إسلام ويب

شرح زاد المستقنع فصل: صلاة المسافر [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجمع بين الصلاتين مما أجازته الشريعة في أحوال خاصة تخفيفاً وتيسيراً على المكلفين، سواء بالتقديم أو التأخير، ولها أعذار موجبة للترخص بها كالسفر والمطر، ولكن يراعى فيها شروطها المعتبرة، ومفسداتها المبطلة للجمع، ونحوها من الأحكام.

    1.   

    الجمع بين الصلاتين

    حكم الجمع بين الصلاتين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما].

    هذا الفصل يتعلق بمسألة الجمع بين الصلاتين، والجمع بين الصلاتين رخصة رخص الله بها لعباده، تقع في الحضر وتقع في السفر، فقد يجمع الإنسان بين الصلاتين في سفره، وقد يجمع بين الصلاتين في حال حضره.

    والجمع بين الصلاتين فيه خلاف مشهور بين العلماء:

    فمن أهل العلم من قال: يجوز الجمع مطلقاً. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة من حيث الجملة.

    ومنهم من يقول: لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في حالة الجمع في النسك، وذلك بتقديم الظهر مع العصر بعرفة، وتأخير المغرب مع العشاء بمزدلفة. وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.

    والقول الثالث: أن الجمع يجوز للمسافر إذا جدّ به السير. وهو مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه، ويختاره بعض المحققين كـابن القيم وغيره رحمة الله على الجميع، فيقولون: تجمع إذا جدّ بك السير، فلو كنت تريد أن تسافر من مكة إلى المدينة، وخرجت من مكة قبل أن يؤذن الظهر، وأذن الظهر وأنت في الطريق تريد أن تكسب الوقت فلم تنزل للصلاة، حيث تريد أن تدرك حاجة بالمدينة، فحينئذٍ يقولون: يجوز لك أن تؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر؛ لأنه جدّ بك السير وأنت محتاج إلى الوقت فتجمع.

    وهكذا إذا كان جمع تقديم، فلو خرجت من مكة ونزلت بقرية بين مكة والمدينة، ثم أردت أن تمشي بعد دخول وقت الظهر وتريد أن تكسب الوقت لوصول المدينة، فحينئذٍ تجمع في هذه القرية بين الظهر والعصر جمع تقديم، فهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: إذا جد به السر. أي: إذا احتاج إلى الجمع لضرورة وحاجة، وهي كسب الوقت، فحينئذٍ يقولون: يجوز الجمع. أما إذا لم تكن هناك حاجة أن تجمع وليس هناك جدّ سير فإنك تبقى على الأصل، ولا يجوز لك الجمع. فهذا بالنسبة لمذهب من يقول بالتفصيل.

    هناك مذاهب أخرى ضعيفة تفصّل في الجمع بين الصلاتين تفصيلات لا دليل لها من النصوص. وهذه أشهر الأقوال في مسألة الجمع بين الصلاتين.

    وهناك قول يقول: يجوز جمع التأخير ولا يجوز جمع التقديم. فيرون أنه يرخص للإنسان أن يجمع جمع تأخير، ولا يرون له أن يجمع جمع التقديم.

    والذي يظهر -والعلم عند الله- مشروعية الجمع، سواءٌ أكان جمع تقديم أم جمع تأخير، والسنة في ذلك صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- بين الظهر والعصر، وبين العشاءين: المغرب والعشاء، جمع جمع تقديم وجمع جمع تأخير.

    أما الحديث في مسلم فإنه أطلق الجمع، وهو : (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين) .

    وأما بالنسبة لتفصيل الجمع فحديث معاذ ظاهر في ذلك، وقد حسنه غير واحد من الأئمة كـالترمذي وغيره، فإنه قال: (كان إذا ارتحل -أي: عليه الصلاة والسلام- قبل أن تزول الشمس أخر الظهر فصلاها مع العصر، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً، وكان إذا ارتحل بعد أن تزول الشمس قدم العصر مع الظهر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل بعد أن تغيب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلاهما معاً)، وهذا يدل على مشروعية جمع التقديم وعلى مشروعية جمع التأخير.

