إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الغصب [9]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ليس كل ما يُتْلف فإنه يلزم الضمان بإتلافه، فهناك أشياء يجوز إتلافها ولا تضمن، ومن هذا دم الصائل، وكذلك المال الغير محترم شرعاً، وهذا كله من العدل ووضع الأمور في نصابها.

    1.   

    ملخص مسائل جناية البهيمة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد تقدم بيان المسائل المتعلقة بجناية البهيمة، وقد ذكرنا أن البهيمة إما أن يكون معها صاحبها، وإما أن تكون مرسلة، فإن كان معها صاحبها فلا يخلو إتلافها للشيء من أمور: إما أن يكون بمقدمة البهيمة كأن تتلف شيئاً بيديها، أو يكون الإتلاف برجليها والمؤخرة، أو يكون الإتلاف بوسطها، فإن كان الإتلاف بمقدمة البهيمة فإن الضمان يكون على القائد والسائق للبهيمة سواءً كان صاحبها أو كان غيره، فإنه يجب عليه ضمان ما أتلف؛ والسبب في ذلك: أن قائدها وسائقها يتحكم فيها إذا كان راكباً عليها، ويكون إقدامها على إتلاف الأشياء بسبب تعاطي القيادة والإرسال.

    وأما بالنسبة لإتلافها للشيء بظهرها، فإن ذلك لا يخلو من حالتين: إما أن يكون الشخص الذي معها هو الذي ردها إلى الخلف فحينئذٍ يكون الضمان على الشخص؛ لأن الإتلاف وقع بسبب الرد إلى الخلف وهو ناشئ من سببيةٍ تعاطاها القائد فيجب عليه الضمان، وإما أن يكون إتلافها بخلفها ناشئاً منها هي بدون أن يتحكم فيها القائد، فحينئذٍ لا إشكال أنه لا ضمان على قائدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الضمان في إتلاف البهيمة، وأما إذا لم يكن معها أحد فإن كان صاحبها قد تعاطى أسباب التفريط والإهمال، كأن يرسلها بجوار شيءٍ يتلف عادةً أو تُقدم البهيمة على إتلافه أو حصول الضرر فيه، مثل: الأطفال وصغار السن إذا أرسل البهيمة بينهم، وليس المراد بالإرسال التحريش، كأن يغريها أن تذهب كما يظن البعض، لا. لأنه إذا حرشها أن تذهب فلا إشكال أنه يضمن، لكن المراد بالإرسال أن يطلق عنانها، بمعنى: أن يتركها دون أن يقيدها ودون أن يربطها فتذهب البهيمة بنفسها وتتلف، صحيحٌ أن الإتلاف وقع من البهيمة؛ ولكن كونه يرسلها بجوار شيءٍ غالباً ما تتلفه، كأن يأتي إلى موضع فيه زجاج أو موضع فيه شيءٌ خطير أو شيء فيه ضرر، والبهيمة عادةً يربطها صاحبها حتى تستقر في مكانها، فجاء وتركها دون أن يربطها فهذا معنى إرسالها، فإذا أرسلها بجوار ما تتلفه عادةً، أي: بجوار شيءٍ لو أرسلت بدون قيدٍ لأتلفته فإنه يجب عليه الضمان.

    إذاً: البهيمة من حيث الأصل عندنا فيها حديث: (العجماء جبار)، بمعنى: أن كل ما تتلفه هدر، واستثنينا عدة صور، وهي: إذا كان معها صاحبها؛ لأن الإتلاف لم ينشأ من البهيمة أصلاً وإنما نشأ ممن معها، فلا يمكن لأحد أن يعترض بالحديث: (العجماء جبار) على حالة ما إذا كان معها صاحبها؛ لأنه إذا كان معها صاحبها ففي الواقع أنه إنما حصل الإتلاف بسبب الإهمال والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار)، فإذا تمحضت في الإتلاف، بمعنى: أن ينشأ الإتلاف دون وجود إهمال من صاحبها، فحينئذٍ يمكنك أن تنسب الإتلاف إلى البهيمة؛ لكن إذا كان معها صاحبها أو تعاطى صاحبها أسباب الإهمال، فإنه يجب عليه الضمان، وهذا حاصل ما ذكرناه في جناية البهيمة.

    وأحببنا أن ننبه على هذا الملخص؛ لأن بعض طلاب العلم تلتبس عليه المسائل ويتداخل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) مع حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت بالليل؛ لأن حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت زرع الناس بالليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل أن البهيمة تحفظ في الليل، فلما أهمل صاحبها في حفظها وجب عليه الضمان، فذهبت السنة على أنه يضمن رب البهيمة إذا أهمل فيها أو تعاطى أسباب الإتلاف الذي حصل منها، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وعليه شرعُ الله عز وجل.

    وليس من العدل أن نقول للناس: كل ما أتلفته بهائمكم هدر. ثم يأتي الرجل ببهيمته فيتركها بجوار الأشياء الخطيرة أو بجوار أمتعة الناس ويقول: العجماء جبار، أو يأتي ببهيمته ويدخل بها في سوق فيه أطعمة وفيه مصالح الناس -والبهيمة إذا أرسلت رتعت في هذه المصالح- فيقول: العجماء جبار؛ لكن الله عز وجل نبهنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه الكريم على أن البهيمة إذا أتلفت شيئاً وكان الإتلاف متمحضاً منها فلا ضمان؛ لأنها بهيمة، فإذا أتلفت من فعلها دون أن يفرط صاحبها فمثلها لا يحاكم ولا يترتب عليه المؤاخذة من حيث الأصل، ثم إذا حصل الإهمال من ربها وصاحبها وجب الضمان حينئذٍ.

    1.   

    حكم دفع الصائل

    قال المصنف رحمه الله: [كقتل الصائل عليه وباقي جنايتها هدر]

    أي: باقي جناية البهيمة هدرٌ، أي: لا ضمان فيه لثبوت السنة به.

    بعد أن فرغ من جناية البهائم أدخل مسألة الصائل، والصائل هو: الشخص -والعياذ بالله- الذي يهجم على الإنسان إما من أجل أن يضره في نفسه كأن يريد قتله أو يضره في عرضه أو يصول على ماله، ولكن أكثر المسائل يذكرها العلماء في الصائل إذا اعتدى على الأنفس، فلو -والعياذ بالله- تعرض شخص لآخر فحمل عليه السلاح يريد قتله أو بدون أن يحمل السلاح جاءه وهجم عليه يريد قتله، فالصائل تارة يكون في الطريق، وتارة يكون في البيت والمنزل؛ ولذلك تخلتف الأحكام الشرعية، إلا أن هناك ضوابط ينبغي أن ننبه عليها:

    أولاً: أن الأصل العام يقتضي أن دم المسلم حرام ولا يجوز للمسلم أن يقتل غيره أو يتلف شيئاً من جسده إلا إذا أذن الشرع بذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) هذه الأصول الشرعية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يقتل المسلم إلا إذا دل الشرع على جواز ذلك القتل وحله، فلو أن شخصاً مسالماً هجم عليه شخص في البيت ومعه سلاح ويريد قتله أو يريد أن يعتدي على عرضه، ففي هذه الحالة ينبغي علينا أن نبقي على الأصل ونقول: لا يجوز أن تتعرض لهذا الذي هجم فتقتله إذا كنت تستطيع دفع ضرره بالأخف، فلو أمكن الشخص أن يستغيث بعد الله بأشخاص يأتون من أجل أن ينقذوه دون أن يحصل قتل لم يجز له أن يقتله، ولو أمكن أن يستخدم وسيلة تحول بينه وبين هجوم الشخص عليه كقفل الباب، فحينئذ يجب عليه قفل بابه أو ركوب سيارته والهروب إذا أمكن أن يهرب، فإذا تلافى هذا الضرر دون أن يحدث ضرر عليه فعل، أما إذا أصبح أمام الموت بحيث هجم عليه هجوماً لا يمكن معه أن يدفع ضرره إلا بالقتل؛ فحينئذ ينظر: فإذا هجم عليه هجوماً لا يمكن أن يدفع الضرر إلا بضرر في نفس هذا الصائل أو في جسده فيفصل فيه: فلو هجم على الإنسان وهو يحمل السلاح بيده وأمكنك أن تضرب أنه حتى ولو تتلفها فحينئذ لا يجوز أن تقتله، أما إذا غلب على ظنك أنك لا تحسن ضرب يده، أو ستخطئ في ضرب يده وأنك إذا أخطأت هذه الطلقة نفسه فإنه سيقتلك؛ فحينئذ يحل لك شرعاً أن تقتله، قال: (يا رسول الله! أرأيت إذا جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد).

    فالصائل الذي يصول على الإنسان يدفع بالأخف، فإذا لم يمكن دفع ضرره إلا بالأثقل جاز له أن يدفعه بالأثقل، والسبب في هذا: أن الصائل لما صال على المسلم سقطت حرمته وأصبح بهجومه على بيوت الناس وبهجومه على أرواح الناس يريد إزهاقها أو بهجومه على أعراض الناس يريد -والعياذ بالله- انتهاكها ساقط الحرمة، وحينئذ يصبح دمه هدراً، فإذا لم يمكنك دفع هذا الإخلال الشرعي منه إلا بقتله فإنه يحل قتله ودمه هدر، لكن كل هذا بشرط أنه لا يمكن دفع ضرره إلا بالقتل، والنصوص في هذا واضحة.

