إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الغسل والتكفين [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • غسل الميت واجب على المكلفين، وصفته قد جاءت مفصلةً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحكامٌ ومستحبات متعلقة بغسل الميت، لابد من العلم بها حتى يكون المغسل ملتزماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

    1.   

    أحكام غسل الميت

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    وقوله: [وإذا أخذ في غسله ستر عورته وجرده]:

    بعد أن بين لنا -رحمه الله- من الذي يلي التغسيل، ومن له حق التغسيل، وفصّل في الجنسين، وفي المسائل المترتبة على فقد الجنس المماثل، شرع رحمه الله في صفة الغسل.

    وتغسيل الميت من المهمات التي ينبغي على الناس أن يكونوا على إلمام بها، فإن الرجل ربما فجع بقريبه ميتاً، وربما فُجع في سفرٍ بصاحبٍ له أو رفيقٍ له، فيحتاج أن يعرف أحكام غسل الميت، ولذلك كان بعض العلماء والمشايخ رحمةُ الله عليهم عندما يجلسون في المجالس مع العوام، بدلاً من أن يضيع الوقت دون فائدة يعلمون العوام صفة تغسيل الميت بالتطبيق الفعلي، ويطبقونها في المجالس؛ إحياءً لهذا الأمر اليسير، ولكن بعض الناس ربما يدخل عليه بعض التكلفات التي تجعل الناس يظنون أنه شاق، وأنه لا يليه إلا خاصةُ الناس، مع أن الأمر يسير والدين يسر، وهو رحمةٌ من الله عز وجل بعباده، وليس فيه حرج ولا مشقة.

    فالأمور التي يتكلفها البعض في تغسيل الميت وإحداث صفةٍ معينة فيها كلفة ومشقة، فكلها أقرب إلى الاجتهادات والآراء التي لا تستند إلى حجة من الكتاب والسنة، وهي أمور لا أصل لها، وإنما يقتصر على سماحة الإسلام ويسره في ولاية أمر الميت وتغسيله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يسر أمر الغُسل سواء كان الميت رجلاً أو امرأة، وقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في المحرِم: (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وهذا أمر في غاية الاختصار واليسر والسماحة.

    وكذلك أيضاً لما أمر بتغسيل ابنته زينب وتكفينها رضي الله عنها كما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها الذي هو أولى وأقوى من حديث ليلى الثقفية رضي الله عنها، وفيه يسر أيضاً، وإذا تأملته وجدت أن التغسيل وصفة التكفين كلها يسر، وليس بذاك الأمر الصعب الذي يظنه بعض الناس وأنه لا يتيسر إلا لخاصة طلاب العلم، بل الأمر على خلاف ذلك، فقد تجد من العوام من يُحسن ذلك لسهولته ويسره.

    ستر عورة الميت قبل التغسيل

    قال رحمه الله: [وإذا شرع في تغسيله ستر عورته وجرده].

    بعد أن بينا من الذي يلي التغسيل ومن هو أحق بالتغسيل -وهذا من ترتيب الأفكار- وبينا من الذي يُغَسّله من الرجال والنساء، ومن الذي تغسله المرأة من الرجال والنساء، حينئذٍ يرد السؤال: كيف نغسل؟

    فقال رحمه الله: [وإذا شرع] -أي: أراد أن يغسل- [ستر عورته] أي: ستر عورة الميت وستر عورة الميتة، لأن الأصل أن عورات الأموات والأحياء حرمتها واحدة، ولا يجوز كشف السوءات والعورات لا من حيّ ولا من ميت، إلا ما وردت الرخصة والضرورة به من علاج ونحو ذلك، وأما بالنسبة لتغسيل الميت، فالأصل: أن من يريد أن يغسل الميت فعليه أن يستر عورته.

    وبناءً على ذلك يكون ستر العورة على حالتين:

    الحالة الأولى: إما أن تدخل على ميتٍ عليه ثيابه، فحينئذٍ تخفف الثياب وتبقي عليه ما يستر عورته كالسراويل ونحوها؛ والسبب في ذلك أن درجة حرارة الجسم ترتفع، وإذا كانت الثياب على الميت فإنها تفسخ جلده، وخاصةً إذا كانت ثقيلة كما هو الحال في أيام البرد ونحوها.

    أما دليل تخفيف الثياب والاقتصار على ما يستر العورة، فهو ما ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة قالوا: (أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟!)

    قالوا: إن هذا التجريد المراد به أن نزيل عنه جميع ما يلي بدنه، وتبقى العورة على الأصل من كونها محظوراً كشفها والنظر إليها.

    بناءً على ذلك: يُبقى عليه سراويل أو إزار يستر عورته، فمواضع العورة تبقى مستورة، ويبقى صدره ورأسه ورجلاه وساقاه مكشوفة؛ ثم إذا كان عليه ثياب بعد أن يجرده هذا التجريد يهيئه للغسل.

    الحالة الثانية: أن يكون الميت عارياً، وهذا يقع في بعض الأحوال، كما يحدث في بعض الأحيان إذا مات في المستشفى وعليه غطاء مسجى به، فحينئذٍ إذا أردت تغسيله بدأت بعورته، فلا تكشف الثوب عنه حتى تحتاط لعورته، فتلبسه ما يستر العورة، أو تضع على عورته ما يسترها، ثم تشرع في تغسيله.

    ستر الميت عن العيون عند غسله

    وقوله: [وستره عن العيون].

    هناك أمران في الستر:

    الأمر الأول: الستر في الجسد نفسه، بأن تبقي على جسده ما يستر عورته على التفصيل الذي ذكرناه.

    والأمر الثاني: أن تهيئ موضعاً أبلغ في ستره وعدم تغسيله أمام الأعين؛ فإن ذلك أحفظ لحرمته وأرعى لها وأصون ، وصورة ذلك: أن يختار الإنسان الغرف ونحوها، فلا يغسله في فناء واسع، وخاصةً إذا كان هناك أشخاص ينظرون إليه، أو فناء مكشوف تطل عليه البيوت الأخرى أو نحو ذلك، فهذا فيه حط من قدر الميت ومنقصة لمكانته، وحينئذٍ لا يفعل به ذلك.

