إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الموصى لهللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشرع لمن ترك ذرية ضعفاء وخشي عليهم بعد موته، أن يختار شخصاً مسلماً عاقلاً بالغاً حراً عدلاً، ويوصي إليه ليقوم بأمرهم، وبتفريق الأموال حسب الوصية، ويجوز للمرأة أن تكون وصية على اليتامى وعلى الأموال. كما أن الوصية تصح لكل من يصح أن يملك، حتى وإن كان حملاً تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لملك من الملائكة أو لحيوان أو لميت؛ لأنه لا يصح تملكهم.

    1.   

    مشروعية الوصية بالذرية إلى من يقوم عليهم ويرعاهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وعلى أفضل رسله، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى له].

    شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ركن من أركان الوصية، وهو الشخص الذي يوصى له ويُعهد إليه، والوصية تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يتعلق بالوصية بالأموال.

    القسم الثاني: يتعلق بالوصية بالأيتام والضعفة الذين يخلفهم الإنسان من وراء ظهره، كقرابته الذين يحتاجون إلى رعاية وعناية.

    فأما بالنسبة للأموال، فيُوصَى للشخص أن يأخذ ذلك المال، ويُوصَى للشخص أن يقوم بتفريق الأموال، ولابد في هذا الوَصِي -الذي أُقيم لتفريق الأموال أو لرعاية اليتامى والقيام على حقوقهم والإحسان إليهم من بعد أبيهم- أن تتوفر فيه أمور، ومن خلال هذه الأمور يمكن أن تتحقق المصالح التي من أجلها شرع الله الوصية، وكذلك تندرئ المفاسد والشرور التي شرع الله الوصية لدرئها ودفعها، والله سبحانه وتعالى ما ترك خيراً إلا ودل عباده عليه، وما ترك شراً إلا وحذرهم منه.

    والأصل في الوصية للأشخاص الذين يقومون برعاية اليتامى وبتفريق الأموال ممن يوثق بدينه وأمانته قول الله تبارك وتعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]، فبينت هذه الآية الكريمة أن على كل مسلم حضره الموت، أو كان في عافية ولكنه يخشى أن يدهم عليه الأجل -وليس هناك أحد يضمن عمره- أن يتقي الله في هؤلاء اليتامى.

    والإنسان لا يضمن -ولو كان في عز شبابه واكتمال صحته وعافيته- أن ينزل به أمر الله في ليل أو نهار، ولذلك من وُلِد له فليتق الله في مولوده ولو كان صغيراً؛ لأنه لا يضمن أن يعيش له، فأمر الله تبارك وتعالى من خشي على ذريته من بعده: وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9]، فوصف الذرية بأنها ضعيفة، ووصف الشخص بأنه يخاف، إذاً: تكون الذرية ضعيفة إذا كانت من اليتامى، سواء كانوا ذكوراً أو كانوا إناثاً، واليتم في الأنثى أشد منه في الذكر، فلذلك قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ضِعَافًاً [النساء:9] أي: أولاداً ضعافاً، بخلاف ما إذا كان هؤلاء الأولاد عندهم إخوة كبار، وهم بالغون وفيهم أمانة، فيمكنهم أن يقوموا مقام الآباء، ويسدوا مسده في رعاية إخوانهم القصّار واليتامى.

    فأولاً: أن تكون الذرية ضعيفة لا تملك لنفسها حولاً ولا قوة.

    ثانياً: أن يخشى هذا الرجل على هذه الذرية، وفي بعض الأحيان تكون الخشية بسبب عدم وجود قريب يقوم عليهم، فيخشى على أموالهم أن تُؤكل، ويخشى على حقوقهم أن تَضيع؛ بل ربما خشي على أعراضهم أن تنتهك، وهذا لاشك أنه يتأكد خاصة عند فساد الزمان وتغيُّر الناس.

    بل قد يخشى الإنسان من أقرب الناس منه، فكم من عم وكم من أخ أكل أموال قرابته! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء أعمامهم على أموالهم! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء إخوانهم على تلك الأموال! فإذا كان الأب يعلم أن ابنه الأكبر أو أن أبناءه الكبار فيهم قسوة، وفيهم جُرأة على حـدود الله عز وجـل، أو كراهية لإخوانهم القصار؛ فعليه أن ينتقل حتى ولو لشخص أجنبي غريب يأمنه.

    شروط يجب توافرها في الوصي

    ولا بد أن تتوفر في هذا الشخص الأمور التي ينبغي مراعاتها في كل من يقوم بهذه الولايات؛ من جهة الدين ومن جهة الدنيا، فهناك أمور من جهة دينية، وهناك أمور من جهة دنيوية.

    أما من أوصي إليه بالقيام على اليتامى ونحوهم، فمن الأمور التي تشترط فيه من ناحية دينية:

    أولاً: الإسلام، فلو أنه لم يجد في أبنائه الكبار من يحسن النظر لليتامى من أولاده، ووجد أخاه، ولكن أخاه كافر، فلا يجوز أن يقيم الكافر وصياً على الأيتام المسلمين، بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِين عَلَى الْمُؤْمِنين سَبِيلًا [النساء:141]، والذي يوصي إلى الكفار قد جعل السبيل للكافر على المسلم بالولاية عليه، وقال سبحانه وتعالى: لا تَتَّخِذُوا بِطَانةً مِن دُونكُمْ لا يَأْلُونكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِن أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، وما عرّف أحدٌ بعدوٍ مثل تعريف الله جل جلاله لعباده المؤمنين بأعدائهم، ولذلك يقول في كتابه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45].

    فبيّن سبحانه وتعالى أن الكافر لا يراعي مصلحة المسلم مهما كان الأمر، إلا إذا كان هناك ضرر أكبر، أو كان هناك خديعة أو مكر، والله عز وجل يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِين [الأنعام:57].

    فلن تجد أصدق منه حديثاً، ولا أصدق منه قيلاً، ولا أصدق منه حكماً، ولذلك قال تعالى: لا يَرْقُبُون فِي مُؤْمِن إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، والإل: هو القرابة، والذمة: هي العهد، فالكافر لا يرقب في المؤمن إلاً ولا ذمة، إلا إذا كانت له مصالح، فعندها يخاف من المصلحة أن تفوت، لا مراعاة للإل ولا للذمة، فليس عندهم عهد ولا ذمة، فالمقصود: أن الله تعالى لم يجعل للكافر على المؤمن ولاية لهذه النصوص.

    ولما ولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتباً له نصرانياً -وكان بالشام- لأنه لم يجد في المسلمين من يحسن له الكتابة وتنظيم الكتابة، فعهد بذلك إلى نصراني من أهل الشام، فبلغ عمر ما فعله، فكتب إليه بهذه الآية: لا تَتَّخِذُوا بِطَانةً مِن دُونكُمْ لا يَأْلُونكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنتُّمْ [آل عمران:118]، فقوله تعالى: وَدُّوا مَا عَنتُّمْ [آل عمران:118] أي: ودوا عنَتَكم، وهذا يدل على أنه لا خير فيهم، فلا يجوز أن يكون الكافر وصياً على الأيتام، ولا قائماً على شئونهم؛ لهذه النصوص.

    وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه)، واليتيم المسلم كالمسلم؛ لأن هذا عند العلماء مُقعَّد على القاعدة المشهورة التي ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه: قواعد الأحكام، التي هي: ( تنزيل المعدوم منزلة الموجود )، فأيتام المسلمين محكوم بإسلامهم تبعاً لوالديهم.

    الشرط الثاني: العقل، فلا يعهد لأولاده وأيتامه وذريته من بعده ولا يُوصِي لشخص مجنون؛ لأن المجنون لا يُحسن النظر لنفسه فضلاً على أن ينظر في مصلحة غيره؛ ولأن الشريعة الإسلامية إنما جعلت الوصية على اليتامى من أجل طلب مصالحهم ودرء الشرور -بإذن الله- عنهم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بمن فقد العقل، حتى لو كان جنونه متقطعاً فإنه لا يقام وصياً؛ لأنه لا يؤمن منه الضرر.

    الشرط الثالث: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي لا يُحسن النظر، وفيه كذلك قصور، قال تعالى في كتابه: َالَّذِين لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [النور:58]، فبيّن أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم دون العقل والتمييز والإدراك للأمور، فلو أُقيم صبي وصياً على يتامى، أو وصياً على أموال في تفريقها؛ فإنه لا يُحسن النظر، ولربما خُدع وضحك عليه لنقص عقله.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) أي: حتى يكتمل عقله ويُحسن النظر بفضل الله عز وجل، ثم بهذا العقل الذي يميز فيه بين الأمور صالحها وضارها.