    أجمع العلماء رحمهم الله على أن من صال على المسلم فقتله فإن دمه هدر، وأنه لو قتل الشخص الذي هجم عليه فإنه شهيد؛ ولذلك يعتبر من الشهادة موت الإنسان وهو مدافع عن نفسه وموت الإنسان وهو مدافع عن عرضه وموت الإنسان وهو مدافع عن ماله، فهذه كلها شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتله) وعلى هذا قال العلماء: إن الصائل تسقط حرمته وإذا سقطت حرمته ولم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل، لكن لو أن هذا الصائل هجم على الإنسان وأمكن للإنسان أن يتصل أو يستغيث بعد الله عز وجل بأشخاص ينقذونه أو أمكنه أن يقفل باباً، ولم يفعل هذه الأشياء وأقسم على قتله، فالضمان يجب عليه؛ لأن نفسه لا تحل له، ولا يحل له قتله، ومثل هذا له حكم معروف إن كان سارقاً فله حده، وإن كان صائلاً فله تعزيره، والمرجع في التعزير ليس للناس، فلو هجم شخص على شخص وأمكنه أن يتصل أو يستغيث أو يقفل بابه ولكنه قام بقتله فإنه يضمن، ويعتبر قتل شبهة إذا تأول كونه هجم عليه، فلا يوجب القصاص لكنه يعتبر قتل شبهة وينظر فيه ولي الأمر، والسبب في هذا: أنه لا يجوز للناس أن يتولوا القصاص من بعضهم، ولا أن يتولوا مثل هذه الأمور ما دام أن هناك من يقوم به ويتولى هذه الأمور، فهو الذي يتحمل مسئوليتها وما على الإنسان إلا أن يضع الأمر بين أيديهم وهم الذين يتحملون المسئولية، أما أن يقدم هو على قتل أخيه المسلم مع إمكانية دفع ضرره بالأخف فإنه في هذه الحالة ليس له مبرر شرعي في قتله، وعلى هذا لا يباح للشخص إذا صال عليه الغير أن يقدم على القتل هكذا ما لم يتقيد بهذه الضوابط.

    ومن هذه الشروط والضوابط التي ينبغي توفرها:

    أولاً: أن يكون صائلاً بظلم لا صائلاً بشبهة، بمعنى: لو أن اثنين اختلفا في أرض فجاء أحدهما ودخلها بحكم أنه يعتقد أن الأرض أرضه، فلا نقول: إن هذا صائل لأن الأرض ما ثبت أن فلان يملكها، فإذاً: يشترط أولاً: أن يكون الصائل ظالماً، فإذا كان مظلوماً وهجم على ظالم يريد أخذ ماله فلا تقل: إنه صائل، كشخص سرق من آخر كيلو من الذهب مثلاً، فجاء المسروق وهجم على السارق يريد أن يأخذ هذا الذي أخذ منه فقتله، فحينئذٍ لا نقول: إنه صائل؛ لأنه لم يتوفر الموجب لإثبات كونه صائلاً عليه وهو كونه ظالماً، فهذا ليس بظالم بل هذا مظلوم وهو صاحب الحق.

    ثالثاً: أن يكون الشخص الذي صال يخشى منه الضرر على النفس أو على المال أو على العرض، ويكون ضرراً مؤثراً، فإذا كان المال شيئاً تافهاً، كما لو جاء يريد أن يأخذ مسواكاً أو قلماً أو كتاباً، فلا نقول: إنه يباح قتله؛ لأن هذا شيء ما يأتي عند حرمة دمه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئٍ مسلم، فليست دماء المسلمين رخيصة بهذا الشكل فتستباح بشيء تافه حقير.

    رابعاً: أن يذكره بالله عز وجل، وينصحه إذا أمكن ذلك، فيعذر إليه ويحذره ويمنعه إذا أمكنه ذلك، فيقول له: إذا هجمت أو دخلت دون إذني سأقتلك، أو إذا اعتديت علي سأقتلك، فيعذر إليه وينبهه لاحتمال أن يكون مخطئاً، ودخل الدار خطأ ويظن صاحب المنزل أنه صائل وهو ليس بصائل، فقد يدخل الإنسان داراً خطأ ويظنها داره ويحدث مثل هذا الشيء، فلابد أن يحذر الإنسان حتى يخرج من التبعة والمسئولية.

    خامساً: ألا يتمكن من دفع ضرره إلا بالقتل، فإذا لم يمكنه دفع ضرره إلا بالقتل وكان الضرر على النفس أو على العرض أو على المال، فإنه يجوز له أن يدفع ذلك الضرر ولو بإزهاق روحه؛ لثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسقوط حرمته.

    هذا بالنسبة للاعتداء من الصائل على الإنسان، ولا شك أن الشريعة حينما جعلت الاعتداء على الناس موجباً لسقوط الحرمة فإن هذا يدل على عظم منهجها وكماله، وتعجز القوانين الوضعية أن تعالج مثل هذه الأمور بمعالجة الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية وضعت هذه القواعد والثوابت والضوابط وعدلت وأنصفت بين الطرفين، فحفظت دماء الناس وأرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم؛ ولذلك عندما ننظر إلى أن اليد لو سرقت قطعت، ولو اعتدى عليها شخص ضمنها بنصف الدية، نجد أنها لما كانت كريمة صارت عزيزة ولها قيمتها، ولما صارت لئيمة تعتدي على أموال الناس سقطت حرمتها، وهذا عين العدل أن تجعل لكل ذي حق حقه، فجعلت الشريعة الحزم في موضعه وجعلت اللين والرق في موضعه فالمسلم له حرمة وكرامة لكن بشرط ألا يعتدي على حرمات الناس وألا يعتدي على كرامتهم، ولتتصور لو أن الشريعة لم تبح دفع الصائل لسالت دماء الناس وانتهكت أعراضهم وأكلت أموالهم وحصل من الضرر ما الله به عليم.

    (كقتل الصائل): هذا تشبيه: أي: لا ضمان في جنايات البهيمة بالشروط التي ذكرناها، كما أنه لا ضمان على من قتل شخصاً صال عليه، وبينا حكم الصائل وهو: الشخص الذي يعتدي على الإنسان، وحاصل ذلك: أن الاعتداء إما على النفس أو على العرض أو على المال، فإذا اعتدى على نفسه سواءً اعتدى عليه بالقتل يريد أن يقتله ظلماً وبدون حق، أو اعتدى على عضوٍ من أعضائه، والجناية على العضو كالمرأة يريد أن يزني بها والعياذ بالله! أو يعتدي على عرضه، كأن يريد الصائل أن يعتدي على أحد محارم الرجل بالزنا -والعياذ بالله- أو بأي أذيةٍ تمس هذا العرض، أو يعتدي على ماله كأن يأخذ نقوده أو يتلف شيئاً من أمواله، فكل هذا يندرج تحت مسألة الصائل.

    نحب أن ننبه إتماماً لما تقدم من مسائل الصائل إلى أن جميع المسائل التي تقدمت معنا في حكم الصائل هي مبنية على قاعدةٍ شرعية مدارها على مسألة مشهورة عند العلماء وهي: مسألة مشروعية الدفاع عن حق الإنسان، أي: أن الشرع جعل لك الحق أن تدافع عما ملكه لك، سواءً كان ذلك من الأمور المادية كالمال أو كان من الأموال المعنوية كعرض الإنسان ونحو ذلك، فالأصل الشرعي يقتضي: أن من حقك أن تدافع عن نفسك وعرضك ومالك، وشرع الله لك أن تبذل الأسباب لدفع الظلم الذي يقع عليك في نفسك أو في عضوٍ من أعضائك، وكذلك شرع لك أن تدفع عن نفسك كل ظلمٍ يقع على عرضك، وشرع للإنسان أن يدفع الظلم عن ماله.

    الدليل على مشروعية دفع الصائل

    أما الدليل على مشروعية الدفاع: قول الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، شرع الله عز وجل للمظلوم أن يدفع الظلم عنه، والآية عامة شاملةٌ للاعتداء على النفس والمال والعرض.

    الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، فالله عز وجل شرع مقاتلة الباغي وجعل بغي الطائفة الثانية على الطائفة الأولى موجباً لنصرة الطائفة الأولى فقال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى بغت: اعتدت، والبغي: الاعتداء ومجاوزة الحد، قال الله عز وجل: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]، فإذا شرع الله لنا أن ندفع الظالم عمَّن ظُلِم، فمن باب أولى أن يكون مشروعاً للشخص نفسه أن يدفع ذلك الظلم عن نفسه.

    كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على مشروعية الدفاع عن النفس وعن العرض وعن المال، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء الرجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أريت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة)، فهذا الحديث يدل على مشروعية دفاع الإنسان عن ماله، فقوله: (لا تعطه) أي: من حقك أن تمتنع؛ لأنه جاء بغياً وعدواناً فقال: لا تعطه، قال: (أرأيت إن قاتلني؟) بمعنى: أخبرني يا رسول الله عن الحكم لو أنه أصر إلا أن يأخذ مالي بالقوة، قال: قاتله، فأحل له أن يدافع، قال: (أرأيت إن قتلني؟! قال: أنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار). فدل على سقوط حق الصائل الذي يصول على مال الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حرمة الصائل الظالم على المال فمن باب أولى أن تسقط حرمته إذا اعتدى على العرض وعلى النفس؛ لأن العرض أعظم من المال، والنفس أعظم من العرض والمال.

    كذلك ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وفيه: قاتل يعلى بن أمية رجلاً، فعض أحدهما الآخر، فانتزع يده من فمه، فسقطت ثنيته، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟ لا دية له)؛ لأنه حينما عضه اعتدى على يده، وهذا العض ليس له مسوغ شرعي، وليس هناك إذن شرعي أن يعض، فلما عض سقطت حرمة أسنانه فلما انتزع المعضوض يده -المعضوض من حقه أن يدافع عن نفسه- فلما انتزع يده حصل بهذا الانتزاع المشروع سقوط ثنية العاض، فلم يوجب عليه الضمان ولم يوجب عليه الدية. فدل هذا الحديث دلالة واضحة على سقوط حرمة الصائل والظالم إذا ترتب على دفعه ضرر، وقال: (لا دية لك) أي: لا شيء لك كما في الرواية الأخرى في الصحيح فدل هذا على أنه لا حرمة للمعتدي.

    كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه كان جالساً مع أهله فجاء رجلٌ وأصبح ينظر من خلل الباب -الفتحات التي في الباب- فأخذ عليه الصلاة والسلام في يده المرود (المكحلة) فأخذ كأنه يستهدف العين التي تنظر، كأنه يريد أن يرميه بالمرود حتى يفقأ عينه فذهب الرجل وانصرف، كان بعض العلماء يقول: لعله من المنافقين. وهذا أشبه أن يكون من أهل النفاق؛ لأنهم -عليهم لعائن الله تترى إلى يوم الدين- ما فتروا عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم حتى في عرضه؛ ولذلك كانوا يؤذونه حتى في عرضه كما في الحديث الصحيح في السير: أن كعب بن الأشرف كان يؤذي نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجن إلى قضاء الحاجة في المناصع وكانت قريبة من بقيع الغرقد. فالشاهد: أن هذا الحديث لا يشكل على بعض طلاب العلم فيظن أن الصحابة يجرءون على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهم -إن شاء الله- أبعد من ذلك، والأشبه أن يكون هذا من المنافقين؛ لأن المدينة كان فيها المنافقون وكان فيها اليهود، فالغالب أن يكون من غير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فكونه عليه الصلاة والسلام يريد أن يفقأ عينه أسقط حرمة العين، فلو قال قائل: إذا كان منافقاً سقطت حرمته في الأصل، قلنا: لكن الظاهر يوجب معاملته معاملة المسلم؛ لأنه قال: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس).

    والسنة الفعلية جاءت بإسقاط حرمة العين الناظرة، وكذلك جاءت السنة القولية عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد وغيره: (لو أن رجلاً اطلع على عورة قومٍ ففقئوا عينه لم يكن عليهم شيء)؛ لأن هذه العين -والعياذ بالله- لما خانت هانت، فحرمة المسلم تقتضي أن لا تطلع هذه العين على العورة، فلما اطلعت وتحرت وقصدت ووجد منها القصد والترصد لفعل الجريمة سقطت حرمتها وكانت هدراً، فلو أن شخصاً نظر إلى عورة شخص واسترسل بنظره ففقأ عينه سقطت حرمة هذه العين إذا ثبت بالبينة عند القاضي أنها عينٌ جائرة مسترسلة في النظر في عورته.

    وهذا الحديث يؤكد حرمة العرض؛ وأن النظر إلى العورات خيانة، والعين الخائنة أسقط النبي صلى الله عليه وسلم حرمتها، فدل على مسألتين:

    الأصل وهو: أن العين عند اعتدائها تسقط حرمتها وتكون هدراً، فلو أن شخصاً فقأها في حال اعتدائها لم يضمن، والأصل العام أن هذا الحديث يدل على أن الصائل والمعتدي على أنفس الناس وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم تسقط حرمته بهذا الاعتداء، هذا بالنسبة لدليل الكتاب ودليل السنة، وأجمع العلماء من حيث الجملة كما حكى الإجماع الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، كالحافظ ابن عبد البر ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وله كلام نفيس في مسائل دفع الصائل في مجموع الفتاوى فيحبذ لطلاب العلم أن يرجعوا إليه، وغيره من الأئمة رحمهم الله بينوا أن الصائل تسقط حرمته إذا صال على المسلم ظلماً وعدواناً، قلنا: بشرط أن يكون ظالماً، فإذا كان قد اعتدى على الشخص بحق وعدل فلا يعتبر صائلاً، ولا يأتي بحكم الصائل، وبينا أنه ينبغي على الشخص المهجوم عليه أن يحاول دفع الصائل بالأخف، فإذا لم يمكن إلا قتله جاز له قتله، وكذلك ينبغي عليه تحذيره وإنذاره كما يشترطه بعض فقهاء الشافعية -رحمهم الله- فيقول له: يا فلان اتق الله، يا فلان خف الله عز وجل، يا فلان! أناشدك الله أن تبتعد عني وأن تكفيني شرك، أن تترك عرضي، أن تترك مالي، فيناشده بالله عز وجل إن أمكنت مناشدته وينصحه ويعظه إن أمكنه ذلك، هذا بالنسبة لمسائل الصائل التي ذكرناها فيما تقدم وكلها تتعلق بالإنسان، فبقي السؤال عن الصائل إذا كان من الحيوان؟

    حكم الصائل من الحيوان

    والصائل من الحيوان تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في الكلب العقور، والمراد بالصائل من الحيوان: هو الحيوان الذي يخرج عن طوره ويكون مملوكاً للغير، وهذا يقع في بهيمة الأنعام كالبعير إذا هاج والناقة إذا هاجت، ولربما يهج الثور فيؤذي الناس وتتعرض أرواحهم وممتلكاتهم للضرر فحينئذٍ يرد السؤال عن حكم هذا النوع الصائل.

    أما من حيث الإجماع فقد أجمعوا على أن الصائل من البهائم كالصائل من الآدميين؛ لأن حرمة الآدمي فوق حرمة الحيوان، فإذا صال الحيوان وهاج وغلب على ظننا أنه سيقتل حلّ قتله، أو غلب على الظن أنه سيتلف أعضاء الناس، كأن يكون بعيراً يعض وغلب على الظن أنه سيعض صبياً وسيهجم على صغير، أو غلب على ظنك أنه سيعضك وهاج عليك ورأيت الأمارات كلها على أنه اعتداء ولا يمكن الفكاك من هذا الضرر وهذه الأذية إلا بقتله حل قتله، وبقي السؤال: هل يضمن أو لا يضمن؟ فجمهرة العلماء: أنه لا ضمان على قاتله، وقال بعض العلماء: إذا هاج فإنه يضمن بالنسبة للحيوان، وأما الآدمي فإنه لا يضمن. ففرقوا بين الآدمي وبين الحيوان، قالوا: لأن الحيوان لا يعقل والآدمي يعقل، وقتل الحيوان يجب فيه الضمان؛ لأنه من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، وهذا مذهب بعض أهل الرأي.

    والصحيح: أنه إذا هاج الحيوان وهجم على مكان أو على مدينة أو على قرية وغلب على الظن أنه يقتل أو أنه يتلف الأشياء ويكسرها فحينئذٍ يجوز قتله كما يجوز قتل الآدميين.

    أما لو قتل في هذه الحالة وذكر اسم الله عند قتله، كأن يرمي عليه سهماً أو يرميه برصاصة ويسمي الله أثناء قتله، فمذهب بعض العلماء أن القتل بهذه الطريقة يبيح أكل لحمه، فحينئذٍ يكون هذا عوضاً لصاحبه إذا فاتته نفسه أن ينتفع بلحمه، ويكون هذا دفعاً للضرر بسبب وجود الضرورة والحاجة.

    وكل هذه مسائل التي ذكرناها مبينة على قاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها)، فالمسائل التي يباح فيها دفع الصائل تقول: بشرط: أن يتقيد الشخص بقدر الحاجة.

    حكم الاستسلام للصائل

    مسألة الصائل إذا هجم على الإنسان يريد قتله أو يريد إتلاف عضو من أعضائه أو يريد تعذيبه أو يريد الاعتداء على عرضه أو ماله: هل يجوز للإنسان أن يستسلم للصائل أم يجب عليه أن يدفعه؟

    هذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل الواجب على الإنسان إذا صال عليه أحد أن يصبر وأن يحتسب الأجر عند الله عز وجل وخاصةً إذا كان الصائل مسلماً، أم أنه يجب عليه ويتعين عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة فيها تفصيل:

    أولاً: بالنسبة للاعتداء على العرض، فإذا أراد أن يزني بامرأة، فجمهرة أهل العلم على أنه إذا لم يمكنها أن تدفع ضرره إلا بالقتل فإنه يجب عليها قتله، فلا يرخص لها، إلا إذا أكرهت على وجهٍ لا يمكن معه أن تدفع عن نفسها الضرر هذا شيء آخر، أما أن يأتي بقصد أن يزني بها ولا يمكنها أن تدفعه عن الزنا إلا بقتله فيجب عليها أن تقتله؛ لأن اعتداءه على عرضها ليس بالأمر الذي يمكن تعويضه، ولا بالشر الذي يمكن دفعه أو المفسدة التي يسع الصبر عليها؛ ولذلك تقتله ويلقى الله عز وجل بمظلمتها ودمهُ هدر.

    وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله -وحكى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمه الله- فلما قتله وكان الرجل محصناً رُفِع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بعض الروايات أنه جاء إلى عمر وهو يأكل فجلس مع عمر وصار يأكل، فجاء أولياء المقتول يطلبونه بدم صاحبه، فقال يا أمير المؤمنين: (إني ضربت بالسيف بين فخذي امرأتي) رفعت سيفي وضربت فإن كان الذي بين فخذيها شيء وقتل لا أتحمل هذا، فخذ امرأتي ضربت بينه بالسيف، ففهم عمر ماذا يقصد، أي: أنني وجدت زانياً، ولم يقذف الرجل، وهذا من فطنته؛ لأنه لو قال: إني وجدته زانياً صار قاذفاً وقاتلاً؛ ولذلك قال: إني وجدت بين فخذي امرأتي رجلاً وضربت بالسيف بين فخذي امرأتي، أي: أنه كان من حقي أن أضرب في شيء ليس أمام الناس، فقال عمر : (أكما قال؟ قالوا: نعم. قال: لا شيء لكم) أي: ما دام أنه قتله، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ ولذلك الشريعة لم تفتح هذا الباب، فلو أن شخصاً قتل شخصاً وجده مع امرأته ولم يقم البينة على أنه كان يزني لقتل به، كما في الصحيحين من حديث سعد رضي الله عنه أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! الرجل يجد لُكعاً قد تفخذها رجل، أيحضر الشهود فيبرأ الرجل من حاجته أو يقتله فتقتلوه؟ ) لاحظوا السؤال: في الرواية الأخرى في الصحيح: ( إن قتل قتلتموه -أي: ليس هناك بينة تشهد- وإن ذهب يحضر الشهود يفرغ الرجل من حاجته ويمضي)، فنزلت آيات اللعان المشهورة وخص الزوج.

