن أحدهما

    قال رحمه الله: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك].

    من باب ترتيب الأفكار: فقد ذكر رحمه الله مسألة إذا اشترك اثنان، فعرفنا متى يقتص من الاثنين معاً، ومتى يقتص من الآمر دون المأمور، ومتى يكون القصاص بالصورة العكسية، والسؤال الآن: لو أنه اشترك اثنان، أحدهما يجب القصاص عليه، والثاني لا يجب القصاص عليه، وقال أولياء المقتول: لا نريد القصاص، بل نريد الدية، وكنا قد ذكرنا أنه إذا اشترك اثنان يجب القصاص على أحدهما دون الآخر، فيقتص من الذي يجب القصاص منه، فلو عفا أولياء المقتول عن الدم فهل تجب الدية عليهما، أو تجب على الذي يجب عليه القصاص؟

    بين المصنف رحمه الله أنها تجب عليهما، وبناءً على ذلك يكون عليه نصف الدية، فقال رحمه الله: (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك).

    فقوله: (فالقود على الشريك) إذا اشترك اثنان لا يجب القصاص على أحدهما، كما لو اشترك -والعياذ بالله- مع شخصٍ أجنبي وقال له: أريد أن أقتل ولدي هذا، فساعدني على قتله، فاشترك الاثنان، وقتل هذا الولد، وحصل الزهوق بفعلهما بالشروط المعتبرة في اشتراك الجماعة، ففي هذه الحالة الأب لا يجب عليه القصاص، كما سيأتي إن شاء الله وسنذكر دليل ذلك، والأجنبي يجب عليه القصاص؛ لأن الأب سقط عنه القود لمعنى يخصه، وهذا المعنى لا يؤثر في السببية؛ لأن الإزهاق والقتل حصل بفعل الاثنين، وكان أحدهما عنده عذر يخصه لم يسرِ العذر إلى غيره، والقصاص في الأصل واجب على الاثنين، فإذا تعلق الإسقاط وتعلقت الرخصة بأحدهما لم تسرِ إلى الآخر وهو الأجنبي، فيجب القصاص على الأجنبي دون الوالد، هذا أصل المسألة.

    قال رحمه الله: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية].

    أي: إذا عفا الأولياء فإن الأجنبي يدفع نصف الدية؛ لأن الدية مشطرة بينهما.

    إذاً: المصنف رحمه الله بين حكم اشتراك الجماعة في قتل الواحد اشتراكاً على وجهٍ لو انفرد كل واحدٍ منهم لقتله، فكلٌ منهم قاتل، ويجب القصاص على الجميع، وإن عفي لزمتهم دية واحدة، وانتقل بعد ذلك للاشتراك بالسببية في مسألة الإكراه ومسألة الأمر بالقتل، وفصل رحمه الله في هذا، ثم شرع في مسألة اشتراك من يعذر ومن لا يعذر، فبين أن سقوط القصاص والقود عمن يعذر لا يوجب سقوطه عمن لا يعذر؛ لأنه لو انفرد فعل كل واحد منهما لأوجب الزهوق، وبناءً على ذلك فكلٌ منهما قاتل، فإذا عفي عن أحدهما أو أسقطت الشريعة القصاص عن أحدهما لمعنى لا يوجد في الآخر؛ فإن الرخص لا يُتجاوز بها محالها.

    وهذا أصل في الشريعة: أن الشيء الذي يكون معذوراً يختص العذر به ولا يتجاوزه لغيره ممن لا يوجد فيه هذا العذر، وإلا ضاعت أحكام الشريعة، فهذا الأجنبي مع هذا الوالد قاتل، وإذا سقط القصاص عن الوالد لمكان الأبوة لم يسقط عن الأجنبي، وكذلك لو مات أحد الشركاء في القتل قبل أن يُقتص منهم، فإنه يقتص من الباقين، فلو أن ثلاثة قتلوا زيداً من الناس، فمات أحد الثلاثة قبل القصاص، وقال أولياء المقتول: نريد القصاص؛ فإنه يقتص من الاثنين الباقين، وموت أحدهم لا يسقط كون البقية قتلة.

