إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أنواع القتل العمد: القتل بالسببية، وهو أن يتسبب الشخص في قتل الغير دون أن يباشر القتل بنفسه، وللقتل بالسببية صور كثيرة: كأن يحبسه ويمنعه من الطعام والشراب حتى يموت، أن يقتله بالسحر، أو يقتله بالسم، أو يشهد جماعة زوراً على رجل بما يوجب القتل فيقتل.. وكل هذه الصور لابد فيها من شروط حتى يحكم بكون القتل عمداً يجب فيه القصاص.

    1.   

    من صور القتل العمد بالسببية

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً ].

    شروط الحكم بأن القتل بالحبس قتل عمد

    ما زال المصنف رحمه الله يذكر الصور التي تتعلق بالقتل بالسببية، ومنها هذه الصورة، وهي: أن يحبس القاتل المقتول، ويمنعه من الطعام والشراب، وتمضي مدة يموت الإنسان فيها غالباً، وهذه الصورة لا شك أنها تفضي إلى القتل في غالب الأحوال، والذي عليه المحققون من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يحكم بمدة معينة تحدد، بحيث يقال: إذا حبس فوق ثلاثة أيام أو أربعة أيام فيحكم بكونه قتل عمد، إنما ينظر إلى حال الشخص، والمدة التي حبس فيها، وطبيعة الحبس.

    والأصل في هذا أن الطعام والشراب يرتفق بهما البدن، ولا يمكن للإنسان أن يعيش من دون طعامٍ وشراب، ولكن إذا وقع المنع للمقتول من الطعام والشراب فيفصل فيه العلماء من جهة كونه مدة لا يموت فيها الإنسان غالباً، فلو حبس عنه الطعام والشراب يوماً واحداً ثم مات، فإنه يغلب على ظننا أن موته ليس بسبب حبس الطعام والشراب، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام، والصيام لا يقتل الإنسان، ولو كان يقتل الإنسان لما شرعه الله عز وجل، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله أنه لو حبسه يوماً ومنع منه الطعام والشراب فمات، فالغالب أنه مات بسببٍ آخر لا بسبب حبس الطعام والشراب.

    ومن هنا اشترط أهل العلم رحمهم الله أن يكون منع الطعام والشراب مدة مؤثرة، ويرجع في ذلك للأطباء والحكماء؛ لأنهم هم أهل النظر وأهل الخبرة في أحوال الأشخاص.

    إذاً: هذه الصورة يشترط فيها أولاً: أن يكون هناك حبس، فلما قال المصنف: (أن يحبس) دل على أنه لو كان بيد المقتول أن يأكل ويشرب، وامتنع المقتول من الأكل والشرب؛ كان قاتلاً لنفسه، وعلى هذا فلو أضرب عن الطعام فإن إضراب المسجون عن الطعام حتى يموت يعتبر من الانتحار، وهو قاتلٌ لنفسه، فإذا كان بإمكانه أن يأكل وبإمكانه أن يشرب وامتنع من الأكل وامتنع من الشرب، فإنه يكون قاتلاً لنفسه والعياذ بالله!

    كذلك يشترط في هذا الحبس والمنع أن يكون مؤثراً، وقد ذكر العلماء من صوره في القديم: تطيين البيت، فقد كان البعض إذا أراد أن يقتل الشخص يدخله في بيت ويطين عليه البيت، فيسد عليه منافذه بحيث يتعذر على من بداخله الخروج، فهذا التطيين يحقق شرطاً اعتبره العلماء في الحبس عن الطعام والشراب، وهو: ألا يتمكن المحبوس من الاستغاثة، وألا يتمكن من طلب النجدة بالغير، فإذا أمكنه أن يستنجد وأن يستغيث -بعد الله عز وجل- بالغير ولم يفعل، وقصر في هذا حتى مات؛ فإنه لا يعتبر قتل عمدٍ من كل وجه، ولا يجب القصاص، وهذا مبني على ما تقدم معنا أنه متى ما أمكن للمقتول أن يدفع الضرر عن نفسه وقصر في ذلك فإنه لا يحكم بقتل العمد، ولا يحكم بالقصاص؛ لأنه هو الذي قصر في حفظ نفسه والدفاع عنها.

    ومثل ذلك ما هو موجود الآن في زماننا، كأن يدخله في غرفة ويغلق عليه ثم يكمم فمه أو يربطه ويربط يديه، حتى لو كان أمامه طعام وشراب فلا يستطيع أن يأكل، بحيث يتعذر عليه أن يدنو من الطعام ليأكل منه، المهم أن يتحقق مانع وحائل من الوصول إلى الطعام والشراب.

    إذاً: لابد أن يكون الحبس لا يتأتى معه استغاثة.

    الشرط الثاني: أن تمضي مدة مؤثرة، فإذا مضت المدة المؤثرة التي يموت فيها الإنسان إذا حبس عن الطعام والشراب حكم بالقصاص، ووجوب القود.

    أما لو لم تمض المدة -كما ذكرنا- كأن يكون يوماً، فشبه اتفاق على أنه لو مضى يوم فليس بقتل؛ لأن الله شرع الصوم -كما ذكرنا- وهذا لا يموت الإنسان فيه.

    وانظر إلى دقة المصنف حينما قال: (غالباً)، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: أن الحكم للغالب والنادر لا حكم له، فنحن نربط الأحكام الشرعية بالغالب، فغالب الحال أنه لو مضت ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك فإنه يموت الإنسان في الغالب، لكن بعض العلماء يشكك في هذا، ويقول: إنه لا يحد في هذا بحد، وإنما ينظر في كل قضية بعينها وبحسبها، وهذا لا شك أنه أدق وأولى، ويكون للقاضي وأهل النظر والخبرة القول في هذا.

    ويبقى السؤال: لو منع عنه الشراب ولم يمنع عنه الطعام، أو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب، فهل هو قتل؟

    هناك خلاف بين العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا منع عنه الشراب لمدة مؤثرة فإنه يعتبر قتل عمد، وهذا هو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، فدل على أن حبس الماء عن المسجون أو الممنوع مؤثر، وأنه لو مات من هذا المنع والحبس فإنه يعتبر قتل عمدٍ على أصح قولي العلماء.

    ولو منع عنه الطعام ولم يمنع عنه الشراب فقال بعض العلماء: إنه ليس بقتل؛ لأن الماء قد ينتفع به البدن، واستدلوا على ذلك بقصة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه مكث أربعين يوماً يغتذي بماء زمزم، وهو مستتر تحت ستار الكعبة، ويشرب من زمزم، ومع ذلك لم يهلك ولم يمت، فقالوا: إذا منع عنه الطعام ولم يمنع الشراب فليس بقتل عمد، والدليل أن أبا ذر عاش، وهذا محل نظر؛ وذلك لأن أبا ذر رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه طعام طعمٍ وشفاء سقم؟) فهذا خاص بماء زمزم، والخاص لا يثبت حكمه على سبيل العموم، فهذه خاصية في زمزم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم وشفاء سقم)، فإذا منع من الطعام وسقي زمزم وبقي يغتذي بزمزم، فهذا خاص وليس بعام؛ ولذلك ضعف بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه.

    وعلى كل حال فالمنع من الطعام، والمنع من الشراب، متى ما كان على صورة مؤثرة فإنه يوجب القصاص والقود إذا أزهق النفس.

