إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صيد الحرمللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حرم الله ورسوله مكة والمدينة فلا يقتل الصيد فيهما، ولا يقطع شجر مكة ولا حشيشها إلا الإذخر، فمن قتل صيداً في مكة فعليه دم مثل ما قتله، ومن قتل صيداً في المدينة لزمه الإثم، وفي كلٍ تعرض لسخط الله وعقابه لمن أصر على هذا الفعل.

    1.   

    حرمة مكة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ باب صيد الحرم ].

    لما فرغ من بيان حكم الصيد بالنسبة للمحرم شرع في بيان نوع خاص من الصيد، وهو الذي يشمل المحرم والحلال، وهو صيد مكة وكذلك صيد المدينة، وهذان الموضعان هما اللذان حرم الله ورسوله كما ثبتت بذلك النصوص في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال: (باب صيد الحرم) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بحكم من قتل الصيد داخل مكة أو قتل الصيد داخل المدينة، فإذا كان مراده العموم يصبح حينئذٍ قوله: (الحرم) أي: باب حكم صيد حرم المدينة ومكة، وهذا هو الذي ذكره في الباب أنه اعتنى ببيان حكم صيد مكة والمدينة، أو يكون قوله: (الحرم) حرم مكة، فيكون ذكره لأحكام حرم المدينة من باب التبعية؛ وذلك لأن تحريم المدينة إنما وقع بعد تحريم مكة شرفها الله.

    حرمة صيد الحرم

    وقوله: [يحرم صيده على المحرم والحلال].

    يحرم صيد الحرم على المحرم والحلال بإجماع المسلمين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إن هذا البلد حرم آمن) ، وقال في المدينة: (إنها حرم آمن) .

    وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس). قال بعض العلماء: قوله: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) أي: أن حرمة مكة إنما كانت من الله تشريعاً ولم تكن شيئاً جبلياً في الناس، كأن يكون شيئاً كان الناس يألفونه ثم نشأ في الناشئة من بعد ذلك وهم على هذا التحريم، إنما هو تحريم من الله.

    وقيل: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) أي: أن الله حرمها؛ ولكن الناس استهانوا بهذه الحرمة العظيمة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على عظيم ما للبيت والحرم من حرمة عند الله عز وجل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) ، فهذا نص صريح يدل على أن مكة حرم، وأنه لا يجوز أن يعتدى فيها، وأن تصاب فيها حدود الله عز وجل، ومن ذلك ما نهى الله عز وجل عنه من الصيد.

    ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرمة وبين وجهها فقال: (لا ينفّر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، إلا من معرّف وفي رواية: إلا لمنشد)، فلما قال: (لا ينفّر صيدها) فانظر إلى تعبيره عليه الصلاة والسلام الذي يفيد أن تنفير الصيد واستثارته حرام، فكيف بقتله؟! وهذا كما يسميه علماء الأصول من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، فإذا كان تنفير الصيد وهو تحريشه وتحريكه -كأن يرى حمامة فيهش عليها- حرام عليه، فكيف إذا قتلها؟! فإنه من باب أولى وأحرى يقع في حرمة أعظم.

    فالمقصود: أن تحريم مكة وتحريم الصيد فيها خاصة وتحريمها من كل وجه من جهة العموم، حتى نص العلماء رحمة الله عليهم بتفصيلهم لهذه الحرمة حتى بلغ ببعضهم أن قال: إنه لو قتل ولجأ إلى الحرم لا يقتل، وإن كان الصحيح: أن من قتل عمداً ولجأ إلى الحرم أنه يقتل؛ لكن الشاهد: أن العلماء رحمة الله عليهم عظموا هذه الحرمة ونصوا عليها؛ وذلك لثبوت الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمات الحرم.

    وقوله: [وحكم صيده كصيد المحرم].