    الشرط الرابع: أن يكون حراً؛ لأن العبد المملوك بيّن الله تعالى أنه مشغولٌ بخدمة سيده؛ ولأنه لا ولاية له على نفسه، فكيف يلي على غيره؟

    الشرط الخامس -في الوصي الذي يوصَى إليه بالقيام على أمور اليتامى-: أن يكون من أهل العدالة، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم.

    العدل من يجتنب الكبائرَ ويتقي في الأغلب الصغائرَ

    فالعدل هو الذي استقام على طاعة الله تبارك وتعالى، والتزم شرائعه، وفعل ما أمره الله به، وترك ما حرّم الله عليه، والفاسق هو من يرتكب الكبائر -ولو كبيرة واحدة- أو يصر على صغيرة حتى تصل إلى مقام الكبيرة، فمثل هذا يقولون: كما أنه ضيع حق الله بفسقه؛ فإنه سيضيع حقوق اليتامى؛ لأن أصل الفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت قشرتها، والفاسق سُمِّي فاسقاً لأنه قد خرج عن طاعة الله عز وجل، فإن خرج خروجاً كلياً -والعياذ بالله- بالكفر فهذا فسق الكفر، وإن خرج خروجاً لا يخرجه عن الملة، فهذا فسق العصيان الذي لا يوصل الإنسان إلى حد الكفر.

    فمثل هذا الذي يفعل الكبائر وفيه فسق لا يؤمن أن يضيع حقوق اليتامى ويتلاعب بها، فربما قبل الرشوة، فباع أموال اليتامى بثمن بخس، أو باعها حين يكون البيع ضرراً على اليتامى، أو يشتري حيث يكون الشراء ضرراً على اليتامى.

    فالمقصود: أنه بفسقه فيه تهتك وفيه تساهل، فلا يؤمن منه أن يضيع حقوق هؤلاء اليتامى، وحينئذٍ يكون مقصود الشرع تحقيق المصالح، فتكون ولايته مضيِّعة لمقصود الشرع.

    هذا من جهة الأمور التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يُوصَى إليه.

    1.   

    أمور يستحب توافرها في الموصي

    وهناك أمور تُستحب في الموصي، وينبغي لمن يُوصِي أن ينظر إلى الأكمل والأفضل؛ ومن هذه الشروط المستحبة:

    أولاً: ألا يخرج عن القرابة، فإذا أراد أن يوصي لأيتامه فيبدأ بأقرب الناس إليه، ممن يُحسن النظر؛ لأن القريب في الغالب فيه شفقة القرابة، ويخاف من الله جل وعلا أكثر؛ لأن القرابة تدعو إلى الشفقة وإلى الرحمة، فإذا كان هناك من أقربائه من يمكن أن يقوم بالنظر في عياله وأولاده وأيتامه من بعده، فلا يعدل إلى الغريب، ولا ينتقل إلى الأجنبي، ولأنه ربما احتاج الوصي أن يخاطب أمهم، ولربما احتاج أن يختلط باليتامى، فعندما يكون من الأقربين يكون ذلك أخف على أولاده وأيتامه وأجبر لقلوبهم، بخلاف ما إذا كان أجنبياً فإنه يكون أدعى إلى التُّهَم، ويكون في ذلك من التضييق والعنت ما الله به عليم، فيبدأ بالأقرباء قبل الغرباء.

    ثانياً: من أهم ما ينبغي أن ينتبه له بعد هذه الشروط الدينية هو مراعاة الأمور الدنيوية المهمة التي من أهمها: حُسن النظر في الأمور؛ فإن الله عز وجل فضل الناس بالعقول، وفضّلهم بحسن النظر، فهذا العقل هو الذي ارتقى الإنسان به من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية والتكريم من الله جل وعلا، وهو نور من الله سبحانه وتعالى تنكشف به حقائق الأمور، فيميِّز الإنسان بهذا العقل بين الصالح وبين الضار، ولذلك تجد من فقد عقله بسكر أو جنون -والعياذ بالله- يكون حاله في بعض الأحيان أردأ من حال الطفل، ولربما ذهب ورمى بنفسه في النار، مع أن البهيمة إذا رأت النار فرت منها، ولكنه ربما جاء في حال سكره وحال ذهاب عقله -والعياذ بالله- فيرمي بنفسه، ولربما قتل نفسه والعياذ بالله، فالعقل من أتم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على العبد بعد نعمة الدين، ولذلك وصف الله الدين مع العقل بأنه نور على نور.

    فإذا جاء الإنسان يوصِي بقرابته وأوليائه إلى شخص فعليه أن ينتبه لهذه الجوانب المهمة من اكتمال العقل، فقد يكون عاقلاً ولكنه غير مكتمل العقل، فينظُر إلى الشخص الذي عُرف بسداد الرأي، فمثلاً: إذا كان الذي يريد أن يوصي غنياً ثرياً، فينبغي أن يتنبه إلى جانب حفظ المال وتنميته، فإذا وُجد الشخص المعروف بحسن النظر في تنمية الأموال واستثمارها عهد إليه بالقيام على أمواله؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى ذلك، وهذا أكمل وأفضل، فيُحفظ المال وينمو، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة).

    فندب إلى أن يكون الولي ممن يُحسن النظر في استثمار الأموال وحسن رعايتها، وهذه المرتبة مرتبة الأحسن والأكمل، أما إذا لم يجد الموصي من يُحسن تنمية أموال أيتامه؛ فليبحث عن الشخص الذي عُرف بالحيطة والحذر والخوف في حفظ الأشياء، وله أن يختبره حتى يعلم أمانته وحفظه، حتى إذا لقِي الله جل جلاله ووقف بين يدي الله وأبناؤه خصومه فيمن ولاّهم عليه يقول: رضيت لهم ما أرضاه لنفسي. فعليه أن يَنْظُر وكأنه يتيم من هؤلاء اليتامى، فينظر الذي يُرضَى في حفظه ورعايته لهذه الأموال، سواء كان من القرابة أو من غيرهم.

    فالإنسان عندما لا يجد من يُحسن الاستثمار، أو وجد رجلاً يستثمر الأموال ولكنه يخاطر في استثماراته، ووجد شخصاً غيره لا يستثمر، لكنه إذا أمسك شيئاً حفظه حتى يؤديه على أتم وجوه؛ فحينئذٍ تجتنب جانب المخاطرة، وتعهد بأبنائك إلى من عُرف بالحفظ، فالحفظ حسن والاستثمار أحسن، لكن حينما كان الاستثمار فيه مخاطرة وصاحبه لا يُعرف بالحذر، فتعدل إلى من يعرف بالحفظ؛ لأن المسلم لا يخاطر لنفسه، فكذلك لأيتامه الذين أُمر بالنظر في مصالحهم.

    كذلك أيضاً عليه أن يبحث في الأمور الدنيوية من ناحية أخلاق الرجل في دينه وحسن معاملته؛ لأن أيتامه من بعده ربما احتاجوا أن يدخلوا على هذا الرجل المرة بعد المرة، وقد يكون الرجل فظاً غليظاً، فقد تجده يحسن حفظ الأموال أو استثمارها، لكن أخلاقه شرسة ومعاملته سيئة؛ فيعيش اليتيم تحت القهر، فلا يستطيع أن يبث حاجته وأن يبث حزنه، ولا يستطيع أن يسأل حاجته، أو أن يصل إلى ماله ومالُه بين يديه، فلا ينبغي أن يولي عليهم من عُرف بالشدة والأذية والتضييق، وإنما يُراعي فيه الأخلاق الطيبة، والتواضع والإلف والحلم والرحمة، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، وحسن النظر في أيتامه وأولاده من بعده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحتاطون في هذا الأمر كثيراً.

    1.   

    حكم وصية الرجل إلى المرأة بالقيام على الأيتام والأموال

    ويجوز أن تُولّى المرأة، فإذا كانت زوجة الإنسان معروفة بالصلاح والأمانة، ومعروفة بالرعاية والضبط التام لأموال اليتامى، وكذلك برعايتها؛ عهد إليها؛ لأن المرأة -على أصح أقوال العلماء- يجوز أن تلي وأن يُوصَى إليها برعاية الأيتام، وكذلك بحفظ المال وتفريقه، والدليل على ذلك فعل السلف، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تولت أمور أيتام أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه توفي قبلها، فوَلِيت أمور أيتامه من بعده؛ فكانت هي التي تقوم على شئونهم وترعى أحوالهم.

    وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه -كما في الصحيحين- أنه عهِد بالوقف الذي أوقفه بخيبر -وقد تقدم معنا- وأوصَى أن تكون بنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها هي التي تليه على الوقف.

    فدل ذلك على أنه يجوز أن يُوصَى بتفريق الأموال إلى المرأة، قياساً على فعل عمر في الوقف، وبرعاية الأيتام نصاً في خبر أم المؤمنين عائشة، حيث وقع فعل هذا بحضور الصحابة وبعلمهم رضي الله عنهم ولم يُنكر عليها ذلك، وهي من فقهاء الصحابة رضي الله عنها وأرضاها.

    وقد شدد في هذا بعض السلف، فكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله لا يرى أن يُوصَى للمرأة، والصحيح: أنه يجوز ويصح أن يُوصِي للمرأة، وخاصة إذا عُرفت بالأمانة والحفظ وحسن الرعاية والتدبير لأموال أيتامه من بعده.

    1.   

    اشتراط كون الموصى له يصح تملكه

    يقول رحمه الله: [باب الموصى له]

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشخص الذي يُوصَى له، فيُعهد إليه برعاية أيتامٍ أو تفريق مال، أو يُوصَى له مباشرة بأن يقال: أعطوا محمداً عشرة آلاف، أو أعطوه الثلث، أو نحو ذلك، فإنه يشمل هذا ويشمل هذا، فهناك يكون موصَىً له، وأيضاً يعتبر وصِياً من جهة كونه قائماً بالرعاية للمال والأيتام.

    قال رحمه الله: [تصح لمن يصح تملكه].

    إذا وصَّى بمال فلابد أن يكون الشخص الذي يُوصَى له ممن يصح تملكه للمال، فإن كان ممن لا يصح تملكه للمال؛ كالمعدوم، كأن يقول: أعطوا ابن فلان، ولم يولد له بعد، وليس هناك حمل تحقق وجوده، فهذا غير موجود.

    وكذلك أيضاً بيّن أنه لا بد أن يكون ممن يصح تملكه، فيُوصَى للشخص الذي يكون أهلاً للولاية على المال، وكذلك استحقاقه.

    فأما إذا كان لا يصح تملكه للمال؛ مثل الحربي، فلو وصى بماله لحربي فلا يصح تملكه للمال، ولا تجوز الوصية له؛ لأن أموال الكفار ملكٌ للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم).

    فدلّ هذا على أن الحربي -أي: المحارب للمسلمين من الكفار إذا لم يفعل ذلك، فمعناه أنه لم يسلم، وأنه باقٍ على محاربته للمسلمين؛ وحينئذ لا استحقاق له في المال، فلو قال: وصّيت لأخي فلان بعشرة آلاف، وكان أخوه حربياً كافراً، لم يصح؛ لأنه ليس له يد على ذلك المال؛ لأن الشريعة رفعت يد الكافر عن ماله إذا كان محارباً.

    وقوله: (تصح) أي: الوصية (لِمَن) أي: للشخص الذي (يصح تملكه)، فلو قال مثلاً: وصَّيت لبهيمة، فإنه لا يصح تملكها، وكذلك أيضاً لو قال: وصّيت لملك من الملائكة، فلا يصح تملك هؤلاء؛ لكن إذا وصَّى لشخصٍ معين يصح تملكه صحّت الوصية؛ لأن الوصية يراد منها إيصال الحق إلى شخص، سواء كان ذلك على سبيل الصلة والبر، أو على سبيل المحاباة وكسب المودة، وهذا المعنى لا يتحقق فيمن لا يصح تملكه، كالبيهمة، والملك، والحربي، ونحوهم.

    وظاهره العموم كما ذكر المصنف، فيشمل الذكر والأنثى، ويشمل الصغير والكبير، فيصح أن يوصي بماله لصغير فيقول مثلاً: ثلث مالي وصية لذلك الولد، ولو كان دون البلوغ، وهكذا لو وصَّى لحملٍ تحقق وجوده فإنه يصح تملكه.

    فعلى هذا لا بد أن يكون الشخص الذي يُوصَى له ممن يصح تملكه، ويشمل ذلك الرجال والنساء كما ذكرنا.

    حكم الوصية بالمال للعبد

    قال رحمه الله: [ولعبده بمشاع كثلث].

    أي: وتصح الوصية لعبده بمشاع كثلث، كأن يقول: ثلث مالي لعبدي فلان، وذكر العبد هنا؛ لأن الإشكال في العبد أنه بعد وفاة سيده يكون ملكاً للورثة، فإذا وصّى له فإن جميع ما يوصَى به لهذا الرقيق سيكون إلى الورثة، فصارت الوصية في ظاهرها لغير وارث وفي حقيقتها أنها لوارث، ومن هنا يذكر العلماء مسألة الرقيق من هذا الوجه، ومرادهم التمثيل على وصية في ظاهرها للغير ولكنها في حقيقتها آيلة إلى الورثة.

    لكن إذا قال: وصّيت بثلث مالي لفلان، من أرقائه وعبيده، أو قال: أوصيت أن يُعتق فلان من ثلثي ونحو ذلك، فحينئذٍ يُنظر، فإذا استغرق الثلث الذي وصِّى به قيمة العبد فهو حر، فلو كانت قيمته تسعة آلاف ريال، وكان قد ترك سبعة وعشرين ألفاً، فالثلث تسعة آلاف، فحينئذٍ يعتق من هذا الثلث، وأما إذا كان زائداً فحينئذٍ يعتق ويملك ما زاد، فلو قال: وصيت بثلثي لمحمد -وهو من عبيده- والثلث تسعة آلاف، وقيمة الرقيق ثلاثة آلاف؛ عتق بالثلاثة وملك ستة آلاف؛ لأنه تكون له يد على المال، وحينئذٍ يعتق ويملك.

    قال رحمه الله: [ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل].

    قوله: (ويأخذ الفاضل) الفاضل هو الزائد، يقال: فضل الشيء إذا زاد، ومنه فضلُ الإنسان، إذا كان محافظاً على الطاعة؛ لأن الطاعة والبر إذا كانت غير واجبة فهي فضل وزيادة على الواجب.

    قال رحمه الله: [و بمائة أو معين لا تصح له].

    فإن عيّن وقال: بمائة درهم، أو أوصيت له بألفٍ، فهذه المائة أو الألف ستعود إلى الرقيق وليست في رقبته، وإنما تعود ملكاً له، وبمجرد ما تقع يده على ذلك المال سينتقل إلى ورثة الموصِي، فكأنه يوصي إلى ورثته؛ لأن الرقيق لا يملك، والدليل على أنه لا يملك قوله تعالى: عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75]، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فأخلى يد الرقيق عن الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.

    وعلى هذا فلو وصّى له بمعيّن -كمائة أو ألف أو ألفين- فهذا المعين بمجرد أن تحكم بصحة الوصية سيدخل إلى ملكية العبد، والعبد وما ملك سيكون لسيده، فهو في الحقيقة سيؤول إلى وصية لوارث، بخلاف ما ذكرناه في مسألة المشاع والثلث.

    1.   

    صحة الوصية بحملٍ أو لحملٍ تحقق وجوده

    قال رحمه الله تعالى: [وتصح بحمل ولحمل تحقق وجوده].

    قوله: (وتصح بحمل)، أي: إذا وصّى بحمل جاريته؛ لأن الحمل يكون من الرقيق تبعاً لأمه.

    أو يكون الحمل حمل ناقة أو حمل شاة، فقال: ما في بطن هذه الشاة -والحمل موجود- يُعطى لمحمد أو يُعطى لعلي، فهذه وصية منه بهذا الحمل، فتصح الوصية بحمل.

    وقوله: (ولحمل تحقق وجوده قبلها)، أي: قبل الوصية، فالضمير عائد للوصية، إذاً: يُشترط أن يُتحقق من وجود الحمل قبل الوصية حتى تصح الوصية؛ لأنه إذا لم يُتحقق من وجود الحمل قبل الوصية كانت لمعدوم، ولا تصح حينئذٍ الوصية من هذا الوجه، فإذا وصى لحمل كأن يكون -مثلاً- ولد أخيه، أو أخته، فيقول مثلاً: وصيت بألف ريال تُعطى لحمل فلانة، فيشترط في هذا الحمل أن يُتحقق من وجوده حتى تصح الوصية، وقد يوصي للحمل لأنه سيكون يتيماً، كأن توفي أخوه وزوجته حامل، فأحب أن يصل أولاد إخوانه من اليتامى، فقال: أُوصِي بثلث مالي لحمل فلانة، يقصد زوجة أخيه.