    ثم في الغرف نفسها: فأضيقها مقدّمٌ على أوسعها ما لم يكن في السعة ما يعين على تغسيله، أو تكون هناك حاجة لإخراجه إلى مكان أوسع لكي يكون الماء قريباً منك، أو كان في الموضع الذي فيه الماء ولا تستطيع أن تنقله إلى موضعٍ آخر، فحينئذٍ لا حرج أن تغسله في ذلك الموضع ولو كان واسعاً.

    فتختار له الغرف الضيقة والمستورة من أعلاها، وهناك حديث تكلم العلماء في سنده، وهو: النهي عن تغسيل الميت في غرفةٍ ليس لها سطح، ولكنه ضعيف، والصحيح: أنه لا حرج أن يُغسل وهو إلى السماء، بمعنى أن يكون في غرفة أو فناء أو نحو ذلك، ولكنه خلاف الأولى.

    كراهة حضور غسل الميت إلا لمن احتيج إليه

    قال رحمه الله: [ويكره لغير معين في غسله حضوره].

    وهنا ننبه على أمر! فمع أن المنكشف من الميت غير عورته، وهو صدره وساقاه.. ونحو ذلك، فلا ينبغي أن يحضره إلا من يلي تغسيله، وهذا يدل على الحفظ الأكمل للإنسان، حتى وإن قلنا بجواز أن يرى الرجل ساق الرجل وأن يرى صدره، ومع ذلك نقول: إن حفظ هذه الأمور أولى وأحرى.

    نفرع عليه المسألة المشهورة، وهي: أن بعض النساء -أصلحهن الله- يترخصن بقول بعض العلماء: إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، فيقولون: لا حرج أن تبدو المرأة كاشفة الساقين أو الفخذين -نسأل الله السلامة والعافية- وكاشفة الصدر؛ لأن عورتها المغلظة السوأتان والفخذان كالرجل مع الرجل.

    ونقول: لو كشف الرجل عن عورته في مجامع الناس لسقطت عدالته وردت شهادته، وكذلك المرأة إذا جلست بين النساء مكشوفة الفخذين أو مكشوفة الساقين أو مكشوفة الصدر؛ فهي ساقطة العدالة ذاهبة المروءة -نسأل السلامة والعافية- ومثلها لا تقبل شهادتها، وهذا بإجماع العلماء: أعني أن من يرتكب ما يخل بالمروءة لا تقبل شهادته؛ لأنه ناقص العقل، والشهادة إنما تقبل ممن عنده عقل يعقله ويردعه.

    لذلك يقول العلماء: لحفظ كرامة الميت ينبغي ألا يحضر تغسيله -مع كونه محفوظ السوأتين- إلا من احتيج إليه، كأن يكونوا أعواناً يقومون بمعونته، أو يكون عالماً من أهل العلم يرشد أو يبين، فحينئذٍ لا حرج أن يحضر، وأما من عدا ذلك فلا.

    ورخص بعض العلماء في بعض القرابة للشفقة، كأن يكون ابنه فيحب أن يكون حاضراً لتغسيله، وقد يكون ذلك من بعض الأقرباء؛ حتى يكون أدعى لرضاه بقدر الله عز وجل، لأنه ربما رأى أمارات تبشره بالخير، ويكون ذلك أدعى لصبر الأقرباء، وهذا معروف: ربما غسل فظهرت أمارات طيبة في تغسيله، فتكون أدعى لصبر أقربائه واحتسابهم للأجر فيه.

    رفع رأس الميت وعصر بطنه برفق عند غسله

    قال المصنف رحمه الله: [ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه]:

    أي: بعد أن يهيئ الغاسل المكان الذي يريد أن يغسل الميت فيه، يختار بعض العلماء أن يكون الميت على سرير؛ لأنه إذا كان على الأرض يكون غسله من الصعوبة بمكان، ولذلك اختاروا أن يكون على سرير أو على شيء عالٍ؛ حتى يتيسر نزول الفضلات والأقذار؛ ويكون ذلك أدعى لسلامة الجسد منها، فيضعه على سريرٍ ونحو ذلك ويجعل صدرهُ مرتفعاً قليلاً، فيرفع صدره ورأسه حتى يتيسر خروج الخارج أثناء تغسيله.

    وقوله: [ويعصر بطنه برفق]:

    أي: بعد أن يرفعه من جهة صدره ورأسه يقوم بعصر بطنه عصراً رفيقاً، فإن هذا الرفع والعصر يسهل خروج الفضلة الباقية في ذلك الموضع؛ فتخرج الفضلة، وذلك أدعى لنقائه.

    ثم لا يعصر بمبالغة، ولا يضغط ضغطاً شديداً؛ وذلك لأن حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً، كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند ابن ماجة وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً في الإثم) قال العلماء: فيه دليل على أنه يأخذ الحرمة ميتاً كما كانت له حياً، وعلى هذا قالوا: لا يبالغ في عصره، ولا يبالغ في الإضرار به وأذيته.

    وقوله: [ويكثر صب الماء حينئذٍ]:

    هذه أمور كلها من باب الاستعانة على النظافة، ليس فيها نص أنه يجب أو يلزم الإنسان عبادةً أن يكثر الماء، إنما المراد أنه يكثر الماء حينئذٍ؛ لأن التجربة أنه إذا عصر البطن خرج الخارج، وحينئذٍ ينتن رائحة يتضرر منها من يلي تغسيله ومن عنده، فإذا أكثر الماء كان أدعى لخروج هذه النجاسة، وكذلك أدعى لسلامة البدن منها، وسلامة البدن مقصودة، وكذلك أيضاً الرفق بمن حضر بزوال الرائحة والنتن مطلوبٌ.

    تنجية الميت بخرقة

    [ثم يلف عليه خرقة فينجيه].

    إذاً: أول ما يبدأ بقضية إخراج الفضلات، وإخراج الفضلات يستلزم منك أمرين:

    الأمر الأول: أن تقوم برفع الجذع الأعلى من جسده حتى يتيسر نزول الفضلة والعصر الرفيق على بطنه، يتكرر ذلك على حسب الحاجة.

