إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الوصايا [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن من قبل الوصية ثم ردها لم يصح هذا الرد، ومنها أنه يجوز للموصي أن يتراجع عن وصيته، وتراجعه قد يكون باللفظ وقد يكون بالفعل، ومنها أنه يجب على الورثة إخراج الحقوق والواجبات التي في ذمة الميت قبل القسمة؛ لأن نفس الميت معلقة بتلك الحقوق، وينبغي على المسلم أن يبتعد عن الاستدانة قدر المستطاع؛ وذلك لأن أمر الدين عظيم، ومن استدان وهو يريد قضاء دينه أدى الله عنه.

    1.   

    حكم قبول الوصية ثم ردها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد]

    بيّن المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن من وقع منه قبول الوصية، وتم هذا القبول بعد وفاة الموصِي؛ فإنه حينئذٍ لا يصح رده لها، ولا رجوعه عن ذلك القبول، والسبب في ذلك: أنه إذا أَوصَى شخص إلى شخص آخر بوصية، فقبلها على الوجه المعتبر؛ فإن ملكيته تثبت لتلك الوصية.

    فلو قال زيدٌ من الناس: أوصيت لعمرٍ بعشرة آلاف، ثم قال عمرو لما أُخبِر أن زيداً توفي وأوصَى له بعشرة آلاف: قبلت، فإذا قال: قبلتُ بعد وفاة الموصي، فقد ثبتت ملكية العشرة آلاف له، فإذا قال بعد ذلك: رجعت عن القبول؛ فقد رجع عما يملك، ورجوع الإنسان عما يملكه لا يُعتد به، فلو أن شخصاً يملك بيتاً فقال: هذا البيت لي، وليس المراد به على وجه الإقرار، وإنما المراد أنه يريد أن يخرج ملكيته عنه لا على وجه الهبة ولا على وجه الصدقة ولكن هكذا، فإنه لا يصح رجوع المالك عن الملكية بعد ثبوتها على الوجه المعتبر.

    وحينئذٍ نقول: إن قبولك بعد وفاة الموصِي يُثبتُ ملكيّتك لهذا الشيء الذي وصِّي به إليك، وحينئذٍ إما أن تتصدق به، أو تهبه، أو تتصرف فيه، أما الرجوع فلا يُعتد به، وهذا كما ذكرنا شبه قول جماهير العلماء رحمهم الله، أن الرجوع بعد ثبوت الملكية ليس من حقه.

    وهناك من العلماء من قال: له أن يرجع؛ لأن الإنسان حر في نفسه، فله أن يختار في وقتٍ يرى من المصلحة أن يقبل، وله أن يختار الرد في وقتٍ يرى من المصلحة أن يرده.

    1.   

    جواز رجوع الموصي في وصيته حال حياته

    قال رحمه الله: [ويجوز الرجوع في الوصية].

    يقول المصنف رحمه الله: (ويجوز) أي: يُباح للمسلم إذا وصّى بوصية أن يرجع عنها، وذلك لأن الإجماع منعقد على أن الوصية ليست بعقدٍ لازم في أول الحال، وقد تقدم معنا أن العقود منها ما هو لازم، ومنها ما هو جائز، والذي يُوصف باللزوم إما أن يكون لازماً للطرفين، إما أن يكون لازماً لأحد الطرفين، وقد بيّنا هذا وفصلناه في مقدمات البيوع، وعند الكلام على باب الخيار.

    والوصية في الأصل أنها عقدٌ جائز في حق أحد الطرفين، لازم في حق الآخر؛ لأن الموصي من حقه أن يُغيِّر ويقدم ويؤخر ويبدل في وصيته ما لم يمت، وهذا حق من حقوقه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو ضُيِّق على الإنسان في وصيته لما أمكنه أن يتدارك كثيراً من المصالح، ولما أمكنه أن يدرأ عن نفسه كثيراً من المفاسد، ولو أن الشريعة ضيَّقت على الموصي أن يرجع عن وصيته لتحاشى الناس الوصية؛ لأنهم يعلمون أن أي وصية يقومون بها سيُلزمون بها.

    وحينئذٍ كان من رحمة الله تبارك وتعالى ولطفه بعباده كما قال العلماء: أن يسَّر على المسلم في رجوعه في وصيته، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، على حسب اختلاف الأوقات والأزمنة والأحوال، فلربما كان في وقت يرى من المصلحة أن يوصي لغير الوارث، فيوصي بثلث ماله أو بربعه إلى قرابة له لا يرثون، ثم يشاء الله أن تكثر ذريته وتتغير الأحوال، وحينئذٍ تكون ذريته أحوج ما تكون إلى هذا المال، فيكون من المصلحة أن يلغي الوصية بالثلث، وأن يلغي الوصية بالربع، وأن يلغي الوصية لغير الوارث، وأن يُقدِّم ورثته الذين هم أحوج، وهذا لا شك أن فيه رحمة من الله وتوسعة على العباد.

    وممن أشار إلى هذا القرافي في كتابه (الذخيرة)، فقد بيّن أن الله تعالى تدارك عباده برحمته حينما وسَّع عليهم في الرجوع عن الوصية، فلو لم يملك الإنسان الرجوع عن الوصية لصارت الوصية محل ضرر على الناس من جهة، ولتحاشي الناس الوصية من جهة أخرى.