    1.   

    إذا أوصى أن يحج عنه بمال يكفي لأكثر من حجة

    قال رحمه الله: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف؛ صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد].

    الإنسان إذا وصى بالحج أو بالعمرة، فإما أن يكونا واجبين عليه، وإما أن يكونا غير واجبين، فإن كانا واجبين فلا إشكال، فإنها ستُخرج سواء وصى أو لم يوص؛ لأن دين الله أحق أن يُقضى؛ ولكن إذا وصّى وقال: حجوا عني، فإن حدد مالاً فقال: هذه العشرة آلاف يُحج بها عني، أو ثلث مالي يحج به عني، فحينئذٍ نأخذ هذا الثلث كاملاً نُحجج عنه، فإذا حججنا عنه لم يخلُ من حالتين:

    فإما أن يكفي الثلث، وإما أن لا يكفي.

    فإن كان الثلث كافياً فعلى ضربين:

    إما أن يكفي ويزيد، وإما أن يكفي ولا يزيد.

    فإن كان يكفي ولا يزيد فلا إشكال، مثال ذلك: لو أنه قال: خذوا من مالي ألف ريال وحجوا بها عني، ثم جئنا لشخص وقلنا له: أتحج عن فلان؟ قال: نعم، فنظرنا في مئونة الحج وكلفته فإذا هي ألف ريال؛ فحينئذٍ وصّى بمال يكفي للحج ولا يزيد، فحينئذٍ لا إشكال.

    الحالة الثانية: أن يكفي ويزيد، فإذا كفى المال وزيادة؛ حُج عنه بالأصل، ثم كُرِّر الحج سنوات حتى ينفُد المال كله؛ لأن هذا المال شبه الموقوف على هذه الطاعة، فيحجَّج بهذا المال عنه.

    لكن الإشكال إذا كان المال يكفي لأربع حجج، فهل تكون هذه الأربع الحجج متتابعة، بحيث نحج عنه في أربع سنوات، أو يُمكن أن يُستأجر أربعة أشخاص في حجة واحدة؟

    هذا فيه تفصيل عند بعض العلماء، فبعض العلماء يقول: لا يُحج عن الميت إلا حجة واحدة؛ لأن البدل آخذ حكم مبدَله، كما أنه لا يمكن أن يأتي بحجتين في عام واحد؛ فكذلك لا يصح أن يُحجّج عنه حجتين في عام واحد؛ ولأننا لو فتحنا هذا الباب في باب النوافل لصح أن يأتي هو بحج ويستأجر الغير معه ليحج أيضاً عنه، على القول بجواز التنفل عن الحي مع القدرة، وهذا من حيث النظر صحيح، ومن حيث الأصل أيضاً له وجهه.

    وبعض العلماء يقول: بل يمكن أن يُحجّج عنه أربعاً أو خمساً في زمان واحد على حسبه، فمثلاً: لو ترك خمسة آلاف، وكل ألف ريال تكفي لحجة عنه، فبعض العلماء يقول: أستأجر خمسة أشخاص؛ وذلك لأنني لا أضمن في العام القادم أن تكون الحجة بألف، وقالوا: إنه يجوز في الأموات بعد موتهم ما لا يجوز للإنسان في حال حياته، فيخفف في هذا من هذا الوجه.

    وأياً ما كان فكلا القولين له وجهه، وما ذكرناه من أنه لا يُجمع بين الحجتين في عام واحد له قوة.

    هذا بالنسبة إذا كانت تكفي وزيادة، والحكم الذي يهمنا أنه ما دام قد قال: ثلث مالي يصرف في الحج، أو هذه الألف يُحج بها عني، فإن هذا المال كله يُنفق في الحج، ولا نقتصر على حجة واحدة إلا إذا قال: خذوا من ثلث مالي حجة واحدة؛ أو عمرة واحدة، فحينئذٍ يُقتصر على ما طلب وسأل، ويُصرف من المال بقدره.

    أما إذا كان لا يكفي أن يُحج عنه، فبعض العلماء يقول: إنه يُنظر إلى أقرب الأماكن؛ لأنه لا يمكن أن يُحج عنه من بلده ومن مكانه، ويمكن أن ينظر إلى أقرب الأماكن، كأن يُستأجر شخص من أهل مكة ويَحج عنه، أو يُنظر ممن يرضى بالقليل ويقوم بالحج عنه، وأياً ما كان فإن المال الذي عين للحج مصروفٌ في ذلك الحج، إلا إذا تعذر الوجود وتعذّر من يحج عنه، فحينئذٍ يُنتظر حتى يُتمكن من صرف ذلك المال في الحج.

    وقوله: (صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد)، أي: حتى ينفذ الثلث؛ لأنه لم يخص حجة واحدة، ولا عمرة واحدة، لكنه لو خص وقال: يُحج عني حجة واحدة، أو يُحج عني السنة القادمة، أو يُحج عني حجتين، فحدد وعيّن، فيتعين الحكم ويختص الحكم بما عُيِّن من أجله، أما إذا كان قد أطلق فإننا نستنفد الثلث كاملاً، ولو شمل ذلك عشر حجج، لكن على التفصيل الذي ذكرناه.

    1.   

    حكم الوصية للملائكة أو للبهائم أو للميت

    قال رحمه الله: [ولا تصح لملك وبهيمة وميت].

    فلا تصح الوصية لمَلَك، كأن يقول مثلاً: هذه الألف لجبريل، فلا تصح الوصية، وهذا من الأمور المبتدعة التي يفعلها أهل الجهل، مثلما يقول بعضهم: وهبت ثواب قراءتي وصلاتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يقال له: أنت وصلاتك وعبادتك كلها في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى جعل له أجر الأمة كلها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجره)، فذلك تحصيل حاصل.

    وقد قرر الأئمة رحمهم الله أن هذا من الأمور المستحدثة على المسلمين، فالثواب حاصل، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأرفع من أن تتصدق عليه بحسنة ذكر أو طاعة، فمقامه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أجل وأكرم عليه الصلاة والسلام.

    فالمقصود من هذا: أنه لا يوصَى لملك، ولا لبهيمة، فمثلها لا يملك؛ لأنه يتعذّر هذا الإيصال، وهكذا إذا كانت لمُبهم، كقوله: أوصي لرجل؛ قال طائفة من العلماء: لا تصح؛ لأنه لا يمكن الإيصال، فمن هو هذا الرجل؟ لا يمكن تعيينه، ففي هذه الحالة يتعذّر الإيصال إلى الملك، والمبهم يتعذر التعيين ما لم يعين هو، والأصل يقتضي أن تكون الوصية واضحة، وأن تكون بيّنة معلومة.

    وقوله: (وبهيمة)، كقوله: أوصي لبهيمة، مثلما يقع عند أهل الكفر والعياذ بالله، فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، ويوصي بملايينه لكلبه، نسأل الله السلامة والعافية! وصدق الله جل جلاله حيث يقول: إِن هُمْ إِلَّا كَالأَنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فبمجرد ما يخرج الإنسان عن الدين ويترك شرع ربه؛ فإنه ينزل إلى مستوى أحط من البهيمة: إِن هُمْ إِلَّا كَالأَنعَامِ [الفرقان:44]، وليس هذا فقط: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فهم أضل سبيلاً وأضل فكراً، وهل من عنده عقل يوصي لبهيمة؟! فالكلب عندهم -أكرمكم الله- أحب وأكرم من صلة القرابة؛ لأنها مجتمعات مدمرة منحطة، ولو مُدحت وأُثني عليها ووضعت في السماء، لكن هذا كله خلاف الحقيقة، ولذلك من أراد الحقيقة والجوهر فلينظر إلى عظمة هذا الدين، وعظمة هذا الإسلام الذي بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو العز والكرامة.

    فالوصية للكلاب وللبهائم لا يفعلها إلا إنسان ليس عنده عقل، ولو وصّى لبهيمة لم تصح، والوصية للكلاب ولدور الكلاب ولدور الحيوانات لا تصح.

    لكن في بعض الأحيان يقول بعض العلماء: إذا جعل قدراً من بستان أو من طعام عنده صدقة على بهائم المسلمين، أو علفاً لدواب المسلمين، أو علفاً لدواب الجهاد في سبيل الله ونحو ذلك، فهذا اغتفره العلماء رحمهم الله، وله وجهه.

