إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الغسل والتكفين [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • غسل الميت ودفنه وتكفينه فروض كفائية، وفي غسل الميت أحكام ينبغي معرفتها، كالترتيب بين الأقارب في استحقاق تولي الغسل، وكذا ما يجوز وما يمنع من غسل الرجال للنساء والعكس، وهناك شروط ينبغي توافرها في المغسل، كالعلم والثقة والأمانة.

    1.   

    الحقوق الواجبة على الأحياء تجاه الميت

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول رحمه الله: [فصلٌ: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية].

    تغسيل الميت من فروض الكفاية، أما كونه فرضاً فلورود الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها بماءٍ وسدر) وهذا أمر في ابنته لما توفيت رضي الله عنها وأرضاها. وقال في الرجل الذي وقصته ناقته كما في حديث ابن عباس في الصحيحين: (اغسلوه بماءٍ وسدر) وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب والفرضية.

    وهذا الوجوب فرضٌ كفائي بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به البعض، فإنه يتعلق وجوبه بالجميع، بحيث يأثمون إذا قصروا جميعهم ولم يقم أحدٌ بتغسيله.

    ويتولى التغسيل من يكون على علمٍ به، فلا يجوز أن يتولى تغسيل الميت من لا يُحسن تغسيله؛ لأن من لا يحسن التغسيل ولا يقوم بحقوق التغسيل كما ينبغي، فوجود تغسيله وعدمه على حدٍ سواء، ولربما ضيع أموراً واجبة وأخل بالغسل، ولذلك لا يلي التغسيل إلا من يعلمه.

    ومن هنا يجب على طالب العلم ومن يبتلى بمثل هذه الأمور أن يكون على علم وإلمام بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تغسيل الميت، وأمره بالأمور التي ينبغي مراعاتها في هذا التغسيل.

    الميت الأصل أنه يُغسّل؛ لكن يسقط تغسيل الميت في مواضع:

    أولها: إذا كان شهيداً كما سيأتي، فالشهيد لا يغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادفنوهم بدمائهم) فأمر بدفن الشهداء بدمائهم، وذلك لأن دماءهم شهادةٌ لهم بين يدي الله عز وجل، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من كلمٍ -يعني جرح- يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون دم والريح ريح مسك) فهو شهيدٌ له بين يدي الله.

    ثم إن هذا الدم فضلة طاعة وقربة لا تشرع إزالتها، ومن هنا قالوا: إنه لا يغسل، ولا يعتبر داخلاً في هذا الأصل، لكن يختص هذا الحكم بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في نفس ساحة المعركة، أما لو أنه خرج وفيه الحياة، وبقي بعد ضربه ثم توفي بأثر الجراح، فإنه يغسل ويكفن ويعامل معاملة الأصل؛ لأن سعداً رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فغسل وكُفّن وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصيب في سبيل الله ثم مات بعد ذلك فشهيد المعركة لا يغسل.

    ممن يستثنى في التغسيل: أن يكون الميت قد احترق، بحيث لو غسل نفط جلده، أو يكون به مرض كالجدري ونحو ذلك -أعاذنا الله وإياكم من الأدواء- فلو غسل لتضرر، أو يكون معه مرض لو قام مغسله عليه،لم يأمن بتضرره بتغسيله، بحيث إنه لا يمكنه أن يغسله؛ لأنه لو غسل انتقلت العدوى، أو به أشياء تنتقل بمباشرة التغسيل.. فهذه أحوال تستثنى من التغسيل.

    أيضاً: سيذكر المصنف رحمه الله حالة الرجل بين النساء، فالرجل إذا توفي بين النساء وليست هناك زوجة له منهن ولا أمة؛ فإنه حينئذٍ ييمم ولا يغسل، كذلك العكس: لو أن المرأة توفيت بين الرجال، وليس لها زوجٌ منهم، ولم تكن أمة معها سيدها فحينئذٍ تيمم ولا تغسل.

    هذه الأحوال هي التي تستثنى من هذا الفرض والأمر الواجب.

