إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الطلاق [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله سبحانه الطلاق حقاً للزوج يستخدمه عند الحاجة، ولكن لم يجعل له الحرية في التطليق على أي صفة شاء، وإنما قيد هذا الحق بضوابط وقيود حتى لا يكون وسيلة للإضرار بالمرأة.

    1.   

    أنواع الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد..

    ففي هذا الفصل سيتكلم المصنف -رحمه الله- على أنواع الطلاق، فالطلاق له أنواع ذكرها العلماء رحمهم الله، وهي تختلف بحسب اختلاف الاعتبارات المقصودة من التقسيم، فهناك أنواع للطلاق من حيث حكم الشرع، وهناك أنواع من حيث اللفظ، وهناك أنواع من حيث الصيغة، وهناك أنواع من حيث ثبوت الرجعة وعدم ثبوتها.

    - فأما أنواع الطلاق من حيث حكم الشرع فينقسم إلى ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: الطلاق السني.

    والثاني: الطلاق البدعي.

    والثالث: الذي هو ليس بسني وليس ببدعي.

    فأنواعه من حيث حكم الشرع إما سني وإما بدعي، وإما لا سني ولا بدعي، وسنبين هذا إن شاء الله تعالى

    أما أنواع الطلاق من حيث اللفظ فينقسم إلى نوعين:

    النوع الأول: الطلاق الصريح، والنوع الثاني: طلاق الكناية.

    كذلك له أنواع من حيث صيغة الطلاق إذا تلفظ بها الزوج، فإما أن تكون منجزة، وإما أن تكون معلقة، أو تكون مضافة، فهذه ثلاثة أنواع:

    الطلاق المنجز: كأن يقول: أنت طالق. فينجز عليه الطلاق ويمضي.

    الطلاق المضاف: إما للماضي وإما إلى المستقبل: كأن يقول: أنت طالق في آخر الشهر، أنت طالقٌ بالأمس.

    الطلاق المضاف إلى الشرط، أو المعلق على الشرط كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن جاء زيدٌ فأنت طالق، إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق، فهذه ثلاثة أنواع: طلاقٌ منجز، وطلاقٌ مضاف، وطلاقٌ معلق.

    كذلك هناك أنواعٌ للطلاق من حيث الأثر، هل تثبت معه للزوج الرجعة، أو لا تثبت؟ فينقسم إلى نوعين:

    النوع الأول: طلاقٌ رجعي، وهو الذي يملك فيه الزوج ارتجاع زوجته في عدتها كأن يطلقها طلقةً واحدة بغير عوض ولا خُلع وتكون مدخولاً بها.

    النوع الثاني: وهو الطلاق البائن، وينقسم إلى نوعين:

    إما بائن بينونةً كبرى وإما بائن بينونةً صغرى، فالبائن بينونةً كبرى: هي التي لا تحل للزوج حتى تنكح زوجاً غيره، وهي التي أبانها بالطلقة الثالثة الأخيرة.

    وأما بالنسبة للبينونة الصغرى: فهي المطلقة التي لا يملك الزوج معها ارتجاع زوجته إلا بعقدٍ جديد، مثل أن يطلقها قبل الدخول أو يكون طلاق خُلعٍ؛ فهذا النوع من الطلاق يسمى بالطلاق البائن بينونةً صغرى.

    هذه كلها أنواع للطلاق؛ فتارةً تجد العلماء يقولون: وهي طلقةٌ بائنة، وتارةً يقولون: وهي طلقةٌ رجعية، فهذا تقسيم باعتبار، وتارةً يقولون: هذا طلاق السنة، وتارةً يقولون: هذا طلاق بدعة.

    هذه الأنواع كلها أثبتت نصوص الشريعة التقسيم في أغلبها كما هو الحال في الطلاق السني، والطلاق البدعي كما سيأتي، وكذلك الطلاق البائن والطلاق الرجعي.

    أما بالنسبة للتعليق والتنجيز فالأصول تصححه إذا كان منجزاً وهو الأصل في الطلاق وهو ماضٍ إعمالاً لهذه الأصول، وإن كان معلقاً فهذا بينه وبين الله، على ما يفصله العلماء رحمهم الله.

    وإذا كان الطلاق ينقسم إلى هذه الأنواع، ويختلف حكمه بحسب اختلافها فلابد للفقيه وطالب العلم من أن يكون على بينةٍ من أنواع الطلاق عند دراسته لأحكامه ومسائله.

    أنواع الطلاق من جهة الحكم

    فشرع المصنف -رحمه الله- في تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة، وهذا ما يسمى بالتقسيم من جهة الحكم، أي: من جهة حكم الشرع عليه، والطلاق السني مصيبٌ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلق طلاق السنة فإنه لا يندم، قال علي رضي الله عنه: ( لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم ). وتوضيح ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بيّن لعباده الطلاق الذي ينبغي أن تطلق به المرأة على ضوابط سنذكرها -إن شاء الله تعالى- كما في صدر سورة الطلاق، وخاطب بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وبين كذلك أن هذا من حدود الله عز وجل التي ينبغي للمسلم أن يراعيها؛ فلما شدد سبحانه في نوعٍ خاص من المطلقات -وهي المرأة المدخول بها- بقوله: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: المرأة التي لها عدة، لما شدد في هذا النوع من الطلاق كان له حكمٌ خاص؛ ولذلك لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم طلاق ابن عمر لزوجته تماضر رضي الله عنها أنه طلقها في الحيض، وذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يراجعها ورده إلى ظاهر التنزيل، فدل هذا على أن المرأة المدخول بها من ذوات الحيض -أي: ليست بصغيرة ولا كبيرة آيسة- والحائض التي لم تحمل، لها حكمٌ خاصٌ في الطلاق، فينبغي للمسلم أن يطلق بهذه الصفة الشرعية الواردة، فإن أصاب طلاقه هذه الصفة الشرعية كان طلاقاً سُنياً، أي: مصيباً للسنة وعلى وفق الشرع، وإن خالف فطلق وهي حائض أو طلقها في طُهرٍ جامعها فيه فإنه طلاق بدعة، وإذا قيل: إنه طلاق بدعة فهو طلاق الإثم، أي: أن صاحبه آثم لمعصيته لله عز وجل ومعتدٍ لحدود الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).

    إذا ثبت هذا فأولاً: ينبغي بيان الطلاق السني، وثانياً: الطلاق البدعي.

    شروط الطلاق السني

    فأما الطلاق السني: فلابد فيه من أمور لكي نحكم بكون المرأة محلاً لطلاق السنة، وهذه الأمور تعتبر بمثابة الشروط المستنبطة من دليل الكتاب والسنة:

    الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها.

    والشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فليست بصغيرة لم تحض بعد، ولا كبيرة انقطع حيضها لليأس.

    وثالثاً: أن يقع الطلاق حال طهرها.

    ورابعاً: ألا يكون قد جامعها في ذلك الطهر.

    وخامساً: ألا تكون حاملاً.

    سادساً: أن تكون الطلقة واحدة.