    ومن أهل العلم من قيد طبيعة المنع بأنه لا يشترط فيه الرباط، فلو منع في داخل البيت، وفي زماننا داخل الشقة أو داخل غرفة من الغرف، وأغلقت عليه؛ فإن هذا يعتبر كافياً في الحكم، وهكذا لو رماه في بئرٍ فإن هذا يعتبر قتلاً، والأصل في هذه المسألة -أن حبس الآدميين عن الطعام والشراب يعتبر قتل عمدٍ موجبٍ للقصاص- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فدل على أن هذا يعتبر قتلاً، وأنه إذا منعت النفس من طعامها ومن شرابها حتى مضت المدة المؤثرة فإن هذا يعتبر إزهاقاً للروح، وقتل عمدٍ موجبٍ لثبوت القود والقصاص.

    القتل بالسحر وشروط الحكم بأنه قتل عمد

    قال رحمه الله: [أو يقتله بسحرٍ].

    سيأتينا إن شاء الله الكلام على السحر وأحكامه في كتاب الردة بإذن الله عز وجل، وهو من أخبث أنواع الضرر وأسوئها وأعظمها شراً في العباد والبلاد، ولكن الله لحكمته ابتلى عباده بهذا البلاء، وجعل السلوان لمن ابتلي به في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سحر حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. ليكون في ذلك سلواناً لمن يبتلى بهذا البلاء، وهو تسلط من الأرواح الخبيثة الشريرة على النفس فتضرها.

    ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر يؤثر ويضر في البدن، وأنه يقتل، وأنه يحدث للإنسان النسيان والبغض والكراهية، ويحدث فيه المحبة والتعلق والعشق، ويحدث منه تصرفات غير منضبطة، وكل هذا من الشر والبلاء الذي جعله الله عز وجل اختباراً وامتحاناً لعباده، ومن ابتلي بهذا البلاء فصبر ووثق بالله عز وجل، وسلم قلبه لليقين بالله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يخذله، بل يجعل له من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ما لم يخطر له على بال.

    والسحر أمره صعب، والقتل به ليس كالقتل بغيره، ولذلك يختلف القتل بهذه الأساليب الخفية عن القتل بالأساليب المعروفة، كالقتل بالسيف -كما تقدم- وبالمثقل، والقتل بالأسباب التي تقدمت، فإنها واضحة جلية، ولكن القتل بالسحر قتلٌ بأسبابٍ خفية، ولذلك من الصعوبة بمكان دخول هذه المسألة على القضاء؛ لأن القاضي لا يستطيع أن يثبت عنده هذا إلا إذا أقر الساحر، فإذا جاء وأقر وقال: نعم، أنا قتلته، فهذا فصل فيه العلماء رحمهم الله، وبينوا أن السحر ينقسم إلى أقسام: قسمٌ يقتل، وقسم لا يقتل، فإذا جاء الساحر وأقر واعترف عند القاضي وقال: لقد سحرته، ثم قال: إن سحري الذي سحرته به يقتل، فحينئذٍ يحكم به.

    وتأتي المسألة التي معنا أولاً: أن يقر الساحر أنه سحره، ويعترف بهذا، وثانياً: أن يقول: إن هذا السحر الذي استخدمه قاتل، ويعرف أنه قاتل من خلال التجربة -والعياذ بالله- أو من الممارسة مع غيره، أو من نفس طبيعة السحر ومن أثره حينما سحر الشخص وحدث منه ما حدث، فهذا كله يدل على أن سحره قاتل -والعياذ بالله-، فإذا اعترف وثبت عند القاضي أن سحره قاتل، فحينئذٍ القتل هنا بالسحر موجب للقصاص، وموجب للقود، كما صرح به الأئمة رحمهم الله، لكن المشكلة الآن أن الناس توسعوا في الحكم بالسحر، وقد تتسلط الأرواح الشريرة على الناس بالكذب وادعاء أشياء لا حقيقة لها، فبعض القراء -أصلحهم الله- إذا قرأ على الشخص وجاءه القرين وقال له: سحره آل فلان، صدق القرين، ثم قال للمسحور أو قرابة المسحور: إن امرأتكم أو ابنكم سحره فلان أو فلانة، وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب).

    والأرواح الشريرة التي هي الشياطين دائماً تريد الشر لبني آدم إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، فأخبر الله أنهم أعداء، فمثله لا يصدق؛ لأنه عدو، والعدو يكذب على عدوه، والمعاداة تستلزم الخديعة، ولذلك فلا يجوز للقراء أن يقطعوا ويجزموا بأن فلاناً سحره فلان، فيتهم شخص بأنه سحر آخر ما لم يقر ذلك الشخص أنه سحر، وأنه فعلاً سحره أو أمر من يسحره؛ لأن الأصل البراءة، ولا يجوز اتهام الناس إلا ببينة ودليل، والذي شهد أن فلاناً سحر فلاناً لا نعرف من هو أصلاً، فقد يكون في بعض الأحيان يتكلم الشخص الممسوس وهو في غير شعوره، أو عنده وسوسة أن فلاناً يؤذيه، فإذا ضغط عليه أو كان في حالة فسيتكلم بما في مكنون في نفسه ويقول: فلانٌ سحرني وفلان أضرني، ولذلك -من باب التنبيه- فلا ينبغي للقراء أن يتعاطوا القراءة على الماس ما لم تكن عندهم تجربة على أيدي أهل الخبرة والنظر؛ لأن هذا أمر صعب جداً، وفيه أمور حساسة جداً تتعلق بأرواح الناس وأسرارهم.

    فينبغي أن يكون القارئ محافظاً على أرواح الناس وأسرارهم وعوراتهم مثلما يقع للأطباء، فالقراءة نوع من الطب، ومثلما يقع للعلماء والمفتيين، فقد تجد بعض طلاب العلم إذا لم يتمرن على أيدي العلماء كيف يتعامل مع فتاوى الناس وأسئلتهم، فقد يوقع الناس في كثير من الحرج، وربما تعجل في الفتوى في أمور لا ينبغي أن يفتي فيها، وربما تعاطى أموراً تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح، والسبب في هذا أنه لم يأخذ هذا العلم عن بينة وبصيرة، وإن كانوا لا شك يريدون مصلحة الناس -نحسبهم كذلك- ويريدون الخير للناس، لكن لا بد أن يكون عندهم خبرة ومعرفة.

    فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أبو هريرة ، وأخبره خبر الشيطان معه في الثلاثة الأيام حينما كان يأخذ من تمر الصدقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجع إليه أبو هريرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما فعل صاحبك البارحة؟ حتى تتبين لـأبي هريرة رضي الله عنه حقيقة الأمر، فما ترك الكتاب والسنة شيئاً إلا وبينه، وهذه من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، كما قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وعندنا منه خبر)، فمن عظمة الله عز وجل وجلاله سبحانه ما وضع في هذا الدين من الكمال، فانظر إلى هذه القصة العجيبة الطريفة كيف جاءت بكلمتين: (صدقك وهو كذوب) ، ولو جئت لتستخرج من هاتين الكلمتين مسائل وأحكام لاستخرجت ما لا يقل عن عشرين مسألة.

    فقوله: (صدقك) إثبات ما قاله، وتتفرع عليها المسائل المنبنية على شرعية قراءة آية الكرسي وفوائدها، وآثارها، لكن بعدها (وهو كذوب) أي: الحال أنه في الأصل كذوب، والأصل أنه لا يصدق، فيأتي تفريع مسألة القرين والشياطين، وما هو الأصل في أقوالهم وأخبارهم، فلما قال: (وهو كذوب) لم يقل: وهو كاذب، بل كذوب: فعول وهي صيغة مبالغة، ولو قال: كاذب لكان الأمر شر، فلما قال: كذوب، كان الأمر أشر، ومعناه: أنه كثير الكذب حريصٌ عليه، وأن من شأنه الكذب، فكيف يصدق من عادته الكذب؟ فلا يعتمد على قوله: إن فلاناً قد سحر فلاناً، ولابد أن يحتاط في هذا الأمر، فلا يجوز للقاضي أن يحكم بأن فلاناً سحر فلاناً بناء على أخبار القرناء والشياطين، بل لا بد من إقرار الساحر أنه سحر، أو ثبوت ذلك عليه بالبينة أنه اعترف في مجلس وقال أنه سحر فلاناً، وأن سحره الذي سحر به قاتل.