    قال العلماء: من حكمة الله عز وجل أنه لم يفتح هذا الباب للناس؛ لأنه بإمكان أي شخص إذا كره امرأته وكره عدواً قتل الاثنين، فجاء برجل وأدخله بيته وقتله وقتل زوجته ثم ادعى أنهما كانا زانيين؛ ولذلك يفتح على الناس باب شر، فالشريعة وضعت الأمور كلها في نصابها، فلو ادعى أنه كان يزني بامرأته وقتل امرأته والرجل لا تقبل منه هذه الدعوى ما لم يقم دليلاً بأربعة شهود على أنه كان يزني بها، فلو جاء ثلاثة شهود لم يكف ذلك، ولذلك لا بد وأن يثبت عند القاضي أنه زانٍ وأنه محصن، الأمر الثاني: حتى ولو جاء بشهود ووجده يزني بامرأته فما يقتله، وليس من حقه أن يقتله؛ لأن القتل ليس إليه وإنما هو لولي الأمر.

    ولذلك إذا قتله في هذه الحالة: وأحضر أربعة شهود على أنه كان زانياً أسقط القاضي عنه حد القصاص وأوجب عليه التعزير؛ لأنه تعدى؛ لأن الله عز وجل جعل القضاة وجعل ولاة الأمر ونصبهم لكف الناس عن بعضهم البعض، فإذا قام بنفسه وقتل فإنه يعزر، وهذا حاصل ما قيل بالنسبة للاعتداء على العرض.

    وبقي الاعتداء على النفس والمال، هل يجوز للإنسان لو جاء رجل يريد قتله، هل يجوز له أن يستسلم أو يجب عليه الدفع ولا يجوز له أن يستسلم؟

    للعلماء قولان: قال بعض العلماء: يجوز له أن يستسلم، وذلك لقصة قابيل وهابيل، حيث كان خير ابني آدم من سلم أمره لله عز وجل وفوّض أمره إليه سبحانه وتعالى.

    وقال بعض العلماء: لا يجوز له أن يستسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الرجل: (أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله). قالوا: ولأنه إذا استسلم أعانه على قتل غيره؛ ولأنه إذا استسلم أعانه على الزيادة والإسراف والإنعاف والظلم والبغي والاعتداء على أعراض الناس وعلى أموالهم، وعلى أرواحهم؛ فلذلك لا يجوز له أن يستسلم بل عليه أن يدفع هذا الظلم، فإن قتل فإن هذا يحدث عند الصائل رهبةً من الاعتداء على الناس ويخاف المعتدون الاعتداء على أرواح الناس؛ لأنه إذا جاء وقتل شخصاً وأخذ ماله، والشخص دافع فإنه يعلم أن أخذ الأموال لا يكون بسهولة، فلا يجرؤ مرةً ثانية على فعل ذلك إلا وعنده شيء من الخوف والرهبة، ففي ذلك تحقيق لمصلحة كف الظالم، قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: حجزك له ومنعك إياه نُصرةٌ له)، أي: أنك إذا حجرته عن الظلم فقد نصرته، أي: نصرته على شيطانه وعلى نفسه الأمارة بالسوء؛ فلذلك قالوا: يجب الدفع، والحقيقة القول بأنه يجب على الإنسان أن يدافع يحتاج إلى شيء من التفصيل، ففي بعض الأحوال إذا كان الصائل شخصاً معروفاً وغلب على ظن الإنسان أنه لو قتله فسيدفع عن الناس شره؛ لأنه شخصٌ معروف الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأسرف وأمعن وغلب على ظنه أنه إذا استسلم سيفعل بغيره مثل ما فعل به، فلا شك أن تعين مواجهته وكفه وحجزه لا شك أنه أقرب إلى الصواب، والقول بالوجوب في مثل هذه الحالة أشبه.

    وعكسه إذا كان شخصاً يمكن استصلاحه ويمكن التخلية بينه وبين المال حتى يستطيع بعد ذلك أن ينصحه أو يذكره أو يستدرجه فهذا أمر يكون فيه سعة، وقصة قابيل وهابيل شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، أي: أن النصوص واضحة الدلالة؛ لذلك يقول بعض العلماء: إن الصائل ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: إذا كان كافراً، فالقول بوجوب مقاتلته ودفعه أنا لا أشك في رجحانه؛ لأن استسلام المسلم ذلة ومهانة، ولا يجوز للمسلم أن يستسلم لمثل هذا، بل عليه أن يدفعه ويقاتله ويجاهده لما في ذلك من إعزاز لدين الله وإعلاء لكلمة الله وفي ذلك بالغ الرضا من الله سبحانه وتعالى للعبد؛ لأن الله يحب إغاظة الكافر ويحب إهانته؛ ولذلك جعل الله ثواب المجاهدين أنهم ما وطئوا موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم، فكتب لهم الأجر في ذلك، ففي هذه الحالة وأشباهها لا شك أن القول بالوجوب يتعين، وأما إذا كان مسلماً فالأمر بالتفصيل فيه أشبه.

    1.   

    حكم كسر آلات اللهو

    قال رحمه الله: [وكسر مزمار].

    المزمار هو: آلة الزمر، فأحل الله لعباده الدُّف، وثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي نذرت: إن سلمه الله ورجع من غزوته أنها تضرب على رأسه بالدف، فلو كان ضرب الدف حراماً لما حل الوفاء بالنذر، وقول عمر : (أمزمار الشيطان؟) وإنكاره لذلك لا يدل على التحريم؛ لأنه لا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسكت على محرم حتى يأتي عمر ويتكلم بإنكار الحرام، إنما المراد أنه خلاف الأولى، وأما من حيث الدليل فلا يشك في استثناء هذا النوع؛ لأن الله لا يحل لعباده الحرام وضرب الدّف النص فيه صريح.

    وننبه على مسألة يخطئ فيها بعض المنتسبين إلى العلم وبعض الإخوان من باب الحرص على الخير، ولكن ينبغي للمسلم أن يتريث وألا يحرم ما أحل الله؛ لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، وهذا أمر ليس من السهولة بمكان، لأنه قولٌ على الله بدون علم، ففي بعض الأعراس إذا ضربت النساء بالدفوف وسمع ضرب الدف من النساء أنكر بعض طلاب العلم ذلك، والواقع أن الشريعة قصدت أن يرتفع صوت الدف حتى يسمع في البلد والقرية ويعلم الناس أن فلاناً تزوج فلانة: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، بمعنى: أن سماع هذا الدف مقصود، والمراد به: أن يشتهر النكاح، وهذا هو الفرق بين النكاح والسفاح؛ لأن الزنا يكون بالسر، ولكن الله شرع النكاح الذي استحل به المؤمن عصمة المؤمنة ودخلت في عصمته بكلمة الله عز وجل واستحل فرجها بذلك، فيعلن ويشهر ويسمع الناس هذا الدف فيتساءلون ما هذا؟ فيقال: زواج فلان من فلانة. فإذا جاء الولد وجاءت الذرية علموا أن فلاناً قد تزوج فلانة فيثبت نسبه؛ ولذلك النكاح على الإشهار، والزنا على الاستتار.

    أما أصوات النساء بالغناء فلا ترفع حتى يسمع الرجال ذلك؛ لأن صوت المرأة فتنة، ولا يجوز أن ترفع المرأة صوتها إلا من حاجة، والدليل على ذلك: أن الله عز وجل شرع للمرأة إذا أخطأ الإمام أن تصفق ولم يحل لها أن تتكلم كما قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فإذا كان هذا في وقت الحاجة بأن تفتح المرأة على الإمام وهي في الصلاة موطن الخشوع وموطن الخضوع فكيف بغيره؟! ولذلك قلّ أن تسمع المرأة ولو كانت مستفتية إلا وجدت فيها لحن القول، ووجدت الرجل إذا سمع صوتها افتتن؛ لأن هذه فطرة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها ولا يستطيع أحد أن يدفعها ويمنعها، فالمرأة من حيث هي صوتها فتنةٌ للرجل وهذا أمر جبل الله عز وجل عليه الذكر والأنثى، فضرب الدف ينبغي ألا يسحب غناء النساء المسموع، أما ضرب الدف فلا إشكال في جوازه وحله؛ لأن الله تعالى لا يحل لعباده الحرام، ولا يجعل شرعية هذا النكاح ويطلب إعلانه بهذه الوسيلة إلا وهو مما أذن الله عز وجل به.

    قال بعض العلماء: إن هناك فرقاً بين الدف وبين آلات المعازف، فإن إغراء آلات المعازف بالفساد أبلغ وأقوى من الدف، والدف أقل أن تجد فيه ذلك؛ ولذلك يكون الدف حال الرقص بالسلاح فيكون مع القوة والحمية، ولكن لا تكون معه آلات العزف، وإذا جاءت آلات العزف مع الرقص بالسلاح فإنها لا تتفق معه في خشونته وفيما يكون فيه من إيثار الحمية والحماس؛ ولذلك استثني عن غيره، والدف يكون من جلد الغنم وهو المعروف إلى زماننا وهو موجود، وهذا هو المستثنى.