    وتغسيل الميت المراد به: تعميم جسده بالماء، وهذا الحكم يشمل جميع أعضاء الجسد بالتفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله.

    قوله: [وتكفينه].

    سيبين رحمه الله تفصيل التكفين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله: (كفنوه) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بتكفين ابنته، فأمر صلى الله عليه وسلم بتغسيلها فقامت النساء بتكفينها، ومن هنا يقول العلماء: إن حديث ابن عباس يدل على أن تكفين الميت واجب وفرض.

    وهذا التكفين فرضٌ كفائي، لكن التكفين ليس كالغسل، فالغسل يكون بالماء وهو غالباً يتيسر؛ لكن -مثلاً- لو كان هذا التكفين يحتاج فيه إلى وجود النفقة التي يكون بها مئونة التكفين، وحينئذ تتصل بميراث الميت، وهي من الحقوق التي تخرج قبل قسمة التركة من تغسيلٍ وتكفين ونحوه، فهذه المئونة التي يحتاج لها لشراء الكفن تخرج من مال الميت، وتعتبر سابقة للميراث، وهذا حق من حقوق الميت في تركته.

    أما لو كان الميت ليس عنده مال، فحينئذٍ ينظر إلى تجب عليه نفقته فيقوم بتكفينه، وإذا عجز فحينئذٍ يكون كفنه من بيت مال المسلمين، ولذلك يتعلق حقه بنفسه، ثم بمن يلي القيام عليه من حقوق النفقة، ثم بعامة المسلمين كما لو لم يكن له قريب وليس له مال.

    هنا مسألة أيضاً: إذا تعذر الغسل وتعذر التكفين فإنه ينتقل من الغسل إلى التيمم، وتعتبر هذه الحالة تابعة للحالات التي ذكرناها مستثناة من الوجوب، وكذلك إذا لم يوجد الكفن إلا اليسير فإنه تغطى عورتاه إذا لم يجد ما يستر به إلا العورة، وإذا كان هناك فضل على العورة ستر بقية البدن على حسب الموجود من الفضل.

    قوله: [والصلاة عليه].

    الصلاة عليه أيضاً من الفروض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا على أصحمة النجاشي رضي الله عنه وأرضاه لما توفي، وقال عليه الصلاة والسلام: (توفي اليوم عبدٌ صالح، ثم أمر الصحابة أن يخرجوا وصلى بهم)، فمن حق المسلم على إخوانه المسلمين أن يصلى عليه ويُدعى له بالمغفرة والرحمة، وعلى ذلك هديه صلوات الله وسلامه عليه.

    ولذلك لما توفيت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد فدفنوها ليلاً ولم يخبروه، وكأنهم تقالوا شأنها انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها -وهذا من خصوصياته- فصلى عليها وقال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) ووجه التخصيص قوله: (بصلاتي) كما في صحيح مسلم.

    فهذا يؤكد أهمية الصلاة؛ ولذلك يقول العلماء: إن من فضائل الصلاة على الميت: أنها تذهب ظلمة القبر ووحشته، وذلك لقوله: (ينورها بصلاتي عليهم)، فكأنه يشير إلى العلة من الصلاة على الميت، ولذلك شُرعَ أن يدعى للميت بالرحمة والمغفرة، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من ميتٍ يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله فيشفعون فيه إلا شفعهم الله)، وهذا إذا كان الدعاء بإخلاص وصدق، ولذلك أمر عليه الصلاة والسلام بالإخلاص، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الصلاة وكيفيتها، لكن المراد التنبيه على هذه الأمور: (تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه) فإنها فرض كفاية.