    ومن هنا إذا كان الخلل مرتبطاً بسببية القتل، ويوجب التأثير فيها، فحينئذٍ يكون مؤثراً، أما هنا فإنه ليس من هذا الباب، ولذلك لا يوجب إسقاط القصاص عن الأجنبي، فيقتص من الأجنبي ويترك الوالد ولا يقتص منه؛ لأن القصاص لا يجب في حقه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم سقوط الجنين نتيجة الحمل الثقيل على الحامل

    السؤال: امرأة كانت حاملاً، فرفعت ثقيلاً، ثم سقط الجنين، فهل عليها كفارة أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    أولاً: لا بد للإنسان أن يذكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، فقد كنا في صلاة المغرب وخلال دقائق يسيرة نظر الإنسان إلى عظمة الله جل جلاله، وحقارة الناس أمام رب الجنة والناس، لحظات يسيرة لو شاء الله أن يهلك من على الأرض لأهلكهم، يذكر الله سبحانه وتعالى الغافلين، ويوقظ النائمين، وهذه الأشياء التي يحتاجها الإنسان ليكون قلبه حياً دائماً، وإذا أرى الله عبده الآيات والنذر فاتعظ قلبه وانكسر فؤاده؛ أصلح الله حاله، وعرف الله عز وجل، ومن عرف الله نال سعادة في الدنيا والآخرة.

    وليس هناك شيء في الدنيا أعز ولا أكرم ولا أعظم من المعرفة بالله عز وجل.. من عرف جبار السماوات والأرض الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، من أسلم له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، الكهرباء تقف أمام عظمته ذليلة فتنطفئ، والسيارات تتعطل، والطرقات تتوقف، ولا يستطيع أحد أن يقدم شيئاً أخره الله أو يؤخر شيئاً قدمه الله؛ لأن الأمر أمره، والملك ملكه، والتدبير تدبيره جل جلاله.

    ثم لو خرج الإنسان إلى الدول التي فيها الجنات والنعيم، لرأى أشياء تهز القلوب، وهذا الذي نراه يسيراً، ففي بعض الأحيان يأتيهم الإعصار -أعاذنا الله وإياكم- دقائق معدودة فلا يبقي ولا يذر، وتجد الخلق عاجزين لا يستطيع أحد أن يتحرك، والعجب كل العجب أن الله لا يسلط مثل هذه الأمور إلا على أقوى دول الأرض، حتى يعلموا أن الله فوقهم، وأن الله قاهرٌ لهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وأن الأمر أمره، والكون كونه، والتدبير تدبيره، ولكن ما أغفل الخلق عن الخالق سبحانه وتعالى!

    كل شيء يتحدث عنه الناس، وكل شيء يذكره الناس إلا الله جل جلاله، فما أغفلهم عن ربهم! الواحد منا لو حصل له ظرف أو نكبة أو كربة فوجد أحداً يقف بجنبه وقوف العاجز مع العاجز، وضعف الطالب والمطلوب، وإذا أجرى الله على يد هذا العاجز فرجاً، وفتح له باباً ومخرجاً، جعل يتحدث بهذه الحسنات، ويفتخر لهذا الرجل بمآثره، ويزين قبيحه، ويرفع وضيعه، ويزكي فاسده، كل هذا من أجل هذا المعروف، فأين الله جل جلاله؟! أين الله سبحان وتعالى الذي ما من طرفة عين ولا أقل من ذلك إلا وهي نعمة مرسلة عليك، وألطافه، ورحمته، وحلمه، وإحسانه وبره، كيف لو أن هذا البلاء وهذا المطر الشديد لو أن الله سبحانه وتعالى أذن أن يستمر ليلة واحدة، كيف سيكون حال الناس؟! كيف لو أن الله أرسل هذه الصواعق التي يصيب بها من يشاء!

    وقف رجل ملحد ذات مرة من المرات يقول لشخص أثناء نزول المطر: من هو الله -أعوذ بالله- الذي تدعوني إلى عبادته؟ فما انتهى من كلامه حتى أصابته صاعقة قسمته قصمته نصفين، وصدق الله في وصفه: وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13].