    وأما ما عدا الدف من آلات الزمر والغناء فإنها محرمة، وقد تقدم معنا بيان النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع العلماء، وكلام الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وللإمام ابن القيم رحمه الله بحثٌ نفيس في إغاثة اللهفان فقد أجاد فيه وأفاد، وبين فيه النصوص النقلية والعقلية والمفاسد المترتبة على سماعه، وكذلك حكى أقوال أئمة السلف كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم في ذلك، فهذه الآلات إذا ثبت تحريمها؛ فإنها لا حرمة لها، فإذا أتلفت فإنه لا ضمان على متلفها إذا أتلف ما يكون به الغناء، وأما المادة فلا تتلف، فلو كانت مصنوعة من خشب، فإنه إذا كسره فلا ضمان عليه، ثم لو أحرق الخشب ضمن قيمة الخشب؛ لأن نفس المادة يمكن تصنيعها بخير وشر، فإن صنعت بشر فإنه يقتصر على إتلاف الفاسد منها، وهكذا الأشرطة، فلو كان الشريط مشتملاً على الغناء فإنه لا يكسر وإنما تمسح مادة الغناء؛ لأنه يمكن أن يوضع عليه ما هو مفيد، فإذا كسره ضمن قيمته بدون الغناء، وهذا هو الذي عليه جمهرة العلماء رحمهم الله من التفصيل، فالمواد التي تصنع ويتخذ منها ما هو حرام إن أمكن استصلاحها واستبقاؤها وجب ضمان أصلها الذي هو قيمة العين مجردةً من المحرم، ويبقى المحرم لا ضمان فيه، وليس على متلفه شيء.

    1.   

    حكم كسر الصليب

    قال رحمه الله: وقوله: [وصليب].

    وكذلك كسر الصليب، فالصليب يشرع كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح عنه في حديث الفتن والملاحم أن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير)، هذا الحديث في الصحيحين، وهو يدل على أنه لا حرمة للصليب، وعلى هذا: فلو كسر صليباً فلا ضمان على كاسره.

    1.   

    حكم كسر آنية الذهب والفضة

    قال رحمه الله: [وآنية ذهب وفضة].

    فلو كسر آنية الذهب والفضة؛ فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الله عز وجل حرّم على المسلم اتخاذ آنية الذهب والفضة، ففي الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، فهذا الحديث الصحيح أجمع العلماء على العمل به وأنه لا يجوز للمسلم أن يصنع آنية من ذهبٍ أو فضة، ولا يجوز له أن يأكل في آنية الذهب والفضة.

    وقال جمهرة العلماء: يستوي أن تكون الأواني من الذهب الخالص أو تكون فيها نسبة من الذهب، سواء كانت أكثر أو كانت مساوية أو كانت أقل، فالأكثر مثل: أن يصنع إناء ثلاثة أرباعه من الذهب والربع من الحديد أو من الزجاج، والأقل العكس، يكون الإناء زجاجاً ثم يطلى بالذهب أو يجعل حرف الإناء من الذهب، فكل ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم في الحكم فقليله وكثيره حرام حتى يدل الدليل على الاستثناء، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام إلا المضبب، والمضبب بالفضة ثبت فيه حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (انكسر قدحه فسلسله بفضة)، وبينا شروط ذلك في باب الآنية، فإذا ثبت أن أواني الذهب والفضة لا يجوز اتخاذها، فلو أنه رأى إناء ذهب فكسره فلا ضمان عليه؛ لكن الذهب يبقى ملكاً لصاحبه؛ لأن الذهب يمكن تصنيعه فلو كسر هذا الإناء فلا شيء عليه؛ لأنه أتلف أمراً محرماً، وكذلك إذا كان مصنوعاً من الفضة فإنه إذا أتلفه لا ضمان عليه.

    1.   

    حكم كسر آنية الخمر غير المحترمة

    قال رحمه الله: [وآنية خمر غير محترمة].

    وكذلك كسر آنية خمرٍ يُشرب فيها الخمر، فإذا كسرها فإنه لا ضمان عليه، وقوله: (غير محترمة) استثناء: أخرج -رحمه الله برحمته الواسعة- الأواني إذا كانت أواني خمر أذن الشرع بها، فعندنا نوعان من الأواني: آنية خمرٍ لم يأذن الشرع بها، وهي آنية الخمر التي يشرب فيها المسلم، فهذه لا حرمة لها، فلو كسرها لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يريق الخمر وأن يكسر الدنان -وهي: أوعية الخمر والآنية التي تخمر فيها- وكانت للأيتام فأمر بكسرها مع أنها ملك للأيتام، ومال اليتيم من أشد الأموال التي ينبغي الحفاظ عليها، ومع ذلك أمر بكسره، فدل على أن آنية الخمر لا حرمة لها، النوع الثاني: إذا كانت محترمة، وذلك إذا كانت من أواني الذميّ، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين وعنده في البيت آنية خمر يشرب بها مستتراً ولا يظهرها ولا يشرب أمام الناس كانت محترمة، فإذا شرب بها أمام الناس سقطت حرمتها، فحينئذٍ يجوز إتلافها، وإذا أتلفت فلا ضمان عليها؛ لأنها آنية خمرٍ غير محترمة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم سماع الدف وضربه للرجال

    السؤال: هل ضرب الدف مقيدٌ بالأعراس فقط أم يتعدى إلى الأعياد والمناسبات؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

    فمن حيث الأصل الشرعي في قوله عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، يدل على أن ضرب الدف مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحلّه وأذن به، وصحيح أنه أذن به بالنكاح لكن يقال: إنه من باب الإعلان، وإنما يستقيم تخصيصه بالنكاح إذا كان الأصل تحريم الدف، فجاء استثناء النكاح، وهذا معروف في الأصول عند العلماء رحمهم الله، أنه لا يقال: إن الشيء حرام ولا يجوز إلا في حالة كذا، إلا بدليلين؛ الدليل الأول يقتضي أن الأصل تحريمه، والدليل الثاني يستثني، فتقول: الأصل حرمته إلا ما دلّ الدليل على إذنه وحله وهي حالة الضرورة أو حالة الجواز فيتقيد بها، فيرد السؤال: هل الأصل حل الدف أو تحريمه؟ فلما كان الدف يختلف عن آلات الزمر والغناء، يختلف من جهة طبعه ويختلف من جهة تأثيره، وقد بينا هذا وأشرنا إليه، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم رحمةُ الله عليهم واختاره بعض مشائخنا رحمهم الله أن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه وأنه باق على البراءة الأصلية، خاصةً وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره للنكاح فقال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، فاختار له المباح وترك المحرم على الأصل، فدل على أنه مباحٌ وجائزٌ من هذا الوجه.

    وقال بعض أهل العلم: أن الدُّف الأصل تحريمه، قالوا: لأنه من آلات الغناء، وآلات الغناء والمجون تثير الفاحشة وتدعو إليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل لهوٍ باطل)، فنقول: إن الأصل تحريمه حتى يدل الدليل على جوازه، فجاء الدليل من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)، فنخصه بالنكاح، وهذا مُشكل؛ لأنه لو كان الأصل تحريمه لما أحله في نذر المرأة، فالمرأة نذرت أن تضرب على رأسه بالدف، فلو كان الأصل تحريمه لكان عليه الصلاة والسلام -وهو الذي لا يأذن بالحرام على رأسه- قال لها: يا أمةَ الله! غني ولا تضربي بالدف، فبالإجماع لكن كونه يأذن به في النذر، فبالإجماع أن النذر لا يجب الوفاء به إذا كان بمحرم، والشريعة لا تتناقض، ولا يمكن أن يأتي ويقول لها: أوفي بنذرك؛ لأن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إذا كان محرماً فلا يجب الوفاء بمحرم.

    فدل على جواز الضرب به إذ لا يمكن أن يحل الله عز وجل لعباده شيئاً محرماً.

    فهذه مسألة خلافية، فلو قال شخص بتحليله وضرب به تأويلاً للسنة فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه؛ لأن له وجهاً من السنة وله سلف يقولون بقوله، وإذا قال بالتحريم فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه، بل يفعل ما يعتقده.

    وانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، لو كان الدف الأصل تحريمه وجاءت المرأة تضرب على رأسه، فهل يترك أذنيه تسمع الدف وهو أورع الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وهو أتقى الناس لله عز وجل؟ ثم أمر بالوفاء بالنذر، فهل يسكت عليه الصلاة والسلام ويتركها؟ وما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها، فلو كان الأصل حرمة سماعه وحرمة ضربه لما أذن به عليه الصلاة والسلام وهو أتقى الخلق لله؛ ولذلك لا ينبغي أن تفخم هذه المسألة أكثر مما تستحق بأن يشنع على من يحرم أو يشنع على من يحل، فمن سمعه يتأول الحل فلا شيء عليه، ومن تركه يتقي الله عز وجل ويطلب الأورع لدينه فلا شيء عليه، لكن ننبه على مسألة: وهي أنه حتى ولو قلنا بحله فكون الإنسان يسمع الدف قائماً قاعداً ويجعل الدف دائماً عنده ويجعله سلوته لا شك أن هذا يؤثر على نفس الإنسان، فالضحك والمزح مباح، ولكن الإنسان إذا أكثر من سقطت مروءته ومات قلبه واستخف أمره نسأل الله السلامة والعافية، فحل الدف لا يقتضي من الإنسان أن يتوسع فيه أو أن نطبع الأشرطة ونعتني بالأشرطة التي فيها الدف ونتوسع في ذلك ونشغل الأخيار والصالحين بها! لا. بل ينبغي علينا أن نسمو إلى الأكمل وإلى الأفضل -حتى على القول بحله- وأن نشغل الناس بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وعلى هذا لا تفريط، فلو أنشدت الأناشيد الحماس التي تدعو إلى الجهاد في سبيل الله وتذكر بالسلف الصالح وأمجاد الأمة فهذا شيء ليس فيه من معارضة، وهو متفق مع الأصول الشرعية ويحدث في النفس محبة للخير ولبذل النفس في سبيل الله عز وجل، فكل هذا مندرجٌ تحت أصول شرعية تقره ولا تنكره، وتثبته ولا ترفضه.