    لكن أن نقول: هذه العشرة آلاف أعطوها الكلب الفلاني، أو ضعوها في رصيده -والعياذ بالله- في البنك، فهذا لا يصح في شريعة الله عز وجل، والشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه.

    ولذلك يُصرف المال في وجهه، لكن عند العلماء إشكال فيما إذا وصى مثل هذه الوصايا، فهل تبطل الوصية من أصلها، أم أنه ينظر إلى جهة يمكن أن تصحَّح بها الوصية، فتصرف لضعفة المسلمين ولفقرائهم؟

    نقول: هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله باختلاف أنواع الوصايا، ومن أمثلتها: الوصية إلى ما لا نفع فيه، أو الوصية إلى ما فيه ضرر، فلا تجوز الوصية إلى دور فيها محرمات، فهل تبطُل الوصية من أصلها أو تصرف، فبدلاً من أن تذهب إلى دور المحرمات تذهب إلى دور المساجد وإلى دور العلم؟

    اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إِذا وُصِّي بها -مثلاً- إلى طوائف ضالة، أو إلى ملل أو نِحل، كأن: وصَّى بماله -والعياذ بالله- في المساهمة في بناء الكنائس، أو طبع التوراة أو الإنجيل، فلا تصح؛ لأنها وصية بضلال، فيقولون: إنه قد يكون جاهلاً ويظُن أن الطاعة في مثل هذا، فننظر إلى الطاعة الحقيقية فنصحح وصيته؛ لأن القاعدة: أن الإعمال أولى من الإهمال.

    ومن أهل العلم من قال: تبطل الوصية من أصلها ولا تصحّح، فعند العلماء هذا التفصيل في هذه المسألة.

    وهكذا لو وصَّى لميت فلا يصح؛ لأن الوصية يشترط فيها القبول، والميت يتعذر منه القبول.

    1.   

    حكم من وصى لحي وميت يعلم موته أو يجهله

    قال رحمه الله: [فإن وصى لحي وميت يَعلم موته فالكل للحي].

    إذا وصى الموصي فقال: هذه عشرة آلاف من ثلثي، تعطون زيداً خمسة آلاف وعمراً خمسة آلاف، وهو يعلم أن زيداً قد مات، فحينئذٍ لا تصح لزيد؛ لكن هل يأخذ عمرو الخمسة أم العشرة كاملة؟

    قال بعض العلماء كما اختاره المصنف: تُصرف العشرة آلاف كلها لعمرو؛ لأنه لما كان يعلم أن زيداً قد مات فكأنه يقول: اصرفوها كلها لعمرو.

    ولكن هذا فيه نظر، والأقوى ما ذكره بعض العلماء: أنه إذا كان يعلم موته، فنبقى على الأصل مادام ميتاً؛ لأنه ربما كان يعلم موته ونسي -ذهَل أو غفَل- فتكون كالوصية للميت الذي لا يعلم موته، ولأنه عيَّن وحدد، والمعيّن لا يُصرف إلى غيره؛ لأن فائدة التعيين الحصر والقصر بذلك الذي سَمّى، فلما كان الذي سماه وعينه ممن تبطل الوصية بالنسبة له، بطلت في حقه، وبقيت في حق غيره صحيحة.

    قال رحمه الله: [وإن جهل فالنصف].

    قوله: (وإن جَهل) أي: جهل موته، يعني فلا يدري هل هو حي أم ميت، فقال لهم: أعطوا زيداً خمسة آلاف وعمراً خمسة آلاف، ولا يدري هل زيد حي أو ميت، ثم تبيّن أن زيداً كان ميتاً؛ فحينئذٍ يصرف النصف لعمرو، فالمصنِّف يختار التفصيل.

    والصحيح: أنه لا تفصيل، فالنصف لعمرو في كلتا المسألتين، أي: هو لعمرو في حال علمه بموت زيد لاحتمال أن يكون نسي، ولعمرو في حال عدم علمه أو جهله بالحال أو شكه في حياته؛ لأنه قد عيّن، وفائدة التعيين صرف الحق لمن عُيِّن له.

    1.   

    حكم من وصى بماله لابنيه وأجنبي

    قال رحمه الله: [وإن وصى بماله لابنيه وأجنبي، فردَّا وصيته فله التسع].

    من المعلوم أنه إذا وصّى بالمال كله فلا يصح إلا في حدود الثلث، فمعنى ذلك: أن الوصية باطلة في الثلثين وصحيحة في الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد : (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا)، فدل على أن المال كله لا تصح الوصية به إلا في حدود الثلث، فإذا صحّت في حدود الثلث فهنا قد سَمّى المصنف ثلاث جهات، الجهتان الأوليان: ابناه زيد وعمرو مثلاً، والجهة الثالثة: الأجنبي، وليكن علياً، فزيد وعمرو يستحقان ثلثي الثلث، والأجنبي -الذي هو علي- يستحق ثلث الثلث؛ لأن الوصية بطلت في الثلثين وصحت في الثلث.

    فمثلاً: لو كان عندك تسعة آلاف ريال، وأوصيت بجميع التسعة آلاف ريال لهؤلاء الثلاثة، فنقول: ليس من حقك أن تعتدي على حقوق الورثة وتوصي بالتسعة آلاف كاملة، بل تصح وصيتك في ثـلاث آلاف، وتبطل في ستة آلاف، والستة آلاف تقسم ميراثاً شرعياً حكم الله سبحانه وتعالى به من فوق سبع سماوات، ويعطى كل ذي حق حقه.

    وابناه من الوارثين، يعني: ابناه ذُكرا في الثلث الذي سنصحح الوصية به، فابناه زيد وعمرو لما كانا ابنين له فلا وصية لوارث؛ فبطلت أيضاً في الابنين، ولا يستحقان إلا أن يجيز الورثة، وتبقى الوصية لعلي الأجنبي، فيستحق ألف ريال، والألف ريال بالنسبة للتسعة آلاف ريال -التي هي أصل المال- هو التسع، فقال رحمه الله: (صحت في التسع) أي: أُعطي علي -الأجنبي- تُسع ماله؛ لأنها لم تصح في الثلثين؛ لأنها زيادة على القدر الذي أباحه الله في الوصية، ولم تصح في زيد وعمرو وهما ابناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث)، فبقيت ثلاثة آلاف قُسمت بين الابنين والأجنبي، فبطلت في حق الابنين، وذلك بألفين، وصحت في حق الأجنبي، وذلك بألف ريال، وهي تعادل تسع ماله.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الوصية بالدفن في مكان معين

    السؤال: هل يُشرع أن يوصِي الشخص أن يدفن ببلد ما، أو مكان معين، وإذا شق ذلك على الورثة فهل لابد من إنفاذ الوصية؟

    الجواب: لا بأس أن يُوصِي بدفنه في مكان معيّن أو في بلد معين، ما دام أنه في ذلك البلد، وفي هذا تفصيل.

    فإذا كان -مثلاً- في نفس البلد، وليس هناك حرج ولا مشقة على الورثة في تنفيذ وصيته، فلا بأس، وقد أُثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم وصَّوا في دفنهم، فتارة يُوصِي بأن يُدفن في مكان لا يعلم به أحد؛ كالرجل الصالح والعالم يخاف الفتنة، أو كان بين أُناس يعظمونه وهو يخاف الفتنة، فيأمر أن يُغَيّب في مكان لا يطّلع عليه أحد، كأن يخاف -نسأل الله السلامة والعافية- أن يغلوا فيه، كما أُثر عن علي رضي الله عنه أنه وصى أن يدفن في داره بالكوفة، فدُفِن ليلاً وغُيِّب قبره؛ لأنه كان هناك من يعتقد -والعياذ بالله- أنه إله، ويعظِّمونه، فخاف من عبادته وتعظيمه.

    فإذا وُجدت مقاصد شرعية بالتعيين فلا بأس، ومثل أن يكون في موضع يعلم أن هذا الموضع عُرضة للسيل، وأن قبره قد يكشف، فقال: إذا أنا مت فادفنوني في موضع كذا، أو في المقبرة الفلانية.

    أو يكون هناك مقبرة تدفن على السنة، ومقبرة لا تراعي السنة، فيقول: ادفنوني في المقبرة التي تراعي السنة، أو يكون هناك مقبرة فيها لحد ومقبرة فيها شق، فيختار ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام من مقبرة اللحد، فيقول: إذا أنا مت فأُوصِي أن يكون دفني في القبور التي فيها لحد، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، وهذا من حق الإنسان، وهو من الوصية المشروعة.

