إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما من عبادة إلا ولها صفة وكيفية، قد تكفل الله سبحانه ببيانها، أو بينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج له صفتان: صفة كمال، وصفة إجزاء. ويشرع للحاج بعد وصوله إلى مكة المبيت بمنى يوم الثامن، وذلك استعداداً للوقوف بعرفة يوم التاسع، فالوقوف بعرفة هو أعظم ركن من أركان الحج، إذ تتوقف عليه صحة الحج من عدمه.

    1.   

    بيان أقسام صفة الحج والعمرة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الحج والعمرة] صفة الشيء حليته، وما يتميز به عن غيره، وتكون الأوصاف بالشيء حسية وتكون معنوية، وقد تقدم بيان ذلك في تعريف الطهارة.

    قوله: (صفة الحج والعمرة) أي: بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمهم الله أنهم يبتدئون ببيان صفة العبادة على سبيل العموم، فيذكرون ما يلزم وما لا يلزم، ثم بعد ذلك يبينون ما هو لازم وواجب على المكلف، ولذلك تنقسم الصفات في العبادة إلى قسمين:

    القسم الأول: يصطلح العلماء على تسميته بصفة الإجزاء.

    والقسم الثاني: يسمونه: صفة الكمال.

    فإذا بيّن العلماء صفة الحج فإنهم يذكرون صفة الكمال ثم يتبعونها بصفة الإجزاء. أما المراد بصفة الكمال فهي أن يذكر الهدي الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة، وحينئذٍ يكون في هذه الصفة ما هو ركن وما هو واجب وما هو سنة، ثم بعد ذلك يذكرون صفة الإجزاء التي يقتصر فيها على بيان الواجب واللازم.

    لماذا يقسمون الصفات إلى هذين القسمين؟

    السبب في هذا: أنك إذا قرأت كتاباً في الفقه، أو أردت أن تتعلم الفقه؛ لكي تعمل به وتعلم غيرك، فإنك تحتاج إلى معرفة صفة العبادة من حيث هي، ثم بعد ذلك تعرف ما الذي يعد تركه إثماً وما الذي لا يعد تركه إثماً، فتعرف ما هو لازم وما هو غير لازم، فاللازم يعبرون عنه بالأركان والواجبات، وغير اللازم يعبرون عنه بالصفة العامة، فهو الآن يقول لك: باب صفة الحج، وسيأتيك بعدها: باب أركان الحج وواجباته.

    والسؤال: أليس الأولى أن نبدأ بصفة الإجزاء التي فيها الأركان والواجبات، أم أن الأولى أن نبدأ بصفة الكمال؟

    الجواب: أن الأفضل أن تبدأ بصفة الكمال فتذكر صفة العبادة كاملة، ثم بعد ذلك تقول: هذا يجب وهذا لا يجب، أما لو ذكرت صفة الإجزاء أولاً، ثم جئت تذكر صفة الكمال فإنك تحتاج إلى تكرار، ولذلك منهج الفقهاء والعلماء أنهم يذكرون صفة الكمال أولاً ثم صفة الإجزاء بعدها، انظر إلى كتاب الوضوء فهم ذكروا: صفة الوضوء كاملة، ثم بعد أن انتهوا قالوا: والواجب كذا وكذا وكذا.

    كذلك في باب الغسل ذكروا: صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم كاملة كما في حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما، ثم قالوا: والواجب من ذلك النية، وتعميم بدنه بالماء، والمضمضة والاستنشاق.

    كذلك أيضاً هنا في الحج يذكرون الصفة الكاملة للحج، فيذكرون ما يفعله الحاج وما يفعله المعتمر، وبعد أن ينتهوا من ذلك كله يقولون: والواجب كذا وكذا وكذا، ويبينون ما هو ركن وما هو واجب.. ما هو ركن بحيث لو تُرك بطلت العبادة.. وما هو واجب بحيث لو تُرك لا تبطل العبادة، ولكنه يجبر إذا كان من جنس العبادات التي تجبر فيها الواجبات، أو يحكم ببطلان العبادة في بعض العبادات، كالصلاة إذا تعمد الترك للواجب.

    وعلى هذا سيذكر المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ويبين في هذه الصفة الأفعال والأقوال التي يفعلها الحاج والمعتمر، ونحن بحاجة إلى هذه الصفة الكاملة؛ لأن من أوقع حجه وعمرته على أكمل الصفات وأتمها، مؤتسياً ومقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان أحرى أن يتقبل الله حجه، وأن يتقبل عمرته، وأن يشكر سعيه وما كان من عمله.

    1.   

    صفة ومكان إحرام المتمتع وأهل مكة ووقت ابتدائه

    [يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال منها ويجزئ من بقية الحرم].

    أي: (يسن للمحلين الإحرام بالحج من مكة) من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا ابتدءوا صفة الحج أنهم يذكرون ابتداء النسك، أعني: نسك الحج بالنسبة للمتمتع؛ لأن القارن والمفرد كل منهما باق على إحرامه، ولكن الذي فصل عمرته عن حجه بالتمتع يحتاج إلى بيان ما الذي يلزمه، أما الذي هو حاج وباقٍ على إحرامه مفرداً أو قارناً فلا يزال في نسكه، ولا يزال في إحرامه، ولذلك يبتدئ صفة الحج بذكر متى ومن أين يحرم من كان متمتعاً؟ لأن الحاج على ثلاثة أنواع: إما أن يكون مفرداً، وإما أن يكون قارناً، وإما أن يكون متمتعاً، فأما المفرد والقارن فإنه إذا قدم إلى مكة وطاف وبقي بها إلى يوم عرفة فلا إشكال، أو إلى يوم التروية فلا إشكال، فإنه يمضي إلى منى مباشرة، وهكذا بالنسبة للقارن؛ لأنه لازال كل منهما متلبساً بالنسك، ولكن الإشكال في هذا المتمتع الذي أدى عمرته وبقي بمكة، فإنه محل فكيف يدخل في نسكه؟ فقال: إن السنة أن يحرم من مكة، جاء عن أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أحرموا من مكة حينما تحللوا وأرادوا أن يدخلوا في نسك حجهم، فلما كان اليوم الثامن أحرموا بالحج، وللعلماء في هذه المسألة وجهان:

    قال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه يحرم من أي مكان من مكة.

    وقال بعضهم: إنه يحرم من الحرم، أي: من داخل المسجد الحرام.

    والصحيح: مذهب جمهور العلماء: أنه يحرم من منزله، أو من أي موضع من داخل مكة قبل أن يصل إلى منى. ورخص بعض العلماء أن يؤخر إحرامه إلى منى، وفي النفس منه شيء، والذين رخصوا في تأخير الإحرام إلى منى، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يحرموا قبل الخروج إلى منى.

    وهذا لا يخلو من نظر، فإن الأصل يقتضي أن من أراد المضي والذهاب إلى نسك حجه يقتضي أن يكون من موضعه، وبناء على ذلك فإنه إذا ذهب إلى منى فإنه ذاهب وقاصد لحجه، وبين مكة ومنى مسافة، خاصة في القديم فإنه كان هناك مسافة تفصل مكة عن منى، ولذلك أشبه بالرجل الذي يريد الإحرام من موضع من البلد، فإن الأولى والأحرى له أن يحرم من مسكنه الذي نوى منه.

    وقال بعض العلماء: البلد كله بمثابة الموضع الواحد.

    فعلى هذا القول الثاني في أن البلد كله بمثابة الموضع الواحد، فإنهم يرون أن له أن يؤخر إلى منى.