    فهذه ستة شروط لا بد من وجودها لكي نحكم بكون الطلاق طلاق سنة: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وأن تكون من ذوات الحيض: أي بلغت سن المحيض ولم ينقطع حيضها ليأس أو مرضٍ أو نحو ذلك، وثالثاً: أن تكون طاهرة، ورابعاً: ألا يجامعها في ذلك الطهر الذي يريد أن يطلقها فيه، وخامساً: ألا تكون حاملاً، بأن تكون حائلاً غير حامل، وسادساً: أن يطلق طلقةً واحدةً ولا يزيد.

    نبدأ بالشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، بمعنى أن يكون الزوج قد دخل على الزوجة؛ فإن كانت الزوجة لم يدخل بها زوجها وطلقها قبل أن يدخل فطلاقه ليس بمحل لقضية السنة والبدعة، ولذلك يجوز تطليق المرأة قبل الدخول ولو كانت حائضاً، والدليل على اشتراط كونها مدخولاً بها أن الله سبحانه وتعالى قال: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والمرأة غير المدخول بها لا عدة لها، ومعنى الآية: أي: طلقوهن لقبل العدة كما فسره بذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- وكما هو ظاهر السنة في حديث ابن عمر ، فأصبح طلاق السنة الملزم به والمأمور به: ينبغي أن يكون في امرأةٍ مدخولٍ بها.

    من العلل المستفادة في أن الشريعة منعت من تطليق المرأة وهي حائض: أن هذا يطول عليها العدة، ففيه ضرر على المرأة، وكذلك إذا كانت مدخولاً بها في طُهر جامعها فيه، ربما طلقها فبانت حاملاً منه فيندم ويتألم أنه طلقها وهي أمٌ لولده؛ لكن إذا كانت غير مدخولٍ بها فليس هناك تطويل للعدة، وليس هناك خوف من كونها حاملاً، فهو يُقدم على الطلاق في بينةٍ من أمره كما لو طلقها وهي طاهر ولم يجامعها.

    فإذاً: المرأة غير المدخول بها يجوز تطليقها ولو كانت حائضاً، فلا يقال: إن المرأة التي لم يدخل بها يجب على من طلقها أن يلتزم السنة في تطليقها؛ فإن أمرها واسع.

    إذاً الشرط الأول: أن تكون المرأة مدخولاً بها، وهذا محل إجماعٍ بين العلماء، أن المرأة التي لم يدخل بها ليست بمحلٍ لطلاق السنة ولا يوصف تطليقها بالبدعة، وهي من النوع الثالث الذي لا سنة ولا بدعة.

    الشرط الثاني: أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها ليأسٍ، أو المريضة التي انقطع حيضها بسبب المرض، فالمرأة التي لا تحيض لصغر لا يوصف طلاقها بسنةٍ ولا بدعة مثل غير المدخول بها؛ ولذلك تكون عدتها بالأشهر؛ لأنها لم تحض بعد، والتي يئست كالتي لم تحض فتكون عدتها ثلاثة أشهر، إذا ثبت هذا فإنه لا يوصف الطلاق بكونه سُنياً إلا إذا كان في المرأة من ذوات الحيض، وكما ذكرنا أن المرأة الحائض تطول عدتها إن طُلّقت، وكذلك إذا طهُرت من حيضها وجامعها ربما حملت، فإن كانت قد انقطع حيضُها أو كانت صغيرةً لم تحض؛ فإنه يطلق وهو على بينةٍ من أمره ولا ضرر عليه ولا على الزوجة، فهذا هو الشرط الثاني: أن تكون من ذوات الحيض، فخرج بهذا الشرط: الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي انقطع حيضها.

    الشرط الثالث: أن يطلقها وهي طاهرة، فلا يوصف الطلاق بكونه طلاق سنةٍ، إلا إذا وقع حال الطهر، فلو كانت المرأة حائضاً فبالإجماع يعتبر طلاقها طلاق بدعةٍ؛ وذلك لصريح حديث ابن عمر ، وظاهر التنزيل في قوله: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]: أي مستقبلات أو في قبل العدة، والمرأة الحائض لا يستقيم فيها ذلك، فإذاً الشرط الثالث: أن تكون المرأة طاهرة غير حائض.

    الشرط الرابع: ألا يجامعها في ذلك الطهر، فلو أنها طهرت ثم جامعها في ذلك الطُهر فإنه يكون طلاقه طلاق بدعةٍ إن وقع بعد ذلك الجماع، فإذا أردنا أن نحكم بكونه طلاق سنةٍ فإنه ينتظر حتى تحيض بعد جماعها، ثم إذا حاضت بعد جماعها وطهُرت من حيضها إن شاء طلق وإن شاء أمسك، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليقه لامرأته وهي حائض، قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم يمهلها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمسها)، يعني: قبل أن يجامعها، فدل على أن الطهر الذي جامعها فيه لا يطلقها فيه حتى تطهر منه؛ لأنه ربما جامع فيه فبان حملها فيندم على تطليقها.

    فإذاً: هنا يخشى أن تحمل المرأة، وغالباً أن الرجل إذا علم أن المرأة حاملٌ منه فإنه يندم على طلاقها ويكون في ذلك ضررٌ عليه وضرر على ولده، هذا بالنسبة للشرط الرابع.

    الشرط الخامس: ألا تكون حاملاً: فإذا كانت حاملاً؛ فإنه لا يوصف طلاقها ببدعة ولا سنة، فإذا طلقها وهي حامل فإنه حينئذٍ قد استبان الأمر ويقدم على الطلاق وهو على بينة من أمره وهو مختار لفراقها، والدليل على أن طلاق السنة يكون لغير الحامل قوله عليه الصلاة والسلام: (وليطلقها حائلاً أو حاملاً).

    قال: (حائلاً) أي: في طهر لم يجامعها فيه على التفصيل الذي ذكرناه (أو حاملاً) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن الحمل لا يمنع من الطلاق، وأن من حق الرجل أن يطلق زوجته بعد أن علم بحملها؛ فإن طلاقه معتبرٌ وصحيح.

    الشرط السادس والأخير: أن يطلق طلقةً واحدة ولا يزيد على هذه الطلقة، وهذه الطلقة هي السنة، ومذهب جمهور العلماء على أن من زاد على طلقةً واحدة فطلق طلقتين فقال لامرأته: أنت طالق طلقتين أو طالق ثلاثاً، أو أنت طالقٌ بالثلاث؛ فإنها بدعة، وقد ارتكب المعصية، فمن يطلق أكثر من طلقة فقد عصى الله ورسوله.

    ولذلك ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما وكذلك عن ابن عباس لما جاءه الرجل وقال: (إني طلقت امرأتي مائةً فقال له: ثلاث حرمت بهن عليك، وسبعٌ وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزوا)، وفي روايةٍ: (لعبا)؛ لأن مثل هذا خلاف الشرع، فالزيادة على الطلقة بدعة ومعصية، وصاحبها آثمٌ شرعاً، ومذهب طائفةٌ من العلماء: أن من طلق امرأته أكثر من طلقة، أو طلق امرأته طلاق البدعة فطلقها وهي حائض عالماً بحيضها وعلم به القاضي؛ فإن الواجب على القاضي أن يعزره؛ لأنه عصى الله وكذلك اعتدى حدوده، فإذا علم بذلك بإقرارٍ منه وثبت عنده أنه طلق للبدعة فإنه يعزره؛ لمخالفته للسنة.