    وهذا القول الذي يقول بمشروعية الجمع مذهب الجمهور، وذكرنا أن هذا الحديث أصله في صحيح مسلم واضح، فيبقى الإشكال عندنا في القول الذي يقول: لا يجمع إلا إذا جدّ به السير، خاصة وأن الرواية عن معاذ : (كان إذا جدّ به السير)، وهي متكلم فيها، قالوا: ثم إن هذا يقويه النظر، فإن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، والجمع خارج عن الأصل، فلا يجوز إلا عند وجود الحاجة، فيقولون: إذا جدّ به السير جمع.

    ويجاب عن هذا القول بحديث تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ولم يجدّ به سير؛ لأنه كان في خيمته وخبائه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن الجمع لا يشترط فيه جدّ السير، وبناء على ذلك يترجح قول من قال من الأئمة رحمة الله عليهم: إن الجمع بين الصلاتين مشروع، سواءٌ أكان يحتاجه لجدّ سير أم لغيره، وسواءٌ أقدم أم أخر، فلا حرج عليه في ذلك كله.

    وقوله: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين].

    الظهران: هما الظهر والعصر، كما يقال: العمران والقمران. فكل ذلك من باب التغليب، والعشاءان: هما المغرب والعشاء.

    وقوله: [يجوز] يدل على أنه ليس بواجب.

    الجمع في عرفة ومزدلفة والحكمة منه

    اختلف في الجمع في عرفة ومزدلفة، فقال جمع من العلماء والسلف رحمة الله عليهم بوجوبه ولزومه، خاصة وأنه مرتبط بالنسك.

    وقد شرع الله الجمع تخفيفاً عن المسافر، وشرعه أيضاً للعبادة كما هو الحال في الحج، فإن الإنسان يوم عرفة أذن له أن يجمع بين الظهر والعصر حتى يكون الوقت للذكر والعبادة أطول ويتفرغ لذكر الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا صلى الظهر والعصر جمع تقديم كان الوقت لدعائه وذكره لله عز وجل أطول، وكان حظه من الخير أكثر، وهذا يدل على أنه ينبغي على الإنسان إذا انتهى من صلاة الظهر والعصر يوم عرفة أن يقبل على الله عز وجل، وأن يكثر من الدعاء والذكر لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما يفعله بعض الجهلة الذين لا يعرفون مقدار هذا المنسك العظيم وهو الوقوف بعرفة، فإنك تجد بعضهم ينام، ولربما يجلس بعضهم لفضول أحاديث الدنيا.

    فانظر رحمك الله إلى عبادة يقدمها الله عن وقتها، ويشرع لعباده أن يقدموها عن وقتها المعتبر، كل ذلك تعظيماً للذكر والدعاء في هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج عرفة) ، وأشرف شيء وأفضل شيء في يوم عرفة هي السويعات التي قبل مغيب الشمس ما بين انتهاء الصلاتين إلى مغيب الشمس، هذا أفضل ما يكون في يوم عرفة، حتى إن بعض العلماء يقول: أرجى الناس لفضل الله عز وجل من أعطي القوة على الذكر من بعد الصلاة إلى مغيب الشمس، والمحروم من حرم، ولذلك يقولون: إن الله لما شرع لعباده تقديم العصر عن وقتها وجب على العباد أن يتنبهوا لشرف هذا الموقف.

    فهذا الجمع يقصد به المعونة على الذكر لشرف الموقف الذي يباهي الله عز وجل به ملائكته، مع أن الصلاة من أفضل الطاعات وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، وهذا كله يؤكد أن هذا الجمع قصد منه أن يتفرغ لذكر الله عز وجل، ولذلك يجمع أهل مكة، ولو كانوا مع الإمام فإنهم يجمعون، مع أنهم مقيمون وفي حكم المقيم، وبناء على ذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون هذا الجمع يقصد به الاستعانة في هذا الوقت على ذكر الله عز وجل والتفرغ للدعاء.

    وأما الجمع ليلة المزدلفة فإنه يجمع بمجرد وصوله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ليرتاح بعد عناء الموقف، ووراءه المنسك الذي يكون بعد الفجر، وهذا الموقف أيضاً له فضله وله شرفه، فهو مشعر وله مكانته، حتى قال بعض السلف: شهدت هذا المكان أكثر من ستين عاماً أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد فردني إليه، وإني أستحيي أن أسأله هذه السنة، فمات من عامه، وكان من أئمة الحديث، فما رد الله دعاءه في هذا الموقف وهو موقف المشعر، فيقولون: إنه شرع أن يجمع بين المغرب والعشاء حتى يتقوى بنومه، فإذا استيقظ استطاع أن يقف للدعاء بنفس مرتاحة وصدر منشرح، فيقوى على الذكر والطاعة.