    وبعد أن تعصر وتتأكد من خروج الخارج ويكون مع خروج الفضلات صبّ الماء حتى لا يؤذي برائحته، وأيضاً حتى لا يتضرر البدن ببقاء النجاسة، فكثرة صب الماء أثناء خروج الخارج أدعى لذهاب النجاسة والقذر، وهذا مطلوب شرعاً.

    فهذان أمران: العصر ووضع الميت في حالة تعينه على خروج الخارج، ثانياً: كثرة صب الماء لنقائه وتنظيفه.

    بعد هذا تكون مرحلة النقاء المقصودة، وذلك أن يأخذ خرقة فيلفها على يديه، ثم يصب الماء على السوءة ويبدأ بغسلها وإنقائها كالحي سواء بسواء، أي: كما أنه ينجي نفسه ينجي الميت كذلك.

    لكن قال بعض العلماء: لو تيسر وجود أي حائل، حتى ولو كان بالأكياس الموجودة الآن فلا حرج، فإنما العبرة بأن يُنقَى الموضع، سواء كان الحائل خرقة أو غيرها.

    حرمة مس عورة من بلغ سبع سنين

    وقوله: [ولا يحل مس عورة من له سبع سنين]:

    هذا دقة الفقهاء رحمة الله عليهم! فإنه لما ذكر غسل الميت، كان من المناسب لذلك أن يذكر فيها مس عورة الأجنبي مع وجود الحاجة للغسل، فقال رحمه الله: ( ولا يحل مس عورة من له سبع سنين ).

    والمس يكون بالمباشرة، أي: الإفضاء إلى الشيء بالشيء بدون وجود حائل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من مس ذكره) وإذا وجد الحائل فلا يقال: مس؛ وربما يقال: لمس، وإن كان بعض العلماء يقول: اللمس يقتضي عدم وجود الحائل، لقوله تعالى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام:7] فأياً ما كان: فالمس أن تباشر البشرة البشرة، لكن إذا وجد الحائل فلا يقال إنه مس، وإنما يقال: وضع يده، أو أدخل يده أو نحو ذلك.

    وحينئذٍ يضع على يديه اللفافة وينجيه إذا كان ابن سبع سنين فما فوق، وإذا كان دون السبع السنين فلا حرج على أمه وأبيه أن يغسلاه، إلا أن بعض العلماء فرق فيما يكون فيه شبه الرجال كبعض الأبناء الذين يبرز مبكراً في سنه حتى يشابه الرجال، وقد تفتن به المرأة ولو كانت قريبة، فهذا يحتاط فيه، وكذلك بالنسبة للصغيرة المشتهاة أو التي تكون أشبه بالكبيرة وفيها فتنة، فهذه مسائل مستثناة، نص العلماء على استثنائها بأعيانها.

    استحباب مس سائر الجسد بخرقة

    قال رحمه الله: [ويستحب ألا يمس سائره إلا بخرقةٍ]:

    أي: سائر جسد الميت.

    لقد بين لنا رحمة الله عليه أن أول ما يبدأ به الإنسان إنما هو إنقاء الموضع بعد خروج الخارج، وقال: إن هذا الإنقاء إذا كان الميت ابن سبع سنين فما فوق ينبغي أن يكون بحائل، فلما تكلم على الحائل من أجل العورة ناسب أن يذكر أن هذا الحائل الأفضل أن يكون هناك مثله لبقية الجسد؛ لكن ليس للعلة التي في العورة وإنما لعلة أخرى، وذلك أن وجود الخرقة يصبح بمثابة المعين على دلك الجسد ونقائه، بخلاف ما إذا باشرت اليد الجسد، فإنها لا تقوى على إزالة الوسخ والقذر كما لو كان بليفةٍ أو نحو ذلك من الأشياء.

    فقال: (يستحب)، أي: يستحب في سائر البدن أن يكون هناك شيء من القماش أو نحوه على اليد، حتى إذا مرت اليد على الجسد كان ذلك أدعى لمكان الخشونة أن يزيل الأقذار أو ما علق بجسد الميت مما هو غريب عنه.

    صفة وضوء الميت

    قال المؤلف: [ ثُمَّ يُوَضِّئْهُ نَدْباً ].

    (ثم) هنا جاءت للترتيب، والمصنف رحمه الله ذكر لنا أنك تبدأ بإنقاء العورة من الفضلات وغيرها، ثم بعد ذلك قال: وتكون هناك خرقة لغسل سائر البدن، فأدخل مسألة الخرقة لسائر البدن بعد الطهارة، فكأنها فاصل فقال: (ثم) ولم يقل: (و) كأنه يشير إلى أن مسألة الخرقة لسائر البدن مسألة مقحمة ذُكِرت لنظيرها، وإلا فالأصل بعد انتهائك من تغسيل عورته وإنقاء الموضع من النجاسة أن تنتقل إلى توضئة الميت، فننبه على الترتيب:

    فيبدأ الإنسان أولاً بإنقاء الموضع من النجاسة، ثم يبدأ بتوضئة الميت، فبعد أن ينجيه كما ينجي الحي نفسه من النجاسة، ويرى حينئذٍ أنه قد انقطع الخارج النجس، وأن النجاسة قد زالت عن الموضع؛ ينتقل إلى الوضوء، وهذه هي السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل بدأ صلوات الله وسلامه عليه بإزالة الأذى، قالت أم المؤمنين: (فغسل الأذى، ودلك بيديه الأرض بعد أن غسل الموضع)، وهذا يدل على أن السنة في غسل الميت كالحي: أن يبدأ بإزالة النجاسة ثم الوضوء.

    وتوضئة الميت هي أول ما يكون في غسله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أمر النساء أن يغسلن بنته: (ابدأن بميامينها -يعني: جهة اليمين- وبأعضاء الوضوء منها)، فدل على أن السنة البدء بالوضوء، وكان عليه الصلاة والسلام: (إذا اغتسل ابتدأ بالوضوء)، فغسل كلتا يديه، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وبعد ذلك أخر غسل رجليه إلى آخر غسله؛ لكن هنا في الميت قالوا: لا يؤخر؛ لأن العلة التي في الحي ليست موجودةً في الميت، فيبتدأ بتوضئة الميت.