    وحكم صيد الحرم بالنسبة لك كحكم صيد المحرم، أي: أن الصيد داخل حدود مكة حرام على المكلف سواء كان محرماً أو حلالاً، فكما أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، كذلك من دخل حدود مكة لا يجوز له قتل الصيد، وحدودها من جهة المدينة ثلاثة أميال وهي جهة التنعيم، وأما من جهة الطائف وجهة المشرق فهي سبعة أميال، ومثلها جهة اليمن، ومن جهة الجعرانة تسعة أميال، وأما من جهة جدة فعشرة أميال، هذا بالنسبة لحدود الحرم، وله أصل في حديث الحاكم في ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنهما في نزول الحجر وانكسار شعبه -وقيل: إضاءته- فبلغت حدود الحرم، وأقيمت الأعلام عليها، وهي منصوبة معروفة ويعتبرها العلماء رحمة الله عليهم من نقل الكافة عن الكافة، فهذه المعالم والرسوم والأمارات التي بقيت وتوارثتها الأمة جيلاً بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل تعتبر باقية ويعتبر وجودها ونقل الكافة عن الكافة دليلاً على ثبوتها، ولذلك نجزم بأن هذا هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو جبل أحد من باب نقل الكافة عن الكافة، وهذا ما يسمونه نقل التواتر الذي لا يقبل التكذيب، وعليه فهذه المعالم هي حدود الحرم، فإذا دخل الإنسان إلى هذا الحد من أي جهة كان فإنه يجب عليه أن يرعى هذه الحرمة، ويطالب بحفظ حدود الله عز وجل واتقاء محارمه، ومما حرم الله: قتل الصيد.

    كذلك أيضاً: لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، فحشيشها لا يحش ولا يؤخذ منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يحتش حشيشها) ، وفي رواية: (ولا يختلى خلاها) كل ذلك يدل على أنه حرم ينبغي اتقاؤه، وعدم التعرض لما فيه من الصيد والزرع.

    حرمة قطع شجر مكة وحشيشها إلا الإذخر

    وقوله: [ويحرم قطع شجره].

    ويحرم قطع الشجر، أي: بمكة وداخل حدودها، والشجر له حالتان:

    الحالة الأولى: أن يكون نابتاً من الله عز وجل بدون أن يكون هناك فعل للآدمي، فهذا لا يجوز لأحد أن يقطعه، ولكن استثنى بعض العلماء وجود الضرورة، فإذا كانت ضرورة متعلقة بالكافة كمرور الناس في الطريق وهذه شجرة شوك ستسقط عليهم وتؤذيهم، قالوا: يجوز قطعها كما قطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدوحة بالمطاف.

    وقال بعض العلماء: إذا قطعت مع وجود الحاجة والضرورة لزم الجزاء فيها، وهو قضاء ابن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

    وعلى هذا فإن الشجر الذي نبت وأنبته الله عز وجل وليس للآدمي فيه دخل فإنه لا يجوز قطعه، وأما إذا انكسر من نفسه وسقط فهذا شيء آخر، فإذا انكسر الغصن أو سقط، أو أن الشجرة يبست وسقطت من نفسها، أو اقتلعتها الريح ويبست، فحينئذٍ قالوا: يجوز أن يحتطب منها، ويجوز أن ينتفع منها، ولا حرج في ذلك، كالحشيش اليابس؛ لأن هذا ليس بعضد، فهو لم يعضدها، وحينئذٍ يجوز له أن ينتفع ويرتفق بها.

    أما إذا كان الشجر قد أنبته الإنسان كأن يزرع في بيته زرعاً ثم يريد جزّه وقصه أو عضده فلا حرج عليه أن يفعل ذلك إذا كان مما أنبته أو يكون اشتراه من رجل زرعه فصار في ملكه، فإن يجوز له حينئذٍ أن يحش، ويجوز له أن يقص، ولا حرج عليه في ذلك.

    وقوله: [وحشيشه الأخضرين].

    والحشيش ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: إما أن يكون أخضر، كالمراعي النابتة، وذلك حين ينزل مطر أو تصيب السماء فينبت الرعي في مكة فهذا لا يحشّ، لكن لو كان عندك إبل أو بقر أو غنم ورعت فيه فلا حرج، فهناك فرق بين أن ترعاه البهيمة وبين أن تحش بنفسك، ولذلك كان للصحابة رضوان الله عليهم إبلهم ودوابهم حينما قدم عليه الصلاة والسلام مكة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكمموا أفواهها، ولم يحرم عليهم أن ترعى هذه الإبل داخل مكة، وإنما جعل التحريم من فعل المكلف، فدل على أنه يجوز أن يرسل إبله أو بقره أو غنمه للرعي، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا إذا كان الحشيش أخضر.

    أما إذا كان الحشيش يابساً فيجوز لك أن تجزّه، وأن تأخذ الهشيم ونحوه، فإنه ليس بحشيش وإنما هو هشيم تذروه الرياح إن لم تأخذه أنت، وحينئذٍ يجوز للإنسان أن يأخذه.

    وقوله: [إلا الإذخر].

    لما خطب الناس كما في حديث أبي شريح رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الذي سمعته أذناه، وأبصرت عيناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، ووعاه قلبه حينما قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في يوم الفتح فذكر حرمة مكة، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذا البلد قد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) ، وفي الرواية الأخرى: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم رجعت حرمتها، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يقطع شوكها، ولا ينّفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) فدل هذا على أن الإذخر يستثنى، ويجوز أن يجزّ، ولا حرج في ذلك.