    فالسعادة التي يبحث عنها كل سعيد، وسيجدها كل موفق، هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلا تمر عليك لحظة إلا وقد ازددت معرفة بملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وعرفت من الذي بيده الأمر كله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123].

    تعرَّف على ملك الملوك، تعرف على جبار السماوات والأرض، تعرف على من لا تخفى عليه خافية، تعرف على الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88].

    لقد كان الناس في شدة وضيق وفقر، والشخص تراه يسافر في خوف وفقر وجوع، وأحوال شديدة، لكن كانت قلوبهم عامرة بالله جل جلاله، فكان خوفهم أمناً، وجوعهم سبعاً، مما يجدون من لذة المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فلن تضيق الدنيا على عبدٍ عرف الله، ولن تضيق الدنيا على عبدٍ أخذ من هذه الدلائل والشواهد زاداً للقاء الله، وعرف من ربه ومن خالقه، فالناس تعتريهم الغفلات، وتحيط بهم من كل جانب الملهيات، وتجدهم بعيداً عن التفكر في ملكوت الأرض والسماوات، ولكن يرسل الله الآيات تخويفاً، فتقرع قلوب المؤمنين فتزيدهم توحيداً وتحقيقاً، وصدقاً وإحساناً وبراً له سبحانه وتعالى، ويقيناً بعظمته، والعبد من لحظة إلى لحظة ومن فكرة إلى فكرة تقربه إلى ربه، وتزيده إيماناً بخالقه؛ فعندها يطمئن القلب بالله عز وجل.

    فكيف لو كشف الله للعبد ملكوت السماوات والأرض! وكيف لو كشف الله له أخذه بأزمة الأمور ومقاليدها! فرسول الأمة صلى الله عليه وسلم لما جاءه عام الحزن، وأراد الله عز وجل أن يملأ قلبه بأعز الأشياء وأحبها إليه، أسري به صلوات الله وسلامه عليه، ثم عرج به إلى أطباق السماوات العلى، ومن بعدها ما عرف خوفاً إلا من الله، عرف من هو الله سبحانه وتعالى : (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم)، فكان أخشى الخلق وأتقاهم صلى الله عليه وسلم.. لماذا؟ للنظر في هذه الآيات والدلائل، ولذلك كان إذا هبت الريح دخل وخرج، وعرف في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخشى أن تكون كريح عاد التي أخذهم الله بها أخذ عزيزٍ مقتدر.

    ثم إذا أحس المؤمن أن الكون لهذا الرب الذي يرسل الرياح، ويجري الأنهار والبحار، وله الليل والنهار؛ علم أنه مهما طغى في هذه الأرض طاغية فإن الله سيقصم ظهره، وسيشتت أمره، وسيتأذن الله عز وجل بنهايته إن عاجلاً أو آجلاً، ولذلك عرف الموحدون ربهم فاطمأنوا، تجد الناس في قلق وهم في طمأنينة، في خوف وهم في أمن للمعرفة بالله عز وجل، والمعرفة بعظمته في لحظة واحدة، في شدة الحر والصيف ينزل المطر، وقد يكون نزوله في هذه الدقائق يمكن من خلال فصل ما مر مطر بهذا الشكل؛ لأن الله أذن له أن ينزل.

    ثم انظر كيف سبحانه، وهذه من أعظم الدلائل التي ينبغي للمؤمن أن يتفكر فيها، أن الله أخلف السنن والعادات، وأجرى أشياء تناقضها حتى يتفكر الناس، ويعلم أن الأمر له سبحانه لا لغيره، ولذلك فمن عادة الصيف ألا يوجد فيه المطر، ولذلك قال القائل:

    ...................... سحابة صيف عن قريب تقشعُ

    لكن الله قال لها: كوني فكانت، وقال لها: أفرغي ما فيك فأفرغت، وأسلمت واستسلمت، وذلت لله عز وجل، وحق لها أن تذل، فهذا كله بأمره، ويرينا هذه الآيات والدلائل ليس في فصل الشتاء بل في عز الحر، قبل ساعات ونحن نكتوي بلظى الحر، كلٌ منا يريد شيئاً يبرد عليه، مكيفاً أو غيره، وإذا به سبحانه وتعالى يري عباده عظمته وجلاله.