    وقوله: [ولا يُدخل الماء في فيه ولا في أنفه]:

    بعد أن بين لنا أن نوضئ الميت، قال: (ولا يدخل الماء في فمه ولا في أنفه) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتغسيله، وإنما يقتصر على غسل الشفتين، ولذلك قالوا: يبل يديه ثم يمر بهما على شفتيه؛ لأنهما من الخارج، وذلك يغني عن إدخال الماء إلى الداخل، وهكذا بالنسبة لمنخريه، قالوا: إنه يبل يديه ويدخلهما في المنخرين كأن الماء قد دخل، وإن كانت الصورة أشبه بالمسح؛ لكنهم قالوا: إن صب الماء على اليد ثم إدخالها أقرب إلى الغسل، فصار المسح أخف من الصورة التي ذكرناها، فكأن الصورة أقرب إلى الغسل.

    وعلى هذا: فبدلاً أن يمضمض الميت ويدخل الماء في أنفه يقوم بوضع الماء على شفتيه، بوضع إصبعيه مبلولتين على شفتيه، وإدخالهما في منخريه أيضاً، وهذا ما ذكره المصنف رحمه الله بقوله:

    [ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء]:

    أي: لا يدخل الماء في فمه ولا أنفه.

    إذاً بهذا نكون قد بينا أن السنة توضئة الميت.

    حكم البسملة والنية عند غسل الميت

    قال رحمه الله: [ثم ينوي غسله ويسمي].

    قوله: (ثم ينوي غسله): هذا فيه خلاف بين العلماء: فالحنفية لا يرون نية الغسل، والجمهور يرون نية الغسل وهو الصحيح، وأصل المسألة مفرعة على غسل الحي أيضاً؛ والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنها تشترط، ولا يصح الغسل من الجنابة لحي إلا بنية، وقد قدمنا هذه المسألة وذكرنا الأدلة وخلاف العلماء والراجح فيها، فالصحيح أنك تنوي.

    وبناءً على ذلك: ما فائدة أن نقول: إنه لا بد من النية؟

    فائدة ذلك: أنه لو أُخِذَ الميت ووضع في موضع عُممَ الماءَ على بدنه، كأن يوضع في بركةٍ صغيرة -بطريقة أو بأخرى- ويكون عالي الصدر، ويمر الماء على سائر جسده بقصد التنظيف، أو صبّ الماء عليه بقصد تنظيفه لا بقصد القيام بحق الغسل، فحينئذٍ نقول: هذا الغسل ليس تعبدياً؛ لأنه لم ينو، فحينئذٍ يلزم أن يعاد الغسل مرةً ثانية، هذا هو وجهه.

    وأما الدليل على اشتراط النية فقد قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وقال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2] فأمر سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له، والغسل من الجنابة دينٌ وعبادة، ولا يمكن للإنسان أن يقصد القربة بهذا العمل -أعني: الغسل- إلا بالنية؛ لأن الغسل يقع على صورة العبادة ويقع على صورة العادة، فيقع على صورة العبادة كما في غسل الجنابة وغسل النفساء، ويقع على صورة العادة كالغسل للاستحمام، فلما كان الفعل في حد ذاته صالحاً للعادة وصالحاً للعبادة؛ فإنه لا يمكن تميز العادة عن العبادة إلا بالنية، فأصبحت واجبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والغسل عمل.

    وقوله: (ويسمي) أي: يقول: (باسم الله) عند تغسيله.

    وقوله: [ويغسل برغوة السّدْر رأسه ولحيته فقط]:

    وذلك بأن يأخذ إناءً مخصوصاً ويضع السدر فيه ويضربه فيه حتى تصير له رغوة كرغوة الصابون، فيأخذ هذه الرغوة النقية من السدر ويغسل بها رأسه وشعر وجهه، والأصل في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماءٍ وسدر).

    الشروع بتغسيل الشق الأيمن ثم الأيسر

    وقوله: [ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر]:

    يغسل شقه الأيمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) ثم شقه الأيسر، إن كان مضطجعاً ووجهه إلى السماء فتبدأ بالشق الأيمن للميت لا للغاسل.

    وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو أحرمت بعمرة وأردت أن تتحلل بعد انتهائك منها، أو بحج وأردت أن تتحلل منه، فهل السنة إذا جاء الحلاق ووقف قبالة وجهك أن يبدأ بيمينه الذي هو يسار لك، أو بيساره الذي هو يمينٌ لك؟ الصحيح: أن العبرة بك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الحلاق شقه الأيمن، فلما قال: ناول الحلاق شقه الأيمن؛ دل على أن العبرة بالميت الذي يُغسَّل، فيبدأ بيمين الميت لا بيمين الغاسل؛ لأنه ربما وقف الغاسل فكان يمينه يسار الميت، وكان يساره يمين الميت، فحينئذٍ العبرة بالميت نفسه؛ لأن الغسل متصل به، والعبادة كذلك متصلةٌ به، فحينئذٍ يُبدأ بيمين الميت، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) فأسند اليمين إليها، والإضافة تقتضي التخصيص.

    وعلى هذا: تكون اليمين للميت لا للغاسل، فإن كان مضطجعاً إلى السماء تأتي إلى الناحية اليمنى وتصب الماء عليها، وتغسل أعلاه ثم أسفله، بأن تقلبه حتى يعطيك قفاه، فتغسل الجهة التي تلي الظهر من اليمين؛ تبدأ بهذا ثلاثاً.

    وبعض العلماء يرى: أنه عليك أن تبدأ بالغسلة الأولى بالشق الأيمن، ثم تقلبه على شقه الأيسر وتغسل الأيسر، ثم تعود ثانية إلى الأيمن، ثم تعود ثالثة بنفس الطريقة؛ كأنه يرى أن الغسلة تتم بالجمع بين اليمين واليسار، ولكنهم قالوا: الأرفق والأولى أن يبدأ باليمين فينتهي منه كليةً، فيغسله ثلاثاً، ثم بالشمال ويغسله ثلاثاً فينتهي منه بعد انتهائه من اليمين.