    ولكن الذي تطمئن إليه النفس أن يحرم من نفس مكة لإحرام الصحابة من الأبطح، وهذا هو الأولى والأحرى؛ لما فيه من زيادة العبادة، ولما فيه من الاحتياط لها، وكل منهما مندوب إليه ومطلوب شرعاً.

    وقوله: (المحلين) يشمل من كان متمتعاً ويشمل أهل مكة، فأهل مكة إذا أرادوا الحج فإنهم يكونون محلين في داخل مكة، ولذلك يمضون من مكة، فالأفضل لهم أن يحرموا من بيوتهم إعمالاً للأصل كما ذكرنا.

    قوله: (يوم التروية قبل الزوال منها) أي: أن السنة والأفضل والأكمل أن يقع إحرامهم قبل الزوال؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فرض الظهر والعصر من اليوم الثامن الذي هو يوم التروية بمنى، وصلى المغرب والعشاء والفجر وهما محسوبان من التاسع، أعني: يوم عرفة، وإن كان بعض العلماء يرى أن عشية عرفة لما بعد.

    على العموم فالسنة أن يصلي الخمسة الفروض بمنى، وإذا كانت السنة أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى فالعبرة بوقت هذه العبادة، فلابد وأن يكون فعله للظهر بمنى.

    يحرم للنسك قبل الزوال، حتى إذا زالت الشمس ودخل وقت الظهر وهو بمنى، أمكنه أن يصيب السنة فيصلي مع الإمام، وهذا هو الأفضل والأكمل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمي يوم التروية بهذا الاسم ؛ لأنهم كانوا يحملون فيه الماء إلى عرفة من أجل ريِّ الحجاج؛ لأن الناس كانوا في القديم كثيرين، وكان الماء قليلاً، فيحتاجون إلى أن يحتاطوا للحجاج بتهيئة الماء قبل يوم عرفة، فاليوم الثامن يهيئون فيه الماء، ويسمى: يوم التروية من أجل هذا، فإذا أحرم يكون إحرامه منها، والضمير في (منها) عائد إلى مكة، فدل على أن السنن منها: زمانية، ومنها: مكانية.

    أولاً: يكون الإحرام قبل الزوال على وجه يدرك به صلاة الظهر بمنى.

    ثانياً: يكون الإحرام من مكة كما ذكرنا، فيخرج إلى منى وهو حاج؛ حتى يكون أدعى لإصابة السنة، ولما فيه من الاحتياط كما ذكرنا.

    قوله: (ويجزئ من بقية الحرم) أي: يجزئ إحرامه من أي موضع من الحرم، وهذا فيه رد على من قال: إنه لا يحرم إلا من المسجد، أي: من مسجد مكة، والصحيح أنه يحرم من أي موضع من الحرم، ولكن يتحرى من بيته؛ لأن نيته أن لا يخرج من بيته إلا وهو محرم؛ لما فيه من الاحتياط.

    1.   

    مشروعية المبيت بمنى في يوم التروية

    قال المصنف رحمه الله: [ويبيت بمنى]

    قوله: (ويبيت بمنى) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم باتوا بمنى، فصلوا الفروض الخمسة التي ذكرنا، وهذه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. قال بعض العلماء: صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاته في المسجد الحرام. وهذا على القول بأن مضاعفة الصلاة تختص بالمسجد نفسه، فالجمهور خلافاً للشافعية يقولون: إن صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام، لماذا؟ قالوا: لأنه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا صلى الظهر بمنى تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به عليه الصلاة والسلام أعظم الأجر والثواب.

    1.   

    السير إلى عرفات بعد طلوع الشمس والدخول إليها بعد الزوال

    [فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة]

    قوله: (فإذا طلعت الشمس) أي: في صبيحة يوم عرفة يذهب إلى عرفة، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا المهل ومنا المكبر ومنا الملبي، فلم يعب أحد منا على الآخر)، فالسنة: أن يغدو بعد صلاة الفجر من منى إلى عرفات، والسنة: أن يسلك طريق ضب الذي يكون من أسفل الجمرات من عند جمرة العقبة، ثم إذا مضى منه إلى عرفات يأتي طريق المأزمين الذي هو طريق الجبال عن يساره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من منى بعد أن صلى الفجر بمسجد الخيف، ثم لما صلى الفجر مضى عليه الصلاة والسلام وغدا إلى عرفات، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يمضي إلى عرفات راكباً، فلما سلك هذا الطريق وهو طريق ضب نزل بنمرة، ونمرة: هو الموضع الذي بين حدود الحرم وبين وادي عُرَنَةَ، فأنت إذا قدمت من جهة منى تريد دخول عرفات، فإنه تقابلك أعلام الحرم التي هي نهاية حدود الحرم، بعد أعلام الحرم يقابلك منبسط من الأرض فسيح يقرب من نصف كيلو، ويتقاصر ويضيق على حسب الوادي، ثم بعد ذلك يقابلك وادي عُرَنَةَ، ثم أرض عرفة.

    فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن جاء فضربت له قبة بنمرة، وكانوا لا يشكُّون أنه سيبقى في حدود الحرم؛ لأن قريشاً في الجاهلية كانوا يقولون: نحن أهل الحرم ولا نخرج من الحرم، فكانوا يبقون في داخل حدود مكة، ويتميزون عن الناس، وهذا هو الذي وردت فيه الآية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] فكانوا يقولون: إنهم الحمس وأهل الحرم، وهذا من مختلقات الجاهلية، وهي من مسائل الجاهلية التي خالفوا فيها دين الحنيفية، التي كانت عليها ملة إبراهيم عليه السلام، فنزل عليه الصلاة والسلام بنمرة، ولذلك قال العلماء: السنة أن لا يدخل إلى عرفات إلا بعد الزوال، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمض إلى عرفات مباشرة، وإنما نزل في هذا المنبسط من الأرض وبقي فيه إلى قرب زوال الشمس، فلما زالت الشمس ركب ناقته القصواء صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا يستفاد منه: أن الأفضل والأكمل أن ينزل الحاج قبل عرفة إن أمكنه ذلك وتيسر له، خاصة إذا كان من طلاب العلم وأهل العلم، فالأفضل له أن يتحرى هذه السنة، في أن يكون دخوله لعرفات بعد الزوال، فيبقى في هذا الموضع، ولا زال بعض طلاب العلم وبعض المشايخ يتحرون هذه السنة إلى يومنا هذا والحمد لله، فتراهم ينزلون في نمرة حتى إذا زالت الشمس مضوا إلى عرفات، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعله، وإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى على الصفة التي سيذكرها المصنف رحمه الله، الشاهد: أنه يمضي بعد صلاة الفجر، ويكون نزوله دون عرفة، ويكون دخوله إلى عرفة بعد الزوال.

    1.   

    حكم الوقوف بعرفة وحدودها

    [وكلها موقف إلا بطن عرنة].

    قوله: (وكلها موقف) أي: كل عرفة موقف (إلا بطن عرنة) وهو الوادي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارتفعوا عن بطن عرنة) فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما زالت الشمس مضى على ناقته القصواء، وخطب الناس من بطن الوادي، فخطب الناس بشعائر الإسلام خطبته المشهورة التي أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام، وبيّن فيها شرائع الإسلام، وأوضح الحقوق صلوات الله وسلامه عليه، ودعا إلى أدائها، وحرم المحارم وحذر منها صلوات الله وسلامه عليه، فكان من هديه أنه وقف ببطن عرنة للخطبة، ولذلك قال بعض العلماء: إن بطن عرنة من عرفة، ولكنه ليس بموضع للموقف، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الموقف يبتدئ من بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب من بطن الوادي ثم نزل فصلى عليه الصلاة والسلام، ثم مضى إلى الموقف، ولذلك استفادوا من هذا أن السنة على النحو الآتي:

    أن ينزل دون عرفة -في نمرة- قبل الزوال، فإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى مع الإمام، ثم بعد ذلك يبتدئ موقفه بعد انتهاء الصلاة، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، فمن كان في بطن الوادي أو كان بنمرة ما بين الوادي وما بين حدود الحرم، فإنه لا يصح حجه إذا لم يدخل إلى حدود عرفة.