    قال: (يجوز) أي: يباح، فمن أوصى وصية ورأى من المصلحة أن يلغيها ويكتب غيرها، أو يُلغي بعضها ويثبت بعضها؛ فالأمر عائد إليه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وفيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في السنن، أثبت مشروعية الرجوع عن الوصية.

    الرجوع عن الوصية بالقول

    والرجوع يكون بالقول، ويكون بالفعل، والرجوع بالقول يكون صريحاً ويكون ضمنياً، فالرجوع القولي الصريح كقوله: رجعت عن وصيتي، وكذلك أيضاً ما يدل على إلغائها: أبطلت وصيتي، وألغيت وصيتي، ولا تنفِّذوا وصيتي، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أنه قد رجع عما وصَّى به، فإذا قال ذلك فإن الوصية تبطُل.

    وأما الرجوع الضمني: فكأن يقول: يا محمد! أوصيت لك بهذه السيارة، ثم قال بعد ساعة، أو بعد يوم أو شهر: يا أولادي! السيارة بيعوها وسددوا بها ديني، فعلمنا أنه لا يريد تنفيذ الوصية الأولى، وإنما يريد أن يرجِع عنها حينما جعلها في سداد الحقوق، فعلى هذا: إذا رجع صراحة، أو رجع ضمناً، كما ذكرنا في التصرفات كالبيع أو الهبة، فمثلاً: كان قد وصى ببيت، وقال: هذا البيت يُعطى لابن عمي فلان، وابن عمه ليس من الورثة، فوصّى لغير وارث، ثم شاء الله عز وجل أن قال لهم بعد ذلك بزمان قصير أو طويل: هذا البيت بيعوه ثم افعلوا بثمنه كذا وكذا -خلافاً لما أوصى به أولاً- فنعلم أن هذا التصرف يدل على أنه قد رجع عن الوصية الأولى وألغاها.

    الرجوع عن الوصية بالفعل

    وأما الرجوع الفعلي فمثل أن يتصرف بالفعل، فبدلاً من أن يبيع بالقول يتصرف بالمعاطاة، فمثلاً يقول: يا محمد! هذا الكتاب وصية مني لك بعد موتي، ثم جاءه شخص بعد ذلك وقال له: يا فلان! بعني هذا الكتاب بهذه المائة، فأعطاه الكتاب مناولة وقبض المائة، فتصرفه ببيع المعاطاة يُوجب إلغاء الوصية.

    وهكذا لو فعل فعلاً استنفَذ ما وَصَّى به، كأن يكون المُوصَى به طعاماً، ثم أكله أو أعطاه أولاده ليأكلوه، أو تصرف فيه بالفعل؛ فإن هذا الفعل يوجب إلغاء الوصية الأولى، واعتبار الفعل الثاني سواء كان وصية أو كان غير ذلك.

    إذاً: بيّن المصنف رحمه الله أنه يجوز الرجوع، وقال: (يجوز)، فلا يجب ولا يحرم ولا يكره، فهذا الأمر إليك، فمتى ما رأيت المصلحة أن تُقدِّم في الوصية أو تؤخر فيها فإن ذلك راجع إليك، سواء وُجِد السبب للرجوع أو لم يوجد؛ فالإجماع قائم على أن من حقك أن تُغير في وصيتك، سواء وُجد سبب يقتضي هذا التغيير أو لم يوجد سبب.

    لكن ينبغي لمن أراد أن يرجع عن وصيته أن يحتاط، فعندنا وصية منسوخة ووصية متأخرة ناسخة، فالوصية المنسوخة إذا كانت موثَّقة في القضاء، أو موثقة بحكم قاضٍ، أو موثقة بشهود، أو مكتوبة، فينبغي على من يرجع أن يحتاط في الرجوع فيشهد شاهدين عدلين، فيوثِّق هذا الرجوع كما وثَّق الوصية، وألا يعرِّض حقوق الورثة للضياع حينما لا يحتاط بتوثيق الرجوع، أو الدلالة عليه على وجه معتبر بحيث يُرجع إليه بعد وفاته.

    1.   

    الوصية المعلقة بشرط

    قال رحمه الله: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم في حياته فله، وبعدها لعمرو].

    إن قال: (إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو) هذه وصية معلّقة، كأن يقول مثلاً: إن قدم زيدٌ.. إن ذهب عمرو.. إن حصل كذا وكذا.. إن افتقر فلان فأعطوه، وإلا أعطوا فلاناً، المهم أن هذه الوصية المعلقة مبنية على شرط، وينبغي علينا أن نتقيد بهذا الشرط.

    فإذا قال: إن قدم زيد فله، أي: قد أوصيت له بما أوصّيت به لعمرو، كأن يكون عنده عشرة آلاف ريال، وزيد هو ابن عمه القريب، وعمرو ابن عمه البعيد، فأراد أن يوصي للأقرب ثم الأقرب، فقال: هذا المال لزيد بشرط أن يقدم قبل وفاته، فإذا لم يقدم قبل وفاته قال: فإنه لعمرو، وهذا هو معنى قوله: (إن قدم زيد فله) (له): بمعنى يملك، والوصية التي وصّيت بها لعمرو من عقار ومن منقول له، أي: لزيد، فزيد لا يملك هذا الموصى به إلا إذا تحقق الشرط وهو: قدومه قبل الوفاة، كما أخبر: إن قدم زيدٌ فله ما وصّيت به لعمرو، أياً كان هذا الشيء الذي وصَّى به.

