إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صلاة الجمعة [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة: أن صلاتها تكون ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ويسن أن يقرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، ومنها: حكم إقامة أكثر من جمعة في البلد الواحد، ومقدار السنة التي تصلى قبل الجمعة وبعدها. وللجمعة سنن ينبغي مراعاتها والمحافظة عليها، ومنها: الاغتسال، والتطيب، وليس أحسن الثياب، والتبكير، والدنو من الإمام، وقراءة سورة الكهف، والإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أحكام صلاة الجمعة

    عدد ركعاتها، والسنة فيما يقرأ فيها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الجمعة ركعتان].

    أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن الجمعة ركعتان، وهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الأحاديث الصحيحة، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة.

    قال رحمه الله تعالى: [يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين].

    قوله: (يسن) أي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه قرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، أما اختيار الجمعة فالمناسبة في ذلك أنه يوم الجمعة، ولذلك إذا قرأها ختمها بأمرهم بما يدل على أهمية شهود صلاة الجمعة؛ لأن الله ختمها بالأمر بحضور صلاة الجمعة وشهودها والنهي عن التخلف عنها، وأما سورة المنافقون؛ فلأنها تشتمل على صفاتهم المذمومة التي حذّر الله منها عباده المؤمنين، فيكون ذلك أدعى إلى دعوة الناس إلى الإخلاص وترك الرياء وصفات المنافقين التي لا يحبها الله عز وجل، فذكر صفات أهل النفاق فيه قرع للقلوب، وتذكير لها وتحذير لها من سلوك هذا السبيل الذي سمّى الله أهله، ونفّر العباد من اتباعه.

    التفصيل في حكم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد

    قال رحمه الله تعالى: [وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة].

    والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يجمِّعوا أكثر من جمعة واحدة، وكان أهل قباء على أميال من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجدهم له الفضل والمكانة، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمِّعوا، وهذا يدل على أنه لا تشرع أكثر من جمعة في المدينة الواحدة، فإن وجدت الحاجة كاتساع العمران كما هو موجود الآن، وأصبح الناس في مشقة أن يشهدوا الجمعة في مسجد واحد فيجوز التعدد بقدر الحاجة.

    وأول تعدد للجمعة وقع في بغداد في عهد بني العباس، وذلك في عصر هارون الرشيد رحمه الله، فإنه ازدحم الناس على جسر دجلة، وشهد أهل جانب بغداد الشرقي الجمعة فكانوا يزدحمون على الجسر، فربما سقطوا بدوابهم في النهر وغرقوا وماتوا، ولربما مات الضعفاء من النساء والأطفال ونحوهم، فاسترخص الناس في أن يقيموا الجمعة في الشط الثاني من بغداد، فأذن لهم ورخص لهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ، وهي أول مسألة حصل فيها تعدد الجمعة كما يذكر العلماء رحمة الله عليهم، ولما أفتاهم أن يجمِّعوا أمرهم أن يعيدوها ظهراً احتياطاً.

    قال رحمه الله تعالى: [فإن فعلوا، فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها].

    قوله: [فإن فعلوا] أي: عددوا من دون حاجة فهم آثمون، كأن تكون هناك جمعة في حي وهناك حي قريب منه، فيقول أهل الحي القريب: لو أننا أحدثنا جمعة في حينا، ولا حاجة أن نذهب إلى الحي الثاني. فإحداثهم للجمعة محرم إذا لم توجد حاجة وضرورة، فحينئذٍ إذا أحدثوها أثموا.

    فإن صلوا فهل العبرة بالجمعة القديمة، أم العبرة بالجمعة الحديثة، أم العبرة بالجمعتين وكلتاهما صحيحة؟

    هذا فيه تفصيل بين العلماء:

    فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأول الجمعتين، فأول الجمعتين وقعت هي المجزئة، فلو أن المسجد الحديث بكّر وصلى الجمعة قبل فجمعته هي المعتدّ بها وهي المعتبرة، ولا ينظر إلى قديم ولا إلى جديد وهذا يقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.

    القول الثاني: العبرة بالمسجد القديم، وهو قول الجمهور، كما ينص عليه أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وأصحاب الإمام أحمد ، وكذلك جمع من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] ، فدل على أن المسجد الذي هو أقدم جمعته هي المعتبرة، وعلى هذا فالجمعة في المسجد الثاني لاغية، سواءٌ أوقعت قبل جمعة المسجد القديم أم وقعت بعده، فالعبرة بالمسجد القديم، سواء أتقدم أم تأخر، ولا حاجة إلى تفصيل العلماء رحمة الله عليهم.

    وهناك وجه آخر -كما درج عليه المصنف- أن العبرة بالجمعة التي أذن فيها الإمام وهذا مشكل؛ لأنه ربما أذن الإمام لأصحاب الجمعة الثانية، والجمعة الأولى في الأصل كانت موجودة قبل إذن الإمام، فحينئذٍ لازم هذا أن يحكم ببطلان الجمعة بالمسجد العتيق وصحتها في المسجد الحديث، وظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، فيستصحب نص القرآن على أن العبرة بالمسجد القديم؛ لأنه أحق، والمسجد الجديد داخل عليه، وأهله ظلموا المسجد القديم بدخولهم عليه، ولذلك يعتد بالجمعة التي تقع في المسجد القديم، ولو كانت متأخرة، أما لو كانت وجدت حاجة لإحداث الجمعة الثانية فلا إشكال، فكلتا الجمعتين صحيحة.

    قال رحمه الله تعالى: [فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة].

    لو أذن الإمام بكلتا الجمعتين فقد قيل: العبرة بالأسبق وقوعاً، وهي التي وقعت ولو كانت في الجمعة القديمة، فإنها هي الصحيحة، ولو أن الجمعة التي وقعت في المسجد الحديث وقعت قبل فإنها هي الصحيحة، والصحيح ما ذكرناه أن العبرة بالمسجد القديم سواء أستويا في الإذن أم استويا في الوقت، أم شك في الوقت، فالعبرة بالمسجد القديم على ظاهر آية التوبة، وهي نص قوي في الاعتداد بالمسجد القديم وعدم الاعتداد بالمسجد الحديث الطارئ عليه.

    قال رحمه الله تعالى: [وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا].

    إذا كانت العبرة بالوقت فيرد السؤال: لو وقعتا معاً فما الحكم؟

    والجواب: تبطل الجمعتان؛ لأنه لا بد من تصحيح إحدى الجمعتين وإلغاء الأخرى، والضابط في التصحيح مستوٍ فيهما، فلا وجه لتصحيح إحداهما دون الأخرى، قال: [بطلتا]، فيصلونها ظهراً.

    والصحيح أن العبرة بالجمعة القديمة -كما ذكرنا- حتى ولو استويتا في الوقت.

    1.   

    بيان مقدار السنة بعد الجمعة

    شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من السنن التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فمنها ما يتعلق بالصلاة كالسنن الراتبة، ومنها ما يتعلق بالمكلف من ناحية تهيؤه لصلاة الجمعة ومضيه إليها، فقال رحمه الله في بيان السنة الراتبة التي تكون بعد الجمعة: [إن أقلها ركعتان]، وهذا على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه صلى بعد الجمعة ركعتين)، وهاتان الركعتان كان عليه الصلاة والسلام يصليهما في بيته، ولذلك حفظ بعضها من أحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.

    وكذلك ثبت عنه في حديث ابن عمر: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد الجمعة ست ركعات) ، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال:

    فهناك أحاديث أنه صلى ركعتين، وهناك أحاديث أنه صلى أربعاً، وأنه صلى ست ركعات، وأنه بيّن أن السنة يوم الجمعة ست ركعات.

    فبعض العلماء يقول: إذا صلى في المسجد يصلي أربعاً، وإذا تسنن في بيته يصلي ركعتين جمعاً بين النصوص، فما جاء عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن من صلاته عليه الصلاة والسلام بالركعتين يكون في بيته، فنعمل الحديث على ظاهره، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته في المسجد أربعاً بعد الجمعة يكون في المسجد فهذا وجه للجمع.