    إذا ثبت هذا فإنه يطلق طلقةً واحدة، ولذلك ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل: أنه طلق امرأته ثلاث تطليقات وهي حائض، فقال له: (أما عبد الله بن عمر فقد طلق طلقةً واحدة وأما أنت فقد عصيت ربك وبانت منك امرأتك ). أما أنت فقد عصيت ربك بالبدعة، وبانت منك امرأتك؛ لأن قضاء الصحابة رضوان الله عليهم وجماهيرهم، على أن الثلاث ثلاث.

    وبناءً على ذلك: فإن الزائد على الطلقة يوصف بالبدعة، ويعتبر طلاق إثمٍ وحرج، ولا يجوز للمسلم أن يتلفظ به، خلافاً للشافعية -رحمهم الله- حيث قالوا: إن طلاق الثلاث سنة. واستدلوا بحديث عويمر العجلاني وهو حديث صحيح: (فإنه لما لاعن امرأته فحلف أيمان اللعان وحلفت امرأته أيمان اللعان فقال: يا رسول الله! إن كذبت عليها فهي طالقٌ بالثلاث). فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنها لا تحل له، قالوا: فطلق ثلاثاً بحضور النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذا ضعيف، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أن السنة طلقةٌ واحدة وأن الثلاث بدعة، وهل تقع أو لا تقع؟ سيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وذكر أقوال العلماء فيها.

    الشاهد: أن طلاق السنة يستجمع هذه الشروط، ومن هنا تستطيع أن تحصر الشروط في ضابطين فتقول: يشترط لطلاق السنة الموضع ويشترط العدد، فلابد من أمرين، أمر يتعلق بالموضع وأمر يتعلق بالعدد، فلا يوصف طلاق بكونه طلاق سنةٍ إلا إذا استجمع هذه.

    فأما الموضع: فأن تكون المرأة مدخولاً بها طاهراً لم يجامعها في ذلك الطهر، وألا تكون المرأة حاملاً، والشرط الذي يتعلق بالعدد أن يطلقها طلقةً واحدة، هذا بالنسبة لما ينبغي تحققه للحكم بكون الطلاق طلاق سنةٍ.

    قال رحمه الله: [ إذا طلقها مرةً في طُهر لم يجامع فيه ].

    إذا طلقها مرةً فهذه طلقة واحدة (في طُهرٍ لم يجامع فيه) معنى ذلك أنها من ذوات الأطهار، وليست بصغيرة لا تحيض ولا بكبيرة آيسةٍ، فتعد المرأة في هذه الحالة من ذوات الأشهر.

    إذاً: إذا طلق مرةً، أي: طلقةً واحدة، (في طُهرٍ) فخرج الطلاق في الحيض، وقوله: (لم يجامع فيه) خرج ما إذا جامع في نفس الطهر، وقوله: (في طهر) يستلزم أن تكون المرأة من ذوات الحيض، فاستجمع -رحمه الله- الشروط بهذا، وقال: (إذا طلق مرةً) هذا شرط العدد (في طُهرٍ) يجمع شرطين:

    الشرط الأول: أن تكون المرأة من ذوات الحيض فليست صغيرة ولا كبيرة آيسة؛ وكذلك أن تكون أثناء الطلاق طاهرة، فهنا شرطان: أن تكون من ذوات الحيض؛ لأنه قال: (في طُهر)، ولا تطهر من الحيض إلا الحائض، وأيضاً: استلزم شرطاً ثانياً مع كونها من ذوات الحيض: أن تكون حال طهرها من الحيض، ولم يجامع فيه؛ وهذا الشرط الرابع، فخرج ما لو جامع المرأة.

    أقوال العلماء في حكم الطلاق المجزأ

    قال رحمه الله: [ وتركها حتى تنقضي عدتها ].

    هذه في الحقيقة مسألة تتعلق بتجزئة الطلاق ثلاثاً على الأطهار، وتوضيح ذلك: أن بين الجمهور وبين الحنفية -رحمهم الله- خلافاً في هذه المسألة، نحن قلنا: إن المرأة يكون طلاقها للسنة بالشروط التي ذكرها المصنف، فقال رحمه الله: ( إذا طلق مرةً في طهر لم يجامع فيه )، فنبه على المدخول بها في قوله: (لم يجامع فيه) أي: أنها محل للجماع، ونبه على بقية الشروط على الصورة التي ذكرنا، إذا ثبت هذا فإن الرجل نصفه بكونه مطلقاً للسنة إذا وقعت منه طلقة واحدة في الطهر، فلو قال لك قائل: هب أن المرأة حاضت، فلما طهرت من حيضِها طلقها طلقةً واحدة، فبعد الطلقة ستعتد، وستحيض الحيضة الثانية ثم تطهر بعد حيضتها الثانية فإذا طهرت أردفها طلقةً ثانية؛ ثم انتظرت إلى طهرها من الحيضة التي تلي الطلقة الثانية، فلما طهرت منها أردفها الطلقة الثالثة، فجزأ الطلاق ثلاثاً، وكل طلقة أوقعها في طهر لم يجامع فيه، فهل يوصف طلاقه بكونه طلاق سنة أو لا يوصف؟

    للعلماء قولان في هذه المسألة:

    فالجمهور: على أنه طلاق بدعة، وأنه ينبغي عليه إذا أراد طلاق السنة أن ينتظر حتى تستتم عدتها أو يراجعها ثم يطلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، أما أن يردف الطلاق مجزأً على الأقراء فإنه ليس بسنة وإنما هو من طلاق البدعة، وخالف في هذا الحنفية -رحمهم الله- فقالوا: إن طلق مجزئاً الطلاق على الأطهار فسنة، فقسموا طلاق السنة عندهم إلى طلاق حسن وأحسن، فعندهم طلاق السنة ينقسم إلى قسمين: طلاقٌ حسن وطلاقٌ أحسن، فالطلاق الأحسن عندهم: أن يطلق طلقةً واحدة ولا يردفها بغيرها في الأطهار على الصفة التي ذكرناها عن الجمهور.

    والطلاق الحسن: الذي هو دونه في المرتبة والذي اختلفوا فيه، فقالوا: هو أن يجزئ ثلاث تطليقات على ثلاثة أطهار، ما فائدة الخلاف؟

    فائدة الخلاف: لو قال لها: أنت طالقٌ حسن الطلاق، فعند الحنفية: تطلق الطلقة الأولى في طهرها الأول، ثم تطلق الطلقة الثانية في طهرها الثاني؛ ثم تطلق الطلقة الثالثة في طهرها الثالث.

    وعند الجمهور: أن الحسن والأحسن شيءٌ واحد، وحينئذٍ يكون بحسب نيته فإن قصد بالأحسن أنه الثلاث، على أنه الأكمل في نظره حتى ينتهي شرها إن كانت تؤذيه؛ فحينئذٍ لا إشكال؛ وإلا فالأصل: أن أحسن الطلاق هو طلاق السنة، فينصب على طلقةٍ واحدة، فالحنفية قسموا الطلاق إلى هذين القسمين، وقالوا: من أردف الطلاق في الأطهار، مضى طلاقه وكان طلاق سنة، لكن عند الجمهور يعتبر من طلاق البدعة.