    لكن التكلف في الانتقال من بلد إلى بلد، هذا لا يجوز؛ لتعطيل الميت من أجله، ولذلك ثبت في حديث شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله).

    فتعطيل الجنائز وتأخيرها من أجل نقلها ونحو ذلك لا ينبغي، وقد يصل إلى درجة الحرمة، خاصة إذا أدى إلى تعفُّن الميت وتفسخه وتضرر من يحمله، وتأذي المصلين عليه في المسجد، فهذه أمور لا بد أن توضع في البال، وأعظم من هذا أن يُشق، ثم بعد ذلك يُحنّط من أجل يظل فترة طويلة.

    فكل هذه الأمور ينبغي اتقاؤها والبعد عنها؛ لأنها مخالفة لشرع الله؛ لما فيها من الاعتداء على حرمة المسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند ابن ماجة أنه قال: (كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً)، أي: في الإثم، فللميت حرمة، ولا يجوز تعطيل الجنائز حتى يحضر ولده، أو يحضر فلان أو فلان، مجاملة له أو عاطفة، فالميت إذا مات فإنه يُسرع بتجهيزه وتكفينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أسرعوا بالجنازة)، فهذا أمر يقتضي المبادرة، لكن لو وُجدت حالات ضرورية تؤدي إلى تأخير دفنه، مثل أن يُراد أن يُعرف سبب وفاته، أو وُجدت أمور مهمة لابد من الاطلاع عليها في سبب وفاته، فهذه أحوال استثنائية تؤخَّر بقدر الضرورة والحاجة.

    وعلى كل حال: التوسع في هذا الأمر وتأخير الجنائز من أجل نقلها إلى أماكن أُخَر بوصية أو غيرها لا تُشرع عند تأثُّر جثة الميت، وهذا -كما ذكرنا- مخالف للأصل الذي دلت عليه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

    حكم دفع صداق الزوجة المتبقي بعد موت الزوج

    السؤال: هل بقية الصداق للزوجة يعتبر ديناً يجب سداده مباشرة؟

    الجواب: هذا حق لازم يجب دفعه ويُعتبر ديناً، فإنه إذا مات الزوج فإنه وذمته مرهونة لزوجته حتى يؤدي مهرها كاملاً.

    وهنا مسألة مهمة في السؤال وهي: أن من مات حلّت ديونه، وهذه قاعدة مهمة، فلو كان عليه أقساط من البنك مؤخرة، أو كان عليه أقساط لمن يديِّنه مؤجلة، فقد حلّت ديونه، أي: يجب سدادها فوراً؛ لأن روحه تبقى مرهونة، قال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، والمرهون هو: المحبوس، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: محبوسة، وقال بعض العلماء: محبوسة عن النعيم حتى يُؤَدى عنه الدين، ولذلك قال أبو قتادة رضي الله عنه لما توفي الأنصاري وعليه ديناران -كما في الصحيح- قال: (فلم يزل يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ فقلت: نعم. فقال: الآن بردت جلدته)، مع أن أبا قتادة رضي الله عنه قد تحمل عنه الدين.

    وبعض الورثة يقول: أنا أتحمل عن والدي، وكأنه يظن أنه قد انتقلت الذمة إليه، مع أنه لا تبرأ ذمة الميت حتى يؤدى دينه حقيقة؛ لأن أبا قتادة تحمل، وقال: هما علي يا رسول الله! ثم كان يسأله عن قضائه، فلما، قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (الآن بردت جلدته)، وهذا يدل على عِظم أمر الدين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين، سارّني به جبريل آنفاً).

    فالمهر دين، ويجب على الزوج أن يسدده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج)، فإذا قال لها: صداقك نصفه معجّل ونصفه بعد سنة أو بعد سنتين، أو إذا أنا مت، فهذا يجب الوفاء به عند أجله، ولا يجوز التأخير، خاصة إذا كان قادراً على السداد؛ لأنه ظلْم، وما دام أن المرأة قد أعطته حقه فينبغي عليه أن يعطيها حقها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)، فإذا كان هذا بين البهائم فكيف يكون بين الآدميين؟! وهذه حقوق لا يجوز التساهل فيها.

    وكذلك ينبغي أن ينبه على الورثة أن كل شخص من القرابة له دين على الميت والقريب، فالأفضل والأكمل أن يأخذوا الدين ويعطوه للقريب، ولا يحرجوه بقولهم: أتسامح الميت أم لا؟

    فكل إنسان قد يستحي، والمرأة قد تُجامل، لكن عليك أن تعطيها مالها في يدها، وتعطيها إرثها واستحقاقها كاملاً، ثم هي أدرى، فقد تسامح، وقد يكون فضلها في أخذ هذا المال والتصدق به على أقرباء أولى من زوجها، فهي أدرى بمالها، وهذا حق من حقوقها، فلا ينبغي التضييق على الزوجات في ذلك، ولا منعهن مما جعل الله لهن، والله تعالى أعلم.

    حكم إحرام المقيم بمكة للعمرة من بيته

    السؤال: إذا أحرم المقيم للعمرة من بيته ولم يخرج إلى الحل، فما حكم عمرته؟

    الجواب: العمرة صحيحة إذا قام بها على وجهها، ولكن عليه دم؛ لأن ميقات المكي أن يخرج في العمرة إلى الحل، وأن يجمع بين الحل والحرم؛ لأنه في الحج يجمع بين الحل والحرم، ولذلك صح في الحج أن يُحرم من بيته، وأما بالنسبة للعمرة فلا يُحرم إلا من الحل، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها: (لما سألته صلى الله عليه وسلم أن تُحرم بعمرة، فأمر عبد الرحمن أن يُعمِرها من الحل)، وهذا واضح الدلالة؛ لأن عائشة رضي الله عنها أنشأت العمرة بمكة.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).

    أولاً: هذه الزيادة مختلف في كونها مرفوعة أو موقوفة؛ لكن حديث عائشة مرفوع، فيُقدّم المرفوع الذي لا شك في رفعه على المخْتَلف في رفعه.

    ثانياً: قوله: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) عام مخصص؛ لأن حديث عائشة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس متقدم على حديث عائشة ، ولذلك يؤخذ بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بتخصيص العموم في قوله إذا صح مرفوعاً: (حتى إن أهل مكة يهلون من مكة)، فـعائشة لا نستطيع أن نقول بأنها آفاقية؛ لأن بعضهم يقول: إذا كان المكي آفاقياً فإنه يخرج إلى الحِل، وإذا كان من أهل مكة فلا يخرج، وفي الحقيقة: أن هذه التفصيلات لا نعرف لها أصلاً.

    ولذلك أُوصي كل طالب -خاصة في هذا الزمان، وأُشدد عليه في الوصية- أنه إذا كان يريد أن يتقي الله ويأخذ علماً بحق على منهج السلف؛ فعليه أن يعرف كل قول يقال به الآن هل هو قول قال به أئمة العلم أم لا؟

    ولا نريد من أحد ممن ينتسب إلى العلم -سواء في زماننا أو من المتأخرين- أن يأتينا بشيء من عنده، فالعلم هو الأثر والاتباع، وهذا هو السير على منهج السلف الصحيح، وإذا جاء أحد يتكلم في فهم حديث فنقول له: هل هذا الفهم فهم منك أنت باجتهادك ونظرك، والأمة منذ أربعة عشر قرناً لم تفهم؟ فحينئذٍ هذا لك، وتتولى تبعته أمام الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن سواد الأمة الأعظم.

    ولذلك كان بعض العلماء يقول: إذا اختلف العلماء في فهم النص على قولين، ومضت على ذلك القرون المفضلة، فإنه لا يجوز استحداث فهم جديد خارج عن هذا الفهم؛ لأنه لا يعقل أن القرون المفضلة كلها تقول: إما كذا أو كذا، ويأتي هذا ويفهم فهماً آخر، ولا شك أن هذا هو سبيل المؤمنين، فإذا مضت القرون المفضلة كلها على هذا السبيل فقد استبان أن الحق إما في هذا أو في هذا، فإذا جاء يُحدث قولاً ثالثاً خرج به عن سواد الأمة، سواء كان من متأخري المتأخرين أو من متقدمي المتأخرين، ونحن أمة يرتبط أولها بآخرها، قديمها جديد، وجديدها قديم، بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نريد جديداً من عندنا.