    ومنهم من خير فقال: يصلي تارة ركعتين، ويصلي تارة أربع ركعات، والاختلاف ليس اختلاف تضاد، إنما هو اختلاف تنوع، فإن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، كأنه يرى أن أقصى ما يصلى هو الأربع ركعات.

    ومن العلماء من قال: إن السنة هي ست ركعات، كما ثبت في حديث ابن عمر، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات في مسجده وركعتين في بيته، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو أن السنة أقصى ما يكون فيها ست ركعات، وأقل ما يكون فيها الركعتان، ولذلك من أراد أن يصيب السنة على أكمل وجوهها وأتمها، فليصل ركعتين في بيته إذا رجع، ويصلي قبلها أربعاً في المسجد.

    ولكن إذا لم يتيسر له أن يصلي الأربع في المسجد فإنه يصلي الست في بيته، وإذا لم يكن له بيت، كأن يكون صلى ويريد أن يرجع إلى ضيافة، أو إلى دعوة ولا يتيسر له الرجوع إلى بيته يصلي في المسجد ستاً، وهذا هو المحفوظ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يصلي ست ركعات في مسجده، كما أثر عنه حينما قدم إلى مكة رضي الله عنه وأرضاه.

    والخلاصة من هذا أن للجمعة راتبة، وتختص راتبتها بالبعدية، وليس للجمعة راتبة قبلية، وذهب بعض السلف إلى أن للجمعة راتبة قبلية، وأنه يصلي قبل الجمعة ركعتين، وهذا مأثور عن بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم، وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

    والأقوى الذي دلت عليه السنة أنه لا يصلى قبل الجمعة راتبة، ولكن الأفضل والسنة للإنسان إذا قدم إلى المسجد قبل صلاة الجمعة أن يكثر من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان بعض الأعمال والفضائل يوم الجمعة: (ثم دخل المسجد فصلى، ثم جلس فأنصت) ، ولذلك استحب العلماء أن يكثر من الصلاة، خاصة وأنه قبل الجمعة بعد الزوال، وهناك قول يقول: إنها ساعة إجابة، ولذلك يستكثر من الصلاة ويصلي؛ لأن أفضل الأعمال هي الصلاة، فيستكثر من الصلاة، ولكن لا يتقيد بالسنة الراتبة، أي: ليس لها سنة راتبة.

    واختلف العلماء في الصلاة بين الأذان الأول والثاني:

    فمذهب طائفة من أصحاب الشافعي رحمهم الله أنه يصلي بين الأذان الأول والثاني؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) ، فقالوا: لا حرج أن يصلي بين الأذان الأول والثاني، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا أذن المؤذن الأول قام فصلى حتى يشرع الخطيب في خطبته، فيصلي بين الأذان الأول والثاني.

    وذهب الجمهور إلى أن حديث: (بين كل أذانين صلاة) يختص بالأذان والإقامة، وأنه لا يشمل الجمعة ولكن مع هذا لا ينكر على من يصلي بين الأذان الأول والثاني، وليس هناك نص صحيح في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فلو أن إنساناً صلى لا ينكر عليه، خاصة وأن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) يحتمله، وقد قال به أئمة، والأصل في المسائل الخلافية أنه إذا تمسك أحدهم بظاهر السنة المحتملة فإنه لا ينكر على من فعلها، ولكن إذا اعتقد الفضل بأن قال: أقصد الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فإذا اعتقد مزية الفضل في هذا الوقت يكون قد أحدث، أما لو أنه صلى صلاة مجردة، فإن الصلاة في هذا الوقت النصوص دالة على مشروعيتها وجوازها، ولا ينكر على من فعلها، وليس هناك وجه لتحريم الصلاة إلا بنص من الكتاب أو السنة.

    ولذلك يبين في هذه المسألة، فإذا صلى بين الأذان الأول والثاني، وأخذ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) ، والأذان الأول أذان شرعي، وقد أجمعت الأمة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعد عهد عثمان رضي الله عنه على هذا الأذان، وقال: إنني أتأول ظاهر هذا الحديث: (بين كل أذانين صلاة) ، فهذا وجه تحتمله السنة، ولذلك لا ينكر على من فعله، إنما ينكر لو اعتقد مزية الفضل، فإذا اعتقد مزية الفضل فقد أحدث في دين الله ما ليس منه باعتقاد فضل لوقت لم يرد النص به عيناً، أما لو صلى مطلق الصلاة، أو صلى لتأول ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة) ، فإنه لا ينكر عليه، خاصة أن من أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) السبب فيه أنه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، فشرع أن يصلى بين الأذان والإقامة، ولذلك يستجاب الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك نظراً إلى كونه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء لاشتمال الأذان على أفضل ما يقال وأعظم الكلمات وأجلها عند الله، وهي شهادة التوحيد، فتفتح أبواب السماء، وهذا المعنى ينطبق على الأذان الأول؛ لأنه أذان شرعي أجمعت الأمة على اعتباره والاعتداد به.

    قال رحمه الله تعالى: [وأكثره ست].

    أي: أكثر هذه السنة الراتبة البعدية ست ركعات، والصحيح -كما قلنا- أنه ليس هناك راتبة قبلية وإنما راتبة بعدية فقط، وهذا مما تختص به الجمعة، بخلاف صلاة الظهر في كل يوم فلها راتبة قبلية وبعدية، وقد تقدم الكلام على هذه الراتبة، وبيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أعدادها عند كلامنا على صلاة السنن الراتبة.

    فقوله: [أكثرها ست] أي: أكثر ما يتنفل به كراتبة بعدية، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يصلي بعد الجمعة نافلة مطلقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عبسة : (فإذا زالت فأمسك عن الصلاة، فإذا انتصفت في كبد السماء فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم، فإذا زالت فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة) ، ولذلك لم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلا حرج أن يتنفل النفل المطلق، لكن النفل الذي يقصد منه راتبة الجمعة البعدية لا يكون إلا على أقصى درجة، وهي ست ركعات، وهذا هو أقصى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن حديث الست فيه جمع بين الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأربع والذي ورد عنه بالركعتين.

    1.   

    سنن الجمعة

    الاغتسال

    قال رحمه الله: [ويسن أن يغتسل لها].

    أي: يسن للإنسان أن يغتسل لصلاة الجمعة، والسبب في هذا أن بعض الصحابة كانوا يقدمون على الجمعة من العوالي ومن قباء، ومن نحوها من الأماكن التي هي من ضواحي المدينة، وكانت الأرض أرض زراعة، فإذا مشوا في الطريق يغشاهم الغبار والتراب، قالت أم المؤمنين: فَعَلَتِ المسجد منهم زهومة بمعنى أنه مع عرقهم وما يكون في الثياب من عرق فاحت هذه الرائحة في المسجد، وتضرر الناس، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام صغيراً، فتضرر الناس بذلك، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يغتسلوا للجمعة، وهذا يدل على أن السنة أن يغتسل، وهذا الاغتسال فيه حكم عظيمة:

    أولها: أنه يقوي نفس الإنسان على ذكر الله عز وجل، وذلك أن الاغتسال يقوي الإنسان وينشطه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا دخل إلى مكة اغتسل بذي طوى) ، وذي طُوى مثلث الطاء، ويسمى الآن الزاهد، اغتسل فيه عليه الصلاة والسلام ونزل وطاف، وهذه سنة يضيعها كثير من المعتمرين إلا من رحم الله، فمن السنة أن يغتسل الإنسان قبل الطواف؛ لأنه إذا اغتسل قويت نفسه، خاصة وأنه قد جاء من السفر في عناء وتعب، فإذا طاف وهو قوي النفس نشيطاً مرتاح البال، مع وجود الاستجمام بإصابة الماء للبدن، قويت نفسه على ذكر الله واستجمت، وأصبح في جلد على الطواف والسعي، فالاغتسال يقوي النفس.