    قوله: (حتى تنقضي عدتُها فهو سنة).

    (فهو سنة) وذلك لثبوت الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ابن عمر في الصحيحين وفيه: ( أنه طلق امرأته تماضر رضي الله عنها طلقةً وهي حائض، فرفع ذلك عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن ابنه طلق امرأته وهي حائض، غضب صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: (مُرْهُ فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر -أي من هذه الحيضة التي طلقها فيها- ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، ثم تلا عليه الصلاة والسلام: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] الآية.

    فأصبح عندنا في هذا دليل على أن السنة أن يقع الطلاق في الطهر على الصفات التي ذكرناها، وأن هذا هو الطلاق السني الذي أصاب صاحبه الوجه المعتبر في الطلاق، ومفهوم ذلك: أنه إذا لم تقع هذه الشروط فإنه لا يوصف بكونه طلاق سنةٍ، فلو طلقها وهي حائض فبالإجماع أنه يعتبر طلاق بدعة، ولو طلقها في طهرٍ جامعها فيه فإنه بالإجماع يعتبر طلاق بدعة، فطلاق البدعة بالإجماع أن يطلق في الحيض أو أن يطلق في طُهرٍ جامع فيه.

    حكم الطلاق بعد انقضاء الحيضة وقبل الغسل

    لكن إذا قلنا إن طلاق الحيض يعتبر طلاق بدعة، فعندنا مسألة: لو أن امرأةً حاضت وأراد زوجها أن يطلقها، فهل إذا طهرت من الحيض وانقطع الدم يكون طلاقه طلاقاً سنياً بمجرد انقطاع الدم أو لا بد أن تغتسل ثم يطلقها.

    قال جمهور العلماء: إنه إذا انقطع الدم ورأت علامة الطهر حل طلاقها؛ ولذلك قالوا في موانع الحيض: منها ما يرجع إلى العبادة مثل كون الحيض يمنع الصلاة والصوم والطواف بالبيت ومس المصحف ودخول المسجد إلى آخر هذه العبادات، ومنها ما يرجع إلى المعاملات مثل: كونه يمنع الطلاق ويوجب الاعتداد به، وحينما ذكروا موانع الحيض قالوا: وما تحل هذه الموانع إلا بعد طهرها واغتسالها إلا ما كان من الصوم والطلاق.

    فالصوم لا يشترط له أن تغتسل، والطلاق لا يشترط له أن تغتسل، فلو طلقها قبل أن تغتسل وهي طاهر ورأت علامة الطهر؛ فإنه طلاق سنة، وكذلك الحال لو انقطع عنها الدم، ورأت علامة الطهر فصامت قبل أن تغتسل، كأن يكون انقطع عنها الدم قبل بزوغ الفجر مباشرةً؛ ثم بزغ الفجر ونوت الصيام فإنه يصح صومها ويجزئها، ولو اغتسلت بعد طلوع الفجر.

    فالطلاق والصوم لا يشترط لهما الاغتسال، لكن مس المصحف، والدخول إلى المسجد، والطواف بالبيت، والصلاة، كل هذا يشترط لجوازه ممن طهرت من الحيضة أن تغتسل، فلا يكفي انقطاع الدم عندها؛ إذا ثبت هذا فإنها تكون مطلقة للسنة إذا انقطع دمها، ولا يشترط أن تنتظر إلى اغتسالها من ذلك الحيض.

    حكم الطلاق بالثلاث

    قال رحمه الله: [ فتحرم الثلاث إذاً ].

    فلو قال لها: أنت طالقٌ بالثلاث اختل الشرط، ونحن ذكرنا في الشرط السادس أن يطلق طلقةً واحدة، فلو طلق ثلاثاً مجموعة أو منفردةً مُجزّأة فالكل بدعة، فقوله: فتحرم الثلاث إذاً، قوله: (إذاً) التنوين هنا: تنوين عوض، أي: إذا كانت المرأة على هذه الصفة فيحرم أن تطلق ثلاثاً دفعةً واحدة أو مجزأةً على الأطهار على الصفة التي ذكرناها.

    أقوال العلماء في طلاق الحائض

    قال رحمه الله: [ وإن طلق من دخل بها في حيض أو طهر وطئ فيه فبدعة يقع وتسن رجعتها ].

    (وإن طلق من دخل بها في حيض) فلا يكفي أن تكون دخل بها، بل لا بد أن تكون حائضاً وفي الحيض، فإذاً: إذا طلق من دخل بها حال الحيض في حيض، أي: وقع طلاقه لها وهي في ظرف ووقت وزمان الحيض فإنه بدعة، فإذا وقع الطلاق حال الحيض فبإجماع العلماء أن الطلاق بدعة، ولكن هل يحكم بوقوعه أو لا يحكم بوقوعه؟ وجهان مشهوران لأهل العلم:

    جماهير العلماء وجماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة والظاهرية على أنه يقع الطلاق ويحتسب، واستدلوا بالأدلة الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة وبظواهر التنزيل التي دلت أولاً على أن الأصل فيمن طلق أن يمضي عليه طلاقه، فكل من تلفظ بالطلاق ظاهر القرآن أن زوجته تطلق منه، هذا من حيث الأصل، قالوا: والعمومات نصت على هذا، وقوله: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، هذا من حيث الإثم وعدمه، وليس له علاقة من حيث الوقوع وعدم الوقوع، لورود الأدلة الأخرى التي تثبت الأصل بالإيقاع، الدليل الثاني: قضية ابن عمر ، ففي قضية ابن عمر عدة أدلة تثبت أن الطلاق وقع، أولها: ما يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما صريحاً كما جاء في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتسبها له واحدة)، وهذا الحديث ذكره ابن وهب في مسنده وأشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو حديثٌ ثابت، ويرويه عن حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر

    عن أبيه عبد الله بن عمر .

    ثانياً: أنه جاء من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مره فليراجعها)، فكلمة (ليراجعها): جاءت من كلامه، ومنطوق لفظه عليه الصلاة والسلام، والرجعة عرفٌ شرعي مبني على الطلاق، خاصةً وأن المسألة في الطلاق إذ قد يستخدم لفظ الرجعة في غير الطلاق إذا كان في غير الطلاق؛ أما في داخل الطلاق وفي مسائل الطلاق لا يقال رجعة إلا من طلاق (مره فليراجعها).