    فقوله: (إن قدم زيدٌ) أي: قبل وفاته؛ وهذا أمر واضح بأنه يُرتَّب القدوم على أساس أنه يَقْدم قبل وفاته، فإن توفي ولم يَقْدم زيد؛ سقط استحقاق زيد وبقيت الوصية على ما هي عليه.

    وبناءً على ذلك: يفصل في هذه المسألة فنقول: إنه من حيث الأصل أراد المصنف بهذا التمثيل أن يبيِّن أن الوصية المعلقة ينبغي علينا أن نتقيد بشروطها وبالتعليق الوارد فيها، كأن يقول: إن قدم زيدٌ.. إن جاء الغد وقدم زيدٌ.. إن انتهى الشهر.. إن انتصف الشهر.. إن جاءت الجمعة.. إن غابت الشمس، فهذه كلها وصايا معلقة، فتعلق بالزمان، أو بالمكان، أو بالأفعال، فأي شيء اشترطه الموصِي، وكان شرطاً معتبراً خالياً من الغرر والإبهام والجهالة، فإنه محتكمٌ إليه؛ لأن من حق الموصِي أن يوصِي مطلقاً، ومن حقه أن يوصِي مقيداً، فمن حقه أن يقول: وصَّيت لعمرو بعشرة آلاف، ولا يعلِّق ولا يقيِّد ولا يشترط؛ ومن حقه أن يقول: وصَّيت لزيد بعشرة آلاف بشرط ألا يَقْدم عمرو قبل وفاتي، أو ألا يكون فلان محتاجاً؛ لأنه في بعض الأحيان تجده يقول: هذه عشرة آلاف ريال تُعطى لبني عمي من بني فلان إذا كانوا محتاجين وإلا فتعطى لبني فلان.

    فمعنى ذلك: أننا نصرفها إلى الأول الموصَى إليه بشرط تحقق وجود الحاجة، ونصرفها إلى الثاني متى ما تخلف الشرط في الأول، وهذا أمر معتبر، أي: أنه يجب علينا أن نتقيد بشروط الموصِي.

    ومناسبة هذه المسألة: أنه ذكرها بعد الرجوع، وهذا فيه نوع من اللطف، وهو أن الرجوع تارةً يكون رجوعاً مطلقاً، مثل أن يقول: وصّيت لعمرو، ثم يقول: ألغوا الوصية، فهذا رجوع مطلق، وتارةً يكون رجوعاً بقيد؛ لأنه حينما قال: إن قدم زيدٌ فله ما وصيت لعمرو؛ معناه: أنه رجع عن وصيته لعمرو بشرط قدوم زيد، فصار رجوعاً معلّقاً.

    فبعد أن فرغ -وهذا من دقته رحمة الله عليه- من الرجوع المطلق، شرع في الرجوع المعلق، وإلا فالأصل أن مسائل الأشياء التي يُوصِي بها -المعلقات- سيأتي بيانها والإشارة إليها.

    1.   

    وجوب سداد الحقوق التي على الميت بعد موته

    قال رحمه الله: [ويُخرج الواجب من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به]

    قوله: (يخرج الواجب)، أي: يجب على ورثة الميت أن يتّقوا الله عز وجل في مورِّثهم، فيخرجوا من ماله الحقوق الواجبة، سواء كانت لله عز وجل، أو كانت للمخلوقين، فهم مسئولون أمام الله عز وجل عن إخراج هذا الحق، فالأصل يقتضي أننا نبدأ أولاً بمئونة التجهيز، فيجهز، ويغسل، ويكفن، ويُحمل، ويصلى عليه، ويدفن، وكل هذه الأمور إذا احتاجت إلى مئونة، فتكون من مئونة التجهيز.

    ومن أهل العلم من قال: يُقضى الدين قبل مئونة التجهيز، وهذا لا شك -إِن تيسّر- أنه من أبر البر للوالدين، ومن أعظم الصلة للقريب، ومن أفضل ما يقدَّم للميت؛ أن تُبرأ ذمته وتقضى الحقوق عنه قبل أن يُغسّل وقبل أن يُفعل به شيء؛ حتى إذا ترحم الناس عليه وسألوا الله له المغفرة يكون خالصاً من حقوق الناس وبريئاً من عهدهم، فهذا لا شك أنه من أفضل ما يكون؛ أن يُقضى الدين، ويُبادر به مبادرة تامة.

    فإذا قُضي ابتدئ بعد قضاء الدين بمئونة التجهيز على القول الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك إذا لم يقض الدين وابتدئ بمئونة التجهيز، فينظر في أصحاب الحقوق وأصحاب الديون، وتُسدد هذه الديون كاملة، ولا يجوز للورثة أن يُؤخِّروا سداد الدين؛ لأن كل من مات حلّت ديونه حتى ولو كان الدين على أقساط لعدة سنوات؛ لأن القاعدة تقول: إن من مات حلّت ديونه، فلو أن شخصاً اقترض مائة ألف على أن يكون سدادها على عشر سنوات، ثم توفي في السنة الأولى، فهنا تصبح المائة ألف حالة عليه، أي: يجب أن تُسدد فوراً، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (نفس المؤمن معلقة بدينة) أي: مرهونة به، نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك بيّن نص الكتاب، فقال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، فقدم سبحانه وتعالى الدين والوصية على قسمة التركات وإعطاء الوارثين حقوقهم، فالواجب أن يُبدأ بسداد الدين؛ لأن أمر الدين عظيم، فإذا جُهز الميت نُظِر في ديونه العامة والخاصة، وديونه فيما بينه وبين الله عز وجل، وديونه التي بينه وبين العباد.