    ثم انظر كيف إذا جاءت آيات الله عز وجل -في غير ما اعتاده الناس- فتهز قلوب العباد هزاً، والله ما من إنسان ملأ عينه من عظيم في الدنيا -أياً كان هذا العظيم- إلا احتقره في جنب الله جل جلاله، من عظمة الله سبحانه وتعالى.

    فالناس صنعت الطائرات، وفعلت بأمر الله عز وجل وبقدرته، ولكن الطائرات إذا هبت الرياح لا تطير، وإذا طارت سقطت، وأصبحت في كرب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يمسكها بين السماء والأرض أن تسقط، ولو صنعوا ما صنعوا من القوى العاتية التي مهما بلغت فلابد أن تجدهم يذلون له سبحانه وتعالى، وحق لهم أن يذلوا له وحده لا شريك له.

    لكن من الذي يتعظ؟! ومن الذي يتفكر ويتدبر؟!

    البراكين تنفجر، فإذا انفجرت لو اجتمع أهل الأرض على أن يخمدوا بركاناً لما استطاعوا، هل سمعتم بما يسمونه بالعلم الحديث؟ لا علم حديث ولا قديم، هذا كله تعليم من الله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام:6]، فلا ينفع علم حديث ولا غيره، فهل وجدتم علماً حديثاً أطفأ بركاناً إذا انفجر؟

    هل وجدتم علماً حديثاً أمسك إعصاراً أمر الله له أن يجري؟ هل وجدتموه يتحرك ويفعل شيئاً؟

    يقفون مستسلمين؛ لأن الله جعل لهم حدوداً معينة إنهم يقفون عندها يذلون له سبحانه وتعالى.

    فهذه كلها دلائل لا ينبغي للمؤمن أن يتغافل عنها، فإن المؤمن إذا أرسل الله له الآيات وأصبح في غفلة ولا يتعظ ولا يتفكر؛ قد يطبع -والعياذ بالله- على قلبه فيكون من الغافلين.

    فسعادة الدنيا وسرورها بالتفكر في عظمة الله جل جلاله، والتفكر والتدبر في عظمة الله جنة فهنيئاً لمن دخلها، وهنيئاً لمن عاش بينها، حيث يجعل الله بها لوليه المؤمن ما لا يخطر له على بال، فمتى ما عرفت ربك هان عليك كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ومن جهل بالله سلط الله عز وجل عليه نقمة الدنيا والآخرة، ولذلك تجد أضعف الناس وأخوف الناس وأجبن الناس من كان جاهلاً بالله يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، فهؤلاء هم أخوف الناس، وأتعس الناس، ولذلك فإن الشخص منهم يحسب حسابات مادية، إذا قعد على كرسيه ربط حزامه وجلس يحسب الأشياء حساباً دقيقاً من الخوف والذل وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، ولكنه لن يستطيع أن يفلت من عظمة الله جل جلاله ومن أمره.

    فهذه كلها دلائل واضحة على عظمة الله سبحانه وتعالى، ينبغي للإنسان ألا يغفل عنها، وهذه الآيات التي نراها أشياء جعلها الله عز وجل حتى نتفكر ونتدبر ونتعظ بها، ونقول ملء قلوبنا وملء ألسنتنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، ولا معبود غيره سبحانه وتعالى جل جلاله فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يزيدنا من الإيمان به، والتصديق والتسليم له، وأن يملأ قلوبنا بالمعرفة به، وأن يجعلنا من المحسنين والموقنين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء المفلحين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين.