    ثالثاً: أن ابن عمر رضي الله عنهما وهو صاحب القصة أدرى وأعلم بمضي الطلاق وعدمه؛ فإن ابن عمر نص على وقوع الطلاق وأفتى بذلك، فكان إذا جاءه السائل -كما في الصحيحين- يسأله عن امرأةٍ طلقها في الحيض أمضى عليه الطلاق واحتسبه، والراوي أدرى بما روى، خاصةً وأنه صاحب القصة، ناهيك عن ابن عمر الذي عرف بالتزام السنة وعدم خروجه عنها، وقد أُدِّب في طلاقه، فهو أعلم وأدرى بوقوع الطلاق وعدمه؛ ولذلك جاءت الألفاظ عنه عديدة تشير إلى الوقوع، منها ما هو صريح كما في قصة الرجل الذي طلق ثلاثاً في رواية الصحيحين، وجاء أيضاً عنه رضي الله عنه أنه لما سُئِل هل احتُسِبت الطلقة أو لم تحتسب كان يستغرب من السائل، ويقول: (فَمَهْ؟) أي: ماذا تظن، وفي روايةٍ: (ما لي إن عجزتُ واستحمقت؟) وهذا من فقه ابن عمر ، يعني: هل تتصور شخصاً يقع في البدعة والمعصية ويطلق طلاقاً يخالف شرع الله أن لا يمضى عليه الطلاق؟ فمثله أليق بأن يزجر؛ ولذلك يقول له: فَمَـهْ، يعني: ماذا تظن مع أني أقع في البدعة وأقع في المحظور ولا يمضي عليّ طلاقي؟!

    ففي الصحيحين أنه قال له: هل احتسبت؟ قال: فمه؟ وفي روايةٍ أخرى: (ما لي إن عجزت واستحمقت؟) أي: ما لي وما شأني وما المانع أن تنفذ عليّ طلقتي مع أني قد عجزت واستحمقت.

    كذلك أيضاً جاء في الرواية الأخرى عن نافع وعن سعيد بن جبير وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين كلها تعضد هذا، وللشيخ ناصر الدين رحمه الله مبحث نفيس، من أنفس ما كتب في هذه المسألة في جمع الأحاديث ورواياتها وألفاظها وبيان صحيحها من ضعيفها في الجزء السابع من (إرواء الغليل)، وهو بحث في الحقيقة من أنفس ما جُمع في المرويات، في مسألة طلاق الحائض، وهل طلق ابن عمر أو لم يطلق، وقد خلص -رحمه الله- إلى أن السنة وقوعه، من حيث المرجحات التي تقوي الوقوع واحتساب الطلقة.

    الأمر الأخير الذي يدل على وقوع الطلقة ما ذكرناه: أن الشخص إذا عصى الله ورسوله، وابتدع في شرع الله عز وجل وأحدث في دين الله عز وجل، وخالف ما أُمر به وتمرد على الله وعلى كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فخالفه، فإن الأليق به أن يزجر، وأن يعاقب، والأصل يقتضي أن مثله يؤاخذ بتطليقه.

    وقال بعض العلماء -وينسب هذا القول إلى بعض العلماء- وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمةُ الله على الجميع: إن طلاق الحائض لا يقع ولا يمضي، واحتجوا برواية أبي الزبير محمد بن تدرس المكي عن ابن عمر أنه حضره وقد سأله السائل، فقال رضي الله عنه -أي: ابن عمر - : (فردها عليّ ولم يرها شيئاً)، أي لم ير الطلقة شيئاً، وهذه الرواية هي التي تُمسّك بها على أن طلاق الحائض لا يقع، وهذه الرواية قد أجاب عنها أئمة السلف كالإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة، ولأننا أمام روايات عديدة فيها ما يثبت مضي الطلاق، وفيها ما ينفي، فلا بد من معرفة الضوابط في ترجيح هذا على هذا، هل يرجح القول الذي يقول بنفوذ الطلاق، أو يرجح القول الذي يقول بعدم وقوع الطلاق، فعند النظر إلى المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: نجد أن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها)، هذا المرفوع الذي استدل به من قال بالإيقاع يصنف في المرجحات؛ لأن قول ابن عمر: (فردها عليّ ولم يرها)؛ دليل الأصحاب القول الثاني الذي لا يوقع الطلاق، وهذا ليس بشيءٍ مرفوعٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قول من قال بالوقوع أقوى ممن يقول بعدم الوقوع.

    ثانياً: أن لفظة: (ردها عليّ، ولم يرها شيئاً) هذه تحتمل معنيين، كما يقول الإمام الشافعي ، )لم يرها شيئاً)، أي: لم يرها شيئاً مصيباً للسنة، لا أنه لم يرها طلقة، والسبب في هذا: أن ابن عمر نفسه الذي قال كلمة: (ولم يرها شيئاً) يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في فتواه، ولا يتأتى منه أن يقصد أنه لم يطلقها، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها طلقة لما طلق ابن عمر رضي الله عنه وأفتى بالطلاق، فإذاً قوله: (لم يرها شيئاً)، تردد بين معنيين، وفي الأصول: أنه إذا تعارضت روايات صريحة لا تحتمل مع غيرها قدمت الصريحة، كما في قوله في بعض الروايات المرفوعة: (هي طلقة) وفي رواية الدارقطني : ( احتسبت طلقةً واحدة ).

    فالرواية الصريحة بالاحتساب جاءت عن ابن عمر نفسه أنه يحتسبها ولا تحتمل، فقوله: (هي طلقة) و(احتسبت طلقة) و(اعتد بها) كما في الرواية عن سالم وأنس بن سيرين ومحمد بن سيرين روايات صريحة في الوقوع والاعتداد.

    وقوله: (لم يرها شيئاً) متردد بين أن يقصد به عدم الوقوع وبين أن يقصد به عدم موافقة السنة، فلما ترددت بين المعنيين لم تقوَ على معارضة الصريح الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً، وبناءً على ذلك من حيث اللفظ رواية الوقوع أقوى من التي تنفي الوقوع.

    ثالثاً: من ناحية أصولية؛ فإن ابن عمر رضي الله عنه الروايات عنه بالوقوع أكثر من الروايات عنه بعدم الوقوع، ولم يخالف إلا أبو الزبير مع أن هناك شاهداً له في رواية سعيد بن جبير رحمه الله؛ لكن كما يقول الإمام ابن القيم رحمةُ الله عليه في حديث القلتين حيث كان يرجح ويقوي بأصحاب ابن عمر فكان يرجح برواية نافع وسالم بن عبد الله ؛ لأنهما أدرى وأعلم فـسالم بن عبد الله بن عمر

    ونافع تلميذ ابن عمر مثل هذين لا يخفى عليهما، وهما من أوثق أصحاب ابن عمر وأعلم بفقه ابن عمر ، حتى كانوا يقولون: فقه ابن عمر عند نافع والسلسلة الذهبية مالك عن نافع عن ابن عمر ، فـنافع له الشأن البعيد واليد الطولى لعلمه بقول صاحبه وهو ابن عمر ، فيقدم إذا تعارض مع أبي الزبير مع أن أبا الزبير في الرواية إذا عنعن لا تقبل روايته، إذ هو مدلس، ونافع في مرتبة الرواية عن ابن عمر مقدم حتى ولو عنعن، فإنه الثقة الثبت، فمن حيث الإسناد إذا جئت تنظر إلى الروايات تجد أن من أثبت أقوى سنداً من الذي لم يثبت.