    وعلى هذا: لو أن الميت لم يغسل ولم يكفن ولم يُصل عليه وقبر، فإنه يشرع نبشه ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه، لكن مشروعية النبش تتقيد بأن يؤمن تغيره، بمعنى: أن يغلب على ظننا أنه لا زال جلده قابلاً للغسل، أما لو مضت المدة التي يغلب على الظن إسراع الدود إليه وذهابه فحينئذٍ لا ينبش، وهذا طبعاً على قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم: أنه إذا قُصّر في حق الميت ودفن دون تغسيله، أو دون تكفينه، أو دون الصلاة عليه، قالوا: يشرع أن ينبش ويغسل ويكفن ويصلى عليه، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقيام بهذا الحق، وأمر من كفن أخاه أن يحسن إليه.

    [ودفنه فرض كفاية].

    وهذا أيضاً مما يتبع ما سبق من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فالأصل في الآدمي أن يقبر ويدفن: قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].

    فلذلك يقول العلماء: إن الأصل يدل على أن الآدمي يقبر ولا يبقى عرضة للسباع ولا للهوام ولا للطيور تنبشه وتأكل من لحمه كسائر البهائم، فهذا من التفضيل والتكريم الذي فضل الله به بني آدم، ولذلك قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] فمضت السنة على أنه يشرع قبر الميت الآدمي.

    حتى ولو كان كافراً فإنه يوارى فلا يبقى في العراء؛ لأن بقاءه في العراء أذيةٌ للآدميين، وأبلغ في النتن، وأذهب لحرمته، فإن هناك حرمة عامة للآدمي؛ لأن الله لم يفرق بين آدمي كافر ومسلم في المواراة، ولذلك يقول العلماء: إن هذا التفضيل من جهة الآدميين، فيوارى الكافر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما أخبره علي أن أبا طالب قد مات، قال: (اذهب فواره)، ووارى عليه الصلاة والسلام قتلى بدر من المشركين في القليب، فدل على أن السنة قبر الميت، ولا يترك للسباع والهوام ونحوها كالطيور الجارحة تنهشه وتؤذيه.

    1.   

    الذي يتولى غسل الميت

    قال رحمه الله: [وأولى الناس بغسله وصيه].

    بعد أن بين لنا رحمه الله أن الغسل لازم، شرع في التفصيل، فذكر من يلي تغسيل الميت.

    أولاً: ينبغي أن يكون الذي يلي تغسيل الميت عالماً بصفة التغسيل، فلا يجوز أن يتولاه الجاهل، فإذا كان الشخص عنده علم وإلمام بالطريقة التي يغسل بها الميت، فحينئذٍ يشرع له أن يتولى تغسيله، وأما إذا كان جاهلاً فلا يشرع له أن يقوم بهذا الأمر؛ لأن جهله ربما أوقعه في البدع، وربما أوقعه في الأمور التي يخل فيها بحق الميت في تغسيله وتكفينه؛ ولذلك قالوا: إنما يتعلق القيام بهذا الحق -أعني التغسيل- بمن يعلم لا من لا يعلم.

    ثم هل يشترط أن يكون مكلفاً؟

    المجنون لا يلي تغسيل الميت، واختلفوا في الصبي، فإذا كان مميزاً عالماً بطريقة الغسل ويمكن أن يقوم بحق الميت، قالوا: لا حرج أن يلي التغسيل.

    وضيق بعض العلماء من جهة النية فقالوا: إن الصبي لا يلي الغسل لمكان نية الغسل، وسيأتي إن شاء الله التنبيه على النية، وإن كان الأقوى أن الصبي إذا عقل -وكان يحسن القيام بالتغسيل- أنه يلي التغسيل ولا حرج في قيامه، وهو مقدم لا شك خاصةً إذا لم يوجد الكبير، فإنه يلي تغسيله.

    شروط المغسل

    والأصل في المغسل أن يراعى فيه أمور:

    أولها: العلم.

    ثانيها: الثقة.

    ثالثها: الأمانة.

    فهذه ثلاثة أمور لا بد من وجودها في المغسل.

    أولاً: علمه بطريقة التغسيل ولو كان من عوام الناس، فيقدم ويكون أحق.