    وقد بين المصنف رحمه الله أن مما يوجب القصاص: القتل بالسحر، وبناءً على ذلك ذكروا الطلاسم -نسأل الله السلامة والعافية- وهي تتنوع، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ما استفيد بالمذاكرة والمدارسة يقولون: كأن يسحره سحراً يمنعه من الأكل والشرب حتى يموت -والعياذ بالله- أو يسحره سحراً يمنعه من النوم بتاتاً حتى يموت -والعياذ بالله- فيقض مضجعه ويصبح يفقد السيطرة على نفسه ثم يهلك، أو يسحره بسحر يجعله يعتدي على نفسه فيقتلها، وغير ذلك من الأنواع، فإذا قال الساحر: سحري قاتل، أو سحري يقتل، أو سحرته سحراً يقتل مثله، فهذا اعتراف، يقول الشافعي وغيره من أئمة السلف أنه بهذا الكلام يثبت عليه القود والقصاص.

    القتل بالسم وشروط الحكم بأنه قتل عمد

    قال رحمه الله: [أو بسمٍ]

    أي: أو يقتله بالسم، والسم مادة مزهقة للروح، سواء كانت مطعومة، أو كانت مشروبة، أو كانت مشمومة، وسواء كان تعاطيه للسم عن طريق السقي، أو دسه في طعامه، أو وضعه في قطيفة وكممه بها، فاستنشقها حتى مات، أو وضعها في حقنه فحقنه بها، فكل هذا يعتبر من القتل بالسم.

    والقتل بالسم في زماننا مثل المواد المخدرة، والمواد السامة، وهذا معروف فيما يعرف بعلم الطب الشرعي، وفيه مباحث خاصة تسمى بمباحث علوم السموم، يبحث فيه المواد التي ثبت طبياً أنها قاتلة.

    وللعلم فإنها تنقسم إلى أقسام: فقد تكون مواداً نباتية، أو مواداً كيميائية، أو نباتية مركبة، أو مفردة، أو من الاثنين أي: مركبة من النبات ومن المركبات الكيميائية، المهم أن يثبت عند أهل الطب والخبرة أن هذه المادة التي حقن بها المريض، أو وضعت في طعامه أو في شرابه، أنها قاتلة، وأنها من السمومات، أو أن هذه المادة التي رش بها، أو التي كمم بها فاستنشقها، أو التي حقن بها، أنها قاتلة.

    وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل فصل فيه العلماء فقالوا: أولاً: إذا سقاه السم أو وضع له السم، فإما أن يكرهه عليه، ويفرض عليه تعاطي السم أكلاً، فإذا وضع له السم وعرف المقتول أنه سم، فهدده وضغط عليه حتى أكل منه، أو ربط يديه فأدخله في فمه، أو جعله سعوطاً، أو كممه به فشمه بغلبة وقهر؛ فلا إشكال أنه قتل عمد موجب للقصاص والقود.

    لكن يشترط عند العلماء رحمهم الله أن تكون المادة والجرعة الموضوعة هي التي تسببت في زهوق الروح، وإذا كانت مادة مشمومة فنرجع إلى الأطباء، وهذا معروف عادة في الجنايات والجرائم، فتحال مثل هذه المسائل إلى الأطباء المختصين فينظرون فيها، فإذا وجدوا أن المادة والجرعة التي وضعت كافية لقتله فحينئذٍ لا إشكال أنه قتل عمد، وإن كانت المادة والجرعة لا تقتل إلا نوعاً خاصاً، فصل في القتل بحسب نوعية المقتول، فلو قالوا: تقتل الصغير ولا تقتل الكبير، وهم عصابة أو شخص اعتدى على طفل رضيع فوضع هذه المادة وكمم بها أنف الرضيع حتى لا يصيح فمات، فهذا قتل عمد؛ لأن مثله يقتل بهذه الجرعة، والجرعة كافية لقتله، وهكذا لو حقنوه حقنة وكانت كمية حكم الأطباء أنها كافية للقتل؛ فقتل عمد، وإن قالوا: لا تكفي للقتل، فهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله:

    فمن حيث الأصل لا يحكم بكونه قتل عمد موجب للقصاص والقود، إلا إذا كانت الجرعة والمادة التي يفرض عليه تعاطيها كافية لزهوق الروح، فعندنا شرطان: الأول: أن يفرض عليه تعاطيها، والثاني: أن تكون كافية لزهوق الروح.

    فإن لم يفرض عليه ذلك فإنه يأتي على صور:

    الصورة الأولى: أن يقدمه له في طعام أو شراب، فيضع السم في طعامه، أو يضع السم في شرابه، ويقدمه له، فإن قدم له السم في الطعام والشراب فإما أن يكون ظاهراً أو خفياً، فإن كان ظاهراً وعلم المقتول أنه سم وأكله، فقد باشر قتل نفسه، وحينئذٍ إذا علم المقتول أن المادة سامة وجاء وتعاطاها فشرب، أو استعط بها وهو يعلم أنها سامة وكافية لقتله، أو ما يحصل -نسأل الله العافية- عند بعض أهل المخدرات، فيأتي بإبرة فيها مخدرات والكمية كافية لقتله، فيأخذها ويباشر حقن نفسه بها دون أن يكرهها، ودون أن يلزمها، فحينئذٍ قد قتل نفسه، فهذا إذا علم المقتول أنها مادة سامة.

    الصورة الثانية: أنه لم يكره على تعاطيها، فحينئذٍ قتل نفسه، لكن يبقى السؤال إذا عاونه غيره، ففيها تفصيل قد يأتينا في قتل الجماعة ومسائل المعونة على القتل.

    الصورة الثالثة: أن يقدمه له وتكون علامة السم واضحة معلومة، ولكن الشخص الذي قدم له السم لا يميز، أو لا يعقل، مثل الصبي والمجنون، ومثل الأبله والمغفل -المعروف بالغفلة- فقدم له هذه المادة، فهذا الصبي لا يعرفها فظنها حلوى، أو ظنه شيئاً يؤكل فأكله، فحينئذٍ هذا قتل عمدٍ يوجب القصاص؛ لأن مباشرة الصبي ساقطة، والسببية مفضية للهلاك، ولو كان عند الصبي تمييز لامتنع، لكن ليس عنده تمييز ومعرفة.

    الصور التي تكون عليها المادة السامة

    وقد ذكر العلماء أن المادة السامة لها صور:

    الصورة الأولى: أن تكون قاتلة لوحدها، ولا تقتل إذا خلطت بغيرها.

    الصورة الثانية: أن تكون قاتلة إذا خلطت بغيرها، ولا تقتل إذا كانت مفردة.

    الصورة الثالثة: أن تكون قاتلة سواء أفردت أو خلطت.

    فإن كانت المواد السامة يقتل مثلها إذا أفردت، ولا يقتل إذا خلطت، نظر في السم: فإن عرض على المقتول مخلوطاً بغيره فليس بقتل عمدٍ، ولا يوجب القصاص؛ لأن مثلها لا يقتل غالباً، والعكس فإن أعطاه المادة مفردة، فإنه يعتبر قتل عمدٍ.