    والمشكلة: أنه ليس عندنا ضبط للأصول، ولا ضبط لقواعد الفهم؛ لأن أبسط ما ينبغي أن يكون في الإنسان الذي يجتهد -وهو ليس بالبصير بالقاعدة التي يدل عليها الشاهد- هو الورع.

    فإذا كان الشخص ليس عنده ورع إلى درجة أن يأتي ويجتهد، فهذه مصيبة، فأساس الاجتهاد الحق هو الورع، ولذلك لا تجد أحداً من أئمة الاجتهاد ودواوين العلم السابقين الذين فُتح عليهم في فهم الاجتهاد إلا وقد قام علمه على الورع، وانظر إلى أئمة الإسلام، تجدهم أئمةً في الورع، وبهذا استقامت أمور الفهم لهم؛ لأن من تورّع فَتح الله عليه، ومن قال فيما لا علم له: الله أعلم؛ ورّثه علم ما لم يعلم، وفتح الله عليه وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113].

    فالإنسان الذي يأتي بالأفهام من عنده، ويأتي ويخترع في الأحاديث، ويجلس طلاب العلم يتناقشون في أحاديث ويأتون فيها بأفهام جديدة، وكل يوم يأتينا فهم جديد، فبعض طلاب العلم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا.. يا أخي! من هذا الذي يقول؟ ومن هذا الذي نصّب نفسه ليتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟!

    كان بعض العلماء يقول: (حق على من يفسر كلام الله أو يؤول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقل نفسه بين الجنة والنار)، نريد الشيء الذي قاله العلماء، نريد شيئاً مبنياً على أصل صحيح وحجة ومحجَّة تلقى الله عز وجل بها راضياً مرضياً عنك، أما أن نأتي بأفهام وحجج جديدة لا أصل لها، فهذا لا ينبغي.

    أما حديث عائشة فهو واضح، ودلالته واضحة، حيث إنها أنشأت عمرتها من مكة، ولا أعرف أحداً من أهل العلم من المتقدمين يقول: إن هذا خاص بـعائشة .

    وأقولها من الآن: على كل طالب -والطالب خاصة الذي يدرس في الفقه، والذي يريد أن يُعلِّم الناس- أن يتقي الله عز وجل ويعرف كل قول -حتى ولو كان مني- هل قال به أحد من أهل العلم ممن مضى وعنده دليل وحجة أم لا؟

    وهذا هو العلم، وهذا الذي يُوصَى به طلبة العلم، وهذه هي النصيحة لله ولدينه وشرعه، من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تكون الأفهام واضحة، فلا يشوش على علم السلف بعلم الخلف الذي لا أصل له، ولا يشوش على هذه المحجة الواضحة التي ورثتها الأمة جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، واجتهادات العلماء تحتاج إلى من يَضبطها فضلاً عن أن نأتي أيضاً باجتهادات وآراء جديدة، واليوم يجتهد البعض في مسائل واضحة في الأحكام، وغداً -والعياذ بالله- قد يدخلون في العقيدة وفي صميم الدين، فيحدِثون ما لم يكن عليه أئمة الإسلام فيضلوا ويضلوا، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل.

    الضابط في الترويح يوم العيد

    السؤال: ما هو الضابط في الترويح على الأهل والقرابة في أيام الأعياد والمناسبات؟

    الجواب: إن الله تبارك وتعالى جعل يومي عيد الفطر والأضحى يومين من أيام الإسلام، وعيدين لأهل هذه الملّة، وجعلهما يوم فرحة وسرور، يوسِّع المسلم فيهما على نفسه وعلى أهله وولده، وعلى إخوانه المسلمين، حتى شرع الله زكاة الفطر من رمضان طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.

    وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس : (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته)، فهذا يدل على أن المقصود هو التوسعة؛ حتى يشهد الناس الفرح والسرور المأذون به شرعاً في هذا اليوم المبارك الذي أتموا فيه ركناً من أركان الدين، ووفقهم الله عز وجل لصيام هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه، وشكراً لله عز وجل على توفيقه لهم على قيام ما استطاعوا أن يقوموه من هذا الشهر المبارك، فالفرحة والسرور أول ما تنبغي أن تكون فرحة بنعمة الله، وأن تكون فرحة برحمة الله التي هي أحق أن يُفرح بها وأن يفرح فيها.

    وهذه الفرحة تكون حينما يستشعر الإنسان كيف مضت عليه هذه الثلاثون يوماً؛ فيفرح أن الله وفقه لصيامه، ولو شاء الله جل جلاله لأصابه المرض فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله لأصابته فتنة في دينه فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله أن يبتليه في هذه العبادة بشيء يُفسد عليه أجره، ويُحبط عليه عمله، لما أعجز الله عن ذلك شيء.

    إذاً: يُحس الإنسان أن الله وفقه لهذا الخير في ثلاثين يوم أو تسعة وعشرين يوماً؛ فيكون به في فرحة وغِبطة أن الله استكمل له شهره، فيسأل الله عز وجل ويحسن الظن بالله أن يكمل له أجره، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فإذا به يصبح يوم العيد فرحاً مسروراً بنعمة الله؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن الدين والتوفيق للدين لا يُعطيه إلا لمن أحب، والله أعلم حيث يجعل هذه البركات والخير؛ لأن الإسلام كله بركة، ولذلك وصف الله القرآن بأنه مبارك، فمن التزم أوامره وسار على نهجه فقد أصاب بركة الإسلام وخيره وطُهره وعِفّته.

    فإذا أصبح في يوم العيد، أصبح وقلبُه معلَّق بالله جل جلاله، مليء بالفرح والسرور، فهذا أول ما ينبغي، فإذا استقر هذا الفرح في القلب وجب عليه أن يشكر، فلهج لسانه بالذكر والشكر، فقال بملء قلبه ولسانه: الله أكبر وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].

    هذه هي الفرحة الأولى التي دل عليها كتاب الله من فوق سبع سماوات، وهي أن يمتلئ قلبك بتوحيده والبراءة من الحول والقوة، وسؤال الله جل جلاله أن يجعل هذا الشهر في ميزان حسناتك فتلقاه أمامك، فإذا بالله جل جلاله يضاعف أجر الصوم، حتى قال الله جل جلاله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

    فإذا شعر الإنسان أنه سيُثاب ويكافأ من الله؛ فرح فرحاً شديداً برحمة الله جل جلاله بعد فرحه بتوفيق الله، ولذلك شرع الله التكبير إكباراً له سبحانه، وشُرع التكبير بمجرد مغيب شمس آخر يوم من رمضان، فيقول المسلم: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) شكراً لله وثناءً عليه وتمجيداً له وإعظاماً لنعمته.

    فإذا شكر الله عز وجل وابتدأ بتوحيد الله؛ فتح الله عليه بركات ذلك اليوم وخيره وطُهره.

    ومن أعظم الفرحة في يوم العيد: فرحة الاجتماع، فقد شرع الله عز وجل الاجتماع في هذا اليوم بصلاة العيد، حتى إن المرأة الحائض والمرأة ذات الخدر التي أُمر بسترها ولزومها لبيتها تُخرج إلى صلاة عيد الفطر، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحيَّض، وقال: (أما الحيَّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فيشهدن الخير في هذا اليوم المبارك.

    فالضوابط كلها منحصرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيتذكر المسلم وهو خارج لصلاة عيد الفطر كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لم يخرج مختالاً ولا فخوراً، ولا أشراً ولا بطراً، ولا غروراً، إنما خرج لله وفي الله، خرج خاشعاً متخشِّعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وخرج -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- حين بدا حاجب الشمس، فما وصل إلى المصلى إلا وقد ارتفعت الشمس، فابتدأ أولاً بالصلاة -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك خطب فذكّر الناس ووعظهم، وأمر النساء بالصدقة، ثم أَذن للأمة بكل ما فيه توسعة وخير ما لم يكن من الحرام، أو فيه إسراف في المباح، وهذا هو شرع الله، فشرع الله هو الوسطية، ولما قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الأعراف:31] نقلنا من تعذيب النفوس بالجوع والعطش والرهبنة، وقال: وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، ثم منعنا وحجزنا عن الغلو في ذلك، كما هو عمل أهل الترف.

    فنحن نقول: افرحوا، فليس يوم العيد بيوم حزن ولا نكد ولا نحس؛ بل يفرح المسلم؛ ولكن يفرح برحمة الله عز وجل وبنعمته، ولا يغلو في فرحه إلى الوقوع في المحرمات.