    ثانياً: أن الناس يحضرون ويدخلون يوم الجمعة، فإذا اجتمعوا في المسجد ولم يغتسلوا علت منهم الزهومة، وأضر بعضهم ببعض، وهذا جعل بعض العلماء رحمة الله عليهم ينبه على أن الإنسان إذا دعي إلى حلق الذكر ومجالس العلماء التي يكثر فيها الناس أنه يفضل أن يغتسل لها، لا بقصد العبادة، وإنما بقصد المعنى الذي قصده الشرع من الاجتماع، وفرق بين أن يغتسل بقصد القربة والعبادة، وبين أن يغتسل من أجل دفع ضرر النتن الذي قد يكون في ثيابه، أو يكون بسبب الازدحام مع غيره، فقالوا: إن الغسل يوم الجمعة يدفع عن الناس ضرر الرائحة الكريهة.

    ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الجمعة والذهاب إليها: (من غسّل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب ..) إلى آخر الحديث، وقد اختلف العلماء في قوله: (غسل واغتسل):

    فمنهم من يقول: (غسل واغتسل) معناهما واحد، والمراد به تأكيد الغسل.

    ومنهم من يقول: (غسل) أي: تسبب في غسل زوجته، بناء على أنه يصيب أهله قبل أن يذهب إلى الجمعة، فإنه إذا أصاب الأهل قبل ذهابه إلى الجمعة انطفأت الشهوة، فكان أغض لبصره، وأحصن لفرجه، وأبعد له عن الفتنة، فإذا أقبل على الذكر أقبل بنفس مطمئنة، ويكون منشرح الصدر، بعيداً عن الوساوس والخطرات، خاصة وأنه في يوم الجمعة لا يأمن من وجود الاختلاط الذي قد تصاحبه فتنة النظر.

    وقال بعض العلماء: (غسل واغتسل) أي: غسل رأسه واغتسل لسائر جسده.

    وقال بعضهم: قوله (غسل) أي: أنه توضأ، (واغتسل) أي: غسل جميع بدنه.

    وهذه كلها أوجه لها ما يبررها ويدل على اعتبارها، وقال بها جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.

    وقول المصنف: [يسن] السنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فلو قلنا: دعاء الاستفتاح سنة فإن من كبّر وقرأ الفاتحة مباشرة لا يأثم، وهكذا الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) بعد التسميع والتحميد، وكذلك: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فإن هذه الأدعية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

    فقوله: [يسن أن يغتسل] أي أنه إذا اغتسل فأفضل، وإذا لم يغتسل فلا إثم عليه، وهذا مذهب طائفة من العلماء.

    والصحيح: مذهب الظاهرية ومن وافقهم من أهل الحديث أن غسل الجمعة واجب، وذلك للأمور الآتية:

    أولاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) ، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف صحيح.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) .

    ثالثاً: أننا وجدنا الصحابة قد فهموا اللزوم للغسل، وذلك أن عثمان رضي الله عنه دخل وعمر يخطب في الناس يوم الجمعة، فقال له عمر : (أي ساعة هذه؟) أي: ما بك وما شأنك قد تأخرت عن الجمعة؟ فقال: (يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وقدمت فقال: والوضوء أيضاً) كأنه ينكر عليه، فدل على أن الغسل كان معروفاً أنه لازم لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه يقوى القول بالوجوب.

    ثم إن دليل النظر يقوي هذا القول، وهو أنه إذا لم يغتسل أضر بالناس، وذلك بحصول النتن، وإن كان النتن منه يسيراً فاليسير مع اليسير من غيره كثير، والجبال من دقائق الحصى، ومعنى هذا أن دفع هذا الضرر مطلوب شرعاً، وبناء عليه فإنه يعتبر أشبه ما يكون بالوجوب واللزوم منه إلى السنة.

    أما الغسل للجمعة فإنه أفضل ما يكون عند إرادة الخروج، فهذا أفضل ما يكون، فمثلاً: لو كان يخرج الساعة التاسعة أو العاشرة، فإنه يؤخر غسل يوم الجمعة إلى هذه الساعة؛ لأنه إذا أخّر غسله إلى هذه الساعة حقق مقصود الشرع من حصول النظافة والنقاء، ومن ثم قال العلماء: الأفضل في غسل الجمعة أن يقع قريباً جداً من الخروج، ولكن إذا كان غسله عند الخروج فيه ضرر عليه كأن يكون في شدة برد، فإنه لا حرج أن يقدمه بوقت على قدر ما يدفع به الضرر عن نفسه.

    لكن لو أن إنساناً صلى الفجر واغتسل، أو طلعت عليه الشمس واغتسل، فهل يصدق عليه أنه حقق الواجب من غسل الجمعة؟

    الذي يقوى ويظهر أن هذا الغسل ينبغي أن يكون قريباً من الخروج، وذلك للرواية في الصحيح: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، فيكون مطلق قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) مقيداً بقوله: (إذا أتى أحدكم الجمعة..)، خاصة وأنه يفهم من النص أو الأمر بهذا الغسل أن يكون نقياً لصلاة الجمعة، فلو أنه اغتسل قبل الجمعة بوقت ربما زال هذا المعنى، فيعتريه ما يعتري الإنسان من العرق ونحو ذلك، فيذهب المقصود من غسله ليوم الجمعة.

    قال رحمه الله تعالى: [وتقدم]:

    أي: تقدمت صفة الغسل، وهذه العبارة تُعقِّب فيها صاحب المتن بأن فيها نظراً، وليس المراد أنها فاسدة من كل وجه، فإذا كان الكلام مستقيماً والحجة مستقيمة وقال الخصم: (فيه نظر)، فإن قوله هذا يكون مكابرة وعناداً، وقد يكون الكلام فيه احتمال الخطأ، فقولهم: (فيه نظر) يعنى أنه يحتمل الخطأ، أو فيه خلل في ضابط من ضوابطه أو أصل من أصوله الذي اعتمدها.

    فقول المصنف: [وتقدم] لا يخلو من أحد أمرين:

    إما أن يكون قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، وهذا احتمال، وحينئذٍ على هذا الوجه يكون الذي تقدم حكم غسل الجمعة.

    وإما أن يكون معناه: تقدمت صفة الغسل، أو تقدم بيان الغسل، أو بيان ما يتحقق به الغسل الذي يسن.

    فإن كان معنى قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، فهذا هو الذي جعلهم يقولون: (فيه نظر)؛ لأنه في باب غسل الجنابة لم يذكر أن غسل الجمعة سنة، فيكون قول الشارح: (فيه نظر)، أي: إن تقدم حكم غسل الجمعة بأنه سنة ففيه نظر.

    والواقع أن المصنف رحمه الله قصد بقوله: [وتقدم] بأنه تقدم ضمناً ولم يتقدم صراحة، وتوضيح ذلك أنه لما تكلم في باب الغسل ذكر من موجباته خروج المني دفقاً، وتغييب الحشفة، وإسلام الكافر، والحيض .. إلى آخره، ولم يذكر يوم الجمعة، فلما لم يذكر الجمعة مع الموجبات فهمنا أن غسل الجمعة مسنون وليس بواجب، وهذه إشارة خفية، ومن هنا لم يتبين لمن تعقب المصنف رحمه الله وجه كونه قدم الحكم، والواقع أنه قدم الحكم، ولكن قدمه بدقة.

    وإن كان مراده بقوله: [وتقدم] أي: تقدم بيان ما يتحقق به الغسل المعتبر، فقد تقدم، فإنه في الغسل بيّن ما يتحقق به الغسل في باب غسل الجنابة، وبناء على ذلك فلا وجه لتعقب صاحب المتن، وكلامه صحيح ومعتبر على الوجهين:

    إن قلنا: أراد الحكم، فلا إشكال.

    وإن قلنا: أراد الصفة، فلا إشكال.

    التنظف والتطيب

    قال رحمه الله تعالى: [ويتنظف ويتطيب].