    فدُيونه التي بينه وبين الله تبارك وتعالى مثل أن يكون عليه دم واجب لفوات واجب في حجه، أو عليه فدية أو كفارة ظهار، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة على الميت لله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو كان على أمكِ دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى).

    حكم تأخير سداد ديون الميت لمصلحة الورثة

    وبالنسبة للديون، قد يكون التعجيل بقضائها في بعض الأحيان يتضمن بعض الضرر على الورثة، مثل: كساد السوق، ورخص الأسعار، فمثلاً: لو أن الميت توفي وعنده (عمارة)، حتى ولو كان يسكنها أولاده، وليس عندهم سكن غيرها، فإنه يجب أن يُسدد دينه ولو أن تُباع (العمارة)؛ لأن هذا ماله، ونفسه معلقة ومرهونة بدينه، وهو قد قام بإسكان وستر ورثته ومن يعول مدة حياته، فإذا وفّى لهم فالواجب أن يُوفُّوا له بعد موته، فلا تُعطل ديونه وتبقى نفسه معلّقة مرهونة بالدين، وقد ترك وفاء لهذا الدين.

    وأعجب من هذا وأعظم ظلماً للميت حينما يكون الميت قد ترك سداداً، مثل أن يكون عنده مزارع وأرضٍ وسيارات، ولكن الورثة يُؤخِّرون ذلك من أجل كساد السوق حتى يفضُل لهم فضل من الإرث! فهذا من الظلم للميت.

    فيجب أن يُبادر بسداد دين الميت، ولا يجوز تأخير سداد الدين؛ لأن المال هو مال الميت، ولا يجوز أن يُحبس الحق عن صاحبه، والميت محتاج أن تُبرأ ذمته.

    وقد اختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، فقال بعضهم: مرهونة: بمعنى: محبوسة؛ لأن الرّهن في أصل اللغة: الحبس، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، فهي فَعِيلة بمعنى: مفعولة، ورهينة بمعنى: مرهونة محبوسة.

    وقال بعض العلماء في تفسير هذا الحديث إن معنى ذلك: أنه لا يُنعَّم حتى يُقضى عنه الدين، فيحبس عن النعيم حتى يُقضى عنه الدين، وإلا فما معنى (نفس المؤمن مرهونة)؛ لأن الحبس إما حبس عن النعيم، أو حبسٌ فيه عذاب، وإذا كان الحبس فيه عذاب فهذا الأمر أعظم، نسأل الله السلامة والعافية.

    فالأمر جد خطير، فلا ينبغي التساهل في حقوق الموتى من قضاء ديونهم، وهذا يُحتِّم على كل شخص أن يتدارك الحقوق الواجبة عليه، فيحتاط، فإذا علم من ورثته من يوثق بدينه وأمانته أَسند إليه وبيّن له الحقوق وكتبها، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وخاصة إذا كان هناك أمرٌ يحتاج إلى أمين وثقة يقوم عليه.

    السبب في وجوب سداد الحقوق التي على الميت

    والسبب في تشديد الشريعة في هذا الأمر ونصّ العلماء رحمهم الله على أهمية قضاء الديون: لما فيها من حقوق العباد، فإن حقوق الناس والخلق مبنية على المشاحة والمقاصّة، وإن من الظلم أن يكون الإنسان قادراً على سداد ديونه، ويؤخر الناس في سدادها.

    قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه)، يعني: أن من امتنع عن سداد حقوق الناس فإنه ظالم، فإذا كان الميت قد ترك سداداً وامتنع ورثته من السداد، فقد أصبح الظلم من جهتين: ظلم لأصحاب الحقوق بتأخيرها، وظلمٌ للميت حينما تُرهن نفسه وتُعلق.

    وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء)، ثم نزل عليه الوحي فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الدين سارّني به جبريل آنفاً)، فالشهيد الذي له المنزلة والمكانة، وهو الذي يُغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمَّن من الفتان، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، ويزمّل في ثيابه حتى تشهد له دماؤه وجراحه كما قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: (زمِّلوهم في ثيابهم، فإني شفيع لهم وشهيد بين يدي الله).

    فهذه المنزلة العظيمة التي تبوأها الشهيد حتى أَُمِّن من عذاب القبر، لم يفك عنه حقوق الناس. فالواجب أن يحتاط الإنسان، وألا يدخل في الدين إلا مِن حاجة ماسة، وإذا دخل في الدين سأل الله المعونة.

    نصيحة لمن أراد أن يستدين

    وإذا أراد الإنسان أن يقترض شيئاً فعليه بأمرين مهمين:

    الأمر الأول: ألا يقترض إلا من حاجة شديدة ماسة، فإن من نزلت به فاقة وحاجة فردها إلى الله عز وجل، أوشك الله له بالفرج العاجل، فجعل الله قليله كثيراً، ويسيره عظيماً، وبارك له، ومن يصبر يصبِّره الله.