    وعلى هذا: فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يبقى على الأصل، لكن لا يتوسع في هذا الأمر كما سبق وأن بينا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم إتلاف عضو غير عين المعتدي بالنظر

    السؤال: بالنسبة الشخص المعتدي بالنظر، لو أتلف الشخص المعتدى عليه عضواً غير العين، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب: إذا أتلف غير النظر فإنه يضمن، ولا يحل له إلا إتلاف ما حصل منه الاعتداء، فإذا سرقت اليد تقطع اليد وما تقطع الرجل؛ لأن اليد هي التي سرقت، وبناءً على ذلك: الاعتداء وقع بهذا العضو فسقطت حرمته؛ لأن الجناية وقعت به، والقصاص أحله الله عز وجل والاعتداء في مقابل الاعتداء أحله الله عز وجل بشرط سقوط الحرمة للعضو الذي يقتص منه، والله تعالى أعلم.

    مسائل سجود السهو

    السؤال: نرجو منكم توضيح مسائل سجود السهو في الصلاة؟

    الجواب: السهو لا يخلو من ثلاثة أحوال كلها مندرجة تحت أصلين: التحقق والشك؛ فإما أن يتحقق الزيادة أو يتحقق النقص أو يشك أنه زاد أو انتقص، ثم كل هذه الصور لا يخلو المصلي فيها: إما أن يكون إماماً أو مأموماً أو منفرداً.

    فإذا سها في صلاته فزاد فيها وتحققت الزيادة وجب عليه أن يسجد لله سهواً، ويكون سجوده بعد السلام لا قبله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي قال رضي الله عنه وأرضاه: وأنبئت أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (ثم سجد سجدتين بعد ما سلم)، وهنا جهالة المنبئ لا تضر؛ لأنه صحابي، ولذلك عن صحابي وبذلك هذا الحديث حجة لطائفة من أهل العلم الذين يختارون التفصيل، فيقولون: إن ما كان من الزيادة يكون بعد السلام، ويؤيد هذا النظر الصحيح فإن الزيادة خارجة عن الصلاة فكان المنبغي جبرها بخارجٍ عن الصلاة لا بداخل فيها.

    وأما إذا تحقق النقص فإنه يسجد قبل السلام لا بعد السلام لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه في صلاة المغرب، وحديث عبد الله بن مالك بن بحينه في الصحيحين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عن التشهد الأول وسبح له الناس فأشار إليهم من وراء ظهره أن قوموا فقاموا، قال رضي الله عنه: ثم جلس للتشهد فقبل أن يسلم سجد عليه الصلاة والسلام سجدتين ثم سلم)، فهذا يدل على أن النقص يجبر قبل السلام.

    أما إذا شك هل زاد أو نقص فيبني على اليقين، فإذا شك في عددها بنى على الأقل، فإذا شك هل هي ثلاث ركعات أو أربع بنى على ثلاث، وإذا شك في قولٍ هل قال: سمع الله لمن حمده أو لم يقل، يقول: سمع الله لمن حمده إذا كان في وقت التدارك، أو شك هل سبح في سجوده أو لم يسبح بنى على أنه لم يسبح، هذا إذا كان الموضع يمكن فيه التدارك، أما لو فات الموضع ولم يمكن التدارك للواجبات فإنه يبني على أنه لم يفعلها، فيسجد قبل السلام على ما ذكرنا، إذاً: إذا تحققت الزيادة سجد بعد السلام، فإذا تحقق النقص سعد قبل السلام، وإذا شك بنى أنه على لم يفعل ثم يسجد قبل أن يسلم سجدتين لما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين، فليبنِ على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثاً فليصل اثنتين ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان ما صلاه أربعاً -كما في رواية الصحيح- فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان ما صلاه خمساً -أي: الركعة التي زادها قطعاً للشك - فالسجدتان تشفعانه) بمعنى: تلغي الزيادة.

    بقي السؤال: ما هو الشيء الذي ينقص وما هو الشيء الذي يزيد؟

    يشترط في الشيء حتى يثبت السهو به أن يكون من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، بمعنى: الزيادة إما أن تكون بقول وإما أن تكون بفعل، فالذي يزيد في الصلاة إما أن يزيد قولاً وإما يزيد فعلاً، وإذا زاد قولاً أو فعلاً فلابد أن يكون هذا القول من جنس أقوال الصلاة، ويشترط أن يكون هذا الفعل من جنس أفعال الصلاة، فلو أنه زاد فعلاً ليس من جنس الصلاة، مثل: كان يصلي ففتح الباب، ففتح الباب ليس من جنس الصلاة، فحينئذٍ لا يسجد وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.

    والفعل قد يكون من جنس أفعال الصلاة، مثل: أن يزيد ركعة أو يزيد سجدة، فهذا من جنس أفعال الصلاة.

    أما إذا زاد قولاً ليس من جنس أقوال الصلاة فحينئذٍ يرد التفصيل: قد يوجب بطلان الصلاة وقد لا يبطلها، على التفصيل في مسألة الكلام في الصلاة.

    وأما إذا كانت الزيادة بالقول أو الفعل من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، فلا يخلو القائل من أن يكون إماماً أو مأموماً أو منفرداً، فإذا كان إماماً أو منفرداً فحكمه واحد، فإذا زاد في الصلاة أو انتقص منها أو شكّ فَعَلَ الشيء الذي ذكرناه على التفصيل، لكن إذا كان مأموماً وزاد وراء الإمام أو انتقص فإن الإمام يحمل عنه تلك الزيادة وذلك النقص بشرط: أن يكون من الواجبات لا من الأركان؛ لأن الأركان لا يدخل فيها السهو بالنسبة للنقص، فمن نقص من صلاته ركوعاً أو سجوداً أو لم يقرأ الفاتحة، فهذا يجب عليه أن يقضي ركعةً كاملة ولا يكفي أن يجبرها سجود السهو، فالذي يصلي وراء الإمام وينسى الفاتحة يجب عليه قضاء ركعة، والذي يصلي وراء الإمام وينسى الركوع أو السجود يجب عليه قضاء ركعة كاملة، ولو صلى وراء الإمام ولم يقرأ الفاتحة يقضي ركعة إلا في الأحوال المستثناة، لكن لو أنه ترك واجباً كما لو جاء وراء الإمام فقال الإمام: سمع الله لمن حمده. فرفع رأسه ونسي أن يقول: ربنا ولك الحمد، فقال الإمام: الله أكبر، فسجد معه فتذكر أنه نسي التحميد، نقول: يحمل الإمام عنك هذا السهو، فالإمام يحمل الواجبات، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الإمام ضامن)، والضمين هو: الحميل، فقوله: (الإمام ضامن) المراد به: أنه يحمل، وإذا كان الإمام يحمل: إما أن يحمل أركاناً أو واجبات أو سنناً، فلما علمنا أن الإمام لا يحمل الأركان وهذا بإجماع العلماء، علمنا أن المراد به إما الواجبات أو السنن التي لا يجب فعلها، ففهمنا أنه يحمل الواجبات ولا يحمل الأركان، وعلى هذا: فلو سها وترك واجباً قولياً أو فعلياً؛ فإنه يسجد للسهو ضماناً لهذا النقص إماماً ومنفرداً، وأما المأموم فإن الإمام يحمل عنه، والله تعالى أعلم.

    نصيحة تخص طلاب العلم

    السؤال: أنا أطلب العلم ولكن بعض الأحيان يشق عليّ وأشعر أني لم أفهم شيئاً وخاصةً عند ذكر الخلافات فما هو الطريق الصحيح؟

    الجواب: لا بد من التعب، والله تعالى يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، والعلم هو أثقل شيء؛ لأنه مستمد من الوحي، والله عز وجل لما أوحى إلى نبيه أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت، وكان إذا نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في شدة الحر أو في شدة البرد يتصبب جبينه عرقاً -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وأسند إلى أبي هريرة رضي الله عنه وفخذه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحي فكادت فخذ أبي هريرة أن تنفصم من شدة الوحي الذي ينزل عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

    وفي الصحيح من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فنزل عليه الوحي فغطي عليه الصلاة والسلام، وكان رجلٌ يقول لـعمر : (أحب أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه) فكشف عن وجهه الثوب فإذا هو يغط كغطيط البكر من الوحي، وهذا مثل عند العرب: أن البكرة من الإبل إذا غطت من شدة ما تجد من اللأواء، قال: يغط كغطيط البكر من شدة ما يجد عليه الصلاة والسلام من الوحي، فهذا يدل على أن الوحي لا يؤخذ بسهولة؛ ولذلك قالوا في الحكمة: (من كانت له بدايةٌ محرقة، كانت له نهايةٌ مشرقة) وقال حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه: (ذللت طالباً وعجزت مطلوباً) فعليك بالجد والاجتهاد في التحصيل، ولما كانت مراتب العلم والعلماء عالية ومنازلهم سامية في الدنيا والآخرة الباقية جعل الله عز وجل سبيل العلم عسيراً صعباً ومشقة وعناء.