    هذا الأمر بالنظافة يفهم منه الأمر بالغسل، وذلك أنه لما أمر الشرع بالغسل فإن معنى ذلك أن يتنظف الإنسان، وهذا صحيح، فإننا نأخذ الأحكام إما من منطوق الشرع، أو مما نفهمه من الشرع، وهذا من الفقه، فإنه إذا جاء النص يأمرنا بغسل الجمعة فإننا نفهم أن المراد أن يكون الإنسان على نظافة ونقاء، إضافة إلى أن الأصل في شهود المساجد ودخولها أن يكون الإنسان على نقاء، يقول تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] ، فقوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] مما يتضمن الزينة المطلقة، سواء أكانت زينة البدن التي يصحبها نقاؤه ونظافته، أم الزينة التي يراد بها ستر العورة، وقد استدل العلماء رحمهم الله بهذه الآية على اشتراط ستر العورة، وقد تقدم معنا.

    قوله: [يتنظف].

    الغسل قد يكون فيه نظافة وقد لا يكون فيه نظافة، فالإنسان قد يبلّ جسده بأن يدخل في بركة ويغتسل ولكن لا يتنظف، بمعنى أنه لا يدلك جسده، ولا يبالغ في إزالة الشعث عنه، فالنظافة فوق الغسل، وبناء على ذلك فإن السنة والأفضل للإنسان أن يبالغ في نظافة جسده حتى يكون محققاً لمقصود الشرع من زوال الأذى الذي يتضرر به الناس، وهو وجود الرائحة الكريهة.

    وقوله: [ويتطيب].

    الطيب هو الرائحة، ويشمل الطيب الذي يكون سائلاً، أو يكون له رائحة كالبخور والند والعود، ونحو ذلك، فهذا كله من الطيب، والطيب من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (ومس من طيب أهله)، وهذا يدل على أن السنة أن يتطيب الإنسان، وقد جاء في حديث فضل المضي إلى الجمعة: (ومس طيباً) أي: يمس من طيبه طيب بيته أو طيب أهله، وقالوا: التعبير بطيب الأهل لأن الإنسان إذا أراد أن يتجمل على أبلغ ما يتجمل فإنه يتجمل لزوجه، ولذلك اختار هذا النوع من الطيب الذي يكون به أبلغ ما يكون في زينته، وأحسن ما يكون في رائحته، وكأنه لما قال: (طيب أهله) لأن الإنسان لا يحب أن يضر أهله عند نومه معهم ونحو ذلك، كذلك أيضاً في مخالطته لإخوانه، فإنه يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب وأفضله.

    لبس أحسن الثياب

    قال رحمه الله تعالى: [ويلبس أحسن ثيابه].

    لأنه يوم عيد، والجمعة عيد الأسبوع، ولذلك يلبس أحسن ما يجد، وهي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد شهود صلاة الجمعة، أو الصلاة عموماً فالأفضل له أن يلبس أحسن ما يجد.

    ومن الأخطاء الشائعة عند الناس اليوم -وينبغي أن ينبهوا لها- شهود بعض الناس المساجد بملابس نومهم، فهذا أمر لا ينبغي، وهو يخالف أمر الله عز وجل بأخذ الزينة عند دخول المساجد، وإذا رأيت إنساناً يدخل المساجد بهذه الثياب تنبهه، ولا مانع أن تبالغ في بيان أن هذا الأمر لا ينبغي للإنسان الذي يقف بين يدي الله عز وجل، فإنه لو مضى إلى مقابلة إنسان عظيم فإنه يتجمل ويلبس أحسن ما يجد، ولوجد في نفسه المنقصة أن يخرج بمثل هذه الثياب، والأصل عند العلماء وضوابط العلماء التي قرروها أنه لو خرج الإنسان بالثياب الداخلية أمام الناس والملأ عامة فضلاً عن المسجد فإنه تسقط عدالته، ويعد هذا من خوارم المروءة، فالذي يخرج بثياب نومه أمام الناس في الشارع، فضلاً عن أن يدخل بيت الله عز وجل والمساجد التي يشهدها الناس على اختلاف طبقاتهم فإنه قد حرم مروءته.

    ومن الحياء والخجل أن يخرج الإنسان بثياب نومه إلى بيوت الله عز وجل، فينبغي إجلال هذه البيوت، قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، ولذلك ينبغي للإنسان أن يشهدها وهو على أحسن وأفضل ما يكون، قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم أن يتخذ ليوم جمعته ثوبين سوى ثوبي مهنته) أي: ما عليه من ضرر لو أنه جعل ثوباً لمهنته، وثوباً لجمعته، مع أن ثياب المهنة يقابل بها الناس، فكيف إذا كان بثياب بيته التي لا يقابل بها الناس؟ ولو أنه دعي لمقابلة إنسان يكرمه ويجله ويعظمه لما خرج بثياب نومه، ولأحس هذا الإنسان أنه يزدريه وينتقصه، فكيف بالله جل جلاله؟! ولذلك ينبغي للإنسان أن يظهر نعمة الله عز وجل عليه.

    كما أن خروج الناس بمثل هذه الثياب فيه أثر نفسي على الأبناء والأطفال، فإن الأبناء والأطفال إذا رأوا آباءهم، أو رأوا كبار السن يخرجون بمثل هذه الثياب إلى المساجد احتقروا أمر الصلاة، وتقالوا أمر المساجد، ولكنهم إذا رأوهم يأخذون زينة المساجد تأسوا بهم واقتدوا بهم، فكان شعوراً نفسياً يعين على إجلال بيوت الله عز وجل ومساجده، وإجلال شعائره التي من أعظمها الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس، وإذا رأيت إنساناً يصلي بجوارك وعليه هذه الثياب تنبهه، وإذا كان الإنسان له مكانة لا مانع أن تقرعه وتقول: إن هذا لا ينبغي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فالحياء يدعو الإنسان ألا يخرج بمثل هذه الثياب؛ لأن هذه ثياب البيت.

    التبكير في الذهاب إلى الصلاة مشياً

    قال رحمه الله تعالى: [ويبكر إليها ماشياً].

    هذه هي السنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا وأنصت)، فقوله: (من بكر وابتكر) قالوا: بكّر على وزن (فعَّل)، وهذه الصيغة تدل على زيادة المبنى، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، قالوا: إن هذا يدل على تكلف البكور، والبكور في أول النهار، واختلف العلماء رحمة الله في التبكير للجمعة متى يكون؟

    فمنهم من يرى أن التبكير للجمعة يكون من بعد الزوال، كما هو قول طائفة من فقهاء المدينة من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.

    والقول الثاني أن التبكير يكون من أول النهار، وهو مذهب الجمهور، فيمشي من بعد طلوع الشمس.

    بل قال بعضهم: لو صلى الفجر وجلس كان أبلغ في التبكير، أي: لو أنه بعد صلاة الصبح، وبعد رجوعه إلى بيته وإصابته لطعامه خرج إلى مسجده، فهذا أبلغ ما يكون من البكور.

    وإن كان الأقوى أنه بعد طلوع الشمس؛ لأن فيه الساعات الأول التي فيها الفضل، والتي سبق بيانها وأنه: (من خرج في الساعة الأولى كان كأنما قرب بدنة... ) الحديث، فهذا الفضل لا يكون إلا للمبكر، وهو الذي يخرج في أول الساعات.

    فالفضل يكون في البكور، ولأن البكور فيه مسارعة للخير ومسابقة إليه، والله سبحانه وتعالى ندب عباده إلى المسارعة والمسابقة إلى الخير، فقال سبحانه: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] ، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] ، فالذي يسارع إلى الجمعة يسارع إلى مغفرة من ربه، والذي يسابق إلى الجمعة يسابق إلى مغفرة من ربه، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن دافعه إلى ذلك رجاء رحمة الله، ورجاء عفوه ومغفرته ورضوانه، فالفضل في التبكير للجمعة، وأعظم الناس أجراً في الجمعة أبعدهم إليها ممشى، وأسبقهم إليها تبكيراً.

    الدنو من الإمام

    قال رحمه الله تعالى: [ويدنو من الإمام].