    أما الجواب عن السؤال: فهذه المسألة فيها تفصيل:

    أولاً: لابد من إثبات حياة الجنين قبل نزوله، والأصل عند العلماء أنه لا يحكم بحياة الجنين إلا بعد مضي ستة أشهر بالنسبة لاكتمال الخلق وحصول الحكم بالزهوق، وإلا فالأصل في الحديث أنه يجمع خلق الإنسان إلى مائة وعشرين يوماً، ثم يرسل الملك فيؤمر بنفخ الروح فيه وكتابة أجله ورزقه وشقيٌ هو أو سعيد.

    وبالنسبة للقتل: فإن الحمل للأشياء الثقيلة جرت العادة والعرف أنه يتسبب في الإجهاض، وإذا علمت المرأة أن هذا يجهض جنينها وفعلت ذلك؛ فهذا لا إشكال في أنه قتل، ويترتب عليه ما يترتب على القتل، وإن كانت تجهل ذلك فعليها الضمان والكفارة، والله تعالى أعلم.

    إذا مات أحد القاتلين بعد العدول إلى الدية

    السؤال: إذا مات أحد الشريكين في القتل بعد العدول إلى الدية، فهل تجب كل الدية على الحي كاملة أثابكم الله؟

    الجواب: يجب نصف الدية على الشريك، ثم الآخر الذي مات قبل القصاص تجب نصف الدية في ماله، وحكمها حكم الدين، والله تعالى أعلم.

    ما يقال بين خطبتي الجمعة

    السؤال: نرجو توضيح ما يجب فعله ما بين الخطبتين: هل ندعو أم نستغفر أثابكم الله؟

    الجواب: الأمر واسع في هذا، لكن جرت العادة بالاستغفار، وهذا له أصل من فعل بعض السلف رضي الله عنهم من الصحابة، لكن إذا أمر الخطيب بالاستغفار فالأفضل أن يستغفر ولو مرة واحدة؛ لأنه كولي الأمر، فيسمع له لأنه ولي أمر المسجد، فالعالم في حلقته ولي أمرها، والخطيب في خطبته ولي أمرها، فينصت له ولا يتكلم إلا معه، والإمام في مسجده ولي أمره، فإذا أمر بالاستغفار فيطاع أمره، وهذا الموضع -ما بين الخطبتين- مذهب بعض العلماء أنه مظنة الساعة التي يستجاب فيها الدعاء، وقالوا: إن قوله: (وهو قائمٌ يصلي) يشكل على هذا القول، لكن أجاب بعض العلماء بأن قائماً يصلي من الإقامة في المكان والموضع، ومن جلس ينتظر الصلاة فهو في حكم من يصلي، وقالوا: إن الخطبتين في حكم الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك منع الكلام فيهما، وهذا مما خرجوا به، فأحد الأقوال: أنه موضع الساعة التي يجاب فيها الدعاء، فيجتهد فيه بالدعاء، وأما الأصل فإنه فلا بأس ولا حرج على المسلم أن يدعو فيما بين الخطبتين، وهذا محفوظ من فعل السلف، كما في صحيح البخاري من فعل الصحابة مع عمر رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الجميع وأرضاهم، والله تعالى أعلم.

    حكم القود من الجد إذا قتل ولد ابنه

    السؤال: إذا قتل الجد ولد ابنه فهل يقتل أثابكم الله؟

    الجواب: الأصل عدم قتل الوالد بولده، وهذه المسألة ستأتي -إن شاء الله- وأحب أن الأسئلة التي ستأتي تترك، وعلى كل حال هذه المسألة جمهور السلف على أنه لا يقتل الوالد بالولد، والجد والدٌ لولده، ومن هنا يقولون: يشمل الوالد المباشر، والوالد بواسطة، وهناك بعض العلماء يرى أنه يقتل الجد إذا قتل إعمالاً للأصل، ويرون أن القود مختص بالوالد، ولكن ظاهر أثر علي رضي الله في السنن أنه لا يقاد الوالد بولده، والله تعالى أعلم.