    1.   

    حرمة المدينة والصيد فيها

    وقوله: [ويحرم صيد المدينة].

    لما فرغ رحمه الله من أحكام الصيد بمكة، حيث أثبت أنه لا يجوز أن يصاد الصيد بمكة، وعلى هذا إذا صاد الصيد بمكة كما ذكر لك حكمه حكم صيد المحرم، فلو قتل بمكة تيس جبل أو مثلاً صاد غزالاً أو صاد حمامة ففيه القضاء الذي ذكرناه كصيد المحرم سواء بسواء ولم يفصل؛ لأنه تقدم التفصيل، لكن هنا بالنسبة لصيد المدينة فإنه لا يجوز، فالمدينة أولاً: محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن عبدك وخليلك قد حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها: اللهم بارك في صاعها ومدها) وفي رواية: (اللهم اجعل مع البركة بركتين! اللهم اجعل مع البركة بركتين)، فبالإجماع فإن البركة في المدينة ضعف البركة في مكة، وهذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فالأرزاق مباركة في مكة، ويجد الإنسان أثر هذه البركة في طعامه ورزقه وقوته، ولكنها في المدينة على الضعف فما في مكة يعتبر في المدينة بالضعف، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومن هنا قال بعض السلف بتفضيل المدينة على مكة؛ لأنه دعاء بالبركة عموماً، وقال: إن الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما هو قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس .

    وذهب جمهور العلماء: إلى أن مكة أفضل.

    واحتج الإمام بتفضيل الموت بالمدينة؛ لأن الله عز وجل اختارها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وجعلوا لها من الفضائل، حتى كانت البركة فيها ضعف ما بمكة.

    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، أن مكة أفضل من المدينة، وهذا أمر واضح جلي، فإن النصوص ظاهرة في تفضيل الله عز وجل لهذا الحرم، وثبت في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله إنك لخير أرض الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) ، فالشاهد في قوله: (والله إنك لخير أرض الله) يدل على أنها أفضل؛ لأن قوله: (خير أرض الله) كما تقول العرب: فلان خير، أي: أخير، وشر: أشر، فقوله: (خير أرض الله) يدل دلالة واضحة على أنها أفضل، ولذلك جعلت الصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف، وبمسجد المدينة بألف وهذا يدل على أن مكة أفضل.

    وعليه فإن حرمة المدينة تشابه حرمة مكة، فلا يجوز قتل الصيد داخل حدود حرم المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح عن المدينة: (إنها حرم آمن) ، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه لما سأله أبو جحيفة : (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة، فأخرجها فإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة) هذا ثابت في الصحيح، وقوله: (لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) قيل: لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة، وقيل: إن قوله: (صرفاً ولا عدلاً) أي: إشارة إلى أنه لا يقبل منه شيء، نسأل الله السلامة والعافية، وإذا لم يقبل العمل من العامل فهذا أمر عظيم؛ لأنه دليل على هلاكه، فهو مهما عمل فإن عمله لا يعود عليه بخير؛ لأن العبرة بالقبول.

    فالمقصود: أنه لعظيم حرمة الحرم صرف العبد عن القبول بالإحداث في مدينة حرم النبي صلى الله عليه وسلم، فحرمة المدينة تقتضي عدم جواز قتل الصيد، وعدم جواز تنفيره، ولذلك لما رأى سعد رضي الله عنه الغلام من بني مخزوم يصيد في المدينة أخذ سلاحه الذي يصيد به، فجاء مواليه وقالوا: رد للغلام آلته، قال: لا والله، لا أرد سلباً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في صحيحه، فهذا من باب العقوبة، ولذلك من وجد يصيد في حدود الحرم فإنه يجوز أخذ آلته التي يصيد بها وتملك، وهذا من باب العقوبة التعزيرية، أي: التعزير بالمال .

    فالمقصود: أن حرم المدينة يقتضي عدم جواز الصيد فيه، وعدم جواز الحدث والبدعة داخل المدينة، وكذلك حرم مكة؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم [الحج:25] ، بل إن حرم مكة أشد؛ لأنه جعله لمجرد الإرادة وتوجه العزيمة للشيء.