    لأنه في القديم كانت المساجد لا يوجد فيها الأجهزة التي يبلغ فيها الصوت، فكلما دنوت من الإمام كلما كان ذلك أدعى لسماعك، والمقصود من الجمعة أن تسمع الموعظة، ولذلك من أفضل ما يكون للعبد يوم الجمعة أن يكون تأثره بالخطيب بليغاً، حتى ولو كانت خطبته لا يجد فيها تلك الفصاحة وتلك البلاغة، لكن ينبغي أن يتفاعل مع ما يقوله الخطيب وما يأمر به من أوامر الله وما ينهى عنه من زواجر الله، فإنه إذا فعل ذلك، وتأثر بما يقوله الخطيب فإنه من أفضل الناس وأعظمهم أجراً، وكان العلماء رحمهم الله يستبشرون للعبد بذلك، ويعدونه من دلائل الإيمان.

    وما جعلت هذه المنابر، وما أمر الأئمة بإلقاء الخطب عليها إلا للعمل وللتأثر بما يقولون، فإذا رزق الله العبد أذناً صاغية وقلباً واعياً، فإن هذا من نعم الله عليه، وقد كانوا يقولون: من أعظم الناس أجراً يوم الجمعة أفضلهم تأثراً بقول الخطيب. وكان بعضهم يقول: إن من دلائل القبول أنه إذا وجد نفسه في الخطبة تتأثر وينكسر قلبه ويخشع، وربما يبكي، ويحس أن هذه الزواجر تقرعه وتذكره وتعظه، وأنها تنصحه، ويجد لها وقعاً بليغاً على قلبه، فليحمد الله، عز وجل على عظيم نعمة الله عليه، فهذا من نعم الله، ومما يخص الله به من شاء من عباده.

    وقد اختلف العلماء في مسألة وهي: لو أن الإنسان يوم الجمعة كان في بادية، أو في مكان ليست فيه أجهزة مكبر الصوت، فلو أنه جاء مبكراً فأدرك الصف الأول في طرفه بحيث لا يسمع الخطبة، ويمكنه أن يأتي في الصف الثاني فيسمع الخطبة، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع بعده عن سماع الإمام، أم يكون في الصف الثاني مع سماعه وتأثره؟

    ومثل هذه المسألة أيضاً: صلاة الفجر، فقد اختلفوا فيها: هل الصف الثاني أفضل إذا كان الصف الأول أبعد عن الإمام بحيث لا يسمع قراءته، أم الفضيلة للصف الأول وإن لم يسمع قراءة الإمام؟

    فبعض العلماء يقول: إن قربه من الإمام ولو كان في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أفضل من الصفوف الأول، ويرجح ذلك بقوله سبحانه وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، فقالوا: إن هذا يدل على فضل هذه القراءة، خاصة وقد قيل: إن الفجر تشهده الملائكة وقيل: إنه يشهده الله عز وجل، أي أن النزول إلى السماء الدنيا يستمر إلى قراءة الفجر إعظاماً لهذه الصلاة.

    والصحيح: أن قوله: كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، معناه: تشهده الملائكة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار يجتمعون في صلاة الصبح والعشي) التي هي صلاة العصر، فقوله: كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] معناه: تشهده الملائكة.

    وفائدة الخلاف أن من يقول: الأفضل أن يكون في الصف الثاني والثالث مع السماع والتأثر، يقول: السماع والتأثر مقصود من الشرع، فكأن صلاة الجمعة قصد منها أن يسعى الإنسان ويتأثر، فيحقق بذلك مقصود الشرع والنفع بها متعدد، خاصة وأنها من جنس العلم، والصف الأول من جنس العبادة، والعلم مقدم على العبادة، ففضل العلم مقدم على العبادة.

    ومن يقول: الصف الأول أفضل، فذلك لعموم النصوص.

    وثانياً: أن الصف الأول فضيلته متصلة، أي: أنه يتصل بنفس فعل الصلاة، والسماع لا يعتبر في كل الصلاة وإنما في بعضها، فإذا صلى الصلاة كلها في الصف الأول فالفضيلة كاملة له، لكن السماع لا يكون إلا في حال الخطبة، ولا يكون إلا في حال القراءة، كما في صلاة العشاء يكون في الركعتين الأوليين، وفي صلاة المغرب في ثلثي الصلاة وهما الركعتان الأوليان.

    فقالوا: الأفضل أن يصلي في الصف الأول.

    والحقيقة أن الصف الأول أفضل من جهة النص ومن جهة المعنى، ومقصود الشرع من ناحية الفائدة، فإن القرب من الإمام أفضل، لكن والحمد لله مع وجود الوسائل الموجودة الآن لا شك أنه يرتفع الخلاف، ويكون الصف الأول أفضل مطلقاً؛ لأنه يسمع الإمام ويصيب فضيلة الصف الأول.

    قراءة سورة الكهف يوم الجمعة

    قال رحمه الله تعالى: [ويقرأ سورة الكهف في يومها].

    أي: السورة التي ذكرت فيها قصة أهل الكهف، وتسمى سور القرآن بما يذكر فيها، وقد اختلف السلف في ذلك:

    فبعضهم يقول: لا يقال: سورة الكهف، ولا يقال سورة البقرة، وإنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها الكهف.

    والصحيح أنه يجوز أن يقال: سورة الكهف، وسورة البقرة؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر شفاعة القرآن قال: (تقدمهم سورة البقرة وآل عمران) ، وقال: (من قرأ الآيتين من آخر البقرة في ليلته كفتاه)، فهذ يدل على مشروعية تسمية السورة مباشرةً بقوله: سورة البقرة، وسورة آل عمران، ونحو ذلك.

    وذكره قراءة سورة الكهف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث -وحسنه غير واحد من الأئمة- قوله: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نوراً كما بين السماء والأرض)، وهذا يدل على فضل قراءة هذه السورة يوم الجمعة.

    وللعلماء وجهان في قراءتها:

    فمنهم من يقول: تقرأ في ليلة الجمعة، ولا حرج أن يقرأها في الليل أو النهار فهو بالخيار.

    ومنهم من يقول: لا تكون قراءتها في الليل، وإنما بين طلوع الشمس إلى غروبها.

    ويفضل بعض العلماء أن تكون قبل الصلاة، بمعنى أن تكون ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، وهذا أقوى وذلك لأنه يكون في أول النهار، فلما يقرأ القرآن تكون عبادته معينة له على صلاة الجمعة وحضور القلب، فكلما شهد الإنسان الجمعة وهو أكثر خيراً وأكثر براً كلما كان أكثر تأثراً وأكثر انتفاعاً وأرجى للقبول من الله عز وجل، ولكن لا حرج لو قرأها بعد صلاة الجمعة، أو بعد العصر.

    وينبغي أن ينبه على أنه لا يعتقد الفضل لوقت معين بعينه لقراءة هذه السورة، فلو قال إنسان: لا تقرأ هذه السورة إلا في الساعة الأولى من الجمعة، فإن تحديده لهذه الساعة بدعة، وذلك لأنه أحدث؛ لأن الشرع أطلق وهو قيد، ولا يجوز تقييد المطلقات من الشرع إلا بدليل يدل على هذا التقييد.

    قال العلماء: سبب تخصيص سورة الكهف بالقراءة يوم الجمعة لما فيها من ذكر ابتداء الخلق، وكذلك لما فيها من ذكر مآل الناس من مشاهد يوم القيامة وعرصات يوم القيامة، ولما فيها من التزهيد في الدنيا وضرب الأمثال على حقارة الدنيا، خاصة قصة صاحب البستان، وما كان منه من كفر نعمة الله عز وجل عليه، وكيف أن الله انتقم منه لما كفر نعمة الله سبحانه وتعالى، وبيان حقيقة الدنيا بقوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الكهف:46]، فكون الإنسان يقرأ مثل هذه الآيات، ويتأثر بها ويحس أنها تخاطبه لا شك أن هذا يدل على فضل هذه السورة، وكذلك ما اشتملت عليه من الدعوة إلى طلب العلم وفضل طلب العلم -كما في قصة الخضر وموسى- كل هذا يدل على فضل هذه السورة لما تشتمل عليه من معانٍ جليلة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة بسورتي السجدة والإنسان، قالوا: لما فيهما من ذكر الآخرة، والتذكير بمآل الناس يوم القيامة من نعيم وجحيم.

    الإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله تعالى: [ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم].