    حكم النفث مع قراءة المعوذات دبر الصلوات

    السؤال: هل من السنة النفث عند قراءة المعوذات دبر الصلوات المفروضة أثابكم الله؟

    الجواب: السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نفث قبل القراءة عند النوم، كما في حديث عائشة في الصحيح: أنه كان يجمع كفيه فينفث فيهما ثم يقرأ المعوذات فيمسح، ثم يرجع مرة ثانية، ثم مرة ثالثة، هذه هي السنة، ولا يكون النفث بعد القراءة إلا عند النوم خاصة، ولم يحفظ نفثٌ إلا في هذا الموضع، فيقتصر على الوارد، لكن إذا كان يريد أن يرقي نفسه فنفث ومسح على جسمه فلا بأس، فقد جاء في الحديث الصحيح: (فكنت أقرأ الفاتحة ثم أجمع بريقي وأتفل عليه)، فالرقية لا بأس فيها بالنفث وأيضاً التفل اليسير؛ لأن لها أصلاً، أما بالنسبة لقراءة المعوذات فإن الثابت في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات أنه لا نفث فيه، ويقتصر فيه على الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مجرد القراءة، والله تعالى أعلم.

    حدود قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)

    السؤال: يتوسع البعض في فهم قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، فكلما احتاج إلى أمر قال هذه العبارة، فما هو حد الضرورة المقصودة هنا أثابكم الله؟

    الجواب: أولاً: ما هو حد الذي يقول: الضرورات تبيح المحظورات؟ من هو العالم أو الشيخ أو الشخص المؤهل لكي يحكم بالضرورة واعتبارها؟

    الضرورات بحرٌ لا ساحل له، لكن نحن نبين الأصول أولاً وقبل كل شيء ليعلم كل إنسان أن الله لا يخادع.

    وثانياً: أن أي حكم شرعي يأخذه الإنسان ويدين الله به ويعمل به، سيسأل أمام الله عز وجل عمن أخذه، فلا يجوز أن يأخذ حكماً إلا ممن ترضى ديانته وأمانته ويرضاه حجة له بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإلا زلت قدمه وهلك وأهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فوصفهم بالضلال، نسأل الله السلامة والعافية.

    والضرورات تبيح المحظورات قاعدة شرعية دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليها علماء الأمة، وهي أن الإنسان عند الاضطرار يباح له فعل المحرم، وكما في الأصول قال تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، فاستثنى سبحانه وتعالى المضطر؛ ولأن الضرورة فيها حرج، قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولأن الضرورة عسر والله يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فإذا ثبت أن الشريعة تخفف عن المضطر فالضرورة عند العلماء بالمصطلح الخاص: هي خوف فوات النفس، فإذا خاف الإنسان أنه إذا لم يفعل هذا الشيء فإنه سيموت، فهو مضطر، مثل من جاع ولم يجد طعاماً إلا ميتاً، فإنه إذا بقي على حكم الشرع بالتحريم فإنه سيموت، وحينئذٍ يرخص له بأكل الميتة اضطراراً لا اختياراً؛ لأنه لو لم يأكلها لهلكت نفسه.

    إذا ثبت هذا فالضرورة هي خوف فوات النفس، وهذا القول فيه خلاف: هل يشترط في المضطر أن يرى أمارات الموت عليه حتى يحكم باضطراره؟ أو يحكم بغالب ظنه؟ اختار بعض الأئمة رحمهم الله أن الضرورة هي الخوف، فإذا غلب على ظنه أنه سيموت فهو مضطر، وإن لم ير أمارات الموت، وقال بعض العلماء: لا ضرورة حتى يقف الموقف الذي يشرف فيه على الهلاك؛ لأنه ربما جعل الله له فرجاً ومخرجاً قبل أن يشرف على الهلاك، والصحيح في الضرورة: أنها الخوف الذي هو غلبة الظن، والغالب كالمحقق.

    واختلف أيضاً في الخوف على الأعضاء، فلو خاف على عضو من أعضائه أن يقطع أو يفسد، أو يشل، فهل يدخل هذا في باب الضرورة؟ أيضاً اختار بعض المحققين أن الخوف على الأعضاء من الجسم ضرورة تبيح المحظور كالخوف على النفس، ولذلك ضبطها علماء القواعد كـالسبكي والسيوطي وابن نجيم في الأشباه أنها: الخوف على النفس والأطراف والأعضاء.