    حدود حرم المدينة

    حرم المدينة من عير إلى ثور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (المدينة حرم من عير إلى ثور) ، وعير: هو الجبل الذي بحذاء الميقات، على يسار الذاهب إلى مكة مع طريق الهجرة الموجودة الآن، فطريق الهجرة الموجودة الآن إذا جئت إلى الميقات الذي يسمى بأبيار علي فإنك إذا كنت داخلاً المدينة يكون عير عن يمينك؛ وهو جبل طويل أزرق، وأما عن يسارك فيكون الميقات، فهذا الجبل الذي عن يمينك إذا كنت داخلاً المدينة أو عن يسارك وأنت خارج يسمى بعير، وهو حد المدينة من الجهة الغربية إلى الجنوب، وأما ثور فحدها من الجهة الشمالية إلى الشرق، وثور اختلف فيه على أقوال: فهناك قولان هما أشهر وأقوى وأصح الأقوال الواردة:

    إما أن يكون هو الجبل الصغير الأحمر المدور الذي خلف جبل أحد، وهو جبل معروف عند أهل المدينة، وأشار إليه الحافظ ابن حجر ، وأشار إلى هذا السمهودي في كتابه النفيس: وفاء الوفاء.

    وهناك قول ثان: أنه الجبل الذي يسمى بجبل الخزّان؛ وهو على طريق المطار القديم، إذا انتهى جبل أحد، فيكون جبل أحد عن يسارك وأنت خارج من المدينة إلى المطار ويكون هذا الجبل عن يمينك، وقد أخذ الطريق طرف هذا الجبل ويسمى بجبل خزان، وهذا الجبل هو الذي تنطبق عليه صفات جبل ثور. هذا بالنسبة لحدّها من الجهتين اللتين ذكرنا.

    أما من جهة الحرة الشرقية المحضة والغربية المحضة، فإن الحرتين تعتبران حداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أحرم ما بين لابتيها) ولابتا المدينة هما: الحرة الشرقية والحرة الغربية.

    أما الحرة الشرقية فهي في الجهة الشرقية لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى هذه الحرة في القديم بحرة واقم، وهي التي وقعت فيها موقعة الحرة المشهورة التي كانت أيام يزيد بن معاوية ، وفيها يقول قيس الرقيات :

    فإن تقتلونا يوم حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل

    فهذه تسمى بحرة واقم.

    أما الحرة الثانية وهي الحرة الغربية، فهي في غربي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى حرة الوبرة، وتسمى الآن بالحرة الغربية.

    هاتان الحرتان ما بينهما حرام، وهل الحرتان داخلتان في الحرم، أو ليستا بداخلتين؟

    قولان، والصحيح: أنهما داخلتان.

    واختلف في وادي العقيق، ووادي العقيق من الجهة الغربية بعد الحرة، فبمجرد أن تقطع الحرة تنزل إلى وادي العقيق، والصحيح أن وادي العقيق من الحمى وليس من الحرم، فهناك أمران ينبغي التفريق بينهما وهما: الحرم، والحمى، أما الحمى فإنه يخرج خارج الحرم، والحمى لا يجوز فيه الصيد، وكان حمى -أيضاً- لإبل الصدقة لا يرعى فيه أحد، وحمى المدينة بريد في بريد، يعني: ثلاثة أميال في ثلاثة أميال، هذا بالنسبة لحمى المدينة من الجهات كلها، حماه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ترعى فيه إبل الصدقة؛ والتي كانت تتبع بيت مال المسلمين، فلما كانت تحتاج إلى رعي تركت لها هذه المساحة من الأرض، وهذا يسمى حمى المدينة.

    فهذا الحمى لا يجوز فيه الصيد، وأما بالنسبة لحدود الحرم فلا، فإن الحرم ينتهي عند الحرة، وهل الحرة داخلة، أو لا؟ على الوجهين اللذين ذكرنا.

    وقوله: [ويحرم صيد المدينة ولا جزاء فيه].

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، وفهم الصحابة ذلك كما ذكرنا في حديث مسلم في عقوبة من صاد في المدينة، فدل على أنه لا يجوز الصيد داخل المدينة، ولكن يختلف صيد مكة عن صيد المدينة أن صيد مكة فيه جزاء وصيد المدينة لا جزاء فيه، والجزاء في الصيد داخل حدود حرم مكة فيه خلاف، ولكنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما.

    وقوله: [ويباح الحشيش للعلف].

    الدواب إذا جاءت ورعت فلا حرج في ذلك.

    وقوله: [وآلة الحرث ونحوه].