    عدد الغسلات في غسل الميت

    وقوله: [ثم كله ثلاثاً].

    أي: كل جسده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح بدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، وقالت أم المؤمنين: (ثم أفاض الماء على رأسه -وفي رواية- على جسده).، فهذا يدل على أن الإفاضة تكون بعد البدء بالشق الأيمن؛ تشريفاٌ لليمين، ثم انتهائه من الأيسر.

    وقوله: (يفيض الماء على جميع جسده)؛ لا بأس باستعمال الوسائل التي يستعان بها في صب الماء كخرطوم المياه ونحو ذلك، فإن شئت أن تصب الماء عليه وتدلك بيديك فابدأ بشقه الأيمن، ثم اقلبه على الأيسر وادلكه بيدك، ثم عمم سائر الجسد، ويكون غسلك لسائر الجسد ثلاث مرات، والثلاث المرات أن تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ ثم تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ حتى يكون أدعى لضبطك؛ لأنك لو فرقت بدون إمعان ربما تكررت الثلاث متفرقة على البدن، فتكون غسلت بعض البدن ثلاثاً وبعضه مرتين وبعضه مرة.

    فالأولى: أن تبدأ بترتيب جسده، فتبدأ بأعلاه فتعتني بكتفيه وجهة رأسه، ثم إلى صدره ثم إلى ظهره، ثم بعد ذلك على ما أقبل من أسافل رجليه ثم ما أدبر.

    وبعض العلماء يقول: إنما يبدأ بالأعلى وهو منقلب على وجهه إلى السماء، فتبدأ بأعلاه ثم إلى أسفله، ثم تقلبه وتبدأ بأعلاه وهو مقلوب إلى أسفله. والأمر واسع، والعبرة أن الماء يعم الجسد سواء بهذه الطريقة أو بتلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه) ولم يحد في ذلك حداً معيناً.

    وقوله: [يمر في كل مرة يده على بطنه]:

    أي: يمر في كل مرة يده على بطنه برفق؛ حتى إذا كان هناك خارج يخرج ويبقى نظيفاً نقياً كما هو المقصود من غسله وتنظيفه.

    وقوله: [فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى ولو جاز سبعاً].

    أي: فإذا كان بعد الثلاث قد نقي فلا إشكال، وإن لم تنقه الثلاث زيد وتراً، فيكون بخمس ويكون بسبع على حسب الحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن) فهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالنظافة؛ ولذلك يختلف الوضع في الصيف والشتاء، فقد يكون في الصيف أسهل وفي الشتاء أصعب، وقد يكون بعض الأجساد به من النتن والقذر ما يحتاج إلى غسله سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة مرة؛ فالعبرة في هذا الأمر بتنظيفه وإنقائه.

    وضع الكافور في الغسلة الأخيرة

    وقوله: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ]:

    أي: لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور) والكافور ميزته أنه يطرد الهوام، فإذا وضع في قبره فإن الهوام لا تبادر بالهجوم على جسد الميت، وذلك أدعى لبقاء الجسد أكثر مدة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافوراً) يدل على أنه من السنة.

    حكم استعمال الأشنان في الغسل

    وقوله: [والماء الحار والأشنان، والخلال يستعمل إذا احتيج إليه]:

    الماء الحار على ضربين: حرارة نسبية معقولة يستعان بها على خفة الماء على الجسد وسهولته، وكذلك تأثيره على القذر الموجود على ظاهر جسد الإنسان.

    وحرارة شديدة يتفسخ معها الجسد أو يتضرر منها الجلد.

    والعلماء رحمهم الله لا يعنون بالحرارة النوع الثاني الذي يضر بالبدن ويؤذيه، إنما المراد الماء الحار الذي يقصد به الرفق بالبدن، وسهولة إخراج القذر منه، والسبب في ذلك أن الجلد إذا غُسِل بماءٍ حار سهل إخراج ما علق به من الأوساخ والأقذار.

    فذكر رحمه الله أن الأصل أنه يغسل بماءٍ عادي غير حار ولا بارد ينفع الجسد بإنقائه وتطهيره وإزالة القذر الذي عليه، ولكن إذا وجدت الحاجة لوجود أوساخ أو أقذار عالقة بالبدن؛ فحينئذٍ يصب الماء الحار، ولكن بشرط ألا تكون حرارته شديدة بحيث تؤذي البدن وتضر به.

    و(الأشنان): كالصابون ونحوه، فيمكن أن يغسله بالصابون إذا احتيج إليه كما إذا كان شديد القذر، فبعض الموتى يكون على حالة يحتاج معها إلى وجود الطيب أكثر، كأن يغسل بالصابون وما في حكم الصابون من رغوة الأطياب الموجودة في عصرنا الحاضر، فحينئذٍ يوضع في الماء ويغسل برغوة الصابون ونحوه، وهو الذي يسميه العلماء بالأشنان.

    (والخلال): وهو تخليل أسنانه ومواضع الأذى بالأعواد، لكنها في الأصل تكون في الأسنان، ولو احتيج لتخليل الأسنان كأن يكون بينها أقذار أو أوساخ، كما يقع في بعض الحوادث، أو يكون هناك فضلة دم في الفم، فلا يستطيع أن يزيلها إلا بشيء من الأعواد الصغيرة التي تستعمل لتخليل المنافذ الموجودة بين الأسنان، فهذه تستعمل إذا احتيج إليها، وإلا فالأصل أنها لا تستعمل.

    حكم قص شعر الميت وتسريحه وقص أظافره

    وقوله: [ويقص شاربه ويقلم أظفاره]:

    أي: إذا أراد أن يغسل الميت يقص شاربه؛ لأن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قص الشارب، وهي من الفطرة كما في الصحيح في حديث: (خمسٌ من الفطرة، ومنها: قص الشارب) والشارب للعلماء فيه كلام من ناحية إحفائه وقصه، فبعض العلماء يرى أن العبرة في القص أن يبدو إطار الشفة؛ لأنه إنما ندب وعُدّ من الفطرة أن يقص الشارب؛ لأنه إذا نزل الشارب على الفم أنتن وتعلقت به فضلات الطعام، والأطباء يمدحون ويفضلون تخفيف الشارب؛ لأنه قد يضيق نفس الإنسان بكثرة وجود الفضلات المنتنة على شاربه وقد يتضرر، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- على هذه الخصال.