    أما بالنسبة لغير هذا فيسمونه: إذا كان يوجد الحرج، فمثلاً: ألم الرأس إذا اشتد شدة عظيمة على الإنسان، فلا هو خوف موت ولا هو خوف على عضو أن يتلف، لكنه يوجب حرجاً شديداً، فهذا يسمونه حاجة، فإذا وصل إلى درجة العنت والمشقة فيسمونه: حاجة، والقاعدة عندهم: أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.

    وكذلك ألم الضرس، فإن الضرس إذا اشتد ألمه فيضطر الإنسان أن يستعمل المخدر، والمخدر محرم، فلا يجوز استعمال المخدرات، لكن إذا كان ألمه شديداً جداً بحيث يصل إلى مقام الحرج فنقول: يجوز له؛ لأنها حاجة تنزل منزلة الضرورة، إذاً: الحاجيات تكون في مقام الضروريات إن كانت أخف من جهة السبب الموجب للتأثير في الحكم.

    أما بالنسبة لكل شخص يفتي نفسه بأنه مضطر فلا، فإن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره، والمكاره فيها آلام ومشاق، وفيها متاعب، والرجل قد يكون نائماً في فراشه في شدة البرد، فيسمع أذان الفجر فيقوم من فراشه ويتوضأ في شدة البرد، وهذه مشقة، لكن الله كلفنا بها وأمرنا بها، فلا يقل: أنا مضطر، ويترك الصلاة، هذه ليست بضرورة، بل هذا عبث بالأحكام.

    ومن هنا ينبغي أن ينتبه لمسألة فتح أبواب الرخص والترخيص للناس، فلا يقبل ذلك إلا من عالم يوثق بدينه وعلمه، وكذلك أيضاً مسألة الضرورة حينما يفتى بها فتاوى عامة، فيقال: اتركوا الناس يخرجون قبل غروب الشمس يوم عرفة، فنقول: لماذا؟ قالوا: هذه ضرورة؛ لأن الناس ازدحموا! هذه أحكام شرعية لا أنا ولا أنت نعبث بها، هذه أشياء مرتبة وأحكام مؤصلة ليست محلاً للعبث، أن يأتي إنسان ويفتي فيها فتوى عامة ويرخص فيها للناس أنهم يتركون ما شرع الله ويقول: باسم الضرورة، فإن هذا شيء شرعه الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    وكذلك أيضاً الرمي بعد الزوال، هناك من يقول: دعه يرمي قبل الزوال ضرورة!! العيب يا إخوة! ليس في الشريعة، هذا من الخلط والجهل الذي يصيب البعض، وقد ذكر بعض العلماء أنه أضر ما يكون على المسلمين أنصاف المتعلمين، يمسك قاعدة وعنده نص علمي يستطيع أن يفتح به أبواب المحرمات -والعياذ بالله- فيجعل الحرام حلالاً والحلال حراماً، إما أن يذهب مع المتساهلين فينسلخ من الدين رويداً رويداً، حتى لا يبقى له من الدين -والعياذ بالله- إلا اسمه، من تتبع الرخص والتساهل، وإما أن يذهب مع المتزمتين فيضيق ما وسع الله على عباده باسم نصف العلم الذي عنده، فيشدد حتى يضيق على العباد ما وسع الله عليهم، ولكن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، لا إفراط ولا تفريط، تطبق القواعد حيث أذن الله لك أن تطبقها، وتترك العبث بشرائع الإسلام وأحكامه الثابتة الواضحة والسنن المحكمة التي لم تنسخ يوماً من الأيام، وتبقيها كما حفظتها نصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فلا تغش المسلمين؛ لأنك إن قلت: الرمي قبل الزوال ضرورة! وما هو ضرورة، والعيب ليس في الشريعة، العيب في أخلاق الناس، ليس العيب أن الناس ترمي قبل الزوال أو بعد الزوال، هذا خلط في الأحكام، العيب جاء من سلوكيات وتصرفات الناس، ومعناه أن عندنا تقصيراً في توجيه الناس، وفي تعليم الناس، مما يؤدي إلى أن تحمل الشريعة أكثر مما تتحمل.