    1.   

    مشروعية الجمع يوم عرفة بين الظهر والعصر وحكمته

    [ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر]

    قوله: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر)، وهذا الجمع جمع تقديم؛ والجمع ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: جمع التقديم وضابطه: أن يصلي الثانية في وقت الأولى، سواء كان الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، فيصلي العصر في وقت الظهر، فيبدأ بالظهر أولاً ثم العصر ثانياً. وكذلك المغرب والعشاء، فيصلي العشاء في وقت المغرب، فيبدأ بصلاة المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء، فهذا يسمى: جمع تقديم.

    القسم الثاني: جمع التأخير وضابطه: أن يصلي الأولى في وقت الثانية، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ويؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ولا يتأتى ذلك منه إلا بالنية، فيكون في خلال وقت الأولى وهي الظهر ووقت الأولى وهي المغرب بالنسبة للعشاءين ناوياً الجمع، فلو كان على سفر ونسي وسها عن صلاة المغرب، ولم ينو الجمع حتى مضى وقت صلاة المغرب، ثم دخل وقت العشاء فتذكر، فحينئذٍ يصلي المغرب أولاً لكن بنية القضاء لا بنية الجمع؛ لأنه قد فاته وقت المغرب وهو لم ينو الجمع.

    ولذلك الجمع يكون جمع تقديم وجمع تأخير، وهنا الجمع في يوم عرفة جمع تقديم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم العصر إلى وقت الظهر، وهذا الجمع حكمته كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم: التفرغ لما هو أهم وأعظم وهو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بتوحيده ومسألته من واسع فضله؛ وذلك لأن هذا الموقف وهو موقف عرفة موقف عظيم، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة وقال: (الحج عرفة) ؛ تعظيماً لهذا الموقف، فنظراً لهذا هيئت الأسباب ليفرغ وقته للذكر ويفرغه للعبادة، إلى درجة أن الصلاة التي هي من أعظم الأمور بعد الشهادتين وأجلها قدمت عن وقتها؛ حتى يتفرغ في وقت الثانية لذكر الله عز وجل وسؤاله من فضله.

    1.   

    سنية الوقوف عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات راكباً

    [ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة].

    الشيخ: (ويقف راكباً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته القصواء، يقف راكباً وإن وقف بدون دابة فهذا يسمى: وقوفاً اعتبارياً: قال بعض العلماء: إن من السنة أن يكون على دابته، وفي حكم الدابة السيارة الآن، ولا يشكل على هذا أنه في السيارة كالراكب والجالس؛ لأنه على الدابة كالراكب والجالس، ولذلك السنة أن يكون على دابته إذا تيسر له ذلك، وإذا لم يتيسر وأراد أن يقف في خيمته أو في منزله أو داخل المسجد في حدود عرفة، ويحتاط أن لا يقف بمقدمة المسجد فإنه يجزيه، وهذا من باب الكمال لا من باب اللزوم والوجوب، أي: أنه ليس بلازم وليس بواجب، المهم أنه يمضي عليه الوقت ولو لحظة وهو داخل حدود عرفة في وقت الموقف.

    فإذا وقف قام عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مضى إلى الموقف استقبل الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، وتضرع صلوات الله وسلامه عليه من بعد صلاته إلى غروب الشمس، وهذا الموقف ليس بلازم وإنما هو من باب الكمال إن تيسر للإنسان، وأما إذا لم يتيسر ففي أي موضع من عرفة يجزيه أن يقف فيه، وأن يسأل الله عز وجل من فضله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وعرفة كلها موقف) ، فأجاز للأمة الوقوف في أي موضع من عرفة، ولكن هنا أمر يفعله بعض الناس وهو صعود الجبل، وصعود الجبل ليس له دليل يدل عليه، حتى قال بعض العلماء: إن تكلف الصعود ... يعتبر بدعة وحدثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف ذلك، ولم يتكلفه الصحابة، والغالب أن العامي يفعل ذلك لاعتقاد الفضل ومزية الأجر، ولذلك كان أشبه بالمحدث، والخير كل الخير في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقتداء به والتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، فلا يشرع الصعود إلى الجبل، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ويجتهد في الدعاء وسؤال الله عز وجل من فضله، ويقول بعض العلماء: إن المسلم إذا نظر إلى حكم الشرع بتقديم العبادة عن وقتها من أجل التفرغ للدعاء والمسألة؛ دعاه ذلك إلى أن يحفظ هذا الوقت، وأن يحفظ هذه الساعات فيجتهد في سؤال الله عز وجل من فضله العظيم، ولذلك كره بعض العلماء أن ينام؛ لأن النوم يدل على الاستخفاف بعظمة هذا الموقف، خاصة إذا كانت نفسه قوية وعنده القدرة على أن يصبر إلى الغروب، ولا شك أنه قد فاته خير كثير، فالذي ينام مع قدرته على المواصلة إلى المغرب لا شك أن فيه غفلة، وهذا من ضعف الإيمان -نسأل الله السلامة والعافية- أن يأتي إلى هذا الموضع الذي تقطعت قلوب المسلمين حرقة أن يبلغوه، وهلكت الأنفس من أجل بلوغه والتمتع به، وإذا به يضع رأسه لكي يستريح وينام، ولا شك أن كل ذلك يدل على غفلته وموت قلبه نسأل الله السلامة والعافية! بل قال بعض العلماء: الأدهى من ذلك والأمر أن يضيع وقته في فضول الأحاديث، أو فيما حرم الله من الغيبة والنميمة.

    فينبغي على طالب العلم وعلى من كان قدوة كالعلماء ونحوهم، أنهم إذا فرغوا من الصلاة أن يروا الناس الاجتهاد في الدعاء، والإلحاح في المسألة والضراعة مع البكاء والخشوع، وسؤال الله عز وجل والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، فهذا من شكر نعمة الله عز وجل على العبد، فالذي بلغ الإنسان لهذا المبلغ لا شك أنه يريد به الخير، ولو لم يرد الله بك خيراً لم يبلغك إلى هذا المكان، ولم يبلغك إلى هذا الموضع، فلذلك كان من الحري بالمسلم أن يشكر نعمة الله عليه؛ فيجتهد في سؤال الله والتضرع لله سبحانه وتعالى، وأفضل ما دعي به سبحانه وأثني عليه هو توحيده والإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) .

    فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بهذا الحديث على أن الأفضل أن يثني على الله بتوحيده، الذي من أجله شرع الله عز وجل هذا الركن العظيم، فأفضل ما يثنى به على الله أن يوحد ويهلل ويكبر سبحانه، فيشتغل المسلم بالدعاء إلى غروب الشمس، ويجتهد في المسألة وسؤال الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.

    1.   

    استغلال يوم عرفة بكثرة الدعاء وتخير جوامع الدعاء

    [ويكثر من الدعاء بما ورد]

    قوله: (ويكثر من الدعاء بما ورد) المراد هنا (بما ورد) يحتمل أمرين:

    إما بما ورد من دعائه يوم عرفة في حديث الطبراني وغيره، ولا تخلو هذه الأحاديث من كلام ومن ضعف.