    وإذا ضاقت عليه الأمور لحاجة ماسة، مثل: طعام الأولاد والأهل، أو لشقة يستأجرها، أو يستدين لشراء سيارة من أجل نقلهم، وقد يكون عدم وجود هذه السيارة زيادة دين، فهذه حوائج يُضطر إليها الإنسان فتُبيح له الدين، وتبيح له المسألة، وإذا لم توجد حاجة ماسة فليتق الدين؛ فإن الدين في الحقيقة تبعة ومسئولية وبلاء على العبد، ولذلك قال بعض السلف في الدين: (هم الليل وذل النهار).

    وهذا إبراهيم بن أدهم حينما ركب البحر، فهاج البحر، وجاءت أمواج عظيمة حتى كادوا أن يغرقوا، فقيل له: يا إبراهيم ! ألم تر إلى هذه الشدة؟ فقال: إنما الشدة الحاجة إلى الناس. نسأل الله العظيم بوجهه الكريم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، وأن يجعل لنا ولكم الغنى به سبحانه والفقر إليه.

    فالمقصود: أن الإنسان يصبر قدر المستطاع، فإذا ضاقت عليه الأمور ووُجِدت الحاجة، فيطلب دينه ممن يعرف منه السماحة وحسن النفس وطيبها، ومن لا يُضيق بالاستدانة منه؛ لأن مثل هذا حرِيٌ به أن يُسامح، وحريٌ به أن يوسِّع عليه، فلا يُضيق على نفسه مع وجود السعة، فإذا وجد غنياً كريماً طيباً، وفيه الخير، ويحب معونة الناس؛ عرض عليه أمره، أما إذا كان الإنسان الذي يريد أن يسأله ويطلب منه -حتى لو كان قريباً- يعلم أنه سيضيق عليه، فالأفضل أن لا يُضيق عليه؛ لأن المال الذي في الدين يُبارك لصاحبه إذا أخذه على الوجه الحسن، ويضع الله فيه البركة، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من كان سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى، فلابد أن يكون الإنسان سمحاً، فلا يُضيق على الناس في الدين، ولا يُحرج أحداً بذلك ما أمكنه.

    الأمر الثاني الذي ينبغي توفُّره: حسن النية، فينوي في قرارة قلبه أن يرد هذا المال عاجلاً أو آجلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)، أي: في نيته وقرارة قلبه، والله يشهد ومطَّلع عليه أنه أخذها ليسدِّد عند وجود اليسر والسعة، ومن أخذها يريد إتلافها، أو أن يتلاعب بها، فكما أخذ ديناً وقضى ديناً جاء إلى دين آخر، ثم أخذ من فلان وفلان وأخذ يتلاعب، وهو يعلم أنه لن يستطيع السداد، ويعلم أنه يستطيع أن يُضيق على فلان مع أنه غني فيماطله ويؤخره حتى ييأس من حقه، ثم ينفلت من التبعة، لكنه لن ينفلت من عقوبة الله جل جلاله، ولو كان صاحب الحق غنياً، فالحق حق، ولذلك أمر الله بالشهادة العادلة ولو كانت على فقير: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، فلو كان الذي له الحق غنياً فلا تقل: إن هذا فقير، وقد استدان وهو ضعيف، وهذا غني، لا، فما دام أنه أخذ حقاً فليرده إلى صاحبه، سواء كان غنياً أو فقيراً، فلا يجوز أن يأخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها.

    فمن يأخذ الأموال تلو الأموال وهو يعلم من قرارة قلبه أنه لن يسدد، بل أصبحت عادةً له، فمن فعل ذلك فإن الله يفتح عليه باب الاستدراج حتى لا يُبالي به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك ينزع الله البركة من المال الذي يأخذه، ولربما جعل الله حتفه ونقمته عليه في الذي أخذ، فيبني (عمارة) فتكون سبباً في شقائه ومرضه، أو يأخذ سيارة فيكون فيها حتفه ونهايته والعياذ بالله، أو حتف ولد من أولاده، أو حتف عزيز عليه؛ لأنه كما يضر بالناس يضر الله به.

    فالنية مهمة جداً، فلا يأخذ الإنسان الدين إلا من وجود حاجة وضرورة، ولا يأخذ إلا وفي نيته وفي قرارة قلبه أن يقضيه، ثم يستعين بالله عز وجل على قضاء دينه بأمرين أعظمهما وأجلهما: كثرة الدعاء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، فيستعيذ بالله من غلبة الدين، ثم يُبادر بالسداد ولو كان عنده ريال واحد من عشرة آلاف، فكلما تيسر له السداد قليلاً كان أو كثيراً فليسدد، فإن هذا من أفضل وأبرك ما يكون في سداد الديون؛ لأن مثل هذا حري أن يُعينه الله عز وجل، ويفتح له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب.

    وعلى كل حال: الدين أمره عظيم، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان قد يُؤذى في عبادته وخشوعه وصلاته وطاعته بسبب حقوق الناس، فتجد الرجل أخشع ما يكون قلباً، فإذا وقع في الدين تغير حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) أي: مرهونة بدينه، ولم يفرق بين الحياة والموت، وهذا الذي جعل بعض العلماء يتحاشى الدين ولا يُحبه ولا يرضاه، حتى إنه يخشى أن يُؤثر على صلاحه واستقامته؛ لأن صاحب الحق إذا طلب حقه أَجحف بالإنسان، وشوّش عليه في عبادته، وآذاه وأضره.