    ونأتي ونقول لهم: ادفعوا قبل غروب الشمس؛ لأن الناس يزحم بعضهم بعضاً.. لا، علم الناس آداب الحج، علم الناس هذه الآداب التي في كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام، وأقم الحجة على عباد الله عز وجل، وبعد هذا لست مكلفاً أن تبحث عما وراء ذلك حتى لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، وهذا هو الفقه.

    وهناك سنة وحدود، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) قال لك: لا تخرج قبل غروب الشمس، معناه أنه حرم عليك الخروج قبل غروب الشمس، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم كان معه مائة ألف.

    النقطة الثانية: مسألة الضرورة في أشياء هي من طبيعتها وتكييفها ومقصود الشرع فيها؛ فيها نوع من المقصود الشرعي، فتعطله بمخالفة الشرع.

    الآن الحج إذا نظر الإنسان فيه، يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليهن - يعني النساء- جهادٌ لا قتال فيه)، فهل معنى ذلك أن الحج لليسر أو للامتحان والاختبار؟

    للشدة والامتحان والاختبار حتى يخرج الإنسان عن حياة الترف والبذخ ويأتي إلى حياة المحن، ولذلك تجد الغني والثري ما يصهر بين الناس ويقهر على أشياء مثل أيام الحج، خاصة إذا لم تجد بجوارك من يفتي بالرخص، إذا وجدته يمشي على السنة وجدته يختلف حاله تماماً بالحج، ويصبح الحج له مدرسة حقيقية، فإذا جاء الشخص ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم يقول الراوي: (كاد أن يقتل بعضهم بعضاً)، وهذه ثابتة، ولما جاء في يوم الحديبية وحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ماذا فعل الصحابة؟ قال: (كادوا أن يقتتلوا على الحلاق)! الصحابة رضوان الله عليهم كادوا أن يقتتلوا على الحلاق؛ لأن طبيعة الشيء يستلزم هذا.

    ولما ترى طلاب العلم يزدحمون عند عالم أو عند شيخ، فهذه طبيعة هذا الشيء، فلا تحمل الأشياء ضدها وما لم تتحمله، فالحج طبيعته هذا الشيء من الازدحام وغيره، وأنت تريد أن تغير الحج عن طبيعته، ليس ذلك لك ولا هو لي، هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى، فانظر إذا خفف الشرع فخفف، وإذا ضيق الشرع فيضيق، فإن ضيقه رحمة وسعة بالناس؛ لأن الله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    وكم من إنسان ثريٍ غنيٍ لم يشاهد يوماً من الأيام ضيقاً يذكره بالله، فجاء إلى الحج فضيق عليه في الحج حتى رجع إلى ربه، ولربما رأى الموت في الزحام، وتشهد ورأى الشهادة فتاب توبة نصوحاً، وما وجد هذا إلا في الحج، فهذه أشياء وحكم وأسرار لا يعلمها كل أحد.

    ولذلك ينبغي علينا أن نقف عند الحدود، فلا يتوسع الإنسان في الرخص تحت مقام الضرورات تبيح المحظورات، وأحذر كل طالب علم تعلم علماً لم يستوفه ولم يعطه حقه عن أن يرخص لنفسه ما لم يعلم طبيعة المرخص فيه، وحقيقته، وهل مثله يوجب الرخصة أو لا يوجبها، حتى يكون على بينة من أمره وسداد وصوابٍ في حاله وشأنه.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وقد اجتمعنا في هذا البيت من بيوتك يا واسع الرحمة أن تلحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مغيرين ولا مبدلين، اللهم إنا نعوذ بك أن نضل أو يضل بنا، أو نزل أو يُزل بنا، يا حي يا قيوم! اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، لا إله إلا أنت توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الرحمين.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756216211