    قوله: [ويكثر الدعاء] أي: يوم الجمعة، والسبب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم -أو قال: مؤمن- يسأل الله شيئاً إلا أعطاه) أياً كان هذا الشيء من خيري الدنيا والآخرة.

    ومعنى ذلك أنه يشرع الإكثار من الدعاء يوم الجمعة، ويسن الإكثار منه، ولذلك لما كان قيام ليلة القدر له فضله شرع في العشر الأواخر أن يحيا ليلها بالقيام، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شد المئزر وأحيا ليله، فلما نبه الشرع على أن: (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه) دل على أنه يشرع ويسن الإكثار من الدعاء حتى يصيب الإنسان هذه الساعة، يقول العلماء: التنبيه على الساعة دعوة إلى الإكثار من الدعاء؛ لأنه لما نبه على أن هناك ساعة فكأنه يقول: ادعوا وأكثروا من الدعاء علكم أن توافقوا هذه الساعة.

    والعكس بالعكس، فإذا منع الشرع، أو كان هناك رجاء إجابة وخيف من دعوة ظالمة يمنع من الدعاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أولادكم لا توافقوا باباً في السماء مفتوحاً فيستجاب لكم)، فحذر ومنع؛ لأن هناك ساعة يستجاب فيها الدعاء، فمنع من الدعوة التي فيها ضرر.

    والساعة التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم قليلة؛ لأن الرواية الصحيحة تقول: (أشار بيده يقللها) حتى قال بعض العلماء: إنها برهة من الوقت وجاء في بعض الأحاديث أنها ساعة كاملة تشمل جزء النهار، والنهار اثنتا عشرة ساعة كما في الصحيح، فهي ساعة بكاملها، وهي ستون دقيقة، وإن كان الأقوى في رواية الصحيح أنها ساعة يقللها عليه الصلاة والسلام.

    وقد اختلف العلماء في وقت هذه الساعة:

    فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنها بعد ارتفاع الشمس بقدر ذراع أي: بعد الارتفاع بقليل، وهذا قول ضعيف؛ لأن هذا الوقت منهي فيه عن الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي..) ، فدل على كونها في وقت صلاة، وإن كان اعتبر بعض العلماء هذا بأنه إذا جلس بعد صلاة الفجر ينتظر الإشراق وينتظر الصلاة يكون في حكم المصلي ولكن هذا محل نظر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) أي: الصلاة المفروضة، وهذا يجعله لا يوافق هذا الفضل إلا إذا كان جالساً في مصلاه بعد الفجر إلى أن يصلي الجمعة، وهذا من المشقة بمكان.

    وقال بعض العلماء: تكون بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة إلى طلوع الشمس، وهذا أيضاً مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مشكل؛ لأن هذا الوقت أيضاً ليس بوقت صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النافلة فيه، ولذلك يضعف أن يكون هذا الوقت وقت إجابة؛ لأن تلك الساعة يكون فيها العبد مصاحباً للصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي)، كما في رواية مسلم .

    وقال بعض العلماء: إنها من بعد الزوال مباشرة. أي: من حين أن يبدأ الزوال تكون هذه الساعة، وهذا القول فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قبل صلاة الظهر أربعاً قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) ، ولما التقى شيخ الإسلام -رحمه بالله- بالتتار كان يقول للقائد: انتظر -أي: لا تبادر المعركة- حتى تزول الشمس وتهب الرياح، ويكون الوقت أرجى لقبول الدعاء ساعتها، ويدعوا المسلمون على المنابر. فهذا الوقت من أرجى الأوقات، وهو من بعد زوال الشمس، أو من بداية زوال الشمس.

    وبعض أصحاب هذا القول: من بعد الزوال ولو لحظة أي: بعد أن تزول الشمس يقوم الإنسان ويصلي بعد زوالها مباشرة.

    القول الرابع: أنها من بعد الزوال إلى أن تنتهي الصلاة.

    القول الخامس: أنها من حين يشرع الإمام في الخطبة إلى أن تنتهي الصلاة.

    القول السادس: أنها من حين يشرع في الخطبة إلى أن تقام الصلاة.

    القول السابع: أنها عند إقامة الصلاة.

    القول الثامن: أنها أثناء إقامة صلاة الجمعة، أي: من حين تقام الصلاة ويكبر تكبيرة الإحرام إلى أن يسلم.

    القول التاسع: أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس.

    القول العاشر: أنها قبل غروب الشمس بساعة.

    القول الحادي عشر: أنها في الثلاث الساعات التي قبل غروب الشمس.

    والأفضل والأولى وهدي السنة أن يسكت عن هذه الساعة؛ لأن الشرع سكت، وما ورد من الأحاديث فهو متعارض، مثل حديث أبي سعيد مع حديث أبي ذر ، فالأحاديث فيها معارضة، مع أن الصحابة كانوا يفهمون هذا.

    لكن الأقوى من ناحية النص والدليل أنها تكون في وقت تشرع فيه الصلاة، وهو من طلوع الشمس قيد رمح، إلى أن تصلى صلاة العصر، ويستثنى أثناء الزوال، وبعض العلماء لا يستثني وقت الزوال؛ لأنه يرى أن ساعة الزوال في يوم الجمعة مرتفعة، أي: ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم) ، فمن بعد طلوع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر هذا هو الوقت المشتمل، وأما ما عدا هذا من الأقوال فإنه يعارض قوله صلى الله عليه وسلم : (وهو قائم يصلي).

    وأما القول بأنها بعد العصر فبناءً على أنه إذا جلس ينتظر صلاة المغرب أنه في صلاة، وأما ما أثر عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة فمشكل؛ لأنه قال: (وهو قائم)، ولم يقل: وهو يصلي. مع أنه جاء في بعض الروايات: (وهو يصلي)، لكن رواية: (وهو قائم يصلي) تؤكد على أنها صلاة ذات ركوع وسجود، وكونه يقال: إنه إذا انتظر الصلاة فهو في صلاة فهذا حكم الصلاة، وفرق بين الحكم والوصف، فلو قال عليه الصلاة والسلام: (وهو يصلي) لاستقام القول، لكن لما قال: (وهو قائم يصلي) فالقيام يدل على وجود الفعل للصلاة بذاتها.

    والذي تطمئن له النفس أنها ساعة من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر، ما خلا ساعة الزوال، على أصح أقوال العلماء من أن ساعة الزوال في يوم الجمعة وفي غيرها على حد سواء يمسك فيها عن الصلاة، خلافاً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد استدل بحديث رواه في مسنده وهو حديث ضعيف، وفيه استثناء يوم الجمعة، والصحيح: أن ساعة الزوال أو ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء لا يصلى فيها للإطلاق في النصوص، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده من الأدلة الصحيحة.

    كما أن الذي تطمئن إليه النفس أنه يمسك عن تحديد هذه الساعة؛ لأنه منهج الشرع، ولذلك جاء في ليلة القدر أن الأفضل أن يمسك عنها؛ لأنه أدعى إلى اجتهاد الناس وإقبالهم على العبادة، وبعض العلماء رحمة الله عليهم كان يستغرب من إهمال أول النهار، فيقول: إن الأقوال كلها انصبت على آخر النهار، وانصبت من بعد الزوال، مع أن ساعة الضحى تعتبر من ساعات الغفلة، ويوم الجمعة الناس فيه أكثر بيعاً وشراءً ولهواً في الدنيا، ولا يقبل على العبادة في مثل هذا الوقت إلا من كان حاضراً فقط، مع أنها ساعات فضل بالتبكير إلى الجمعة، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يطمئن إلى الساعات في أول النهار، ولكن الأفضل والأولى أنه شيء سكت عنه الشرع، فإذا لم يرد الدليل الصحيح الصريح فإنه يبقى على الإطلاق الذي أطلق الشرع فيه هذه الساعة، خاصة وأنهم لما قالوا: بعد صلاة العصر فإن ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت طويل، وقد جاء في الحديث: (أشار بيده يقللها)، وكذلك من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فقد يصل إلى أكثر من ساعة، ولذلك يضعف هذا القول، ويقوى القول الذي يقول: إنها في ساعة تباح فيها الصلاة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.