    ثانياً: الثقة؛ لأن الإنسان قد يكون عالماً بطريقة التغسيل، ولكنه فاسق والعياذ بالله، والفاسق كما أنه جريء على حدود الله قد يجرؤ على ترك حق الميت، وقد يجرؤ على كشف عورته أو على أمورٍ لا تُحمد؛ ولذلك قالوا: لا يلي تغسيل الأموات إلا من عُرِف بالثقة، فيكون ثقة مأموناً، والسبب في ذلك أن ما يتصل بتغسيل الميت من الأمور التي لا تنبغي يجب أن يكون سراً، فلربما يطلع على أمور خفية، من البشائر الطيبة، والبشائر السيئة، فقد يكون الميت عبداً صالحاً، فيرى بشائر صالحة، من تهلهل وجهه وإشراقه، وهذا معروف ومألوف.

    وأذكر أنني دخلت على أحد أهل الفضل -رحمة الله عليهم- فلم تمل العين النظر إلى وجهه وهو يغسل! وتراه بصفة هي أشرق وأجمل من حاله وهو حي، ولا ترى فيه وحشة الأموات، وهذه من عاجل بشرى المؤمن: أنك ترى وجهه مشرقاً، خاصةً في حالة النزع والتغسيل.

    ربما تظهر أمور، وهذا أمرٌ متضافر ومشهور عند العلماء رحمة الله عليهم، ومضت به السنن من الله سبحانه وتعالى، وهو أن الأخيار يظهر في هذه المواطن لطف الله عز وجل بهم.

    وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يقول لأهل البدع: (بيننا وبينكم الجنائز)، أي: أن الأمور تنكشف في موت الإنسان، فيجعل الله له بعض البشائر عند موته، من ذكر الله عز وجل والختم بالخير، ويجعل له بعض البشائر في تغسيله وتكفينه حتى في قبره ودفنه؛ ولذلك ينبغي أن يكون الذي يلي التغسيل ثقة، فإذا حدّث الناس بالخير صدقوه، ويكون ذلك أدعى لانتشار الخير والإحسان إلى الميت بالترحم عليه وحسن الظن به.

    كذلك أيضاً: لا يحدث بكذب، ولا يكذب على الميت ولا يسيء إليه.

    مأموناً: أي مأمون النظر إلى عورة الميت، ومأمون التصرف.

    فهذه أمور لا بد من توفرها في الغاسل: أن يكون عالماً بالغسل، وأن يكون ثقةً، وأن يكون مأموناً، فيؤمن منه النظر إلى العورة، ويؤمن منه المس للعورة، ويؤمن منه الإخلال بحقوق الميت... كل ذلك مما ينبغي توفره فيمن يلي تغسيل الميت.

    أولى الناس بتغسيل الميت

    يقول المصنف رحمه الله: [وأولى الناس بتغسيله وصيه].

    يبين رحمه الله بهذه العبارة أن أحق الناس بتغسيل الميت وصي الميت، وهذه الوصية مشروعة؛ وذلك لأنه ربما كان ذلك الشخص الموصى إليه معروفاً بالعلم والاستقامة والسنة، والحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء بالخير؛ فيكون أفضل من غيره وأولى وأحرى، وخاصةً في الأماكن التي يكثر فيها الجهل أو توجد فيها البدع والأهواء، ويكون هناك من عرف بالاستقامة والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون الوصية لمثله آكد وأولى وأحرى.

    وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه وصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، وهذا يدل على مشروعية الوصية، وكذلك جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه وصى أن يغسله محمد بن سيرين ، وكان مرهوناً في دين، فأخرج من سجنه لتغسيل أنس رضي الله عنه؛ لأنه وصى له بذلك.

    فالوصي مقدمٌ على غيره؛ لأن الميت اختاره من دون الناس، خاصةً إذا وُجد المبرر -كما قلنا- من علمٍ واستقامة وحرصٍ على الخير.

    وقوله: [ثم أبوه].

    يلي الوصي الأب، فالأب أحق بتغسيل ابنه؛ وذلك لمكان عظيم الشفقة والقيام بحقه على أتم الوجوه.