    وإما أن يدعو بما ورد، يعني: يتخير في دعائه جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمت أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) ونحو ذلك من الأدعية، وكذلك يدعو بما ورد من توحيد الله عز وجل، أعني: التهليل كما ذكرنا، فالأفضل أن الداعي إذا دعا يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا دعا بالدعاء الوارد كان له أجر الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد ذكر بعض العلماء: أن من آداب الدعاء تخيّر جوامعه، وإذا تخيّر جوامع الدعاء متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك أقرب لأن تجاب دعوته، وتجاب مسألته، فهو أحرى بالقبول من الله عز وجل؛ لأن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاتباع لسنته فيه خير وبركة، وجعل الله اتباع رسوله صلوات الله وسلامه عليه سبيل هدى وطريق رحمة، فقال سبحانه: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] ، قال بعض العلماء: ما تحرى أحد سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان هادياً مهدياً، أي: جعله الله مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، ولذلك تجد طلاب العلم وأهل العلم الذين يتمسكون بالسنة ويحرصون عليها، تجدهم هداة مهتدين، وتجد ما يضع الله لهم من البركة والنفع عند المسلمين خيراً كثيراً، فلذلك يحرص الإنسان على أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من رجاء القبول، ولما فيه من الاهتداء والرحمة والخير الذي جعله الله عز وجل لمن تأسى واقتدى به صلوات الله وسلامه عليه.

    1.   

    مدة الوقوف بعرفات وابتداؤه وانتهاؤه

    [ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر].

    قوله: (ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة)، هنا مسألتان:

    المسألة الأولى: ما هو أقل الواجب في الوقوف؟

    والمسألة الثانية: ابتداء الوقوف، متى يبتدئ الوقوف ومتى ينتهي؟

    هاتان المسألتان متعلقتان بركن الوقوف بعرفة.

    المسألة الأولى:

    ذكر المصنف رحمه الله المضي من منى إلى عرفات، وبعد أن بيّن لك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والصفة الكاملة في الوقوف، فالسؤال: ما هو المعتبر للوقوف بعرفة؟

    فقال رحمه الله: (ومن وقف ولو لحظة)، أي: فمن دخل إلى حدود عرفة ولو ماراً بها ولو مر بجزءٍ منها مروراً، وهذا هو المعبر عنه بلحظة، فإنه يعتبر واقفاً إذا كان في الوقت المعتبر والمحدد شرعاً، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار) فقوله: (أي ساعة) أي: لحظة؛ لأن العرب تطلق الساعة على اللحظة كقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ [يونس:45] فالمراد به اللحظة اليسيرة، ومن هذا الحديث أخذ العلماء دليلاً على أن الوقوف بعرفة يجزئ ولو لحظة، إذا وقع في الوقت المعتبر، لكن لهذا الحكم ضوابط سيأتي إن شاء الله بيانها.

    المسألة الثانية: متى يبتدئ الوقوف بعرفة؟ وهذه مسألة فيها إشكال، فأنت إذا جئت تنظر إلى يوم عرفة ممكن أن تقول: من طلوع فجر يوم عرفة على أن النهار يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع فجر يوم النحر هذا ابتداء وانتهاء. من ناحية الانتهاء لا إشكال في أنه ينتهي بطلوع فجر يوم النحر، لكن الابتداء قال بعضهم: من طلوع الفجر، وقال بعضهم: من طلوع الشمس، وقال بعضهم: من زوال الشمس، وهذا القول الأخير من القوة بمكان، وفائدة الخلاف: أنه إذا وقف قبل الزوال ومضى إلى مزدلفة، أو وقف قبل الزوال ثم أغمي عليه، أو أصابه عذر وخرج من عرفة حتى فات زمان التدارك، فإنه على القول بأنه يبتدئ الوقوف من الزوال لم يصح حجه ويتحلل بعمرة؛ لأن الوقت المعتبر والحد المعتبر شرعاً يبتدئ من زوال الشمس، فإذا وقف قبل الزوال أشبه كما لو وقف قبل يوم عرفة، فلا يجزيه أن يقف قبل زوال الشمس، وهذا القول إذا نظرنا إلى ظاهر السنة في فعله عليه الصلاة والسلام، أنه لم يدخل عرفة إلا بعد الزوال فإنه يقوى، لكن من قال: بأنه يبتدئ من طلوع الشمس يقويه قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عروة بن مضرس : (وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار) فإن ساعات النهار تبتدئ من طلوع الشمس، فحينئذٍ تستطيع القول: بأن السنة من الزوال، وما قبل الزوال دخل بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من نهار) فإن نهاراً نكرة، والنهار يبتدئ من طلوع الشمس، فإن قيل: بأن النهار يبتدئ من طلوع الفجر، وهذا قول اختاره بعض العلماء. تقول: لو وقف من بعد طلوع الفجر من يوم عرفة ولو لحظة أجزأه وصح حجه.

    قوله: (من وقف) المراد أن يكون في الموضع المعتبر للوقوف، حتى ولو كان محمولاً، فلو حمل أو كان في سيارة فإنه يصدق عليه أنه واقف بعرفة، فليس المراد من الوقوف وقوف الصفة، يعني: أن يستتم قائماً، فإنه بالإجماع لو كان محمولاً كالمشلول ونحو ذلك فإنه يجزيه.

    قوله: (من فجر يوم عرفة) هذا مبني على ما قلناه: إن الليل ينتهي بطلوع الفجر، قالوا: فالنهار يبتدئ من طلوع الفجر.

    هناك قول ثانٍ: إنه يبتدئ من طلوع الشمس كما ذكرنا على أن النهار أصلاً تكون بدايته من طلوع الشمس، وهذا في الحقيقة أقوى.

    وهناك فوائد تترتب على هذا، منها: مسألة تقسيم الليل، متى تحدد نصف الليل وثلث الليل في قيام الليل، ففي قيام الليل تحسب إلى طلوع الفجر حتى تحسب الثلث الأخير، أما نصف الليل ووقت انتهاء نصف الليل يكون الحساب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق. وهناك قول آخر: وهو أن يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الشمس، وهذا قول مرجوح، ونبه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع إلى رجحان الأول.

    قوله: (إلى فجر يوم النحر)، أي: إذا طلع فجر يوم النحر فإنه بالإجماع لا يصح وقوفه، إذا طلع الفجر الصادق، وعرفنا الآن أنه يبتدئ الوقوف إما بطلوع الفجر الصادق، وإما بطلوع الشمس، وإما بالزوال، فمن ناحية الجواز مثل ما ذكرنا في هذه الحدود الثلاثة والأقوال الثلاثة، من حيث السنة: يبتدئ الوقوف من الزوال، أي: من بعد صلاة الظهر والعصر، وأن يحضر وينصت للخطبة فإنه يبتدئ وقوفه بعد ذلك، وهو السنة والأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى عرفات بعد صلاته وخطبته، فمن ناحية السنة الموقف يكون من بعد الزوال ومن بعد الصلاة، لكن عندما يقف بعد الزوال فمتى يدفع؟ هل يدفع بغروب الشمس، أو يدفع قبل الغروب؟

    الجواب: أنه لا يدفع إلا بعد غروب الشمس، وهذا بإجماع العلماء، على أن الواجب عليه أن يبقى إلى غروب الشمس، وعليه فإن وقوف النهار يتقيد بغروب الشمس بخلاف وقوف الليل، فمن وقف نهاراً فإنه لا يستتم موقفه على الوجه المعتبر إلا إذا غربت عليه الشمس وهو بعرفة، فإذا كان الوقوف نهاراً فلابد وأن يمسك جزءاً من الليل، وسنبين السبب في ذلك ودليله من حديث جابر رضي الله عنه.