    وكذلك الصور العكسية: إذا كانت تقتل مخلوطة بغيرها، ولا تقتل مفردة، فإن أعطاه إياها مفردة فلا يحكم بالقصاص، وإن أعطاه إياها مخلوطة حكم بالقصاص، وإن قتلت في الحالين حكم بالقصاص في الحالين، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله.

    ومن هنا ندرك دقة الشريعة الإسلامية وفقه الفقهاء رحمهم الله، وكيف أن الأحكام الشرعية كان يرجع فيها إلى أهل الخبرة، فمثلاً: مسائل القتل تجدهم يرجعون -إن كانت في علم الطب- إلى الأطباء، حتى بالنسبة للقتل بالمثقل، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، ليعلم هل مثله يقتل أو لا يقتل؟ وهذا يدل على أنه يُجعل لكل شيء أمارته وعلامته التي يمكن من خلالها معرفة الحق والحكم به، فلا نستطيع أن نحمل الأشياء ما لا تحتمل، فإنه ربما وضع الشيء الذي لا يقتل ويظن أنه قاتل، ويكون القتل بسبب آخر.

    وعلى كل حال: لابد من وجود هذه الشروط التي ذكرها العلماء في سقي السموم، ولا يختص الحكم بالشراب؛ بل يشمل الشراب والطعام والمشموم، وسواء كان ذلك عن طريق الفم أو كان ذلك عن طريق الحقن.

    وفي زماننا يوجد ما يسمى بالحبوب، ولو أعطي جرعة من الحبوب قد تكون قاتلة، كممرضة -مثلاً- فعلت ذلك بقصد إزهاق روح المريض، وهذا -إن شاء الله- أمر نادر أو بعيد جداً، لكن لو فرض أنه حدث، كأن تكون كرهت الممرضة مريضها أو مريضتها فأرادت قتلها، فأعطتها جرعة زائدة على الجرعة، فحينئذٍ يكون قتل عمدٍ.

    فالقتل بالسموم قتل سببية، يصفه العلماء بالسببية العرفية، وهناك سببية شرعية، وسببية عرفية:

    فالسببية الشرعية ستأتي، وهي القتل في شهادة الزور، والسببية العرفية مثل القتل بالسم، والقتل بالسم ألحقوه بالسببية العرفية؛ لأن الغالب في العرف أن الضيف إذا قُدم له الطعام والشراب، أنه يأكل ويشرب، فأسقطوا مباشرة المقتول للأكل والشرب، وقالوا: لا تأثير لها؛ لأن هناك شيئاً يفرض عليه وهو الحكم العرفي، والمعتاد بين الناس أنه إذا قدم له الطعام والشراب أنه يأكل ويشرب، وأن الضيف لا يخونه مضيفه، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا من القتل بالسببية العرفية.

    الدليل من السنة على قتل من قتل غيره بالسم

    والأصل في القتل بالسموم: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة اليهودية التي سمته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قصة الشاة المسمومة، وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يجيب الدعوة، فدعته هذه اليهودية، وقيل: إنها صنعت الشاة وبعثت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألت ما الذي يحبه عليه الصلاة والسلام؟ وكان عليه الصلاة والسلام يحب الكتف، وقد ذكر العلماء في الطب النبوي فوائد عجيبة من كونه عليه الصلاة والسلام كان يحب الكتف، حتى أُخذ منها أن أجود وأفضل وأحسن اللحم في الأنعام ما كان قريباً من العظم، والأطباء يثبتون هذا، ولذلك فإن لحم الكتف قريب من العظم، وأيضاً: الكتف بعيدٌ عن البطن والجوف، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وكان شيخ الإسلام عنده معرفة قوية بعلم الطب، فذكر أن أفضل اللحم هو هذا النوع، فكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فوضعت السم في هذا الموضع -كتف الشاة- فرفع عليه الصلاة والسلام الكتف فنهشه ثم قال: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكان قد أكل بعض أصحابه، فأكل أبو بكر رضي الله عنه، وأكل بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه وعن أبيه، فأما بشر فمات من ساعته بعد أن أكل السم، فرواية أبي داود بقتلها كانت بسبب موت بشر رضي الله عنه وأرضاه، فقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصاً بـبشر، وبناءً على ذلك صار أصلاً، حتى جاء في الرواية أنه قال أنس رضي الله عنه كما في الرواية عنه: (ما زلت أرى أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله)، حتى اشتد ذلك التغير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب ذلك السم حتى فارق الحياة، ولذلك قالوا في قوله تعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، يخبر عن حال اليهود مع الأنبياء، فقال: وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وما قال: قتلتم، فعبر بصيغة المضارع التي تدل على أن من شأنهم قتل الأنبياء فيما مضى وفيما حضر وفيما سيأتي، فسم عليه الصلاة والسلام ومات من أثر السم، فكان هذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه.

    فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَتَل بالسم، وصار أصلاً عند أهل العلم رحمهم الله في القتل بالسم، والإشكال في القتل بالسم: أن الذي باشر الأكل هو المقتول، ولم يفرض عليه أحد أن يأكل أو يشرب، ومن هنا يكون الجواب: أن العرف يصعب معه أن يمتنع الضيف من أكل الطعام من مضيفه، وإذا لم يأكل طعام مضيفه فلابد أن هذا يعني أمراً، ولذلك كان من عادات العرب أنهم كانوا إذا جاءهم الضيف يمتنع من الأكل حتى تقضى حاجته، وهذا معروف، فلا يأكل أحد طعام أحد إلا وصار شيء من العلقة والحق بينهما، فبعيد جداً، ومن أخبث وأسوأ وأنقص ما يكون للمرء أن يؤذي ضيفه، ولذلك جعل الله عز وجل في شرعه أن الإحسان إلى الضيف إيمانٌ به سبحانه وتعالى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فكونه يضع السم للضيف -والعياذ بالله- هذا من أسوأ ما يكون خيانة، وأسوأ ما يكون نقيصة لمن يفعله -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تخلَّق به هؤلاء الذين لا ذمة عندهم ولا عهد وهم اليهود. فالأصل في العرف أن الضيف يأكل من طعام مضيفه، فإذا كان هذا قالوا: فتسقط المباشرة؛ لأنه أكل بنفسه، ويتحمل الساقي والمضيف المسئولية عن طعامه.

    ويبقى السؤال في مسألة ما إذا كان في غير ضيافة، كما إذا كان في مطعمٍ أو نحوه، وهو يأخذ نفس الحكم؛ لأنه جرت العادة على أنه مأمون، وأنه ملزمٌ بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له ذلك الشيء فإنه يكون قاتلاً، ويجب القصاص والقود على التفصيل الذي ذكرناه.

    القتل بشهادة الزور وما يجب فيه

    قال رحمه الله: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، ونحو ذلك]

    قوله: [أو شهدت عليه بينة ] البينة: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، بان الصبح إذا اتضح ضوءه ونوره، والبيان: الدليل، وقد سمي الدليل دليلاً لأنه يبين ويظهر ويكشف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى

    أضاعت فلم تغفر لهـا خَلـواتها فلاقت بياناً عند آخر معهدِ

    دماً عند شلوٍ تحجل الـطير حولهُ وبضع لحامٍ في إهابٍ مقددِ

    يصف غزالاً ريماً فقدت ولدها في الصحراء، فقوله: (أضاعت فلم تغفر لها خلواتها) أي: فقدت هذا الصغير فلم تستر لها الخلوات؛ لأن الغفر الستر، (فلاقت بياناً) هنا موضع الشاهد، فلاقت أي: وجدت علامة وأمارة، (فلاقت بياناً عند آخر معهدِ)، أي: وجدت علامة ودليلاً عند آخر مكان عهدت فيه صغيرها، (دماً عند شلوٍ): الأشلاء التي هي القطع من الصغير وهو ولدها، بمعنى: أنه دليل على أنه قد مزقه السبع وافترسه.