    لقد وسع عليه الصلاة والسلام، ومن دلائل توسيعه: أنه لما رأى أهل الحبشة وهم يلعبون بالسلاح في داخل المسجد فما أنكر عليهم ذلك، رغم أنه المسجد الذي شعَّت منه أنوار الرسالة، والذي تفجّرت فيه ينابيع الحكمة، وهو المسجد الذي دوَت في جنباته آيات التنزيل، وهو الذي كانت فيه مواقف الصدق -قولاً وعملاً واعتقاداً- من تلك الأمة المصطفاة المجتباة، هذا المسجد المطهّر المشرّف المكرّم الذي شرفه الله، وجعل الصلاة فيه بألف صلاة، وإذا بهم يلعبون فيه!!

    فانظر إلى عِزة الإسلام وإلى مرونته المنضبطة، وليست مرونة منفلتة، فيوم الفرحة يوم فرحة، ويوم الشدة يوم شدة، ويوم العبادة يوم عبادة.

    أصبح عليه الصلاة والسلام يوم العيد والأحباش يعلبون بالحراب، وبالأمس كان البكاء والخشوع والخضوع والاستكانة والتهجد بين يدي الله جل جلاله.. يا لعظمة هذا الدين! دين مرن منضبط في مرونته، ليس بدين لعب، ولا دين عبادة برهبانية يجلس الإنسان فيها دهره كله وهو لازم معتكفه.

    إنها أيام مضت، وعشر ليال انقضت، هي مدرسة لأولي العزائم الصادقة والنفوس الأبية المؤمنة المستجيبة لله جل جلاله، حتى إن قائدها وخيرها صلوات الله وسلامه عليه كان يدخل في المعتكف من أجل أن يتفرغ لعبادة ربه سبحانه وتعالى، ويُصبح يوم العيد وإذا بالناس يلعبون في المسجد: المسجد بالأمس مليء بالعبادة واليوم يلعبون فيه!

    فجاء عمر ليحصبهم، فنهاه وزجره، وقال: (هذا يوم عيدنا)، يوم عيدٍ للإسلام والمسلمين، ويوم فرحة لأولياء الله الذين ظمئت أحشاؤهم، وجاعت أمعاؤهم، وتفطّرت أقدامهم وهم منتصبون في جوف الليل بين يدي الله جل جلاله ركّعاً وسجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.

    فإذا بذلك المسجد يُصبح محلاً للفرح والسرور؛ لكنه فرح منضبط، فلا يستطيع أحد أن يتّهم هذا الدين بالتضييق، ولا يستطيع أحد أن يطعن في هذا الدين؛ وإذا برسول الأمة عندما رأى أهل الحبشة يأذن لهم، ولم ينقم عليهم ذلك.

    ولا يقف الأمر عند هذا؛ بل عندما دخل بيته فإذا بحبه وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضاها تسأله أن تنظر إليهم، فما منعها من النظر، ولا قال لها: لا تنظري، فما منعها من شيء يدخل السرور عليها، وهذا بشرط أمن الفتنة؛ لأن الحبشة كانت الفتنة فيهم مأمونة، ولا ينبغي لأحد أن يقول: يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال، ويستدل بهذا الحديث؛ لأن قوله ذلك يصبح غلواً في الفرح.. لتفرح المرأة ولكن بشرط ألا يكون هذا الفرح فتنة للأهل والولد؛ لأن في ذلك مخالفة لشرع الله، وهذه الحواجز والقيود يُقصد بها صلاح الدين والدنيا والآخرة.

    فقامت تنظر، وما قال لها: أنا رسول الأمة، وانتظري حتى يأتي أخوك ويقف لك، لم يقل لها ذلك، بل وقف عليه الصلاة والسلام على قدميه.. رسول الأمة صلى الله عليه وسلم الذي وقف بين يدي الله جل جلاله راكعاً ساجداً يبتغي فضلاً من ربه ورضواناً، ويشتري رحمة ربه بإدخال السرور على أهله بالوقوف على قدميه الشريفتين، وقف عليه الصلاة والسلام، ووقفت من ورائه، تقول رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من ورائه)، وهذه هي الحشمة والعفاف، فقد كانت رضي الله عنها على حشمة وعفاف، فكانت تفرح أيضاً، ويدل هذا على أن المرأة تفرح لكن بشرط أن تكون محتشمة، عفيفة، رزاناً، حصاناً، متحفِّظة.

    فقالت رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من خلفه)، وما قالت: أنظر من خلف الباب، بل من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فإن المرأة المؤمنة بدلاً من أن تذهب إلى الفرح بغيبة محرمها، عليها أن تبحث عن محرمها حتى يصونها ويحفظها، وهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تحرِص على ذلك.

    ثم تقول رضي الله عنها: (فيقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد. فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد)، ثم تقول رضي الله عنها وأرضاها: (فاقدروا قدر الصبية الجهلاء)، ومعناه: أنها أخذت -كما يقولون- راحتها واستجمام قلبها، وفي هذا دليل على أمور:

    أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في الفرحة، فدل هذا على أن من السنة في يوم العيد أن تُحدِث فرحة لأهلك، ومن الفرحة: أن تأخذهم إلى مكان تتسع وتنشرح فيه صدورهم، والمؤمن دائماً يكون عاقلاً، وقد كان من مشايخنا وأهل الفضل والعلماء في بعض الأحيان يدخلون السرور حتى بطريق غير مباشر، فالزوجة إذا كانت تستحي من زوجها وتألف ولدها، فيأمر ولدها أن يأخذها، فعليك دائماً أن تحرص على إدخال السرور عليهم؛ لأنك إذا وسعت على أهلك وسع الله عليك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة على بيوت المسلمين حينما وقف عليه الصلاة والسلام.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة بفضول النظر؛ لأن اللعب من الفضول، والنظر إلى اللعب من الفضول فأذن بذلك؛ لكنه بشرط أمن الفتنة والمحافظة.

    ثالثاً: وهذه وقفة تحتاج إلى أن نتأملها.. فـعائشة رضي الله عنها -التي نسأل الله العظيم بعزته وجلاله أن يُعظم أجرها، وأن يثقل لها موازين الحسنات والثواب- ما أفقهها رضي الله عنها! فما يقرأ أحد حديثاً من أحاديثها إلا وجد فيه شيئاً من الفقه العجيب، فقد قالت عائشة رضي الله عنها -تتهم نفسها-: (اقدروا قدر الصبية الجهلاء)، وهذا من الوفاء منها.

    الشاهد: أنها رضي الله عنها كان يقول لها: (هل فرغت؟) وما قال لها: يكفي، ونستفيد من هذا: أنه إذا كان الزوج مع أهله في نزهة وفي فرحة، فالأكمل والأفضل في الهدي ألا يأتي ويقول لهم: هيا قوموا.. وانظر كيف يجعل الأنس والانبساط ممن يعطى الأنس؛ لأن الكريم إذا أعطى شيئاً أبلغ وأجزل في العطاء، فلا يقطعه هو، وقد كان صلى الله عليه وسلم على حال الكمال في ذلك، حتى إنه كان إذا وضع كفه في يد من يصافحه لا يفلتها حتى يسحب الرجل يده حياءً وخجلاً، أو لوجود سبب يقتضي ذلك، أما هو عليه الصلاة والسلام فكان لا يقطع فضله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في أتم وأكمل صور الكرم والجود صلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله إذ يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] يخاطبه مباشرة: (وَإِنَّكَ) بالخطاب المباشر للتشريف والتكريم (لَعَلى) التي تفيد الاستعلاء، وكأن الخلُق أصبح تحته، (لَعَلى خُلُقٍ)، وليس خلقاً فقط، بل (عَظِيمٍ)، و(عظيم) من ربك ليست بالهينة.

    فإذا برسول الأمة صلى الله عليه وسلم لا يقطع الفرح والسرور، ولك قطع النزهة إذا وُجدت أسباب تقتضي ذلك، كأن يكون المكان مخيفاً، أو جاء الليل، أو نحو ذلك، لكن الأصل أن تترك الانبساط لهم حتى يملوا، وهذا أكمل ما يكون، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، فيوسع الإنسان على أهله في الحدود الشرعية.

    وأما وضع الضوابط فإنه أمر صعب؛ لأن هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولكن من الأمور الطيبة في هذه الأزمنة: إخراج الأهل إلى أماكن بعيدة من الفتن، وفيها سرور للأولاد، ودائماً يحرص -خاصة الشاب الصالح الملتزم- ألا ينظر أولاده إليه أنه حرمهم من خير، وحتى لو حرمهم من شيء فليبين لهم السبب حتى يكونوا على قناعة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002531