    أما لو وقف ليلاً فيجزيه أي لحظة، فقوله هنا: ولو لحظة ليس على إطلاقه، إنما المراد به هنا بيان الركن، فالوقوف الذي يتحقق به ركن الحج يبتدئ من هذا الزمان وينتهي بهذا الزمان، هذا قصد الركنية، أما من جهة الوقوف الواجب واللازم الذي ينبغي عليه أن يتقيد به، وإذا ضيعه لزمه الدم وجبره فسيبينه رحمه الله.

    1.   

    شروط صحة الوقوف بعرفات

    [وهو أهل له صح حجه وإلا فلا].

    قوله:(وهو أهل له) يشترط في وقوف الركن هذا أن يكون أهلاً، وللأهلية شروط:

    الأول: أن يكون مسلماً فلا يكون كافراً، ولو أن كافراً مثلاً كان بأرض عرفة قبل الزوال وأسلم بعد الزوال أو أسلم بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر ولو بلحظة واحدة، وكان قد نوى حجاً فإنه يجزيه ويصح منه، إذاً لابد أن تكون الأهلية متوفرة وموجودة، فلو كان كافراً لم يصح وقوفه، فلو أسلم قبل طلوع الفجر كان واقفاً، كأن يكون رقيقاً يخدم سيده وهو كافر فحج مع سيده.

    أما لو مضى إلى عرفات -هو لا يدخل مكة على القول بأن الكافر لا يدخل مكة- مع سيده فبقي بعرفة يخدمه ويقوم على حاله، ثم طلع الفجر فأسلم، فبطلوع الفجر لا يجزيه وقوفه ولا يعتد بوقوفه؛ لأنه وقف وهو ليس بأهل.

    الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، فلو كان مجنوناً فإنه لا يصح وقوفه، أو كان سكراناً وهو خلاف شرط العقل؛ لأن العقل يزول إما بالجنون أو بالسكر أو بالإغماء؛ لأنه في حكم زائل العقل، ففي هذه الأحوال الثلاثة لو كان مجنوناً ودخل إلى حدود عرفة فإنه لا يجزيه، وهكذا لو كان مغمىً عليه فحمل إلى حدود عرفة في وقت الإجزاء ثم إنه لم يفق إلا بعد انتهاء الوقت لم يجزه ذلك الوقوف، وهكذا لو كان سكراناً -والعياذ بالله- فإنه لا يجزيه الوقوف إلا إذا كان مسلماً عاقلاً، وهو أهل للوقوف.

    الشرط الثالث: أن يكون داخلاً في النسك وهو الإحرام، فلو وقف وهو حلال، ثم نوى الإحرام بالحج بعد انتهاء وقت الوقوف لم يجزه، كما لو حج بعد الوقت.

    1.   

    حكم من وقف نهاراً بعرفة ثم خرج منها قبل الغروب ولم يعد

    [ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم]

    هذه صفة قدر الواجب، فبعد أن بيّن الصفة المعتبرة لتحقق ركن الوقوف شرع الآن فيما يجب: فقال رحمه الله: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب).

    هذا شرط الوقوف النهاري الذي يجب على المكلف إذا وقف نهاراً أن يمسك جزءاً من الليل، فيقف إلى غروب الشمس، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر : (أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء وسأل الله من فضله حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة) ، فهناك أمران: الأمر الأول: الغروب، والأمر الثاني: ذهاب الصفرة، وذهاب الصفرة يأخذ ما لا يقل عن ثلاث دقائق وهي صفرة الشمس بعد مغيبها، يعني: يبقى بعد الغروب بهذا القدر، حتى قال بعض العلماء: إنه يعتبر داخلاً في الحد الواجب؛ لأن جابراً رضي الله عنه قال: (وذهبت الصفرة) أي: ذهبت صفرة الشمس بعد غروبها، بل كان بعض العلماء يرى أن صلاة المغرب لا تصح إلا بعد ذهاب هذه الصفرة، وإن كان الصحيح أنه لا يشترط؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين: (والمغرب إذا وجبت) وقد بيّنا هذا في مواقيت الصلاة.

    فذهاب الصفرة هو السنة في الدفع من عرفات، والهدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة.

    لو سألك سائل وقال: كيف أوجبت عليَّ أن أقف إلى غروب الشمس مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار)، هذا قد وقف بعرفات ساعة من نهار وصدق عليه الحديث، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن قوله: (أي ساعة من ليل أو نهار) بفعله حيث وقف حتى دخل عليه الليل، فصار حداً لازماً واجباً على الحاج إذا وقف بعرفة نهاراً أن يظل بعرفة حتى تغيب الشمس وتذهب الصفرة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم)، قالوا: فدل فعله عليه الصلاة والسلام على وجوب إمساك جزء من الليل، فإذا أمسك الجزء من الليل حينئذٍ صح وقوف النهار، فلو وقف بعرفات نهاراً ثم دفع قبل غروب الشمس فلا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يمضي ولا يعود فعليه دم؛ لفوات الواجب عليه من إمساك جزء من الليل، وظاهر حديث جابر رضي الله عنه ووقوفه عليه الصلاة والسلام يدل على وجوب الدم عليه؛ لأن هذا الموقف كما ذكرنا على هذه الصفة وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.

    الحالة الثانية: أن يرجع قبل الفجر ولو بلحظة، مثلاً: ثم أتى عرفات الساعة الثانية ظهراً ووقف ثم دفع قبل أن تغرب الشمس فَنُبِّهَ فرجع، فإن كان قد رجع فلا يخلو رجوعه من حالتين:

    الحالة الأولى: إما أن يرجع قبل أن تغرب الشمس، فإن رجع قبل غروب الشمس وبقي إلى أن غابت الشمس فلا إشكال، وسقط عنه الدم وهو قول جماهير العلماء.

    الحالة الثانية: أن يرجع بعد غروب الشمس، فإذا رجع بعد غروب الشمس فبعض العلماء يقول: يسقط عنه الدم الواجب؛ لأن رجوعه إلغاء للموقف الأول في النهار، وقال بعض العلماء: قد وقع إخلاله ولم يمكنه التدارك بمغيب الشمس. وهذا القول من جهة الأصول توضيحه: أنه لما وقف نهاراً تعيّن عليه إمساك جزءٍ من الليل، فإن رجع في النهار فقد ألغى موقفه الأول بالرجوع قبل غروب الشمس، وصارت العبرة بالموقف الثاني لا بالأول، فصح وأجزأه أن يقف إلى غروب الشمس، أما لو رجع بعد غروب الشمس، فإنه لم يتدارك ما يجب عليه في الأول، وإنما تدارك الوقوف؛ لأن الوقوف يقع في الليل ويقع في النهار فقالوا: حينئذٍ يلزمه دم، فهذه الحالة الثانية أشبه بالصحة وأقوى؛ وذلك لأن الإخلال قد وقع بمجرد المغيب، أما لو رجع قبل غروب الشمس فقد صار رجوعه ملغياً للموقف الأول واعتد بالموقف الثاني لا بالأول؛ لأن الزمان الذي فيه الوجوب قد وقع على الصفة المعتبرة.

    1.   