    فقوله: (فلاقت بياناً) البيان: هو الدليل والحجة، والشيء البين: هو الواضح، فلما كان الدليل والحجة يظهران ويكشفان وجه الحق، وصف الدليل بكونه بينة؛ لأنه يتبين به الحق.

    وإذا أطلق جمهور العلماء كلمة البينة فمرادهم بها الشهود، وإذا قالوا: البينة، فالمراد بها الشهود غالباً، لكن في الأصل الشرعي البينة عامة، ولذلك تُعرَّف بتعريفين: خاص بمعنى الشهود، وعام، وسيأتي بيان هذا في باب القضاء، فيقال: البينة بالتعريف العام: هي ما يكشف الحق ويظهر وجه الصواب. وهنا المراد بها الشهود، وهو المعنى الخاص، وليس المراد بها المعنى العام.

    فإذا شهد شهودٌ على شخص وكانوا شهود زورٍ -والعياذ بالله- فشهدوا عليه أنه زنى وهو محصن، فأخذ المشهود عليه ورجم حتى مات، ثم جاء هؤلاء الشهود إلى القاضي وقالوا: لقد شهدنا عليه بالزور وهم لم يفعل، فإذا قالوا: شهدنا عليه بالزور، فمعنى ذلك أنهم يريدون قتله، وإذا قالوا: لقد تعمدنا قتله، نحن لا نحبه بل نكرهه، وقد تمالأنا وتواطأنا على أن نتعاطى سبباً لقتله، فشهدنا عليه هذه الشهادة، ففي هذه الحالة يكون قتلاً موجباً للقصاص والقود.

    أما لو قالوا: نحن أخطأنا، فالشهادة التي شهدنا فيها خطأ، فهذا فيه الدية، فيحكم القاضي بالدية عليهم، ويجب عليهم العتق، وإن لم يستطيعوا فصيام شهرين متتابعين على التفصيل المعروف؛ لأنه قتل خطأ حينما قالوا: أخطأنا، فقد كنا نظنه فلاناً وتبين أنه فلان، فهذا أمر آخر؛ وقد شهد شهودٌ عند علي رضي الله عنه على رجلٍ أنه سرق فقطعت يده، ثم جاءوا إلى علي وقالوا: أخطأنا، فالرجل لم يسرق، وقد شهدنا خطأً، فقال: لو تعمدتما ذلك لقطعت أيديكما كما قطعت يده، ثم أمرهما بضمان نصف الدية؛ لأن هذا من الخطأ الموجب للضمان.

    وبالنسبة لمسألتنا: إذا شهد الشهود بالزور بما يوجب القتل، وقتل المشهود عليه ظلماً، فإنه في هذه الحالة يجب القصاص على الشهود، وهذا ما يسميه العلماء: السببية الشرعية؛ لأن في الشرع إذا تم نصاب الشهادة واكتمل فيما يوجب القتل حكم بالقتل.

    والسؤال الآن: إذا شهد الشهود على شخص بما يوجب قتله فقتل، فإن الواقع أن الذي باشر القتل هو المنفذ لحكم القاضي، وهو السياف مثلاً، أو الناس الذين رجموه إن مات رجماً في حد الزنا، والشهود سببٌ في القتل؟ والجواب: أنه تسقط المباشرة بوجود الخديعة من الشهود، وهذه من الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة، وقد ذكرنا أن السببية تقدم على المباشرة في مسائل، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة تقدم المباشرة وتفقد حكم السببية في صور، وتارة يحكم بالسبب والمباشرة، أي: على المتسبب والمباشر، على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم.

    ولاشك أن شهادة الزور من أعظم الفساد، وسيأتي -إن شاء الله- حكم شاهد الزور، وماذا يفعل به القاضي إذا شهد شهادة زورٍ واعترف أنه تعمد ذلك وقصده في باب القضاء إن شاء الله تعالى.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من ذهب إلى ساحر تسبب بسحره في قتل إنسان

    السؤال: إذا اعترف الساحر أنه قتل فلاناً بالسحر، وأنه قد جاءه رجل وطلب منه ذلك، فهل يقع الحكم على الساحر ومن استأجره أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فإغراء الساحر بالمال حتى يقتل سبب، ولكنه ليس بسبب قوي في حصول الإزهاق والقتل، فلا أحد أكره الساحر على فعل السحر، إنما هو الإغراء بالمال فقط، لكن لو أنه جاء إلى الساحر ووضع سلاحه على الساحر وقال: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، فهذه المسألة سنذكرها في باب الإكراه، ويكون تهديد وإكراه الساحر وتخويفه مؤثراً، أما في مسألتنا فإن القاضي يعزر هذا الشخص الذي أغرى الساحر بالمال، ولذلك لو جاء شخص إلى شخص وقال له: خذ هذه المائة ألف واقتل فلاناً، فذهب وقتله، لم يجب القصاص على من دفع المال؛ لأن الذي باشر القتل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة الإكراه.

    والأصل عند العلماء أنه إذا دفع الشخص للقتل فإما أن يدفع بقوة مؤثرة، فحينئذٍ تكون السببية فاعلة ومؤثرة، وإما أن يُدفع دفعاً ليس هو المؤثر حقيقة، فتكون سببية قاصرة، مثل الإغراء بالمال، بمعنى: أن نفس الساحر هي الخبيثة وهي القاصدة للشر، وهي المريدة له، فما فتأت منذ أن وجدت إغراءً أن تتقدم لهذا الشيء، وهذا لو كان القاتل عنده شهوة للقتل وشهوة لإزهاق الأرواح بمجرد ما يأتيه إغراء قام وقتل.

    إذاً: هذه المباشرة تعتبر هي المؤثرة، وهي التي يحكم بالقصاص فيها، وأما بالنسبة لهذا الشخص فإذا عزره القاضي فيعزر تعزيراً بليغاً يليق بجنايته وما ترتب على إغرائه للساحر حتى قتل بسحره، والله تعالى أعلم.

    معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات)

    السؤال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) ما هي الشبهات التي تدرأ بها الحدود أثابكم الله؟

    الجواب: لو جلسنا إلى الفجر لما انتهينا من الشبهات، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا باب حير العلماء رحمهم الله، فكم من مسائل في القتل قد يقال: فيها شبهة، فلا يقتل لوجود الشبهة، والذي هدد وأكره ليس هو الذي فعل القتل، والله أمرنا أن نقتل الذي قتل، فقالوا: هذه شبهة تسقط الحد عن المُكرِه وتسقط القصاص عن المُكْرَه، فلا قصاص عندنا لا على المُكرِه ولا على المُكرَه، ولذلك فإن أوسع باب في مسائل القتل عند الحنفية رحمهم الله، حتى إنه في أيام الدولة العثمانية كان المذهب الحنفي هو الذي يطبقونه، فكان إذا استعصى عليهم إقليم بكثرة القتل بحثوا عن قاضٍ مالكي؛ لأن المالكية على العكس تماماً، وهذا كله له أصول شرعية وليس من باب العبث، فهم فقهاء أجلاء لهم اجتهاداتهم ومدارسهم الاجتهادية، وهذا من مرونة الشريعة.

    فالمالكية يقولون: هذا الدم الذي أزهق لا يذهب هدراً، ولذلك عندهم إذا جئت في باب القتل واختلف العلماء على قولين أو على ثلاثة أقوال: قول يقتل، وقول لا يقتل، فالذي لا يقتل تقول به الحنفية، والذي يقتل تقول به المالكية؛ لأن عندهم لا يمكن أن يستهان بالدم الذي أزهق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل شريعته حياة للناس، وجعل لمن قتل مظلوماً لوليه سلطاناً، وهذا يدل على أن مقصود الشرع ألا يذهب دمه هدراً.