    وكذلك أيضاً من حيث المتن؛ فإن الذي نص على احتساب الطلقة أثبت، والذي لم يرها شيئاً لم يثبت، والقاعدة: أن المثبت مقدمٌ على النافي، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ؛ ولذلك من حيث السنة ومن حيث الدليل يقوى القول الذي قال به جماهير السلف رحمةُ الله عليهم والأئمة الأربعة: أن طلاق الحائض واقع، وأن هذا المبتدع ينبغي أن يؤاخذ ببدعته، وأن يلزم بقوله وأن يشدد عليه ولا يخفف عليه، إضافةً إلى أن الأصل في الشرع إمضاء الطلاق واحتسابه عليه؛ لأن الدليل لم يقو على نفي ذلك الأصل.

    قوله: (أو طهر وطئ فيه).

    فإذا وطئها في الطهر وطلقها فطلاقه يكون للبدعة، ويستوي في ذلك أن يكون وطئاً مباحاً أو وطئاً محرماً، كما نص عليه الإمام النووي وغيره من الأئمة وبعض المحققين أنه حتى ولو وطئ -والعياذ بالله- في الدبر فإنه يعتبر، وهذا مما يقع في بعض الأحيان في المفاخذة، فربما فاخذها على الطهر ثم ينزع ويقع الوطء في الدبر سواءً بقصد أو بدون قصد فالطلاق محرم، ويكون في حكم الجماع، قالوا: لاحتمال العلوق؛ لأن الماء يسري يحتمل أن تعلق منه.

    وقال طائفة من العلماء: إنه إن وطئ في غير المحل فإنه لا يعتد بذلك الوطء ولا يؤثر، وظاهر السنة (وليطلقها قبل أن يمسها)، يقوي أنه لا يجامع ولا يطأ مطلقاً، ومن قال: إنه لا بد من الوطء في القبل يقول: إن المس إذا أطلق فالمراد به المعهود المعروف المشروط، وهذا من حيث الدليل أقوى ومن حيث الأصل أيضاً أرجح.

    قوله: (فبدعةٌ يقع).

    فالطلاق طلاق بدعة، وحكمه: أنه يقع، أي: تحتسب الطلقة ويؤاخذ بها لما ذكرنا.

    أقوال العلماء في حكم مراجعة من طُلقت حائضاً

    قوله: [ وتسن رجعتها ].

    وتسن رجعتها، بل تجب، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها)، وهذه مسألة أصولية، فأمر الغير أن يأمر غيره هل هو أمرٌ للمأمور الأول أو للثاني أو لهما معاً؟

    إن قلنا: إنه أمرٌ للمأمور الثاني فحينئذٍ يكون دالاً على الوجوب، وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام حينما نفست أسماء بنت عميس بـمحمد بن أبي بكر الصديق في البيداء واستُفتي لها، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل ثم لتهل).

    فإن قلت: إن الأمر للمأمور أن يأمر غيره أمرٌ للثاني كان حينئذٍ دالاً على الوجوب، ويكون الاغتسال للإحرام للحائض والنفساء واجباً، (مرها فلتغسل)، وأشكل على هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم للصلاة لسبع)، فإنه أمرٌ لمأمور أن يأمر غير المأمور، فإن الصبي لا يتعلق به الوجوب، فلو كان الأمر للشخص أن يأمر غيره أمراً لهذا الغير لما استقام هذا مع حديثنا؛ لأن الصبي غير مكلف، فدل على أن أمر المأمور أن يأمر غيره أمرٌ للمأمور لا لغير المأمور، هذا عند من يقول: إنه ليس أمراً له إلا إذا دلّ الدليل على الوجوب.

    والأولون يقولون: هو أمرٌ للمأمور وأمرٌ لغير المأمور، أمرٌ للمأمور أن يأمر وأمر للمأمور الثاني أن يمتثل، فإن ظهرت القرينة وجاء الدليل على استثنائه -كما في الصبي- حينئذٍ ينتزع الحكم بعدم الوجوب إلى الثاني، وهذه المسألة معروفة في الأصول عند علماء الأصول؛ ولذلك يقولون: إذا كان أمراً للأول فإنه يأثم بتركه، ومن هنا قالوا: يكلف المكلف بغير المكلف ويأثم به، كأن تمر على نائم فهو غير مكلف؛ فإن كنت مأموراً به؛ فإنك تأثم إن تركته نائماً، فلو فاتته الصلاة تأثم؛ لأنه غير مكلف، لكن كونك مأموراً بإيقاظه هذا أمر للمكلف أن يأمر غير المكلف، فهذا وجه وتخريج، والمسألة مشهورة عند علماء الأصول رحمهم الله، والصحيح في هذه المسألة: أنه تجب عليه رجعتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر).

    وهذا أمرٌ والأصل في الأمر أن يكون للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وقد أخذ الإمام أحمد رحمه الله بظاهر هذه السنة كعادته، فإنه كان من أعلم الأئمة الأربعة بالسنة، وهذا أمرٌ معلوم عنه رحمه الله؛ فإنه اطلع من السنن والآثار على ما لم يطلع عليه بقية إخوانه من الأئمة، وكان له -رحمه الله- اليد الطولى في علم الحديث وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أورع الأئمة وألزمهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولما جاءته هذه السنة قال بالوجوب لظاهر الأمر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمراجعة ولا صارف لهذا الأمر؛ إذا لو كان الأمر تخييرياً وابن عمر ليس بملزم وقد علم صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر ما طلق امرأته إلا بسبب، فكيف يلزمه بإرجاع من طلقها؟ فلو كانت الرجعة ليست بواجبة ولا لازمة لما أمر صلى الله عليه وسلم ولا ألزم بها على هذا الوجه، فلا شك أن الحق معه رحمه الله، وقد وافقه على هذا القول طائفة من العلماء من الظاهرية وأهل الحديث رحمةُ الله على الجميع.

    1.   

    صور الطلاق الذي لا يوصف بكونه سنياً ولا بدعيا

    ذكرنا أن الطلاق من حيث حكم الشرع إما أن يكون طلاقاً سُنياً أو طلاقاً بِدعياً أو طلاقاً لا سنياً ولا بدعياً، هذه ثلاثة أقسام، فمن طلق زوجته إما أن يطلقها وهو مصيبٌ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإما أن يطلقها وقد وقعت البدعة، وإما أن يطلقها طلاقاً لا يوصف صاحبه بسنةٍ ولا ببدعة، وقد بينا الطلاق السني والطلاق البدعي وضابط البدعة والسنة.

    وبقي السؤال في القسم الثالث، وهو نوع من النساء -كما ذكر المصنف رحمه الله- لا يوصف طلاقهن بالسنة ولا يوصف بالبدعة.

    طلاق الصغيرة

    قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) أي: إذا طلق الصغيرة التي لم تحض بعد؛ فإن طلاقه لها لا يوصف بكونه سنياً ولا يوصف بكونه بدعياً؛ لأن الصغيرة لا تحيض، وطلاق السنة متعلقٌ بالحيض، بحيث يطلقها في طُهرٍ لم يجامعها في ذلك الطهر، فالمفسدة والضرر المترتب على التطليق في الحيض أو المفسدة والضرر المترتب على التطليق في حال طُهرٍ جامعها فيه غير موجودة في حال التطليق للصغيرة، فالصغيرة لا تحيض، فلا تطول عليها العدة، ولا يخشى أن تكون حاملاً، فهو إذا طَلق طلق على بينةٍ من أمره؛ ولذلك تقول: الصغيرة ليس فيها المحابيل.