    وهذا إنما يكون إذا تنازع القرابة فقال الأخ: أنا أريد تغسيله، وقال الابن: أنا أريد تغسيله، واختصم الأقرباء، فحينئذٍ يحتاج الفقهاء إلى وضع ترتيب للأقارب بحيث يُبين من الذي يقدم من الأقارب، فقال رحمه الله: [ثم أبوه] أي: الأب هو أول من يقدم من قرابة الميت، والأمر واضح؛ فإن أحق الناس هم الوالدان، ولكن الأم يتعذر غسلها لابنها، فبقي الحق للأب على الأصل في تغسيل الرجل للرجل.

    وقوله: [ثم جده].

    الضمير عائد إلى الميت، أي: جدّ الميت: وهو أبو الأب، فالمراد جهة الأبوة، إذا قلت: يقدم الأب ستنظر إلى هذه الجهة، وتبدأ بالأب المباشر، ثم أبوه وإن علا، فيقدم الأب على الجد، والجد الأقرب على الجد الأبعد، فأبو الأب مقدم على جد الأب؛ وهذا لأن الجهة يقدم بها، فإذا تساووا في الجهة نُظِر إلى القرب:

    فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا

    لو اختصم أبٌ وجد في تغسيل الابن فإنه يقدم الأب المباشر على الجد، وهكذا لو اختصم الجد وجد الجد، قدم الجد الأقرب على الجد الأبعد.

    وقوله: [ثم الأقرب فالأقرب من عصباته]:

    الآباء ثم الأبناء ثم الإخوان، فإذا لم يوجد له أب ولا ابن -الذي هو الفرع- ينتقل إلى جهة الإخوة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) والعم أخٌ للأب، فجعل الأخ مع أخيه كالشيء الذي خرج من أصلٍ واحد، فبعد الأب يقدم الابن، ثم إذا لم يكن للميت ابن يقدم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب، ثم بعد ذلك أقرب العصبات: فيقدم ابن ابنِ العم على ابن ابن ابنِ العم، على حسب الترتيب الذي سبق الإشارة إليه.

    وقوله: [ثم ذوو أرحامه]: أي: فيقدمون على حسب منازلهم، كابن بنت الابن مع ابن بنتِ بنت الابن؛ فإنه يقدم الأقرب على الأبعد، وذوو الأرحام في الفرائض هم الذين ليس لهم فرضٌ ولا تعصيب، كابن الخالة، فإنه ليس له فرض ولا تعصيب، ولهم ميراث خاص سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه في باب الفرائض.

    وقوله: [وأنثى وصيتها ].

    بعد أن بين الرجال فقال: نقدم الآباء ثم آباءهم وإن علوا، ثم الأبناء وأبناءهم وإن نزلوا، ثم الإخوة، ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام، ثم أبناء الأعمام على الترتيب الذي ذكرناه؛ شرع في الإناث، فقال: الحكم في المرأة كالحكم في الرجل سواء بسواء، فقال: [وصيتها] فلو أوصت امرأة أن التي تلي تغسيلها هي فلانة، ولو كانت أجنبية فإنها تقدم على قريباتها.

    وقوله: [ثم القربى فالقربى من نسائها]:

    أي: على نفس الترتيب، فتقدم الأم أولاً، فإذا وجدت الأم فهي أحق من يلي تغسيل ابنتها، ثم أمها وهي الجدة -أم الأم- وتقدم القربى على البعدى، فأم الأم مقدمة على أمّ أم الأم، وبعد جهة الأمومة ينتقل إلى البنوة، فالبنت إذا لم توجد أمها، أو كانت الأم لا تستطيع أن تلي التغسيل فننتقل إلى البنات، فبنتها أحق بتغسيلها، ثم بنت بنتها وإن نزلت، ثم بعد ذلك أختها الشقيقة، ثم أختها لأم، وقال بعض العلماء: أختها لأب.

    وإن كان من جهة الأم قالوا: نقدم الأم، على خلاف الذكور، فإنا نقدم من جهة العصبة والرجل والذكر.