    تيسير الله قضاء دين المحسنين

    وأياً ما كان فالدين جائز ومشروع، فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد استدان، وإن كان بعض العلماء قد اعتذر فقال: رسول الأمة صلى الله عليه وسلم نِيطت به حقوق، والناس كلهم يعوِّلون عليه صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما يوجد في الفضلاء والكبراء، كشيخ القبيلة أو أميرها، فغالباً أنه يدخل في الشفاعات، ويواسي المعدومين والمحتاجين، فمثل هؤلاء غالباً يقعون في الدين؛ لكن لهم من الله عز وجل المعونة؛ لأنهم أخذوا الدنيا معونة على الدِّيْن، فما دام أنهم لا يريدون بها جاهاً ولا سمعة ولا فخراً، وإنما يفعلون ذلك رحمة بالناس، فمن رحِم حريٌ أن يرحمه الله عز وجل، وأن يبارك له في رزقه، وأن ييسر له من أمره.

    ولقد جعل الله عز وجل للغارمين الذين يتحملون الديون، وهم رؤساء العشائر من الكبار الذين لهم مكانة، وأهل العلم وأهل الفضل الذين تأتيهم حوائج الناس دائماً، وكذلك أهل الكرم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعتذروا، والكريم في بعض الأحيان يفضل أن يموت ولا أن يعتذر لصاحب الحاجة، وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ثلاثة لهم علي فضل، وذكر منهم: رجل نزلت به حاجة فاختارني من بين الناس)، أي: جاء إليّ من بين الناس ووقف عليّ وسألني هذه الحاجة.

    فلا شك أنه لم يوجد ولن يوجد رجل عُرف برحمة الناس -وكان ذلك بحسن نية- فضاق عليه الأمر إلا ووسعه الله عز وجل، وهذا شيء لا يُخطر على بال، وقد رأينا من العلماء والفضلاء وأهل الفضل العجب في هذا.

    ولذلك فلن تجد إنساناً كريم النفس يستدين إلا تكفّل الله عز وجل برزقه، فنحن حينما ذكرنا مسألة الدين، قد يكون بعض الناس فيه رحمة، وأفضل ما يكون الكرم والإحسان في رجل عطوفٍ شفوق رحيمٍ بذوي رحمه، فتجده دائماً ينظر إلى أخواته المحتاجات وإخوانه وقرابته المحتاجين، وينظر إلى العجزة وكبار السن من قرابته؛ فيستدين لهم ويتحمل عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لمثل هذا من الفرج ما لم يخطر له على بال.

    وهذا رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت في دين أهمه وأغمه -وكان من أفضل الناس في جماعته إحساناً وكرماً، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن الصالحين الأخيار رحمه الله، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً- يقول: إنه ضاق عليه الأمر في مبلغ كبير، حتى وقف عليه صاحب المبلغ وآذاه وسبّه وشتمه؛ لأنه تأخر عليه، وقد وعده أكثر من مرة أن يفي فلم يستطع، يقول: فنزلت إلى بيت الله، فطفت فيه -وقد كان رجلاً معروفاً بمواساة المحتاجين، وهذا شيء أدركته عليه، وقد كان من أعجب ما رأيت من الرجال، تجد بيته بيت الأيتام والأرامل والمحتاجين، لا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت من صلاحه رحمه الله- يقول: وأنزلت حاجتي بالله سبحانه وتعالى، فوالله إني عند المقام أصلِّي ركعتي الطواف، وإذا برجل ثري غني موفَّق جاء وصلى بجواري، قال: فسلّم عليّ وتبسم في وجهي وناولني كيساً، فإذا فيه ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أردته!! فمن أنزل حاجته بالله عز وجل فإن الله لا يُخيِّبه، وما من أحد أحسن إلى الناس وضيّع الله إحسانه أبداً، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

    ومن غريب ما رأيت في هذا: أن الوالد رحمه الله كان لا يمسك المال، ولا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، وهذا شيء شهدته ورأيته فيه رحمه الله، وأشهد أمام الله أني رأيت فيه من الكرم والإحسان إلى الضعفة والمساكين ما الله به عليم، فمما حدث: أنه جاء في مرض موته رحمه الله، وكان عندنا عمال قد احتاجوا إلى مبلغ من المال، وقد كان رحمه الله يعطي الأجير أجره قبل نهاية الشهر، وقد كانت وفاته رحمه الله في آخر شهر جمادى -أي: قرابة الرابع والعشرين- فاحتاج العمال إلى المال، فجئت إليه وقلت له: إنهم يحتاجون إلى مبلغ كذا وكذا، وكان هذا بعد صلاة العصر في اليوم الذي سبق وفاته، فتألم وتغيّر وجهه، وقال: ليس عندي الآن شيء، لكني أرجو من الله ألا يُضيق عليّ أمراً إلا وسّعه. والله ما زاد على هذه الكلمة، وأشهد بالله العظيم أنه ما إن انتهى من الكلمة إلا والباب يُقرع، فإذا بأحد أبناء العم من القرابة جاء لزيارة الوالد، وقد كان عليه دين لوالدي -وقد توفي والدي وله على الناس ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وما وقفنا على أحد نسأله ديناً للوالد، ولا نعلم ذلك أبداً من قبل، وفي آخر حياته كان يقول له بعض الناس: ألك حقوق على الناس؟ فيقول: حياتي كلها ما وقفت على رجل أقول له: أدِّ ديني، أبعد أن شابت لحيتي وابيض شعري أَفْعَل ذلك؟