    فالشبهات عند المالكية ضعيفة ولا تؤثر أمام أصول عامة وشرعية، ولا يسقطون الحد إلا بشبهة قوية جداً توجب التأثير في الحيلولة دون القتل.

    ومن حيث الأصل فإن الشبهة قد تكون شبهة ظاهرة واضحة مؤثرة، وقد تكون أحياناً شبهة ضعيفة، فالأصل حينئذ (ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم)، مثلاً: لو أن شخصاً كان مسافراً مع جماعة ثم جاء في وقت النوم ووطأ امرأة ليست زوجته، ولما تبين أنها ليست زوجته، قال: لقد كنت أظنها زوجتي، فنقول: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، فلا نقيم عليه حد الزنا.

    وكذلك في مسائل الخمر، فمثلاً: لو أن شخصاً معروفاً بالاستقامة والصلاح والديانة، فشرب شراباً وقال: هذا الشراب لقد خدعني به شخص، كنت أظنه عصيراً فشربته فإذا به خمر، فحينئذٍ تكون هذه شبهة، وستأتي -إن شاء الله- في باب حد الخمر، فهناك أمارات ودلائل وقرائن يصدق فيها قوله، ولو فتح باب الشبهة لسقطت كثير من الحدود والزواجر الشرعية باسم الشبهة، ولذلك لا يفتح هذا الباب على مصراعيه دون ضوابط شرعية، ولا يمكن أن يحكم بكل شبهة أنها مؤثرة.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) الحدود: جمع حد، وهو يشمل هذا القتل، والقتل من حدود الله عز وجل التي حدها وشرعها لعباده، ويشمل الجلد والرجم في الزنا، وكذلك أيضاً الجلد في شرب الخمر، فلا نقيم هذه الحدود ولا نأمر بتنفيذها متى ما وجدت شبهة فيمن تلبس بموجباتها تصرفه عن وجود القصد لانتهاك حدود الله عز وجل والتلبس بها، فإذا وجدت هذه الشبهة وأثرت فإنه يحكم بسقوط الحد، أما ضوابط الشبه والكلام فيها فهذا أمر طويل جداً.

    ولذلك في كل باب سنذكر -إن شاء الله تعالى- وسيأتينا في كتاب الحدود ضوابط الشبهات، بحيث نقول: إن هذه شبهة مؤثرة أو غير مؤثرة، على حسب المسائل التي يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.

    كيف يسحر النبي عليه الصلاة والسلام مع مداومته على قراءة الأذكار؟

    السؤال: أشكل علي إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر مع أنه عليه الصلاة والسلام محافظٌ على الأذكار التي تقي من الشرور عموماً، أثابكم الله؟

    الجواب: مما لا شك فيه أن المعوذات نزلت بعد قضية السحر، ولذلك اقتضت حكمة الله أن المعوذات لم تنزل قرآناً يتلى إلا بعد قضية سحره عليه الصلاة والسلام، وعلى كل حال لا يشكل ولا يلتبس عليك الأمر، ودع وساوس الشيطان عنك، فإذا جاء شيء في الشرع وحكم الله عز وجل به فسلم به واترك عنك كل شيء يشوش عليك في هذا الباب.

    والأهم من ذلك أنه لم يحصل لهذا السحر تأثير على الوحي، فإذا جاء عقلاني يريد أن يناقشك فقل له: أثبت لي أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له من هذا السحر تأثير على الوحي، أو أنه قال أو قرأ آية أو ادعى وحياً وهو مسحور هذا أمر.

    الأمر الثاني: إذا قال لك: كيف يسحر وهو يوحى إليه؟ فقل له: الأمر بسيط، فإن المسحور يسحر مع زوجته، لكنه مع الناس رجل طبيعي، فإن المسحور إذا سحر لبغض زوجته فتجده طبيعياً في جميع الأمور إلا إذا دخل بيته، فإذا كان السحر محدوداً في شيء معين فما الذي جعلك أنت تتصوره عموماً؟ وإنما أشكل عليهم هذا لأنهم لم يفهموا ما هي حقيقة السحر، وجلسوا يخوضون ويتكلمون في شيء لم يفقهوه، فظنوا أنه ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر فيصبح -أجارنا الله وإياكم- كالمجنون، مع أن السحر جاء محدوداً، وقد بينته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعل)، هذا ما ورد في الرواية الصحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا التأثير المحدود ليس له سلطان على الوحي، لكن البعض يريد أن يدخل في المغيبات ويسأل: كيف يتأثر الجسد بالسحر؟ فنقول له: إذا جئت تخوض في هذه المسألة فأعطنا من عندك علماً بالأسحار كيف تؤثر بالأبدان؟ وكيف هي طبيعتها؟ حتى نعلم أن هذا السحر يستحيل أن يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم.

    ثم أثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر على وجه يتعارض مع الوحي ويتعارض مع الرسالة، فلابد من إثبات القضيتين، والواقع أنه لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يخوض في ذلك.

    وقد جاءت السنة الصحيحة بإثبات أنه سحر، فنقول: سُحر عليه الصلاة والسلام، فسيقول لك: كيف يُسحر وهو نبي الأمة؟ فنقول: لا يمنع أن الله يسلط الشياطين عليه لحكمة، ألم تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام؟ ألم يشج بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فقد سلط عليه -عليه الصلاة والسلام- الألم النفسي، والألم البدني، والألم الروحي، وهذا كله لحكمة، ابتلي بالألم الروحي حتى إن زوجته تُتهم بالزنا، ويمكث النبي عليه الصلاة والسلام مدة وهو لا يعلم هل هذا صحيح أو لا، وقد جاء في الصحيح أنه جاء إلى عائشة وجلس عندها وقال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، فمن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؟! هذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقف بين الأمة وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، يقول لها: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، فما استطاعت رضي الله عنها أن تجيبه حتى بكت.

    فقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحد، فكان من أعظم الأيام التي مرت عليه، وهذا كله من الأذى، وما من مكروب ولا منكوب ولا مهموم ولا مغموم من أمته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- يأتيه هم إلا ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتلي بأضعافه وأشد منه، فيسلو ويقول: إذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ابتلي فأين أنا من هذا كله!

    وأنبياء الله عز وجل من قبل أوذوا وابتلوا، فهذا موسى عليه السلام يؤذى في كل شيء، حتى جعل الله وجاهته في الدنيا والآخرة بهذه الأذية لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، سبحان الله! الوجاهة والإنعام على الأنبياء لا يكون لهم ذلك إلا بعد البلاء، وهذا أيوب قال الله عنه: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] الله أكبر! إذا قيل للإنسان: نعم العبد، كيف بالعبد إذا أثنى عليه والده أو شيخه أو أي إنسان له مكانة ووجاهة، فما بالك إذا قالها أصدق القائلين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى يقول: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] لكن متى؟ لما قدم الثمن، لما قدم الدليل، لما جاء بالصبر إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص:44]، فما جاءت هذه الكلمة ولا جاءت هذه الشهادة من رب العالمين من فراغ، وما جاءت بالتشهي، ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة أن يقول الإنسان: إنه موحد، أو أنه صاحب عقيدة، أو إنه صاحب إيمان، أو إنه من الصابرين، أو إنه من المحسنين مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] إذاً لا بد أن تأتي فتن ومحن وبلايا.