    ثم بعد ذلك بنات الأخوات الشقيقات، ثم بنات الأخوات لأم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى العمات؛ ثم بنات العمات على حسب الترتيب الذي عكسه في الرجال.

    1.   

    مسائل في غسل الميت

    جواز تغسيل كل من الزوجين لصاحبه

    قال المصنف: [ولكل واحدٍ من الزوجين غُسل صاحبه] أي: من حقه أن يلي تغسيل صاحبه، حتى قال بعض العلماء: الزوج يقدم على جميع الأقرباء، والزوجة تقدم على جميع الأقرباء.

    أما كون المرأة تلي تغسيل الرجل فهذا يكاد يكون كالقول الواحد عند العلماء رحمة الله عليهم.

    وأما هل الرجل يُغسّل المرأة؟

    فللعلماء قولان: الجمهور يرون أن للرجل أن يلي تغسيل امرأته، ولا حرج عليه في ذلك، وعصمة الزوجية باقٍ حكمها، ولا تنفسخ بالموت.

    الحنفية رحمة الله عليهم لا يرون أن للرجل أن يغسل زوجته، ويرون أنه بمجرد أن تموت يحل له نكاح أختها، وكذلك أيضاً يحل له نكاحُ بديلٍ عنها إذا كانت هي الرابعة، قالوا: فحينئذٍ لا يلي تغسيلها؛ كأن العصمة شبه زائلة بالموت.

    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن حديث ابن ماجة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـعائشة : (لو أنك متّ فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ثم دفنتك) وهذا حديث حسنه غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو يدل على أن للرجلِ أن يلي تغسيل امرأته.

    كذلك أيضاً فعل السلف الذي صار كالإجماع بين الصحابة؛ وذلك أن علياً رضي الله عنه تولى تغسيل زوجته فاطمة رضي الله عنها، ولم ينكر أحدٌ من الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، فصار كالإجماع السكوتي، ومن هنا قالوا: إن تغسيل الرجل لزوجته يعتبر مشروعاً، وهذا هو الصحيح.

    وقوله: [وكذا سيدٌ مع سريته]:

    أي: وكذا السيد مع سراريه، فالنساء اللواتي يتسرى بهن -وهن الإماء- من حقه أن يلي تغسيلهن؛ فإنه لا يزول ذلك بالموت، كما أن من حقه أن يلي تغسيل زوجته، وكذلك للأمة غسل سيدها.

    جواز تغسيل الرجل والمرأة لمن دون سبع سنين

    وقوله: [ولرجل وامرأةٍ غسل من له دون سبع سنين فقط].

    بعد أن بين لنا رحمه الله مراتب القرابة بالنسبة لتغسيل الميت، وحكم الزوجين، وحكم الإماء، شرع رحمه الله في مسألةٍ ثانية تتصل بولاية تغسيل الميت.

    فالصبي الذي دون سبع سنين، إن وليته أمه أو وليه أبوه فلا حرج، وكذا لا حرج أن يلي تغسيله الرجال أو يلي تغسيله الإناث ولو أجانب، هذا بالنسبة للمولود دون سبع سنين.

    وابتدأ بالأقل والأخف الذي لا خلاف فيه وأمره يسير -وهو الصغير- لكي يتدرج منه إلى من هو أكبر؛ وذلك لأن تغسيل الأموات يختلف بعد السبع السنين بالنسبة للرجال والنساء، فالأصل: أن الذي يلي تغسيل الرجال هم الرجال، والذي يلي تغسيل النساء هم النساء، ما عدا مسألة الزوجين والسراري والإماء؛ وعلى هذا شرع رحمه الله في بيان مسائل تتعلق بهذا المبحث، فقال: إن من كان دون السبع السنين -وهو الصبي، وكذلك الصبية- فإن أمرهما خفيف، ولا حرج حينئذٍ أن يلي تغسيله الرجال أو يلي تغسيله الإناث.

    حكم تغسيل رجل مات بين نسوة والعكس

    وقوله: [وإن مات رجلٌ بين نسوة أو عكسه يممت..].