    وكذلك آلة الحرث ونحوه في المدينة، وفيه حديث أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله : أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في تحريم المدينة في عدم جواز قطع شجرها. ولذلك انظر حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنع المنبر الذي كان يخطب عليه لما كثر الناس بعد عام الوفود احتاج للمنبر؛ لأنه كان يخطب على الجذع، فاحتاج إلى المنبر حتى يعلو فيستطيع أن يبلغ صوته إلى آخر المسجد، فقال -كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في الصحيحين- لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار فليصنع لي أعواداً أكلم عليها الناس) ، يقول سهل رضي الله عنه: (فصنعت من طرفاء الغابة) ، والغابة هي التي تسمى اليوم بالخُليل، وهي خارج حدود المدينة، وقد تجاوز الحمى، فلما احتيج لخشب المنبر لم يستطع أن يأخذ من شجر المدينة، وإنما خرج إلى خارج حدود الحرم، فبالرغم من أن النبي محتاج إلى المنبر، وأحب الأشياء إلى الله هو الدعوة إليه سبحانه وتعالى ومع ذلك صنع هذا المنبر من طرفاء الغابة، كما في الرواية في الصحيح، ولذلك يقولون: لا يعضد شجرها، ولا يؤخذ منها، على التفصيل الذي ذكرناه، فاستثنوا الآلة كأن تؤخذ خشبة للفأس ونحوه، حتى يقدّ به أو المعول حتى يحفر به ونحو ذلك، قالوا: رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وخشبة البئر كما جاء في حديث أحمد في مسنده؛ لأنهم اشتكوا له المشقة. فالشخص إذا احتاج إلى هذه الخشبة لكي يصلح فأسه يخرج خارج المدينة ويجاوز الثلاثة الأميال ثم يقص الشجرة ويأخذ منها فهذا فيه مشقة، فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا رخص لهم في ذلك، فهذا الذي جعل المصنف رحمه الله يقول: الآلات.

    وقوله: [وحرمها ما بين عير إلى ثور].

    وحرم المدينة ما بين عير إلى ثور؛ لقوله: (المدينة حرم من عير إلى ثور) ، وحد بعض المعاصرين ثور بالجبل الذي هو خلف جبل أحد بجوار الوادي الذي يسمى بوادي النقمي، وتسميه العامة وادي النكمى، المعروف في القديم باسم النقماء، وهو الذي جاء عنه في غزوة الأحزاب: (أتيت بغطفان فأنزلتهم بمجمع الأسيال من ذنب نقماء)، هذا الوادي يأتي من الجهة الشرقية من جهة المطار ويسمى الآن بوادي الأوينه، هذا الوادي إذا التقى مع مجمع الأسيال فهناك جبل يقولون: إنه جبل ثور، وهذا خطأ، فإن هذا الجبل ليس بجبل ثور، ولو جئت تقف وتجعل عيراً وراء ظهرك وتسامت هذا الجبل ناظراً إليه لوجدت المدينة في أقصى اليمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين عير إلى ثور) ، وهذا يدل على خطأ هذا التحديد، ولذلك الصحيح: أن التحديد إما الجبل المدور الذي ذكرناه خلف أحد، وإما الجبل الذي يسمى بجمل الخزان، وهو الذي ذكره السمهودي في وفاء الوفاء، يقول: هو جبل صغير على يسار الذاهب إلى العراق. فكان على يسار هذا الطريق؛ لأنه كان طريق المشرق وينفذ منه إلى المشرق، وهذا هو أرجح الأقوال، إما هذا الجبل أو هذا الجبل، فكان الوالد رحمه الله يختار الجبل الذي يسمى بجبل الخزان، ويذكر شواهد من الشعر تدل عليه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وهو أنه جبل ثور.

    وتحديد جبل ثور مشكلة من المشكلات، حتى إن أبا عبيد القاسم بن سلام العالم الجليل والمحدث والمفسر رحمة الله عليه الفقيه المشهور كان يقول: أخطأ المحدثون. فكان يخطئ رواة الحديث في هذا الحديث الثابت في الصحيحين ويقول: ليس في المدينة ثور، وإنما هو بمكة.

    والصحيح: أن ثور بالمدينة، ولكن كان خافياً عن البعض، وخفاؤه لا يقتضي أنه ليس بموجود، بل موجود؛ لأن الرواية في الصحيحين، وقد رواه الثقاة العدول، وعلى التفصيل الذي ذكرناه.

    وعليه: فإنه يعتبر حد المدينة ما بين عير إلى ثور من الجهة الشرقية إلى الشمال والغربية إلى الجنوب، وأما بالنسبة للحرتين فقد ذكرنا أنهما حد للحرم لظاهر الحديث في الصحيح: (فإني أحرم ما بين لابتيها).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756008857