    قوله: [ويكثر الدعاء]، هذا أمر يضيعه كثير إلا من رحم الله، فالناس عندما كانت قلوبهم مملوءة بالخير وبإعظام الله جل جلاله، وكان الدين قوياً كانوا في مثل هذه الأيام المباركة يكثرون من ذكر الله عز وجل، ومن سؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، ولكن قلّ أن تجد اليوم من يعمر أوقاته في يوم الجمعة بذكر الله عز وجل، وهذا من الغفلة، وقد كان السلف يكثرون من تلاوة القرآن، وكذلك من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لو تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) وسألت نفسك: كم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لوجدتها صلوات معدودة، بل إنك قد تجد من الناس من لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صلاته، أو حين يأمر الخطيب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غفلة الناس.

    فهذا اليوم مأمور بالإكثار فيه من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستحي العالم وطالب العلم والعامي أن يعرض اسمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه إلا النزر القليل، ولذلك على الإنسان أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، ويأمر أبناءه وأهله بهذه السنة التي أضاعها الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً)، وهذا فضل عظيم، وفيه أجر كثير للإنسان، فعلى الإنسان أن يكثر من الصلاة والسلام على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكانوا يقولون: من نعم الله التي أنعم بها على أهل الحديث ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يكثرون الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.

    واختلف العلماء في الأفضلية في يوم الجمعة: هل هي أن يكثر من تلاوة القرآن، أو من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو من الصلاة؟

    وأصح الأقوال أنه يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمونه: التفضيل النسبي، وذلك أنه إذا تعارض المقيد بالفضيلة في الزمان أو المكان أو الحالة مع المطلق بقي المقيد على تقييده، وقدم على المطلق في إطلاقه.

    وتوضيح ذلك أن قراءة القرآن أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا في يوم الجمعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة)، فكونه عليه الصلاة والسلام يأمرنا بالإكثار من الصلاة والسلام عليه في هذا اليوم يدل على أن الأفضل الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، ومثله يوم عرفة.

    فلو قال قائل: هل الأفضل أن يكثر من تلاوة القرآن، أو من التهليل. فالأفضل أن يكثر من التهليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، هذا يدل على فضل التهليل في هذا اليوم، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، وذكره بهذا الذكر العظيم، فهذا هو التفضيل النسبي.

    ومثل ذلك أيضاً وقت السحر، فهل الأفضل أن يكثر الإنسان من تلاوة القرآن، أو يستغفر؟

    قال بعض العلماء: الأفضل أن يستغفر؛ لأن الله يقول: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] ، فأثنى على من استغفر في هذا الوقت، خاصة أن الله تعالى يقول في الثلث الأخير: (هل من مستغفر فأغفر له) ، فدل على فضل قصد الاستغفار، وهذا هو التفضيل النسبي، فما كان من الفضائل المطلقة يبقى مقدماً مفضلاً على غيره، وما كان من الفضائل المقيدة يبقى مفضلاً مقدماً على غيره فيما قيد به، وهذا هو مذهب المحققين من العلماء رحمة الله عليهم، وممن اختار هذا القول العز بن عبد السلام رحمه الله في فتاويه.

    1.   

    الأسئلة

    التنفل يوم الجمعة في وقت النهي

    السؤال: كيف يكثر المصلي من النوافل يوم الجمعة، مع كون بعض أوقاتها منهياً عن الصلاة فيه؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فإن معنى السؤال أن يوم الجمعة لو أن إنساناً أكثر فيه من النوافل فإنه ربما صلى أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وبناءً على ذلك يقولون: كيف يُكثر من النوافل مع أنه ربما يوافق وقت النهي؟!

    والجواب أن وقت النهي في يوم الجمعة للعلماء فيه قولان:

    فمذهب طائفة من العلماء -كالشافعية ومن وافقهم- أن يوم الجمعة يجوز للإنسان أن يصلي فيه النافلة ولو كان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وفيه حديث رواه الشافعي في مسنده، ولكنه ضعيف.

    والذي يظهر أن يوم الجمعة وغيره على حدٍ سواء، وأنه لا يتنفل إذا انتصف النهار؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في هذه الساعة، وهي ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، وقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها جهنم) نسأل الله السلامة والعافية.

    قالوا: هذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، فإنه لم يقل: إلا يوم الجمعة. وهذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، ولا يصلي الإنسان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء.

    وتعرف هذا الوقت المنهي عن الصلاة فهي بأن تنظر إلى الوقت الذي يكون فيه إشراق الشمس، والوقت الذي يكون فيه غروب الشمس، وتحسب ما بينهما من الزمان، ثم تقسمه على اثنين، فذلك هو وقت انتصاف النهار.

    فإذا كان طلوع الشمس الساعة السادسة، وغروبها الساعة السادسة، فإن المجموع سيكون اثنتي عشرة ساعة، فحينئذٍ تقسمها على اثنين فتكون ست ساعات، فعند بلوغ الساعة الثانية عشرة والنصف حينئذ تمسك عن الصلاة، ويبقى هذا القدر الذي يقارب عشر دقائق إلى سبع دقائق لا تصلي فيه، فتحسب ما يبن الإشراق -أي: الإشراق المحض، وليست صلاة الإشراق الموجودة في التقاويم- ووقت غروب الشمس؛ لأن صلاة الإشراق قد يُحتاط فيها بارتفاع الشمس قيد رمح، فلا بد وأن يكون الوقت دقيقاً في الإشراق ودقيقاًً في الغروب، فتحسب ما بينهما وتقسمه على اثنين، فيكون الناتج هو وقت انتصاف الشمس في كبد السماء، ففي هذه اللحظة تقف عن الصلاة، وإنما تصلي قبلها أو بعدها، والسبب في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مثل هذا الوقت، والنصوص عامة، ويوم الجمعة وغيره على حدٍ سواء، والله تعالى أعلم.

    الجمع بين القول بوجوب الغسل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت..)

    السؤال: إذا قلنا بوجوب غسل الجمعة فكيف نجيب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وهل يقتضي كونه واجباً إثم من لم يغتسل؟

    الجواب: اختلف العلماء في ثبوت هذا الحديث، فمن أهل العلم من ضعَّفه، وإن كان تحسينه قوياً عند طائفة من المحدثين، لكن القول بثبوته وكونه حسناً لا يعارض ما ثبت في الصحيح، فيجاب من وجهين:

    الوجه الأول: ما اختاره العلماء بأنه يحتمل أن يكون قبل أمر العزيمة، وهذا من أقوى الأجوبة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موسِّعاً على الناس، فقال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) قالت أم المؤمنين عائشة : (فلما علت المسجد منهم زهومة)، وهذا يدل على أنه أمرٌ متأخر لازدحام الناس، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على الجذع، فلما كان في آخر حياته خطب على المنبر -كما في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه- لأجل كثرة الناس وامتلاء المسجد، وهذا يؤكد أنه كان في أواخر العصر المدني.

    وعلى هذا يكون الجمع بين الحديثين أنه كان رخصة في أول الأمر.

    الوجه الثاني: إذا قيل بالمعارضة فإن هذا الحديث لا يقوى على معارضة النص الذي معنا، وذلك أن النص الذي معنا مما اتفق عليه الشيخان، والقاعدة في الأصول أنه إذا تعارض الصحيح والحسن يُقدَّم الصحيح على الحسن، كما قال صاحب الطلعة في الحديث الحسن:

    وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صـير للترجيح

    أي: الحديث الحسن نحتج به كما نحتج بالحديث الصحيح، ولكن إذا عارض الصحيح فإننا نسقطه في مقابل ما هو أصح منه وأثبت، وبناءً على ذلك فلا إشكال باعتماد القول الذي يقول برجحان وجوب غسل الجمعة، خاصة وأن هناك عدة أحاديث: منها: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، وحديث عائشة : (فأُمِر الناس أن يغتسلوا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فهذه الأحاديث قوية جداً في التأكيد واللزوم، وعلى هذا فإنه يقدم القول الذي يقول بوجوبه، مع أن بعض العلماء يقول: إن متن حديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لا يخلو من نظر من ناحية دقة تركيبه اللغوي، وبعده عن الجزالة ودقة البلاغة في التعبير، ولذلك يقولون: إنه لا يبلغ ما بلغه ما هو أصح منه من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم إن مما يقوي هذا الترجيح أننا وجدنا الصحابة يرجِّحون جانب الغسل، ووجه ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما تأخر عثمان قال: أي ساعة هذه؟! قال: يا أمير المؤمنين: كنت في السوق، فما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت ثم غدوت. قال: والوضوء أيضاً! والإنكار لا يكون إلا في ترك واجبٍ أو محرم، فقوله: [والوضوء أيضاً!] دل على أنه كان معروفاً أنه لا جمعة حتى يغتسل من أراد أن يجمِّع، وهذا قاله أمير المؤمنين -رضي الله عنه- على حضور ملأ من الصحابة، وكان ذلك الزمن غضاً طرياً قريباً من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول قائل: إن هذا يدل على السنية لأنه جاء بأسلوب الإنكار.