    أي: وإن مات رجلٌ بين نسوةٍ وليس فيهن زوجة ولا أمه، أو ماتت امرأة بين رجال وليس فيهم زوج ولا سيد، فحينئذٍ تيمم المرأة وييمم الرجل، قالوا: ولا يلي الرجال تغسيل النساء إلا ما ذكرنا من الرجل مع زوجته وأمته، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يغسل الرجل المرأة ولا تغسل المرأة الرجل، وإنما يلي الجنس الجنس، وذلك لعدم أمن الفتنة غالباً، لأن الرجل مفتون بالمرأة، والمرأة مفتونة بالرجل، وحينئذٍ يصار إلى الاحتياط، فلا يلي الرجال النساء ولا تلي النساء الرجال، وإنما ييمم الرجل إذا مات بين النساء، وتيمم المرأة إذا ماتت بين الرجال.

    والتيمم: أن يضرب الحي بكفيه الأرض ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإن وجد محرم فهو الذي يلي ذلك؛ لأنه سيحتاج إلى المس، وأما إذا لم يكن من أقاربها فقال بعض العلماء: إنه يرخص في هذا اللمس لوجود الحاجة والضرورة، ومسح الكفين والوجه أخف من غسله لها ومرور يده على بقية أجزاء جسمها، ولو ولي الرجل المرأة لخلا بها، والأصل يقتضي حظر خلوة الرجل بالمرأة وخلوة المرأة بالرجل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وهذا يدل على أنه لا يلي الرجل تغسيل المرأة، والمرأة لا تلي تغسيل الرجل.

    حكم تغسيل الخنثى

    قال المؤلف: [كخنثى مشكل].

    الخنثى: هو الذي يكون له ما يدل على أنوثته ويدل على رجولته، وهو ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: خنثى مميز، أي: تميز حاله بأن ظهرت فيه أمارة الفحولة والرجولة، فهو رجل وملحقٌ بالرجال، أو ظهرت به أمارات الأنوثة والنساء فهو امرأة، وحينئذٍ لا إشكال.

    القسم الثاني: خنثى مشكل، ليس فيه أمارات تدل على فحولته ولا أمارات تغلب أنوثته، ولذلك لم يقتصروا على وصفه بكونه خنثى، وإنما أضافوا إليه وصف الإشكال، فأشكل أمره، أي: التبس، والشيء المشكل هو الذي أصبحت أشكاله كالشيء الواحد، فشكله امرأة وشكله رجل، -أي أن فيه شبهاً من الرجال وشبهاً من النساء، فهذا لا نستطيع أن نقول: يليه النساء؛ لخوفنا أن يكون ذكراً، ولا نستطيع أن نقول: يليه الرجال؛ لخوفنا أن يكون أنثى، فهذا الخنثى ييمم.

    حرمة تغسيل المسلم للكافر أو دفنه

    وقوله: [ويحرم أن يغسل مسلم كافراً أو يدفنه، بل يوارى لعدم].

    بعد أن بين لنا رحمه الله أن الطفل الصغير يليه الرجال والنساء على حدٍ سواء، ثم الرجل بين النساء والمرأة بين الرجال ييممان، ثم الخنثى ييمم؛ لأنه نظير ملحقٌ بما تقدم، والعلة بينه وبين من فقدت منه ما ذكرنا من الرجال والنساء واحدة، شرع رحمه الله بذكر الحكم بالنسبة للكافر.

    فلا يجوز للمسلم أن يغسل الكافر، فالكافر لا يغسل ولا يكفن وإنما يوارى جسده، وهذا فيه حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه علي بن أبي طالب وذكر له أن عمه أبا طالب قد توفي، قال: (اذهب فواره) وهذا الحديث متكلم في سنده، لكن أقوى منه ما فعله عليه الصلاة والسلام بقتلى بدر حيث أمر بهم في القليب، ولم يأمر بتغسيلهم ولا بتكفينهم، وحينئذٍ انعقد الإجماع على أن الكافر لا يغسل ولا يقام عليه كما يقام على المسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756364293