    مثال ذلك: رجلٌ تزوج بنت سبعٍ أو بنت ثمان أو بنت تسع سنين أو بنت عشر سنين ولم تحض بعد، فهذه التي لم تحض بعد إذا كانت في سن العاشرة -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنه يطلقها ولن تطول عليها العدة؛ لأن عدتها بالأشهر، فبعد طلاقه لها ستحسب الأشهر وينتهي الإشكال وهي ليست بحامل، فلا يخشى أن تكون ليست بطاهر؛ لأن الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه كان بدعة لخشية أن تصبح حاملاً فيندم على طلاقها؛ ولذلك قال الصحابة -رضوان الله عليهم- كما هو مأثورٌ عن علي وابن مسعود رضي الله عن الجميع: (لا يطلق أحدٌ للسنة فيندم)، أي: لا يطلق أحد طلاق السنة ويكون نادماً؛ لكن لو طلق طلاقاً بِدعِياً في طهرٍ جامعها فيه لاحتمل أن تكون المرأة حاملاً منه فيندم؛ لأنه كيف يطلقها وهي ستصير أماً لولده، لأنها ستنجب، فكيف يحصل الفراق بينه وبين أمٍ لولده؟ فقد يقدم الرجل على طلاق امرأةٍ لم تنجب بعد، ولكنه لا يقدم لو علم أنها حامل أو أن ولده سيكون منها.

    وعلى هذا فإن هناك ثلاثة أنواع من النساء: الصغيرة، والكبيرة الآيسة التي لم تحض بعد، وغير المدخول بها، وفقه المسألة يدور حول طول العدة وخشية أن تكون المرأة حاملاً كما ذكرناه في علة المنع من تطليق المرأة الحائض.

    قال رحمه الله: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة).

    هذا القسم الثالث: (لصغيرة) أي: في تطليق صغيرة لم تحض بعد.

    والدليل على أن طلاق الصغيرة لا سنة ولا بدعة فيه: قول الله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، والصغيرة ليس لها حيض حتى يقال: (لقبل عدتهن) على التقدير في الآية؛ لأن آية الطلاق فسرتها السنة، وقد ذكر أئمة وعلماء التفسير والتأويل رحمةُ الله عليهم من السلف وغيرهم أن هذا من تفسير السنة للكتاب؛ فإن الله تعالى لما قال: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، جاءت السنة مفسرةً مبينة لهذا الطلاق الشرعي وأن المراد بقوله سبحانه: (لِعِدَّتِهِنَّ) أي: لقبل عدتهن، أي: مستقبلات عدتهن وذلك بطهرٍ لم يجامعها فيه، ولا يطلقها في حال الحيض.

    طلاق الآيسة

    قال رحمه الله: قوله: (وآيسة).

    أي: ولا سنة ولا بدعة في آيسة، والمرأة الآيسة من المحيض قد سبق وأن تكلمنا عليها في باب الحيض، فمن العلماء من جعل سناً محدداً إذا وصلت المرأة إليه حُكم بكونها في حكم الآيسة، ومن العلماء من قال: لا حد لذلك، ويختلف باختلاف النساء، وقد تبلغ المرأة خمسين أو أكثر والحيض معها، فهذا شيء يختلف باختلاف النساء، فلما لم يذكر الشرع حداً أو سناً معيناً لليأس؛ فإننا لا نحد سناً معيناً، وقد بينا أن هذا هو أرجح الأقوال كما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة من أهل العلم أنه لا حد لليأس، وإذا كان لا حد لليأس؛ فالمرأة إذا طلقها زوجها وهي كبيرة فلا تخلو من حالتين:

    إما أن تكون في المحيض، فحكمها حكم الحائض، فيطلقها في طهرٍ لم يمسها فيه، وتسري عليها أحكام طلاق السنة أو طلاق البدعة؛ لأنها من ذوات الحيض، أما لو طلقها وقد انقطع عنها حيضها على وجهٍ يغلب على الظن أنها آيسة أو تحقق معه أنها آيسة؛ فتسري عليها أحكام الآيسة.

    فمثلاً: امرأة عمرها خمسون سنة، ومكثت ثلاث سنوات أو أربع سنوات أو خمس سنوات وانقطع عنها الحيض، فما رأت الحيض خلال السنة أو السنتين أو الثلاث أو الأربع الأخيرة، ففي الغالب أنه قد انقطع حيضها وتعتبر آيسة في هذه الحال، وحينئذٍ نقول لزوجها: إذا أردت طلاقها فطلقها في أي وقتٍ شئت؛ لأنه ليس هناك حيض يلزمك بأن تطلق في طهرٍ لم تجامع فيه.

    وفائدة المسألة حينما قال: (ولا سنة ولا بدعة لصغيرة) قالوا: لو قال لامرأته الصغيرة: أنت طالق للسنة، فهل تطلق عليه أو لا تطلق؟ وإن كانت تطلق عليه فمتى تطلق؟

    قالوا: إذا قال لها: أنتِ طالق للسنة، فقال طائفة من العلماء: لغو؛ لأن طلاق مثلها لا سنة فيه ولا بدعة، قالوا: فيلغو هذا، كأنه جاء بلفظ لا حقيقة له؛ لأن مثلها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وقال طائفةٌ من العلماء: بل تنتظر فتبقى امرأته إلى أن يأتيها الحيض؛ فإذا حاضت ثم طهرت الطهر الأول بعد الحيض فبمجرد أن تطهر تطلق عليه؛ لأنه علق طلاقها طلاقاً سنياً، كأنه يقول: طلقتك طلقةً سنية، فبقيت معلقة إلى أن يأتيها الحيض.

    أما قوله: (والآيسة)، فالآيسة النوع الثاني، فإذا أردت أن تضبط المسألة تنظر إلى قاسم مشترك بين الصغيرة والكبيرة ما هو؟ عدم الحيض، فيكون إما بأصله غير موجود كالحال في الصغيرة، وإما كان موجوداً ثم زال كما هو الحال في الكبيرة والآيسة، فهذا الطلاق تقول: لا سنة فيه ولا بدعة.

    فهذا القسم الثالث، وضابطه: أن تكون المرأة من غير ذوات الحيض، ويشمل ذلك الصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي انقطع حيضها.

    طلاق الزوجة غير المدخول بها

    قال المصنف رحمه الله: [وغير مدخول بها].

    هناك نوعٌ ثالث يوصف بكون طلاقه لا سنة فيه ولا بدعة، وهي الزوجة التي لم يدخل بها، مثلاً: تزوج زيد خديجة وعقد عليها، وقبل الدخول طلقها، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول فإنه لا عدة له عليها لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، وآية الطلاق قالت في طلاق السنة: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، فإذا كانت السنة مرتبطة بالعدة، وهذه المنكوحة لم يدخل بها فلا عدة لها في حكم الشرع، أي: فلا سنة في طلاقها ولا بدعة؛ لأن السنة تثبت في حال وجود العدة بالحيض، حتى لا يندم إذا طلقها في حال طهرها الذي جامعها فيه، وأيضاً لا تطول عليها عدتها بالحيض، فإذا كانت بحكم الشرع لا عدة لها؛ فحينئذٍ نحكم بكونها لا سنة في طلاقها ولا بدعة، فقال الله تعالى: فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].