    عدم لزوم الدم لمن وقف ليلاً بعرفة ولو للحظة

    [ومن وقف ليلاً فقط فلا]

    قوله: (ومن وقف ليلاً فلا) أي: لا يلزمه دم؛ لأنه يجزيه حتى ولو وقف لحظة؛ لأن وقوف الليل لا يتقيد.

    1.   

    ما يفعله الحاج بعد غروب شمس يوم عرفة

    [ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ويسرع في الفجوة ويجمع بها بين العشاءين]

    قوله: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة)، قيل: سميت مزدلفة: من الازدلاف وهو التقرب، ومنه قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90]، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها موضع قربة وطاعة لله سبحانه وتعالى، وقيل: سميت بذلك؛ لأن الناس يأتونها زلفاً من الليل، وتسمى: المشعر الحرام، فبعد انتهاء موقفه بعرفة السنة أن يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ووقار.

    العمل الأول: الدفع من عرفة إلى مزدلفة

    وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا غابت عليه الشمس يوم عرفة دفع إلى مزدلفة وأخر صلاة المغرب إلى مزدلفة، وكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، أي: كان يسير سيراً خفيفاً فإذا وجد فرجة أرسل لناقته وأسرعت على قدر ما يجد من سعة، وكان يقول: (أيها الناس! السكينة السكينة) دفع صلوات الله وسلامه عليه حتى بلغ الشعب -وهو الشعب الذي دون المشعر- فدخل فيه وبال عليه الصلاة والسلام، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، والسنة: أن يكون مسيره من طريق المأزمين، وطريق المأزمين: هو الطريق الذي بين الجبلين حينما تخرج من عرفات، ويكون المسجد وراء ظهرك وتذهب إلى جهة مزدلفة. وهناك طريقان: الطريق الذي ينصب من بين الجبال، والطريق الآخر -الأيسر- هو طريق ضب الذي يقبل به من منى، وهو مقدمه عليه الصلاة والسلام. فطريق المأزمين هو الذي بين الجبلين، وهو مشهور وباقٍ إلى الآن، وهو طريق المشاة الآن، وفيه طريق للسيارات، لكن السيارات تتيامن فيه، وطريق المشاة الذي ينصب إلى داخل مزدلفة يسمى طريق المأزمين، وكلها من السنة، فحتى لو مضى من طريق السيارات الأيمن فإنه يصيب السنة؛ لأنه جزء من طريق المأزمين.

    العمل الثاني: الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة

    فلما دفع عليه الصلاة والسلام إلى مزدلفة ولما قال له أسامة : (الصلاة يا رسول الله! قال: الصلاة أمامك) أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً: أن السنة أن يؤخر صلاة المغرب ولا يصليها إلا بمزدلفة، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو وصل إلى مزدلفة قرب الفجر، يعني: في أوقات الضرورة فإنه يؤخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة أمامك)، وهذا مذهب الحنفية، وكان بعض العلماء يشير به إلى تمسك الإمام أبي حنيفة بالسنة، ولذلك قالوا: إن الإمام أبا حنيفة رحمة الله عليه كان يجتهد كثيراً لقلة الأحاديث عنده، وكان يخاف الوضع على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان في المشرق، والأحاديث هناك قليلة، ولذلك قال الإمام الشافعي لصاحب أبي حنيفة محمد بن الحسن : أناشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة، أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. فكانت السنة قليلة عنده رحمة الله عليه فكان يجتهد كثيراً.

    ولذلك لما جاء هذا الحديث وقال فيه أسامة : (الصلاة يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة : لا تصلى إلا بالمزدلفة، وهذا يدل على أن الأئمة رحمة الله عليهم الظن بهم أنهم لا يتركون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تزكية لهذا الإمام الجليل رحمة الله عليه، وأن ما كان منه من اجتهادات إنما كان سببها عدم بلوغه النص، فالواجب على من تبعه ورأى اجتهاده يعارض النص أن يعدل إلى النص؛ لأن هذا من متابعته رحمة الله عليه. فقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال العلماء: إنه يؤخر المغرب حتى ولو وصل في وقت العشاء، ولكن لو وصل إليها مبكراً -كما هو الحال الآن- في وقت المغرب، فإنه يجمع جمع تقديم، والمسافة بين المزدلفة وبين عرفات طويلة وتأخذ وقتاً، والغالب أنه لا يصل إلى بعد دخول وقت العشاء، ولذلك قالوا: إن السنة أن يجمع سواء كان جمعه جمع تقديم أو جمع تأخير.

    قوله: (بسكينة) أي: بهدوء، وهي مأخوذة من سكن الشيء إذا استقر.

    قوله: (ويجمع بها بين العشاءين) هذا من باب التغليب كالقمرين والعمرين من باب التغليب، وكما ذكرنا إما أن يجمع جمع تقديم أو جمع تأخير.

    العمل الثالث: المبيت بمزدلفة

    [ويبيت بها].

    قوله: (ويبيت بها) أي: فيها، فالباء للظرفية؛ لأن الباء لها أكثر من عشرة معان، منها: الظرفية.

    تعدّ لصوقاً واستعن بتسببٍ وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا

    وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلها

    فمن معانيها الظرفية: (يبيت بها) أي: داخل حدود مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، والسنة أنه يبادر بالمبيت ولا يشتغل بشيء آخر؛ حتى يستطيع الاستيقاظ للفجر في أول وقته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، ووقع فعله بياناً للمجمل، ولذلك فإن مذهب جماهير العلماء أن المبيت بمزدلفة يعتبر من واجبات الحج، حتى قال بعض العلماء: إنه ركن من أركان الحج، وإن كان الصحيح أنه واجب من الواجبات.

    وقوله: (ويبيت بها) كما قلنا، أي: في حدود مزدلفة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات فيها، سواء كان بجوار المشعر أو بعيداً عن المشعر، ما دام أنه داخل حدود مزدلفة.

    والبيتوتة هنا مطلقة، يعني: لو أن إنساناً بقي بمزدلفة ولم ينم فإنه يعتبر قد بات بمزدلفة؛ لأن البيتوتة تتحقق حتى ولو لم ينم، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64] فأخبر سبحانه وتعالى أنهم يبيتون مع أنهم قائمون الليل، فالمقصود: أن البيتوتة تتحقق حتى لو جلس في مزدلفة ولم ينم، ولكن السنة والأفضل أن ينام، قال العلماء: إنه إذا نام استيقظ مبكراً وهو قوي النفس مستجم الروح، فيكون أحضر لقلبه إذا دعا بالمشعر الحرام، وأخشع عند سؤاله لله عز وجل، وذلك من أسباب الإجابة.

    1.   

    الأسئلة

    حكم التلبية يوم عرفة

    السؤال: إذا تفرغ وانشغل يوم عرفة بما ورد من الدعاء، هل معنى ذلك أن يكف عن التلبية أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فالسنة المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، فيدعو الله عز وجل ويسأله من فضله، وليس هناك ما يدل على ذكر التلبية أو نفيها، إن قيل: يلبي أثناء دعائه فله وجه من جهة الاستصحاب، هذا يسمى: استصحاب الأصل. وقول جماهير العلماء: على أن عرفة موضع للتلبية، خلافاً للمالكية وطائفة من فقهاء المدينة، حيث قالوا: إن التلبية تنقطع بالمضي إلى الصلاة في يوم عرفة؛ لأن الحج عرفة، فإذا كان يلبي من أجل الحج فإنه ينتهي بمضيه إلى عرفة، وهذا قول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبى بعد عرفة، وعلى هذا فلو قال قائل: بأنه يلبي أثناء دعائه، فهذا من باب استصحاب الأصل، ولو قال قائل: يشتغل بالدعاء، فهذا هو الأصل في الأدعية أنه يشتغل فيها بدعاء الله عز وجل وسؤاله من فضله. والله تعالى أعلم.

    معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم)

    السؤال: كيف نفرق بين المسنونات والواجبات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، علماً بأن الكل مندرج تحت قوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم)، وضحوا ذلك أثابكم الله؟

    الجواب: المنسك يكون بالأفعال التي فعلها عليه الصلاة والسلام، هذا في الأصل، ولذلك سميت: المناسك يقال: عرفة ومنى والصفا والمروة، هذه من مناسك الحج، تطلق المناسك على الأماكن، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، وتطلق على الأفعال ومنها: الذبح، كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] .

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) وقع هذا على سبيل العموم، فهو يشمل الأقوال والأفعال من حيث الأصل، لكن المعتبر عند الجمهور رحمة الله عليهم، فيما ذكروه من الأركان والواجبات، إنما هو في الأفعال وهي الغالبة، فقد وقع منه عليه الصلاة والسلام بيان لما أجمل القرآن في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] من جهة الأفعال، وأما بالنسبة للأقوال: فتأتي أدلة تخصص أو تدل على أن هذا القول سنة وليس بواجب ولا لازم، أما كيفية التفريق فهذا يرجع إلى ضوابط قررها العلماء في علم الأصول، سنذكرها إن شاء الله في باب أركان الحج وواجباته، ما هو الركن؟ وما هو الواجب؟ وما هو السنة؟ ونبين لماذا صرفنا هذا الفعل من كونه لازماً إلى كونه مسنوناً، ودليل الصرف؟ وهذا إن شاء الله سيأتي بيانه في موضعه. والله تعالى أعلم.

    وأظن السائل فيما يظهر لي والله أعلم أن مراده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني مناسككم)، هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله في الأصل واجب ولازم، فلماذا نقول: إن فِعْلُه هذا في الحج سنة، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم)؟!

    والواقع أن العلماء رحمة الله عليهم بينوا هذا، وأظن أن هذا هو الإشكال عنده فيما يظهر، وهو إشكال وارد من هذا الوجه، يعني: حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله وما وقع منه عليه الصلاة والسلام يعتبر واجباً، لكن العلماء رحمة الله عليهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالمنسك: أداء الشعيرة؛ والسبب في ذلك: أن الحنيفية بدلها المشركون من أهل مكة وغيرهم في الجاهلية، فزادوا ونقصوا وحرفوا وأحدثوا وابتدعوا، فجاء فعله عليه الصلاة والسلام لبيان أصول الدين في العبادة ذاتها، وبيان ما أمر الله عز وجل ببيانه من توحيده سبحانه، وحدود وضوابط العبادة التي هي الحج، فقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) المراد به بيان الهدي، بغضِّ النظر عن كونه في الأصل واجباً أو غير واجب، لكن العلماء يستأنسون بقوله: (خذوا عني مناسككم) على الوجوب؛ لأن الحديث يقول: (خذوا عني) ولم يقل: افعلوا فعلي، وفرق بين: (خذوا عني)، وبين قوله: افعلوا ما فعلت؛ لأن خذوا عني المراد به التعلم، والتعلم يشمل ما هو واجب وما ليس بواجب، فوقع بياناً للحنيفية وليس المراد به تعين الفعل منه عليه الصلاة والسلام، وأظن الأمر واضحاً؛ لأن اللفظ: (خذوا عني مناسككم) يدل على التعلم والتلقي، ولذلك قال: (فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، فكأن المراد به جهة التعلم للشعائر، وهذا أعم من أن يكون دليلاً على الأركان، أو دليلاً على الواجب، أو دليلاً على اللزوم، يشكل على هذا لو قلنا: إن المراد به التعليم، كيف يحتج العلماء به على سنته وهديه في الحج؟

    نقول: نعم؛ لأنه لما ذكر هذا الشيء بقوله: (خذوا عني مناسككم) تنبيهاً على مشروعية هذا الفعل وإقراره للحنيفية وما فيه من الهدي، وليس المراد به مسألة الإلزام وكونه ركناً أو كونه واجباً، بل هو أعم من ذلك، وعلى هذا الذي يظهر أنه لا إشكال في الحديث.

    وخلاصة الجواب أن يقال: إن لفظ الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) لا يساعد على تعيّن أو وجوب أو لزوم كل ما كان في حجة الوداع، بل إن الإجماع منعقد على أنه ليس كل ما وقع في حجة الوادع واجباً، إذاً لو قلت بذلك للزم كل من حج أن تكون أفعاله وأقواله كاملة مثلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لو وقف على الصفا ولم يدع بطل وقوفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الصفا، وحتى لو وقف ودعا ولم يدع مثل دعائه الوارد المتقيد لم يصح أيضاً؛ لأنك ترى أنه لازم كالركن وكالواجب، ولا يقول أحد بهذا، وحينئذٍ يكون قد حمل الحديث في المعنى ما لا يحتمل وفوق ما يدل عليه، ولا شك أن المراد به الأخذ بمعنى التلقي عنه عليه الصلاة والسلام، وقد علل هذا بقوله: (فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) أي: تعلموا هديي وسنتي، التي هي أعم من كون هذا الشي واجباً أو ليس بواجب، وليس المراد به الإلزام والدلالة على الركنية والوجوب كما لا يخفى.

    جواز الإحرام بالحج قبل يوم التروية

    السؤال: هل يجوز الإحرام بالحج قبل يوم التروية مثل اليوم السادس أو السابع، أثابكم الله؟

    الجواب: لا بأس ولا حرج في ذلك، ولكن السنة والأكمل أن يحرم يوم التروية إذا كان متمتعاً.

    أما بالنسبة لأهل مكة فالجمهور: على أنه يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام إلى يوم التروية، ويجوز لهم إلى يوم عرفة، قال عمر رضي الله عنه بإلزام أهل مكة بأن يحرموا لهلال عشر من ذي الحجة، وهذا من فقه الفاروق رضي الله عنه وأرضاه؛ والسبب في هذا: أنه قال -كما روى مالك في الموطأ-: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين. يعني: أن الناس الآفاقيين يأتون إلى عرفة وهم متغيّرة ألوانهم ومصفرة، وهم في شعث وغبرة؛ بسبب طول العهد بالإحرام، وأهل مكة يكون إحرامهم يوم التروية، فيأتون مدهنين ومختلفين عن الناس، فيقول: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال عشر من ذي الحجة. فأمرهم بإهلال عشر من ذي الحجة، لكن هذا عند جماهير العلماء ليس بلازم، وإنما قصد به رضي الله عنه وأرضاه الكمال؛ لما لهم فيه من زيادة الأجر والمثوبة، قالوا: في هذا دليل على أنه يجوز أن يحرم قبل يوم التروية ولا بأس، كما لو وجب عليه دم التمتع فأحرم لليوم الثالث؛ حتى يصوم الرابع والخامس والسادس، أو أحرم في اليوم الرابع؛ ليصوم الخامس والسادس والسابع، أو أحرم لليوم الخامس؛ ليصوم السادس والسابع والثامن في حجه، وهذا لا بأس به، وظاهر القرآن يدل عليه في هدي التمتع كما لا يخفى. والله تعالى أعلم.