    فالشاهد: أنه جاء هذا القريب -انظر إلى تقدير الله عز وجل- ولو واجه الوالد لما قبل منه المال، لكن الوالد كان مريضاً، فأدخلته في غرفة الضيوف، فجاء وقال لي: أُريد أن أسلم على الوالد -وكان مريضاً جداً إذ كانت عليه الحمى رحمه الله، وذلك في اليوم الذي سَبق وفاته- فقلت له: لا يستطيع الآن أن يقابلك، ولو أنك عدت بعد العشاء أو في وقت آخر، فقال لي: سلم عليه وأعطه هذه الرسالة، وكنت لا أدري ما الذي بداخلها -انظر إلى تقدير الله عز وجل- فلو أنه جاء إلى الوالد وأعطاه المبلغ لغضب عليه ورفض قبوله، وأنا أعرف أنه إذا أعان أحداً فلا يأخذ منه بعد ذلك ما أعطاه إياه، ولو وسَّع الله عليه، رحمة الله عليه- فالشاهد: أنه أَعطاني هذا الظرف، وأُقسم بالله العظيم أَن المبلغ الذي فيه هو راتب العمال الثلاثة، لا يزيد ولا ينقص، فجلست مع الوالد وقلت له: فلان يسلِّم عليك، ويقول: هذه الأمانة التي أخذها منك، فتغير وجهه وقال: أمانة ماذا؟ ففتحتها فإذا فيها المبلغ الذي يعادل ألفين وأربع مائة، وهي تُعادل حقوق الثلاثة العمال.

    وهذا من أعجب ما رأيت؛ لأن كلمته لما قال: أرجو من الله ألا يضيق عليَّ شيئاً إلا وسّعه، فالدين إذا لم يَسد به حوائج المحتاجين، ويواسي به المكروبين، ويقف به مع الضعفة والمحتاجين، فلاشك أن الأولى الابتعاد عنه ما لم يضطر الإنسان إلى ذلك.

    وأما في هذا الزمان فلا شك أن الأمر أضيق، فقد كان أهل الفضل وأهل الكرم وأهل المال -من قبل- يحبون أهل العلم وطلاب العلم، ويواسونهم، لكن اليوم قلَّ أن تجد من يُكرم أهل العلم، وقل أن تجد من يقف عليه طالب العلم في حاجة لأحد إلا أذله وأهانه، ولاشك أن الله يأجُر طالب العلم على هذا، لكن قد تكون النفس عزيزة، فتربأ بالإنسان أن يقف هذا الموقف مخافة أن يكون في ذلك تبعة عليه أمام الله سبحانه وتعالى.

    فقد تغير الزمان وفسد، إلا من رحم ربي، وإن كان -والحمد لله- لا يزال هناك بعض أهل الخير، لكن الأمور قد تغيرت، وقد كان أهل العلم معروفين بهذا، وقصة الأوزاعي في ذلك مشهورة، كل هذا تحملوا فيه حقوق الناس، وأياً ما كان فالإنسان عليه أن يبتعد عن الدين ما لم يحتج إليه.

    وقد كانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله تتدين وتستدين كثيراً، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فكانت تعول على أن الله لا يخيبها، ولم يخيبها ربها سبحانه، فقد قُضيت ديونها، وكُفيت حاجتها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغنينا من فضله، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه.

    ولقد بيّن المصنف رحمه الله أنه يُبدأ بالدين وبالحقوق الواجبة، وينبغي على طالب العلم أن ينتبه إلى أن المسألة التي ذكرناها حينما قلنا: أن يكون الذي وصَّى به من الواجبات، أو يكون من المستحبّات، بمعنى: أن يكون الدين ضمن الوصية، فيجعل في وصيته من الثلث، كأن يقول: اقضوا ديني من الثلث، وحجوا عني من الثلث، وتصدقوا بكذا وكذا من الثلث، فلما جئنا نقضي الدين وجدناه سبعة آلاف ريال، ووجدنا -مثلاً- أن الحج عنه بألف ريال، ووجدنا الذي وصى به أربعة آلاف ريال، فأصبح المجموع اثني عشر ألفاً، وكان ثلث ماله عشرة آلاف ريال، وهذه مسألة التقديم، فنقدم الدين، ونقدم الحج، ثم نتصدق بنصف الأربعة آلاف تتمةً للعشرة آلاف ريال، فمسألة التقديم هذه لا تُشكل على طالب العلم؛ لأن الحقوق الواجبة يجب سدادها سواء وصّى أو لم يوص، وإنما أدخلناها في الثلث أولاً إذا نص على أنها تكون ضمن الثلث، فيقول: اقضوا الدين من الثلث، وحجوا عني من الثلث، واعتمروا عني من الثلث، وأدوا ثلاث فديات من الثلث، فيجعلها حقوقاً واجبة.

    فحينئذٍ يُنظر فيها على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة الثلث، وأما من حيث الأصل فلا إشكال أن الذي يجب هو المبادرة بسداد الدين، سواء وصَّى أو لم يوصِّ.

    1.   

    إخراج الواجب من مال الميت وإن لم يوص به

    قال رحمه الله: [ويُخرَج الواجب كله من دين وحج وغيره].