    فلو كان شاربه طويلاً متدلياً على فمه، فتقص أطراف الشارب، وهذا من السنة، وذهب بعض العلماء إلى أن الميت لا يُقَصّ منه شيء؛ لأن أجزاءه تحفظ كما هي، وهذا القول هو الأقوى وهو الصحيح، أي: أنه لا يمس شيء منه إلا إن وجدت الضرورة والحاجة لإزالته بحيث يحكم بجوازه، كأسنان الذهب إذا أمكن إزالتها بدون ضرر، إما إذا وجد ضرر فتبقى.

    فلا يزال من جسده إلا ما دل الدليل على حرمة بقائه، وأما ما عداه فيبقى على الأصل، وإنما يكلف بقص شاربه لو كان حياً، أما وقد مات فقد انتهى التكليف، فلسنا مطالبين إلا بما قاله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبين) فنحن مطالبون بالغسل والتكفين، وأما بالنسبة لقص الأظفار والشعر فلا.

    وقال بعضهم: إذا قصت أظفاره وضعت في الكفن، وإذا قص شيءٌ من شعره وضع في الكفن، كأنهم يرون أن الأصل أن يحافظ على كامل الجسد بما فيه، فهم يسلمون بهذا الأصل.

    ولذلك نقول: إن قص الشارب والأخذ من الأظفار الأولى تركه؛ فإن فعله أحد لم ينكر عليه، وله أجر إن شاء الله؛ لأن هذا أمر اجتهد فيه بعض العلماء، ورأوا ذلك من الإحسان إلى الميت، وإن كان الذي تميل إليه النفس وتطمئن إليه -بدلالة النصوص- عدم مس شيء من هذا.

    وقوله: [ولا يسرح شعره].

    أي: ولا يسرح شعره خوف التساقط؛ ولذلك كرهه بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا غلب على ظنك تساقط شعره فلا تسرحه؛ لأنه سبب في زوال جزء من البدن.

    وقوله: [ثم ينشف بثوب]:

    بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل وطريقة الغسل، ذكر أنه إذا تم الغسل، فإنه ينشف بثوب، فيؤخذ شيء من المناديل الكبيرة وتوضع عليه، وتمر على أعلى بدنه ثم على أسفله، حتى يتم تنشيف جميع البدن، ولا يوضع مباشرة بعد التغسيل في الكفن؛ لأنه لو وضع مبلولاً على الكفن قد ينتن؛ ولذلك ينشف حتى يكون أدعى لمس الطيب له وحصول المقصود من بقاء الكفن عليه دون وجود ضرر البلل.

    وقوله: [ويظفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها].

    (ويظفر شعرها) أي: المرأة، (ثلاثة قرون) كما ورد في تغسيل زينب رضي الله عنها من حديث أم عطية رضي الله عنها.

    (ويرمى وراءها) أي: وراء المرأة ولذلك قالوا: إن هذا يؤكد أن المعروف في النساء إنما هو ظفر الشعر ورده إلى الخلف، وأما القصات الموجودة ونحوها مما يكون في تفصيل الشعر فهذا مما أخذه بعض الناس من العادات الواردة عليهم، ولكن يقول العلماء: إنه يظفر ويسدل وراءها، وهذا أفضل ما يكون في المرأة في تسريحها لشعرها.

    حكم خروج شيء بعد الغسلة السابعة

    وقوله: [وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطنٍ، فإن لم يتماسك فبطين حر].

    بعد أن بين صفة الغسل، فبعد الفراغ من الغسل بتجفيفه وتهيئته للتكفين، ترد مسألة يعتني العلماء بها وهي: لو خرج شيء بعد تغسيله سبعاً فالحكم فيها: أن يحشى الموضع -وهو الدبر- بقطن، لكي يتماسك ويمنع الخارج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة لما غلبها الدم: (أنعت لك الكرسف -والكرسف: هو القطن، أي: ضعيه في الموضع حتى يمنع خروج الدم- قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك. قال: تلجمي).

    فإن لم يتماسك قالوا: فبطينٌ حر، كل ذلك من باب الأسباب التي تعين على حفظ طهارته.

    وقوله: [ثم يغسل المحل ويوضأ]:

    أي: ثم يغسل محله ولا يعاد الغسل.

    فإذا غسلته سبعاً وانتهيت منه، ثم بعد ذلك خرج الخارج فلا تعد الغسل، بل إذا انتهى الغسل بالسبع وخرج منه الخارج فإنك تحشي الموضع بالقطن، فإن لم يتماسك فبطين حر، ثم تغسل النجاسة الموجودة في الموضع نفسه، ولا تطالب بالزائد على ذلك.

    وقوله: [وإن خرج منه بعد تكفينه لم يعد الغسل].

    أي: لا تلزمه إعادة الغسل، حتى قال بعض العلماء: إذا خرج بعد التكفين فإنه لا يلتفت إليه ولا يشتغل به ولا حتى يغسل؛ لأنه قد فعل ما وجب من تغسيله وتكفينه، وذلك يشبه ما لو وضع في قبره فإنه آيل إلى الفناء والتلف؛ فلو خرج الخارج لم يؤثر.

    1.   