    ثم أيضاً: إذا جئت ونظرت إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم في حياته كلها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من الرسالة، لا يخرج من هم إلا ابتلي بما هو أكثر وأعظم منه صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءته سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، فخرج من الدنيا بسكرات الموت، فلو جاء شخص من الناس في يوم من الأيام قد ابتلي بالسحر فقال له شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوذي وفعل به، فيقول: لكن الذي جاءني من السحر ما أظن أحداً ابتلي بما ابتليت به، لكن إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتلي بهذا الأمر سلت نفسه وسلت روحه، وعلم أن هذا لا ينقص قدره.

    ومن العجيب أن تسلط الشياطين على الإنسان في بعض الأحيان يجعل الإنسان يشك في مكانته عند الله؛ لأنه من المعلوم أن الله يسلط الشياطين عادة على أوليائهم، لكن أهل الطاعة إذا سلط عليهم الشياطين فقد يظن الواحد منهم أن هذا لنقص عنده، أو غضب من الله عز وجل عليه، أو سخط، لكن حينما يعلم أن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد أوذي وسلط عليه وابتلي صلوات الله وسلامه عليه، عندها تسمو نفسه، ويطمئن قلبه، ويثق بالله عز وجل.

    أيضاً: بسبب هذا السحر وهذا الابتلاء أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذات، وهي من أعظم ما يكون، تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل بالتعاويذ الشرعية، فلما نزلت عليه المعوذتان لزمهما وترك ما سواهما)، من عظيم ما فيها من الحرز للعبد.

    قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] فما تركت شيئاً في هذا الوجود من الشر إلا وقد استعذت بالله منه، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] أي: من أي مخلوق شر، كلمتان وجملتان ما تركتا شيئاً، لكن متى جاءت؟ جاءت لما ابتليت الأمة وابتلي نبيها عليه الصلاة والسلام، إذاً فقد صار السحر خيراً على هذه الأمة؟

    والله يقول في القذف: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ [النور:11] في قذف عائشة رضي الله عنها، القذف الذي فيه انتهاك للعرض، وفيه بلاء، يقول الله: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، فهي أمة مبتلاة؛ ولكن هذا البلاء رحمة، ولا يمكن أن يظهر فضل أهل الفضل وصبر الصابرين ورباط المرابطين، إلا إذا احتكت قلوبهم بالبلاء من رب العالمين، وعندها: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27]، وعندها ينعم الله على عباده فيسلهم من ذلك البلاء كما تسل الشعرة من العجين، وسلم من ذلك كله لطفاً من أرحم الراحمين وكان ربك خبيراً بصيراً، فالله أعلم بخلقه، وأعلم بعباده، ومن يقرأ قصة أيوب عليه السلام وابتلاءه وتسليط الله عز وجل للشيطان عليه؛ يدرك كيف أن الله عز وجل يمتحن عباده هذا الامتحان العظيم، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.

    وعلى كل حال: أعود وأكرر أن المسلم دائماً يلتزم بالتسليم، فلا تدخل في هذه المتاهات، وأوصي أن مثل هذه المسائل الدقيقة لا تقبل من كل أحد، وما يثيره بعض العقلانيين من رد السنن الصحيحة والطعن فيها والتشكيك فيها بناءً على أن عقولهم لا تتحمل، فوالله ليست عقولهم التي تتحمل، وليست نفوسهم التي تتحمل، ولكنها قلوبٌ ران عليها المرض فاستغلقت فما قبلت وما أسلمت وما استسلمت -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك عجز منهم -والعياذ بالله- التصديق لهؤلاء العدول الثقات الذين أجمعت الأمة على قبول رواياتهم فيما صح في الصحيحين وغيره من الأحاديث الصحيحة، فضربوا بها عرض الحائط؛ بل لم يقتصروا على ذلك حتى قالوا بالتشكيك والشبهات؛ لأجل أن يبطلوا حقاً، ويحقوا باطلاً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يقطع دابرهم، وأن يخرس ألسنتهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم الطواف بالبيت لمن أراد سفراً أو عاد منه لمن كان مقيماً بمكة

    السؤال: أنا من سكان مكة واعتدت عند خروجي منها للسفر أن أطوف بالبيت وحين وصولي إليها كذلك، فهل عملي هذا صحيح، وذلك اعتقاداً مني بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين يقدم من السفر أن يبدأ بالمسجد أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالحديث صحيحٌ وثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من السفر أنه يبدأ بالمسجد قبل بيته عليه الصلاة والسلام، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، وفعلك لا بأس به ولا حرج، ما لم تعتقده تشريعاً، بمعنى أنك تقول: إنه لا يسافر أحد حتى يطوف، أو لا يدخل مكة حتى يطوف، فهذا فيه الزيادة والحدث، وأما بالنسبة لما تفعله فليس فيه من بأس، وليس فيه من حرج؛ بل هو عمل خير وبر نسأل الله العظيم أن يثبتك فيه، وأن يكتب لك الأجر فيه، والله تعالى أعلم.

    حكم من يداوم على صلاة النافلة في السفر

    السؤال: هل يبدع من داوم على صلاة الراتبة في السفر؟

    الجواب: لا شك أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الراتبة في السفر، وإذا اعتقدها فلا شك أنها بدعة؛ لأنها أولاً: العدد مخصوص، والزمان مخصوص، أن يصليها قبل الصلاة، وبعد الصلاة، فيصلي أربعاً قبلية، ويصلي البعدية، ركعتين للمغرب بعدية، وركعتين للعشاء بعدية، وهذا كله توقيت، وضوابط البدعة منطبقة عليه، ولذلك إذا اعتقدها سنة راتبة في السفر فإنه لا شك أنه قد ابتدع، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم سافر ولم يصل راتبة في السفر إلا راتبة الفجر، وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل)، تعظيماً لشأن ركعتي الفجر، فإذا صلى الراتبة في السفر فإنه قد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعارضه وأحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن الذي في دين الله ألا تصلى هذه الصلاة في السفر، وهو أحدثها وصلاها في السفر، ولو صلاها نافلة عامة فلا بأس، لكن يصليها وهو يعتقدها راتبة، فلا شك أنه مبتدع، ولذلك عليه أن يقلع عن ذلك ويتوب، والله تعالى أعلم.

    حكم تأجير الوقف للاستفادة منه

    السؤال: إذا كان الوقف لا يستفاد منه، فرأى الناظر على الوقف أن يؤجر عينه، ويستفيد من ثمن الإجارة في وقفٍ آخر، فهل تجوز إجارة الوقف في مثل هذه الحالة أثابكم الله؟

    الجواب: مسائل الأوقاف مسائل دقيقة، والمسئولية عنها أمام الله عظيمة، ولذلك تلاعب الناس -خاصة في هذا الزمان- في الأوقاف، حتى إنك تجد بعض الأوقاف مسبلة على مصالح يستحدث فيها دكاكين للإيجار، ويستحدث فيها عمارات للاستغلال، وتخرج كثير من الأوقاف عن مقصودها الأساسي من رحمة الضعفاء والرفق بالأيتام والمساكين إلى هذه الأشياء الدنيوية التي لم يردها أهلها يوماً من الأيام.

    شخص يأتي ويبني رباطاً لأيتام لأرامل، نظر إلى الدنيا الفانية، والآخرة الباقية، وماله بين يديه، فأحب أن يقدمه لآخرته، فجاء واشترى له أرضاً وبنى فيها رباطاً، وأدخل فيه العجزة والمساكين، وقال للناظر: قم على هؤلاء وانظر في مصالحهم، فيأتي الناظر في يوم من الأيام ويريد أن يهدم هذا الرباط ويجدده، ويحدث دكاكين في البناية الجديدة، ويأتي ويبحث له عمن يفتيه بهدم الرباط الأول، ويستدين مبلغاً من المال من أجل أن يبني رباط جديداً.