    طالب العلم يكدح وينصب في طلب العلم وهو في بداية الطريق، فيجد من المشقة والمثبطات والمخذلات ما الله به عليم، حتى إذا صار عالماً وضبط علمه، أصبحت في رقبته أمانة ومسئولية أن يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرشد الحائر ويدل التائه وكلهم في رقبته وأمانة عليه، أمانة ومسئولية يسأل عنها بين يدي الله جل جلاله ويشفق على نفسه فيحمل هموم التعليم والتوجيه، فيأتيه الجاهل بجهله والسفيه بسفهه، ويحتقر ويؤذى، ومع ذلك: لو أن رجلاً تصور مقدار ما يحمله العالم وهو يحضر درسه، هل يحضر الدرس أو يستعد لأسئلة الناس وإشكالاتهم أو جهل الناس أو تجاهلهم أو الكلام الذي يقوله إذا فُسّر على غير ظاهره أو حُمِل على غير محمله، فكل هذا يحمله؛ لأن العلم كله عناء؛ لأن وراءه الجنة الغالية والسلعة الزاكية؛ لأن الله اختارها للعلماء: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فهم أهل التقوى وهم أهل الرضا.

    فالذي يريد أن يطلب العلم لا يمكن أن يكون من أهل العلم ومن طلاب العلم بحق، إلا إذا جعل روحه في كفه، وجدّ واجتهد غاية جهده وبذل ما يستطيع بذله وصبر واصطبر، فإذا كان في بداية الطريق وهو طالب علم لا يستطيع أن يصبر في مجالس العلم فكيف غداً يسافر للناس؟! وكيف غداً يصبر الساعات على الفتاوى والمسائل التي فيها حل الفروج وفيها حل الدماء وحل الأموال؟! كيف يصبر على هذا كله؟ وكيف يسهر الليالي وهو يدارس العلم ويذاكره حتى لا يخطئ ويزل لسانه؟ كل هذا يحمل همه طالب العلم.

    العالم لا بد له من التعب، فالله جل جلاله لحكمته وعلمه بخلقه وتدبيره سبحانه وتعالى لعباده جعل بدايات الطريق دائماً لطلاب العلم في تعب ونصب حتى يميز الخبيث من الطيب، فيا لله من أطيب الطيبين الذي جدّ واجتهد فأصبحت سآمة العلم له انشراحاً وأنساً ولذة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله.

    كان طالب العلم في القديم يهان ويتعب وينصب وهو غريب عن بلاده ووطنه، يسافر من أجل حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذهب إلى باب العالم وجد الناس يقتتلون عند أبواب العلماء لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت هناك الكتب مطبوعة، بل كان الحديث في الصدور لا في السطور، وكانت صدور العلماء جنة وروضة لهذا العلم، فكانوا يكدحون ويتعبون، يقفون على أبواب العلماء، ويزدحمون ويؤذون ويتساقطون ويدفع بعضهم بعضاً ويجلي بعضهم بعضا، وكل ذلك من أجل بلوغ العالم، فإذا بلغوا العلماء وأخذوا عنهم حملوا هم ضبط الكلام الذي يقال، ثم إذا قيل لهم حملوا هَمَّ مراجعته.

    كان أبو عبيد القاسم بن سلاّم الجمحي رحمه الله برحمةٍ واسعة إماماً من أئمة العلم والعمل، وكان آية في علم القراءات، آية في علم التفسير، آية في علم الحديث ورواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية في الفقه أبو عبيد القاسم بن سلاّم آية في العلم والعمل والصلاح والتقوى، وقد كان له أتباع، فيحدث عن نفسه في طلب العلم: أنه كان يسافر ويتغرب إلى بلادٍ بعيدة، وكان يذهب من الصباح الباكر فيجد العناء والمشقة، وإلى آخر الليل وهو يجمع للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسأل الله العظيم أن ينور قبره، وأن يعظم أجره، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه، هذا العالم لما تقرأ كتبه وما خلفه للأمة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن الفقه ومن العلم الزاكي المليء بالضبط والإتقان تعرف أنه تعب وجد واجتهد، يقول عن نفسه: كنت أتعب وأكدح حتى لا يأتي منتصف الليل إلا وقد سقط منه كل عضو، لكن يقول: فإذا تذكرت العلم الذي حزته والحديث الذي جمعته هانت عليّ تلك المصائب. كانوا ناصحين للأمة.

    طالب العلم حينما يتفكر ويتدبر أنه ربما يكون وحيد أهله أو وحيد مدينته، أو وحيد مصره وبلده، فالكل يرجع إليه، حينما يتذكر أنه قد يمسي يوماً من الأيام ووراءه أمة، إما أن يقودها إلى الجنة أو إلى النار فحينئذٍ يشفق على نفسه، حينما يتذكر أن هذه الكلمة ربما يقف بها بين الجنة والنار.

    هناك مسائل كنا نسمعها في الصغر وما كنا نظن أن تكون لها أهمية، ثم وجدنا لها من عظيم البلاء والنفع ما الله به عليم، والله نشهد بذلك من كل قلوبنا رأيناه ولمسناه وحدثنا به العلماء رحمهم الله، فلا تتهم العلم بشيء، وإذا وجدت شيئاً صعباً فاجتهد أن تضبطه.

    عليك -يا طالب العلم- أن تعلم أن العلم مراتب، فإذا كنت في بداية الطريق فلا تشتغل بالخلاف وإنما خذ زبدة القول وخذ القول الراجح بدليله، ونبه على أن المسألة خلافية على أصح القولين أو على أصح ثلاثة أقوال تنبيهاً باختصار، فإذا انتهيت من الدرس أخذت ما رجح في نظر شيخك واعتنيت بدليله ولقيت الله بالدليل، فإذا بلغت مرتبة أعلى أمكنك فيها أن تحصل الأدلة والردود والمناقشات وأن تعرف ما لم تطلع عليه من الأدلة فحينئذٍ حي هلاً، وانتقل إلى مرتبة المقارنة والخلاف وإلا اقتصر على ما ذكرته لك من القول الراجح ولا تسأم ولا تمل، فالله أعلم كم في هذه الحروف من درجات، وأجورٍ وحسنات.

    ولا يصبر الطالب على العلم ويتحمل مشاقه إلا إذا صلح قلبه بالإخلاص لله جل جلاله، ولا يمكن أن يجد الإنسان هذه اللذة إلا إذا جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه، فتعلم لله وعلم في الله وجلس في مجالس العلم لله وفي الله وابتغاء رحمته، فلربما مجلسٍ واحد تغفر فيه ذنوب العبد، وفي الحديث القدسي: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وإذا أحب الإنسان أن يجد ويجتهد في العلم فليحرص على الإخلاص، وإذا أصبحت في كل دقيقة وكل ثانية تراقب الله جل جلاله وتقصد من مجلسك واستماعك وكتابك ومذاكرتك وجه الله جل وعلا زكاك ربك وبارك لك في علمك، فصار قليله كثيراً؛ ولذلك قال بعض السلف: (كم من عمل يسير عظمته النية)، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ قلوبنا بالإخلاص لوجهه وابتغاء ما عنده، وأن يعفو عنا ويسامحنا فيما يكون من التقصير في إخلاصنا وإرادتنا لوجهه، والله تعالى أعلم. س

    توجيهات للآباء في تربية الأبناء

    السؤال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته) فرب الأسرة مسئول عن أسرته، فما هو توجيهكم لكل ربّ أسرةٍ في هذه الإجازة الصيفية؟

    الجواب: إن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على الإنسان بنعمة الأهل والولد وأراد أن يبارك له في تلك النعمة وأن يتممها ويكملها، رزقه خوفه وتقواه سبحانه وتعالى، فاستشعر المسئولية وأحس بالأمانة، فجدّ واجتهد أن يأخذ بحجزهم عن النار، وأن يقيمهم على سبيل الأخيار حتى يكون سعيداً بأداء أمانته ورعايتها على الوجه المطلوب، فالأولاد أمانة، والأهل والزوجة أمانة في عنق الإنسان ومسئول عنها أمام الله جل جلاله، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (والرجل راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، هذه الأمانة والمسئولية فيها جانبان:

    الجانب الأول: يتعلق بالدين وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد.

    والجانب الثاني: يتعلق بالدنيا، أما الذي يتعلق بالدين: فهناك فرائض وواجبات ينبغي أن يعلمها الأبناء والبنات، وأن ينشئ كل واحد من الوالدين أولاده على معرفة هذه الحقوق والواجبات، وأن ينشئ الأبناء على القيام بها على الوجه المطلوب، سواء كانت هذه الحقوق لله جل جلاله أو كانت الحقوق للناس، فيبدأ كل من الأب الصالح والأم الصالحة بحق الله جل جلاله، فيعلم الابن الصلاة، ولا يقف الأمر عند التعليم بل ينبغي أن يحببها إلى قلبه، وأن يهيء كل الأسباب حتى تصبح الصلاة قرة عين الولد، ليأنس إليها ويرتاح إليها ويحبها ويحب أداءها والقيام بها، ويكون الأب وتكون الأم قدوة للأبناء والبنات في ذلك.

    من حق الله جل جلاله على الوالدين أن ينشأ الأولاد على المعرفة بالله سبحانه وتعالى من توحيده والإخلاص لوجهه والرهبة والخوف منه سبحانه، فالبيت المسلم هو البيت الذي نُشئ أولاده على ألا يكون في القلب أخوف للابن من الله جل جلاله، ولا أحب إليه من الله سبحانه وتعالى، وهذا كله يكون بالكلمة الطيبة والنصيحة والقصص المؤثرة، فالأم قد تقص على بناتها قصة فيها عبرة تزيد من الإيمان، والأب قد يقص على ابنه قصة تزيد من يقينه بالله سبحانه وتعالى.