    (من): بيانية، كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1]، فـ(من) هنا بيانية، وقد بين المصنف رحمه الله أن من الواجب الدين، وأن من الواجب الحج، فمثّل للدين بحقوق العباد، ومثّل للحج بحق الله عز وجل، ومن مات ولم يحج حج عنه وليه.

    ويجب أن يُستأجر عنه إذا كان الولي لا يريد أن يحج، أو لا يتيسر له الحج، فيُستأجر من يحج عنه، وتدفع له مئونة الحج، ونفقة الحج ذهاباً وإياباً.

    ثم إما أن يُحدد موضعاً، فيقول له: حج عني من المدينة، فعند ذلك يجب أن يلتزم بوصيته، وإما أن يكون قد توفي أثناء الحج ولم يكن قد فعل الواجبات، فيوصي أن يكمل عنه، فيُكمل من الموضع، ويكون إحرامه من الموضع الذي توفي فيه، وإما أن يُطلق، فإذا أطلق قال بعض العلماء: إذا وجب عليه الحج وقصّر حتى توفي فيجب الإحرام من الموضع الذي هو فيه؛ لأن الوكيل منزّّل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فلا يصح أن نقول لرجل من أهل جدة: حج عنه، فيحرم من جدة؛ لأنه وجب عليه وتعين عليه أن يحرم من المدينة، وهو الميقات الأبعد، فلا يحرم من ميقات أدنى إذا وجب عليه من الأبعد، وهذه مسألة صحيحة تشهد الأصول الشرعية بصحتها؛ لأن النائب عن الإنسان في الحج قائم مقامه، وعلى هذا يجب أن يحج عنه من الموضع الذي وجب عليه الحج وقصّر فيه؛ لأن ذمته مشغولة بالحج على هذا الوجه.

    وعلى كل حال: يجب أداء الحج عن الميت إذا ترك، سواء وصّى أو لم يوص، وعلم وارثه بذلك.

    قال رحمه الله: [من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به].

    أي: الواجب، فإذا كان الحج حج نافلة، فيُحج من الثلث، ولا يُحج من أصل المال، وينبغي أن تفرَّق بين أمرين: فالحقوق والواجبات والديون تُقضى قبل قسمة المال، أو التركة عموماً، فهي في رأس المال، لكن بالنسبة للوصايا والصدقات، وما خصص شيئاً داخل الثلث، فهذه يتقيد فيها بالثلث، فيُنظر فيها بعد الانتهاء من الوجبات، وهذا هو الفرق بين الأمرين، فبيّن رحمه الله أنه يُقضى الواجب من كل تركته، ويُبدأ به؛ لورود النص في كتاب الله عز وجل بالأمر بكتابة الوصية والدين على قسمة المواريث.

    قال رحمه الله: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي؛ بُدئ به].

    وذلك لأن الثلث في الحقيقة يُؤخَّر من حيث الأصل، أي: يؤخر على الدين الواجب، فإذا أدخل الواجب في الثلث بُدئ به، وكونه واجباً ثم جعله في الثلث لا يُسقط ذلك مرتبته؛ بل يبدأ به، وهذا هو مراد المصنف.

    فمثلاً: الميت عليه دين عشرة آلاف ريال، فقال: لصالح عليّ عشرة آلاف ريال، أدُّوها من الثلث، فيُبدأ بها، ولا يقال: إنها وصية في الثلث فتوفر، بل يُبدأ بها؛ لأن الدين الواجب يُبدأ به قبل قسمة المواريث، وعلى ذلك فتقدم، وكونها واجبة، وكونه يجعلها في الثلث، لا يقتضي تأخيرها عن مرتبة الوجوب كما ذكرنا.

    1.   

    تزاحم الحقوق الواجبة مع المستحبة في الوصية

    قال رحمه الله: [فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط]

    قوله: (فإن بقي شيء) بمعنى: إذا كان قد وصَّى بقضاء الدين من الثلث، ووصى بأشياء من الثلث، فإنه سيحدث ازدحام بين الدين وبين الصدقات والهبات، فلو قال: اقضوا ديني من الثلث، ووصيت لمحمد ابن عمي بعشرة آلاف ريال، ثم وجدنا الثلث عشرين ألفاً، والدين الذي عليه خمسة عشر ألف ريال، فمعنى ذلك: أننا سنعطي ابن عمه خمسة آلاف، فسقط ما زاد على الثلث، ونعتبر الدين مقدماً، فهذا أول شيء نقوم به؛ لأنه واجب، ثم بعد ذلك تعطى الوصية؛ لأن الاحتمال الذي جعل أهل العلم ينصّون على هذه المسألة: أنه قد يقول قائل: فلننقل الحقوق الواجبة إلى أصل التركة، ونبقي الثلث حتى ننفذ الوصايا، فنقول: هذا لا يصح، فما دام أنه أدخل الدين ضمن وصيته بالثلث فيجب التقيد بذلك، ثم يُعطى المستحب والنوافل بعد الواجب، فصارت المسألة راجعة إلى المسألة التي ذكرناها، وهو أنه لا يُعطى المستحب مع وجود ما هو أوجب وآكد منه، فرجعت إلى الأصل وهو: البداءة بالواجبات قبل المستحبات والصدقات.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً يوم لقائه العظيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755940651