    وبناء على ذلك يقوى القول الذي يقول بأنه إذا تعارض النصَّان وعمل الخلفاء الراشدون أو أحد منهم بأحد النصين كان مرجِّحاً له على غيره، فهذا يقوي ترجيح الأمر على حديث السعة والرخصة، والله تعالى أعلم.

    الواجب على من شرع في الطواف يوم الجمعة ثم بدأت الخطبة

    السؤال: ما حكم من شرع في الطواف يوم الجمعة، وقبل أن يكمل شرع الإمام في الخطبة، هل يُتِم طوافه، أو ينتظر حتى ينتهي الإمام من الخطبة والصلاة؟

    الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل:

    فالأطوفة تختلف، فما كان من الأطوفة واجباً وفرضاً لازماً فالمختار أنه لا يقطعه، ويستمر فيه حتى ينتهي؛ لأنه يمكنه أن يستمع الخطبة، مع أنه في الغالب إذا كان الطواف عليه واجباً أن يكون من المسافرين الذين لا تلزمهم الجمعة.

    ولذلك يقولون في مثل هذا: يستمر حتى ينتهي من طوافه، ثم بعد ذلك إذا أقيمت الصلاة دخل مع الإمام وصلَّى.

    أما إذا كان الطواف سنة أو مستحباً، فحينئذٍ يقولون: إنه يقطعه، ويُنصِت للإمام ويستمع، ولا حرج عليه في ذلك واختار بعض العلماء أنه يُتِم الطواف، سواء أكان نفلاً أم فريضةً؛ لأن الله يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، ولأنه يمكنه أن يجمع بين الإنصات بالسكوت عن أذكار الطواف، ويكون مشتغلاً بالسماع للخطيب أثناء طوافه، ولا حرج عليه في إتمام الطواف على هذه الصورة. والله تعالى أعلم.

    كيفية صلاة السنة البعدية يوم الجمعة لمن صلاها ستاً

    السؤال: من صلى السنة الراتبة بعد الجمعة أربعاً أو ستاً، فهل يصليها ركعتين ركعتين، أم يجعلها متصلة بسلام واحد؟

    الجواب: من صلى هذه الست التي وردت في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره، فإنه يجوز له أن يصلي الأربع الأُوَل بتسليمة واحدة، ثم يصلي ركعتين، ويجوز له أن يصليها ركعتين ركعتين، فهذان وجهان يخير بينهما، والله تعالى أعلم.

    أفضلية ترديد الأذان الأول لمن دخل المسجد وأراد أن يصلي التحية

    السؤال: رجل دخل المسجد في وقت أذان الجمعة، فهل يصلي تحية المسجد، أم يستمع ويردد الأذان؟

    الجواب: يردد الأذان لإمكانه بعد الأذان الأول أن يصلي تحية المسجد دون أن يفوته فضل المصاحبة والموافقة للمؤذن في ذكره، وأما إذا دخل أثناء الأذان الثاني فإننا إذا قلنا: إنه ينتظر فإنه يكون منشغلاً بالفضيلة التي يردد فيها وراء المؤذن، ويفوته ما هو أفضل من استماعه وإنصاته لخطبة الجمعة، وعلى هذا فإنه يصلي ولو كان ذلك أثناء الأذان لكي يدرك الإنصات للجمعة بكمالها، وهذا عند بعض العلماء آكد وألزم، والله تعالى أعلم.

    صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: هل للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صفة معينة، وذلك للإكثار منها يوم الجمعة؟

    الجواب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما تكون إذا كانت بالصيغة الإبراهيمية التي دل عليه الصلاة والسلام أمته وأصحابه عليها، فإذا صلى الصلاة الإبراهيمية فذلك أفضل وأكمل ما يكون؛ لأن القاعدة في الشرع: (الوارد أفضل من غير الوارد)، فالصلاة بهذه الصيغة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل.

    وأما بالنسبة للصيغة في الصلاة، فالأفضل أن يجمع بين الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فأمرنا أن نجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

    حكم الصلاة على النبي أثناء الصلاة

    السؤال: إذا قرأ الإمام قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فهل يجوز للمأموم أن يتلفظ بالصلاة، أم يجعلها في نفسه، أم لا يقول شيئاً على الإطلاق؟

    الجواب: من فقه الإمامة التي ينبِّه عليها بعض العلماء أن لا يوقع الإمام المصلين وراءه في الحرج، ومن هنا قالوا: إنه لا يقرأ بسورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] لأنه إذا كبر للركوع ذهبوا إلى السجود وسجدوا.

    وكذلك أيضاً قالوا: إنه لا يتعاطى الأمور التي توجِب اختلاج صلاة الناس.

    ومثل هذه المسألة الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه سيعرض المأمومين إلى التكلم في الصلاة، ولذلك يقولون: إن الأفضل أن لا يتعاطى مثل هذه الأمور التي قد توقع الجاهل في الأمور المحظورة، فإن الإنسان إذا صلى وراء إمام وقرأ آية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه في نفسه، ولا يتلفظ بالصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن في الصلاة لشغلاً).

    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا).

    وأما بالنسبة للنافلة فقد قال بعض العلماء: يُشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ)، ففرَّقوا بين الفرض والنفل.

    قالوا: في الفريضة لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقف عند آية العذاب أو آية الرحمة ويتكلم، إنما كان يسرد قراءته، مع أنه ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قراءته في الفرض من السور التي ذُكِرت في يوم الجمعة والصلوات، ومع ذلك لم يُحفظ عنه حديث واحد أنه توقف لآية عذاب، أو آية رحمة، وأما في قيام الليل فثبت عنه أنه توقَّف لآية الرحمة وسأل الله من فضله، وتوقف عند آية العذاب واستعاذ بالله عز وجل، فدلّ على الفرق بين الفرض والنفل، وقد يجوز الشيء في النفل ولا يجوز في الفرض، فلذلك يجوز للإنسان أن يصلي النافلة في السفر على الدابة، ولا يجوز له أن يصلي الفريضة، فالفرض أعلى مرتبة من النفل.

    ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس المداومة على قراءة هذه الآية ليلة الجمعة، وهذا من البدع فينصح الإمام بعدم تكرار هذا والمداومة عليه، وإذا سمع الناس يتلفظون وراءه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فإن عليه أن يكون أشد محافظةً على صلاة الناس كي لا تبطل، خاصة وأن بعض العلماء يرى عدم جواز التلفظ في مثل هذه الحالة كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.

    اختلاف العلماء في أخذ المصلى حكم المسجد

    السؤال: هل يأخذ المصلَّى حكم المسجد في صلاة ركعتين قبل الجلوس؟

    الجواب: بعض العلماء يقول: إن المصلَّى لا يأخذ حكم المسجد وهذا قوي من ناحية أن المصلَّى لا يأخذ حكم المسجد من كل وجه، ولكن هناك أدلة تشير إلى أن المصلى قد يلتحق بالمسجد، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما الحيض فيعتزلن المصلَّى)، وفي رواية (الصلاة)، فهذا يدل على أنه يأخذ حكم المسجد، ويقوي قول من قال: إن الحائض لا تدخل المصلى.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756239074