    وعلى هذا: بعض طلاب العلم يخطئ في بعض فتاويه، فإذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع، يأتيه السائل ويقول: طلقت امرأتي وهي حائض، فالمنبغي إذا كان يرى أن طلاق الحائض لا يقع أن يسأله: دخلت بها أو لم تدخل؟ فإن كانت المرأة لم يدخل بها؛ فإن الطلاق نافذٌ بالإجماع؛ لأنها ليست بمحل لقضية السنة والبدعة.

    وعلى هذا فالنوع الثالث من النسوة اللاتي يعتبر طلاقهن لا سنة فيه ولا بدعة: المطلقة قبل الدخول عليها، فالخلاصة: عندنا الصغيرة، وضدها الكبيرة الآيسة، والمرأة غير المدخول بها.

    طلاق من بان حملها

    قال رحمه الله: [ومن بان حملها].

    من بان حملها للعلماء فيها وجهان: فإذا بان الحمل واستبان أنها حامل فمذهب طائفة من العلماء أنه لا سنة ولا بدعة في الحامل، سواء كانت في أول أو أوسط أو آخر الحمل، فلا يوصف الطلاق بسنة ولا ببدعة، وقال بعض العلماء: طلاق الحامل طلاق سنة؛ لما ثبت من حديث ابن عمر عند مسلم : (وليطلقها وهي طاهر حائلاً أو حاملاً) وهذا يعني أنه يطلقها حال طهرها الذي لم يجامعها فيه سواء كانت طاهراً أو كانت حاملاً استبان حملها، فقالوا: نظراً لقوله: (أو حاملاً)، وهي رواية صحيحة في رواية سالم بن عبد الله بن عمر في قصة تطليق أبيه رضي الله عنه الثابتة في الصحيحين، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أو حاملاً)، دل على أن من طلق الحامل، فقد طلقها بإباحة وإذن الشرع، أما أصحاب القول الأول فقالوا: إن طلاق الحامل قُصِد به الإذن لأنه قال: (أو حاملاً)، وكلا القولين له وجهه، لكن النظر يقوي الوجه الأول كما ذكرنا.

    1.   

    الأسئلة

    الحكمة في إلزام النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر بتطليق امرأته في الطهر الثاني بعد الحيضة

    السؤال: أشكل عليّ في قصة تطليق ابن عمر لزوجته قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر)، وموضع الإشكال هو: لماذا لم يكتف بالطهر الذي يلي الحيض الذي وقع فيه الطلاق حتى تحيض ثانيةً ثم تطهر؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

    فقد قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد طهر المرأة، وذلك أن المراجعة وقعت منه عليه الصلاة والسلام على سبيل الإلزام، فقال له: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر)، أي: تطهر من هذه الحيضة التي طلق فيها، وأكد ذلك بقوله: (ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، فيكون الطلاق في طهر لم يقع في حيضه طلاق أيضاً، وهذا من باب التأكيد على أنه لا يقع الطلاق إلا في طهر، والله تعالى أعلم.

    الرد على حديث عويمر العجلاني وحديث فاطمة في جواز الثلاث تطليقات

    السؤال: بعد أن قررنا أن طلاق السنة هو الواحدة، فما هو الجواب عن حديث عويمر العجلاني وكذلك حديث فاطمة أن زوجها طلقها البتة؟

    الجواب: أما بالنسبة لحديث عويمر العجلاني ؛ فإن طلاقه لم يصادف المحل، وتوضيح ذلك: أن المرأة إذا لاعنت زوجها فإنه يفرق بينهما فراقاً أبدياً، قال الزهري رحمه الله في روايته عن سهل رضي الله عنه في قصة المتلاعنين: مضت السّنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً، وعلى هذا فبمجرد ما تنتهي من الأيمان -والعياذ بالله- فإنه تقع الفرقة بينهما، وقال بعض العلماء: تفتقر إلى حكم القاضي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، حسابكما على الله)؛ لأنه حلف الأيمان وهي حلفت الأيمان، فحينئذٍ أحدهما كاذب، إما الرجل وإما المرأة، فتنتقل الحكومة والحكم والخصومة إلى خصومة الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، فخصومة الدنيا لا نملك فيها شيئاً لأن ما عندنا شيء ثبت، والأصل البراءة، فترك الأمر إلى الآخرة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقفها ويوقفه عند الموجبة وهي الخامسة ومضت السنة على ذلك، فقال له: (اتق الله، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، وقال للمرأة: (اتق الله فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، فكادت تعترف ثم قالت -والعياذ بالله-: لا أفضح قومي، فحلفت الموجبة، وكان يقول: إنها الموجبة، يعني: إذا حلف الرجل الخامسة: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:7]؛ فإنه تصيبه اللعنة والعياذ بالله.

    والمرأة إذا حلفت وقالت في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فإنه -والعياذ بالله- يحل عليها غضب الله عز وجل، ومن حل عليه غضب الله فقد هوى؛ فإذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما بمجرد انتهاء اللعان؛ فعندما فرق بينهما، قال عويمر من شدة الألم: ( والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني ) فلما رآها تحلف هذه الأيمان، قال: ( يا رسول الله! كذبت عليها إن أمسكتها هي طالقٌ بالثلاث)، فلما وقع طلاقه وقع بعد الفرقة، فهي أجنبية منه محرمةٌ عليه؛ ولذلك المرأة الملاعنة لا تحل إلى الأبد، وقد أثبتنا هذا في المحرمات، أنها لا تحل إلى الأبد، فالتطليق ثلاثاً وقع بعد زوال المحل، فلا يستقيم الاستدلال به؛ ولذلك يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم إقراره ليس بواردٍ أصلاً؛ لأن الطلاق وقع في غير موقعه، ومن هنا لا يمكن أن يوصف التطليق ثلاثاً بكونه طلاق سنة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.

    أما بالنسبة لحديث سهيمة في قصة امرأة رفاعة بن رافع القرظي أنه طلقها ثلاثاً فبت طلاقها، فهذا أجاب عنه العلماء وأشار الحافظ ابن حجر والحافظ ابن الملقن وغيرهما -رحمةُ الله على الجميع- إلى أنه ليس بدليل على أن طلاق الثلاث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلفظةٍ واحدة؛ والسبب في ذلك: أن سهيمة أو سهلة -اختُلِف في اسمها رضي الله عنها وأرضاها- طلقها زوجها الطلقة الثالثة، يعني: كان قد طلقها قبل ذلك طلقتين، فوقعت الطلقة الثالثة التي بها البينونة، فلذلك قال الراوي: (إنه طلقها فبت طلاقها) ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (طلقها آخر تطليقة) يعني: آخر طلقةٍ من طلاقه، وعلى هذا فلم تكن الثلاث مجموعة وإنما كانت مفرقة، فلا يستقيم الاستدلال به على إثبات الطلاق ثلاثاً وأنه سنة، والله تعالى أعلم.

    وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756188263