    الأسئلة

    تحديد وقت نية الغسل

    السؤال: هل تكون النية بعد غسل أعضاء الوضوء أم تكون قبل غسل أعضاء الوضوء، علماً بأن المصنف رحمه الله ذكرها بعد غسل أعضاء الوضوء؟

    الجواب: النية تكون عند بداية توضيء الميت، وأما بالنسبة لإزالة نجاسته وقذره فلا تشترط له نية؛ لأن إزالة النجاسة من الوسائل، وإنما تشترط النية في المقاصد لا في الوسائل، فلو أن إنساناً- مثلاً- دخل إلى دورة المياه وقضى حاجته، ثم بعد ذلك غسل الموضع الذي خرج منه الخارج ولم ينو هذا الغسل للصلاة أجزأه؛ لأن مقصود الشرع تنظيف هذا الموضع بغض النظر عن كونك ناوياً للصلاة أم لا، فعلى هذا تكون النية عند ابتداء توضيء الميت إذا كان يريد أن يوضئه، وإذا كان يريد أن يغسله مباشرة فإنه يكون عند ابتداء غسله.. والله تعالى أعلم.

    حكم خروج فضلات بعد إتمام الغسل

    السؤال: لو أنه بعد غسل الميت وعند القرب من الانتهاء ولكن دون سبع غسلات خرجت منه فضلات، هل يعيد الغسل من الأول أم يبني في عدد الغسلات؟

    الجواب: هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، منهم من يحد الثلاث، ومنهم من يحد الخمس، ومنهم من يحد السبع كحدٍ أعلى؛ فالذي يحد السبع يقول: إذا كان قبل السبع يعود ويغسل حتى يصل إلى السبع؛ فإن وصل إلى السبع فهي أقصى ما يصل إليه، وحينئذٍ لا يلزمه أن يعيد بعد هذا غسله، وإنما يغسل الموضع ويقتصر عليه.

    حكم غسل العبد لسيدته

    السؤال: هل يغسل العبد سيدته؟

    الجواب: العبد لا يغسل سيدته، وإنما يغسلها زوجها، وتغسل الأمة سيدها، والحكم مختصٌ بالسيد مع أمته لا بالسيدة مع عبدها.. والله تعالى أعلم.

    حكم من أوصي إليه بالغسل وهو جاهل به

    السؤال: إذا أوصى الميت بأن يغسله شخص، وهذا الشخص معروفٌ بالجهل، هل يعمل بالوصية أم لا؟

    الجواب: هذا فيه تفصيل: إن أمكن تعليم هذا الشخص، أو أن يكون بجواره من يعلمه الغسل، فهذا أبلغ في إنفاذ وصية الميت، وأما إذا لم يمكن، وأصر أن يغسله وحده فلا عبرة بتغسيله إذا كان لم يؤمن معه الإخلال بالواجبات والأمور المطلوبة، وحينئذٍ تكون الوصية في غير محلها، ويعتد بغسله على الوجه المعتبر.. والله تعالى أعلم.

    مسألة في تغسيل ذوي الأمراض المعدية

    السؤال: أشكلت علي مسألة، وهي ترك غسل من به جدري أو مرضٌ يخاف انتقال العدوى من الميت إلى المغسل وفي الحديث حديث (لا عدوى ولا طيرة) أثابكم الله.

    الجواب: مسألة العدوى وانتقال العدوى هذه فيها نصوص تكلم العلماء رحمهم الله عليها، وظن أنها متعارضة، وإن كان ظاهرها يوهم التعارض، فالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة) وصحت عنه الأحاديث بإثبات العدوى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال -كما في الصحيح-: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإن وقع بأرضٍ فلا تخرجوا منها) وقال أيضاً: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) .

    فللعلماء في هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض أوجه:

    منهم من يقول: العدوى منفية، ويستثنى من ذلك المجذوم والطاعون؛ لأن التعارض ليس من كل وجه، فيقولون: تنتقل العدوى في الأمراض التي فيها عدوى، ويكون المجذوم والطاعون أصلين وما مثلهما ملتحقٌ بهما، فالمجذوم في الجلد والطاعون في داخل البدن، فكأنه ذكر أصل الأمراض المعدية الظاهرة، والأمراض المعدية الباطنة.

    وهذا هو أقوى الأقوال جمعاً بين النصين، ويكون قوله: (لا عدوى)، أي: أنها لا تضر بنفسها كما كانت العرب تظن وتعتقد في الجاهلية أن العدوى بذاتها مضرة، ويُغْفِلون مسبب الأسباب ورب الأرباب سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل هو الذي سبب كونها معدية، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد بقوله: (فمن أعدى الأول؟) فكأنه يقول لهم: لو كانت العدوى بذاتها لكانت أشبه بالأمور الطبيعية، فلا إله والحياة طبيعة؛ لكنه قال: (من أعدى الأول؟) أثبت أن الأول به عدوى، وأن العدوى قد وضعها الله عز وجل، ولم ينكر عليهم دخول الإبل المريضة على الإبل الصحيحة وعدواها، وقد قال: (لا يورد ممرضٌ على مصح).

    فإذاً: كأن الحديث ليس على ظاهره: (لا عدوى)، فليس المعنى أنها لا عدوى بالكلية، والنفي من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون على ظاهره في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كاملاً، وليس المراد: النفي الكامل من كل وجه الذي يقتضي نفي صحة الإيمان والحكم بالكفر.

    فإذاً: النفي يكون مسلطاً على العموم، ويراد به أمرٌ معين يقصده عليه الصلاة والسلام لاعتقاد ونحوه، فيكون قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: لا تظنوا أن العدوى بذاتها تؤثر، وهذا الصحيح؛ فإن الناس في العدوى على ثلاثة مذاهب:

    المذهب الأول يقول: لا عدوى بالكلية، وينفيها كليةً، ويخالف الحس والواقع الذي يشهد بوجودها.

    ومنهم من يقول: العدوى ثابتة وهي بنفسها تضر، كما كان عليه أهل الجاهلية.

    وجاء الشرع وسطاً بين الأمرين، فقال: العدوى موجودة؛ ولكن لا تضر بنفسها، فتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن الحس شاهدٌ لانتقال العدوى؛ ولذلك قال: (لا يورد ممرض على مصح) وعلى هذا يكون الأمر في قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: اعتقاد أن العدوى تؤثر بنفسها.