    كان أبناء المسلمين يتربون على الكتاب والسنة ويتربون على أيدي الآباء الأمناء الأتقياء المخلصين الأوفياء الذين يربون على مكارم الأخلاق ومحاسنها من الشيم والوفاء والكرم، وكان الطفل من صغره يعوّد كيف يجلس في المجلس، وكيف يستقبل الضيف وكيف يكرمه وكيف يخاطبه، فكان يعود على مكارم الأخلاق وينشأ نشأة حميدة زاكية في حضن أبٍ وأمٍ يخاف كلٌ منهما ربه، ويستشعر كل منهما بمسئوليته، فأصبحت الأمة كالحلقة المتصلة، كلما ذهب جيل جاء جيلٌ مثله، وكلما ذهب رعيل جاء رعيل مثله أو يقاربه فكانت الأمة بخير، فلما تخلى الآباء والأبناء والأمهات عن واجب التذكير بحق الله جل جلاله وحقوق العباد ورعاية أمر الدين وغرسه في نفوس الأبناء ضاعت الأمة.

    الابن يحتاج إلى أن يُعلّم حقوق الناس، فتبدأ أول شيء بتعليمهم حقوق الوالدين، فالأب يحرص على أن الابن يكون أبر الناس بأمه، ويغرس في قلبه حب الأم وإكرامها وإجلالها، والأم أيضاً تغرس في قلب البنت والابن حب الوالد وإكرامه، وهذا يحتاج إلى فعل وتطبيق وقدوة، فلا يمكن أبداً أن يتعلم الابن البر وهو يسمع الأب يسب الأم، ولا يمكن يتعلم إكرام الأم وهو يرى أول من يهين الزوجة زوجها، وكيف يتعلم الإحسان إلى والدته وهو يراها تذل وتضرب أو يصرخ في وجهها أو تسب أو تشتم أو تعير بأهلها وقرابتها، فتتدمر معاني الكمال في نفسية الأبناء والأطفال خاصة في الصّغر.

    كذلك الابن كيف ينشأ باراً بأمه وهي تعوده على إهانة أبيه، ودائماً تشتكي من أبيه أمامه، وتربي في نفس أبنائها وبناتها من الصغر الحقد على والدهم في الكبر؟ كل هذا دمّر الأمة وشتت شملها ودمّر المجتمعات، فالمجتمعات تقوم على طفل صغير، ما من عقلاء ولا حكماء في قديم الزمان ولا حاضرهم يريدون أن يبنوا مجداً إلا وابتدءوا من الصفر، فلم يستهينوا بالطفل حتى ولو كان في مهد الطفولة فلا يستهينون به؛ لأن نظرات الطفل محسوبة، سمعه محسوب، كلامه محسوب، كل شيء يراه ويسمعه يؤثر على التربية والسلوك.

    كذلك يعود الأبناء والبنات على إكرام الجار، وعلى إكرام الضيف، ويعوّدون على صلة الأرحام، ويعوّدون الوفاء، وعلى محاسن العادات والأخلاق، وأول من يجني هذه الثمرة هما الوالدان، يجنيانها في الدين والدنيا والآخرة، أما في دينه: فعظم أجره عند الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30]، والله إن من أعظم الإحسان ومن أعظم الخير -ليس لك أنت في بيتك بل للأمة جمعاء، وليس في مجتمعك فقط بل للأمة جمعاء- أن تخرج لهم ابناً كاملاً في بنوته، ورجلاً كاملاً في رجولته، وأن تخرج بنتاً صالحة تكون أماً صابرة مربية، فربما ينشأ على يديها رجلٌ يقود أمّة بالخير والسداد.

    إذاً: تربية الأبناء والبنات لا تكون بالتشهي ولا بالتمني، بل المسئولية عظيمة، ولكن تحتاج إلى شيء من الخوف من الله جل وعلا ومراقبته، وحسن التدبير وحسن الفعل وحسن القول، فإذا وفق الله عز وجل إلى القدوة الحسنة والكلمة الهادفة والنصيحة الموجهة، وجمع مع ذلك كله الرفق واللين والأخذ بمجامع تلك القلوب البريئة من الصغر إلى الخير وإلى الطاعة وإلى البر سمت هذه الأمة، وارتقت إلى معالي الكمال، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الخير في صلاح الصغار؛ ولذلك كان يقول الحكماء: (إذا رأيت الدين والخير في صغار أمةٍ فأمل لها الخير)؛ لأنه إذا كان في الصغار فإنهم في الغد هم الذين يوجهون وهم الذين يكونون قدوة للناس، (وإذا رأيته في كبارها فإن الخير يزول عنها عندما يذهب الكبار) نسأل الله السلامة والعافية.

    فالواجب تربية النشء الصغير على طاعة الله، وتحبيبه في مرضاة الله عز وجل وتعويده على الخير وعلى الطاعة والبر، وأول ما يبدأ بحق الله ثم حقوق العباد، ثم يبقى الأمر الدنيوي، فدائماً يحرص الوالدان على أن يكون الابن في أحسن وأفضل الأحوال، فيُعلّم الشجاعة ولا يعلم الجبن والخوف، ويعلّم الكرم ولا يعلم البخل، ويعلّم الأشياء الحميدة في دنياه التي يسموا بها إلى مراتب الكمالات، ودائماً يشجع ولكن لا يشجع بالقول دون العمل، ولا يجعل الخير بالقول دون القدوة، فالابن يصلي في المسجد متى ما رأى أباه يصلي في المسجد، والابن يخاف من الله جل جلاله عندما يأتي ويجد أباه قد هيئت له الدنيا في فتنة أو شهوة فيقول له: يا أبت! لمَ لا تفعل هذا؟ يقول: أخاف الله رب العالمين، فإذا بقلب الابن يخاف؛ ولذلك أنس رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فذهب -وكان أنس صبياً في العاشرة- ومرَّ على صبيان فجلس يعلب معهم، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر عليه، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك)، فيصبح الصبي يحب الله؛ لأنه دفع عنه الضر، وأيضاً يخاف الله في هذا الأمر؛ لأنه إذا رأى من بداية طفولته من هو أكبر منه يخاف من الله أحس أن لله عز وجل حقاً عليه أن يخافه، وإذا وجد الأم متورعة بعيدة عن المحارم بمجرد ما يأتي ويتكلم في غيبة أو أحد يتكلم في غيبة تقول له: يا ابني! اسكت لا يجوز أن تغتاب الناس. وبمجرد أن يؤذي الابن الجار تقول له: اذهب واطلب السماح من جارك وإلا أدبك الله وفعل الله بك، فتنشأ الأسرة على طاعة الله ومحبة الله.

    النقطة الأخيرة: في هذه إجازة لا شك أنه ينبغي علينا أن نحافظ على هذا الأمر، وهذه قاعدة عامة لا تختص بإجازة ولا بغيرها، ونحن نحب دائماً أن نعتني بالقضايا الكلية، فمسألة الإجازة مسألة عارضة لكن المهم التربية الصالحة.

    وينبغي أن ينبه على أمرٍ مهم وهو: أن لا نيأس، البعض يقول: كثر الشر والأبناء أصبح يؤثر عليهم كل شيء، وأصبحوا ضائعين، هذا خطأ، فمن كان لله كان الله معه، والخير لا يبلى ولا يذهب ولا يزول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18]؛ ولذلك ينبغي ألا نيأس، لكن هناك أمور ينبغي التنبيه عليها باختصار، حتى لا يطول الوقت:

    أولاً: إذا عجزت عن أبنائك الكبار فالتفت إلى أبنائك الصغار، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتني به الخطباء والأئمة عند توجيه الناس، فمن المسائل التي تذكر في تربية الأبناء، أنهم إذا عجزوا عن الكبار فليبدءوا بالصغار، ويعود الناس على صُحبة أبنائهم الصغار إلى المساجد، ومحبة طاعة الله عز وجل، ومحبة الخير.

    وعوّد ابنك من الصغر على أخذه إلى العمّ والعمة والخال والخالة، وعوّد ابنك من الصغر أن يراك وأنت تحترم أخاك الذي هو أكبر منك، وتحترم عمه الذي هو أكبر منك، وتقدر خاله الذي هو أسن منك، وعوده على أنك تكون له القدوة الصالحة في صلة الرحم، عوده على أن تكون له القدوة الصالحة في الإحسان إلى الأيتام وإلى الأرامل، خذه ولو يوماً من الأيام في يدك إلى بيت أرملة أو مسكين أو مكروب أو منكوب وأعطهم مالاً وقل له: يا فلان! أعط لفلان حتى يدعو لك، فينشأ من الصغر وهو يحب هذه الأمور، فالأبناء يتأثرون بآبائهم والبنات يتأثرن بأمهاتهن.

    فعلينا أن نتقي الله عز وجل في القدوة، وعلينا ألا نيأس مهما كان، فإن الله قد يبارك لك في ولدٍ واحد من ذريتك فيصلح به البيت كله، وقد يجعله الله عز وجل مشعل خير ليس للبيت بل للجماعة بل للقبيلة بل للأمة جمعاء حينما يخرج صالحاً هادياً مهدياً، فالله أعلم كم من أمٍ صالحة من أمهات السلف الصالح ربت عالماً إلى الآن نعيش على فضل الله ثم فضل علمه، وكل هذا بفضل التربية الصالحة بعد فضل الله عز وجل، كانت أم أحد السلف تقول لابنها -وقد نشأ يتيماً وأراد أن يتكسب للرزق وينشغل عن طلب العلم- فقالت له: (يا بني اطلب العلم! أكفك بمغزلي). تعني: أنا التي أعمل، ولكن تفرغ أنت لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أبناء المسلمين وبناتهم! اللهم ردهم إلى سواء السبيل، ووفق الآباء والأمهات بدلالتهم على الخير، والطاعات والخيرات والباقيات الصالحات، واعصمنا وإياهم من الشرور والزلل في القول والعمل إنك المرجو والأمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756417176