    كذلك إحداث مرافق مالية تدر أموالاً، حتى يسدد الذي على الوقف، ثم يبدأ يستدرجه الشيطان -والعياذ بالله- وشيئاً فشيئاً، فبدلاً من أن تكون المسألة محدودة بسداد الدين، يبدأ يتوسع قليلاً حتى يصل الأمر إلى أنك تنظر للأيتام والأرامل والمساكين فلا تجد لهم حظاً في هذه البناية بعد بنائها إلا ما ندر.

    ويصبح الميت في قبره معدوماً من كثير من الأجر، ولو تركت العمارة على ما هي عليه لدرت عليه من الحسنات والأجور ما الله به عليم، ولكن سيقف ويرهن ويحاسب بين يدي الله، وسيكون خصمه لجرأته على تغيير وتبديل ما لا يجوز له تغييره، فهذه أمور لا ينبغي التلاعب فيها والتساهل، ومن قرأ الفقه وقرأ فتاوى العلماء، يجد كيف كانوا يشددون في مسائل الوقف، حتى الخلاف في المسجد الذي يكون في جزء من أجزائه خلل هل يهدم ذلك الجزء أو لا يهدم؟ وتجدهم يختلفون تعظيماً لحرمة الوقف؛ لأن الوقف ليس بالسهل، وليس بالأمر الهين، بل هو يحتاج إلى نظر، ويحتاج إلى تقوى لله عز وجل وورع وصيانة، فهذه أمور ترتبط بها حقوق الموتى، وترتبط بها حقوق أناس آثروا الآخرة على الدنيا.

    فيبحث المفتي والفقيه في المسألة حتى يعرف كيف يقف بين يدي الله ويفتي في هذا الأمر، ولقد عهدنا علماء أمثال الجبال علماً وعملاً ما تضيق عليهم الدنيا إلا إذا جاءت مسألة الوقف، والله إنك تجد وجه الواحد منهم يحمر ويرد السائل، ويحاول جهده ألا يبت في هذه المسألة؛ كل ذلك خوفاً من الله عز وجل، فلا يحسب أحد أن هذا الأمر سهل، ولذلك تجد كثيراً من مشاريع الخير وأربطة الخير غير موجودة، أين ذهبت؟ بحكم الفتاوى، فتجدهم يقولون: نبني عمارة ونستغلها وبدلاً من أن نسكنهم نعطيهم أموالاً.. من الذي جعلك تغير إرادة الواقف، مع أن الذي أوقف قال: يدخلون فيها ويسكنون هذا المسكن؟ ما الذي جعلك تغير؟ يقولون: المصلحة، وهذا أفضل.. إلخ.

    فلذلك هذه المداخل التي يدخل بها والمصلحة التي تدعى، هذه أمور ينبغي أن تُعرض على علماء ربانيين، ولا يفتى في مسائل الوقف إلا من عنده بصيرة، وعنده نور ورع، وعنده محافظة على هذه الأمور التي ينبغي المحافظة عليها. وقد نص العلماء على أن الوقف لا يملكه أحد، بل هو مالٌ أخرجه الإنسان عن ملكيته لله عز وجل؛ ولذلك لو أردنا بيع الوقف فلا نستطيع أن نصحح بيع الوقف إلا إذا قضى به القاضي؛ لأن البيع يفتقر إلى ملكية، والوقف لا مالك له، والقاضي له ولاية مستندة مبنية على الولاية العامة لولي الأمر العام فيبيع ما لا مالك له، وحينئذٍ لا يمكن، فلو أفتى أي مفت فلا يصح البيع؛ لأنه لابد من حكم قاضٍ، وهذا كله تعظيماً لأمر الوقف، ولئلا يحسب أحد أن الأوقاف أمرها سهل، خاصة إذا تعلقت بها مصالح لأموات ونحوهم.

    وعلى كل حال: الأمر مثلما ذكرنا أنه ينبغي التورع ما أمكن في مسائل الوقف وعدم التساهل فيها.

    والخلاصة في الجواب: أنه لا يستفاد منه، فهذا أمر مبهم، فإن الخطأ أن يأتي المفتي ويفتي في هذه المسألة حتى يقرأ صك الوقفية، ويعرف ما هو هذا الوقف، والدعوة التي ادعاها الناظر أن مصلحته تعطلت، كأن يأتيك ناظر ويقول لك: تعطلت مصلحة الوقف، فيأتي إلى عمارة مبنية من عشر سنوات، ويرى فيها أيتاماً وضعافاً ساكنين فيها، وبمجرد ما يجد كهرباءها تعطلت أو ماءها يقول لك: لقد تعطل الوقف. فلا يعتبر عنده الوقف إلا إذا كان جميلاً جيداً كاملاً من كل النواحي، هذا هو الوقف عنده، لكن إذا حصل أي خلل يقول لك: تعطلت مسألة الوقف، ولذلك هذه الأمور لا تقبل فيها الدعاوى المبهمة غير الواضحة.

    وعند العلماء إذا كان -مثلاً- بنى بناية للمسجد، وتعطل المسجد وأمكن أن تصبح مدرسة؛ صرفت إلى أقرب شيء، وقد تتعطل تعطلاً تاماً، فيمكن صرف عين الوقف لما هو من جنسه؛ لأنك لو بعت الوقف أو أجرته أخرجته عن أصل الوقفية؛ لأن أصل الوقفية ليس فيها استثمار، وإنما فيها حسنات وأجور، فينبغي أن تكون إلى الأقرب، ومن هنا قالوا: اختلف العلماء إذا أوقف على بدعة، أي على شيء خاطئ لا يجوز الوقف عليه، كبدعة مثلاً يظن أنها سنة، فأوقف عليها، فمن العلماء من قال: يبطل الوقف.

    ومنهم من قال: يصرف لطلبة العلم. وهذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء والمحققين، يصرف لطلبة العلم؛ لأنه حينما أوقفه على الذكر، أو على أمور غير مشروعة، أراد أن يستغل المكان لطاعة الله وذكره، فبدلاً من أن نحكم بالنقض والإبطال من الأصل وعندنا مجال للتصحيح فنصحح بالأقرب، فهو إذا قال لك: تعطلت مصلحة الوقف، فهل تعطلت تعطلاً كلياً أو تعطلت على وجه يمكن صرفه إلى الأقرب؟

    وعلى كل حال: أحب أن أنبه إلى أن من عادتنا مع طلاب العلم أن نفصل في بعض الفتاوى، فنحن نريد المنهج، نريد أن يقعد لطلاب العلم؛ لأننا نجد اليوم من السهولة بمكان أن تسمع أحدهم يقول لك: هذا حلال وهذا حرام، بيع الوقف يجوز أو لا يجوز، وهذا ليس هو المهم، إن الأهم هو رسم المنهج، ولذلك قد نفصل في بعض الأسئلة ونتوسع فيها، والمقصود من هذا: رسم المنهج، حتى يكون طالب العلم على بينة وبصيرة.

    وهذا السؤال لا يجاب عنه بالإجمال؛ لعدم وضوح السبب الموجب للحكم بتعطل الوقف، ولم يبين وجه هذا التعطيل، وهل بالإمكان المعاوضة والمناقلة في الوقف أو لا يمكن ذلك؟ وكل هذا أصل في الفتوى في هذه المسألة، لذلك ينبغي على السائل إذا أراد أن يسأل عن حكم هذا الوقف أن يحضر صك الوقفية وننظر فيه إن شاء الله، أو يعرضه على أهل العلم، أو يرفعه إلى القاضي، وهذا هو الذي أوصي به، وما يحكم به القاضي يقوم بتنفيذه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755778277