    الفرق بين النائم والمغمى عليه من حيث فقدان الوعي

    السؤال: هل يقاس النائم على المغمى عليه، وذلك بجامع كون كلٍ منهما فاقداً للوعي، وذلك في الوقوف بعرفة، أثابكم الله؟

    الجواب: هناك فرق بين النائم وبين المغمى عليه والمجنون، ولذلك النائم من حيث الأصل إذا نبهته ينتبه وإذا أيقظته يستيقظ، ولكن المغمى عليه لو نبهته لا ينتبه ولو أيقظته لا يستيقظ، فالإغماء خارج عن الإرادة، والنوم يمكن أن يرجع الإنسان فيه إلى حالته، أما الإغماء فلا يمكن أن يرجع الإنسان إلى حالته، ولذلك فُرِّقَ بين النائم والمغمى عليه من هذا الوجه، ولا يأخذ النائم حكم المغمى عليه. والله تعالى أعلم.

    وصايا عامة لمن أدرك رمضان

    السؤال: هلاَّ تفضلتم بكلمة عن قدوم شهر رمضان، وما ينبغي على المسلم في هذا الشهر المبارك، أثابكم الله؟

    الجواب: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والعفو والصفح والغفران، وأن يوفقنا فيه للهدى والبر والإحسان.

    الوصية الأولى: لا شك أن من نعم الله عز وجل على العبد أن يطول عمره ويحسن عمله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) ، فالمؤمن لا يرجو من بقائه في الحياة إلا زيادة الخير، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) ، وندب أمته في كل صلاة أن يستعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات، فإذا وفق الله العبد ويسر له بلوغ رمضان، فليكن أول ما يكون منه أن يحمد الله عز وجل على نعمته وجميل فضله وجليل منته، ويسأله سبحانه أن يبارك له في هذه النعمة؛ لأنك إذا شكرت نعمة الله بارك الله لك فيها، ولما غفل الناس عن شكر الله سلب الله بركة النعم، فاحمد الله، إذا بلغت رمضان وانظر إلى مقدار نعمة الله عليك؛ حتى تحس بفضل هذا الشهر، ويمكنك بعد ذلك أن تقوم بحقه. تذكر الشخص الذي كان يتمنى بلوغ رمضان فمات قبل بلوغه والله أعطاك الحياة وأمد لك في العمر، وتذكر المريض الذي يتأوه من الأسقام والآلام، والله أمدك بالصحة والعافية، فتحمد الله من كل قلبك وبملء لسانك، وتقول: الحمد لله الذي يسر لي وسهل لي، اللهم بارك لي في هذا الشهر، وأعني فيه على طاعتك، ونحو ذلك من سؤال الله الخير.

    الوصية الثانية: أن تبدأ هذا الشهر بنية صادقة خالصة، وعزيمة قوية على الخير، فكم من عبد نوى الخير فبلغه الله أجره ولم يعمل به، وحيل بينه وبين العمل بالعذر، فقد يكون الإنسان في نيته أن يصوم ويقوم، فتأتي الحوائل أو تأتي آجال أو تأتي أقدار تحول بينه وبين ما يشتهي، فيكون في قلبه وقرارته فعل الخير، وأن يكون رمضان هذا صفحات بر وإقبال على الله وإنابة إليه، فإذا نويت ذلك وحال بينك وبين ذلك شيء من الأقدار أو الآجال، كتب الله لك الأجر والثواب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك (حبسهم العذر) .

    الوصية الثالثة: فيا حبذا ويا طوبى لمن استقبل هذا الشهر بالتوبة إلى الله والإنابة إلى الله، فإن الله يحب التوابين، والله يفرح بتوبة عبده، فيبدأ شهر رمضان منكسر القلب منيباً إلى الله جل وعلا، يحس بعظيم الإساءة وعظيم التقصير والتفريط في جنب الله، ويقول بلسان حاله ومقاله: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] ، فإذا استقبلت رمضان وأنت منكسر القلب غيّرت ما بك فغيّر الله حالك: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] .

    وعلى المسلم أن يستقبل رمضان بالتوبة والإنابة إلى الله؛ حتى ينال الرحمة من الله سبحانه؛ لأنه قد يحال بين العبد وبينها بسبب ذنب، فمن شؤم الذنوب والمعاصي أنها تحول بين العبد وبين رحمة الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة) أي: أن الله يفتح أبواب رحمته، فيرحم من يشاء بفضله ومنّه وكرمه، فإذا أريت الله من نفسك التوبة والإقلاع، وأنبت إلى الله سبحانه، فأنت أحرى برحمة الله، وأحرى بأن يلطف الله عز وجل بك، وأن يبلغك فوق ما ترجو وتأمل من إحسانه وبره.

    الوصية الرابعة: حتى تكون محققاً لهذه التوبة لابد وأن تتحلل من المظالم فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين عباد الله، ويا طوبى لمن دخل عليه هذا الشهر وليست بينه وبين الناس مظلمة، وليس على ظهره حقوق ولا آثام لإخوانه المسلمين، فنستهل شهر رمضان بالمحبة والإخاء والمودة والصفاء، والنفوس منشرحة والقلوب مطمئنة، ونستهله كما أمر الله إخوة في الإيمان أحبة في الطاعة والإسلام، فإنه إذا وقعت الشحناء حجبت العبد من المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنظرا هذين حتى يصطلحا) أي: لا تغفرا لهما حتى يصطلحا، فتذكر ما بينك وبين أقاربك، خاصة إخوانك وقرابتك: الإخوان والأخوات والأعمام والعمات وكل الآل والقرابات، تتذكر ما لهم من حقوق وما لهم عندك من مظلمة، فتتحلل منها، وتسألهم الصفح والعفو، وتستقبل شهرك وأنت منيب إلى الله سبحانه وتعالى، ليس بينك وبين الناس مظالم تحول بينك وبين الخير، ومن أعظم ذلك كما ذكرنا القطيعة، والمحروم من حرم، فإن خير الناس من ابتدأ بالسلام بعد وجود القطيعة والخصام، قال صلى الله عليه وسلم : (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، فيفكر الإنسان حينما يقدم على رمضان كيف يصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين الناس، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] .

    كذلك أيضاً: يستقبل الإنسان رمضان ويهيئ من نفسه بواعث الخير، والدوافع التي تحمله على الطاعة والبر، ومن أعظم ذلك أن يحس من قلبه كأن هذا الرمضان هو آخر رمضان يعيش فيه، وما يدريه فلعل مرضاً يحول بينه وبين الصيام، فيكون ذلك اليوم أو ذلك الشهر هو آخر ما يصوم، أو لعل المنية تخترمه، فكم من إخوان وأحباب وخلان وأصحاب وجيران كانوا معنا في العام الماضي؟! وقد مضوا إلى الله فأصبحوا رهناء الأجداث والبلى، غرباء مسافرين لا ينتظرون، فالسعيد من وعظ بغيره، فإذا استقبلت رمضان وأنت تستشعر كأن هذا الشهر هو آخر شهر تصومه، أو آخر شهر تقومه؛ قويت نفسك على الخير وهانت عليك الدنيا وزهدت فيها، وأقبلت على الآخرة وعظمتها.

    ومن أعظم الأسباب التي تنكسر بها قسوة القلوب: الزهد في الدنيا والإعظام للآخرة، ولا زهد في الدنيا إلا بقصر الأمل، فحينما تحس أن رمضان هذا قد يكون آخر رمضان لك وآخر شهر تعيشه؛ دعاك ذلك إلى إحسان العمل وإتقانه.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأن يبلغنا رمضان مع صفح وعفو وبر وغفران.

    ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى! أن يجعلنا أوفر عباده نصيباً في كل رحمة ينشرها وكل نعمة ينزلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756000435