    ولذلك ترى الرجل من قوة إيمانه ربما ورد على المريض -وهو قوي اليقين بالله سبحانه وتعالى- رغم أن مرضه معدٍ ولا ينتقل إليه، والعكس: أنه قد ينتقل من إنسان متحفظ خائف يتعاطى الأسباب، ومع ذلك ينقل الله إليه المرض، وقد أشار الله إلى هذا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] قال الله لهم: (موتوا) لأنهم ظنوا أن الخروج من أرض الوباء نجاة، وأنهم يسلمون من الهلاك بالسبب نفسه، وهذه العقيدة يهدمها دليل الكتاب والسنة، وهي الغلو في الأسباب، والإسلام وسط يقرر الأسباب لكن يعطيها حقها دون إفراط ودون تفريط.

    فأنت تقول: العدوى مضرة وموجودة وثابتة، والحس شاهد، والله سبحانه وتعالى قد جعل الأسباب والمسببات، وسبحان من قدر وحكم وعدل، وهو أعلم وأحكم سبحانه، لكن لا نغلو في هذا الشيء.

    ومن هنا ترى أن بعض الذين يغلون في العدوى -كبعض الأطباء- يبالغ فيها حتى يعتقد أنه لو دخل إنسان صحيح على إنسان مريض فإنه سيصاب بالعدوى لزاماً، ويُغفل قضية العقيدة، وهو أنه مهما كان الأمر ومهما كان السبب فإن لله عز وجل قدرة تفوق هذا الأمر كله؛ ولذلك قال الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

    فالنار لو ألقي فيها الحي احترق وصار فحماً ورماداً، فقلبها الله لإبراهيم برداً وجعل بردها سلاماً، ولم يجعل بردها هلاكاً؛ ولذلك قال بعض العلماء: لو قال الله: (برداً) لأهلكته من البرد، ولكن الله سبحانه قال: (بَرْدًا وَسَلامًا).

    فالمقصود أن نكون وسطاً، ولا نقول لا عدوى بالكلية، ولا نبالغ في العدوى، فتجد الإنسان إذا دخل على صاحب مرض معد، ربما دخل والخوف يرجف في قلبه، وتجد عنده غلو في مثل هذه الأمور كما هو شأن بعض الأطباء أصلحهم الله، حتى يصير طبه وبالاً عليه، ولا تكون عنده العقيدة القوية في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ينبه العلماء على أنه لا ينبغي المبالغة في الأسباب.

    انظر الآن إلى أهل البادية: ربما جاء الرجل منهم على الأرض، وتجد الأرض مليئة بالتراب، والماء مليء بالتراب، وفيه من النتن ما فيه، ومع ذلك يشربه متوكلاً على الله معتمداً عليه ولا يضره، وتجد الرجل في الحضر، والماء نقي وفيه من وسائل المحافظة ما الله به عليم، ومع ذلك تجده خائفاً من كثرة ما يقولون في العدوى، حتى بالغوا في الأشياء وأصبح الإنسان لا يأمن في شيء يأكله أو يشربه، وهذا هو المحظور.

    المحظور أن يبالغ في الأسباب وتعد أنها هي المعوّل عليها، وأنها هي المؤثرة وهذا لا ينبغي، بل ينبغي ربط قلوب الناس بالله سبحانه وتعالى.

    فالمريض مرضاً جدرياً أو معدياً إذا قلنا للحي: اغسله. يقول العلماء: تعارضت مصلحتان: مصلحة حيٍ ومصلحة ميت، فمصلحة الميت بتغسيله، ومصلحة الحي بسلامته من ضرره، فإن قلنا له: اغسله. تعرض للضرر في الغالب، والغالب كالمحقق، والله تعبدنا بغلبة الظن، فقال: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10] فغالب الظن علم.

    ونحن بغالب ظننا بالاستقراء والتجربة أنه لو دخل ابتلي؛ فحينئذٍ نبني على هذا الغالب ونقول: فلو غسله، فقد حصلنا مصلحة الميت وفوتنا مصلحة الحي، فقالوا: ننظر في مصلحة الحي، فلو قلنا له: ييممه؛ فإنه يسلم من ضرر تغسيله؛ لأنه ربما علق به ما يؤدي به إلى الضرر، فينتقل إلى التيمم؛ لأن تغسيل الميت له بدل، وفوات روح الحي أو تعرضه للمرض المعدي لا بدل له، والقاعدة: أنه إذا تعارضت مصلحتان، مصلحة لها بدل ممكن أن تحقق به، ومصلحة لا بدل لها، دفعت المصلحة التي لا بدل لها بالمصلحة التي لها بدل.

    فنقول: ييممه؛ لأن التيمم بدل عن الغسل، وكما أن الذي لا يمكن غسله كالمحروق نظرنا فيه إلى مصلحة الميت، وكذلك أيضاً من باب أولى وأحرى أن ينتقل المرض إلى الحي كالأمراض الجلدية المعدية، وكذلك أيضاً الأمراض الوبائية التي تكون في أجهزة الإنسان، كل ذلك مما يشرع فيه أن ينتقل إلى التيمم، لكن إذا وجدت وسائل الحفظ فيجب تغسيله مع تعاطي هذه الأسباب، والله تعالى أعلم.

    علة تخصيص غسل الرأس واللحية برغوة السدر

    السؤال: لماذا خص المصنف غسل الرأس واللحية برغوة السدر دون سائر الجسد؟

    الجواب: أشار بعض العلماء رحمة الله عليهم وبعض المعاصرين أيضاً إلى أن تفل السدر لو أنه غسل به وجه هذا لعلق في شعره؛ ولذلك يقتصر على رغوة السدر حتى لا تتخلل في الشعر فيصعب إخراجها ويتضرر الإنسان، والمعروف أن رغوة السدر تكون سالمة من تفل السدر؛ لأن السدر سيدق، ثم بعد ذلك يوضع في الماء، وهذا السدر لو أنه خلطه وحرك الماء وغسل الوجه به لعلقت فضلات السدر في الشعر وفي مغابن الوجه، ولذلك قالوا: لا يغسله إلا بالرغوة، فيأخذ السدر ويضربه بيده حتى تكون له رغوة، فيجمعها ثم بعد ذلك يغسل بها الوجه، والمقصود يتحقق بهذه الرغوة.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948536