    ولذلك كان الجمعان لقصد النسك، فلهما ارتباط بالنسك، ويؤكد هذا أنه لما قدم عليه الصلاة والسلام منى ما جمع بين الصلاتين، ولو كان الجمع للسفر، أو لشيء آخر منفك عن الحج لجمع في منى عليه الصلاة والسلام، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يخص هذين الموضعين بالجمع يدل على أن الجمع قصد به الاستعانة على الذكر والدعاء في هذين المشعرين العظيمين.

    فلما قال: [يجوز] دل على أنه ليس بواجب، أي: يباح لك. وهذه رخصة، فإن أخذت بها فلا حرج، وإن صليت كل صلاة في وقتها فإن ذلك هو الأصل ولا عتبى ولا حرج عليك، لكن لو أن الإنسان وجد المشقة والحرج في الصلاة لوقتها وإذا جمع وجد التيسير والراحة فإنهم قالوا: إنه ينبغي له أن يستعين برخص الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم برخص الله التي رخص لكم). فمن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الصلاتين، خاصة إذا وجد ما يوجب الجمع.

    فلما قال لنا رحمه الله: [يجوز الجمع]، فهمنا من ذلك أن رخصة الجمع ليست بواجبة ولا بلازمة، وأن المكلف مأذون له بذلك الفعل، فلا هو ملزم به ولا هو واجب عليه، وكذلك ليست بمحرمة ولا مكروهة، فالإذن بها إذن إباحة، بمعنى أنه يجوز له أن يفعل الجمع وأن يتركه، ولكن قال العلماء: إذا كانت هناك حاجة فالأفضل أن يجمع؛ لما فيه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فكونه يجمع تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وكذلك إذا قصد إحياء السنة، كأن يكون بين قوم يجهلون أحكام الجمع، فيحيي هذه السنة بينهم حتى يتعلموا، أو يكون معه طلاب علم وهو ليس بحاجة للجمع في طريقه ولكنه يجمع حتى يعلموا أحكام الجمع، فذلك مستحب له ومندوب.

    [في وقت إحداهما في سفر قصر].

    وقوله: [في وقت إحداهما] تضمن نوعين من أنواع الجمع:

    النوع الأول: ما يوصف بكونه جمع تقديم، وذلك بأن توقع الصلاة الثانية في وقت الصلاة الأولى، فتصلي العصر في وقت الظهر، وتصلي العشاء في وقت المغرب، فهذا هو جمع التقديم.

    النوع الثاني: جمع التأخير، بأن تكون الصلاة الأولى في وقت الصلاة الثانية، فتؤخر الظهر وتصليها مع العصر، أو تؤخر المغرب وتصليها مع العشاء.

    وليعلم أن الأصل في الصلوات أن تصلى كل صلاة في وقتها؛ لأن الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: محدداً.

    وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة في مواقيتها، وقال للأعرابي لما صلى له في اليومين: (ما بين هذين وقت)، أي: ألزمه وقتاً للصلاة، فعندنا شيء يسمى: أصل، وشيء يسمى: رخصة، فالشيء الذي هو الأصل أن تصلى كل صلاة في وقتها، فالظهر يصلى في وقته، والعصر يصلى في وقته، والمغرب يصلى في وقته، والعشاء يصلى في وقته، ولكن لما جاء الإذن من الشرع بفعل الجمع كان رخصة من هذا الوجه.

    1.   

    أعذار الترخيص في الجمع بين الصلاتين

    الجمع بين الصلاتين للسفر

    قال رحمه الله تعالى: [ يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين في وقت إحداهما في سفر قصر]

    أي: محل الرخصة أن يكون الإنسان مسافراً سفر قصر، ولذلك لا يجمع الصحيح في غير السفر على ما اختاره المصنف رحمه الله وهو قول الجماهير، فالجمع من حيث الأصل يكون في السفر، وأما جمع المرض وجمع الخوف فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

    ولذلك يجمع على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث معاذ، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر ، وكلها في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر.

    وسفر القصر ينقسم إلى أقسام:

    فإما أن يكون سفراً واجباً، وإما أن يكون سفراً مندوباً، وإما أن يكون سفراً مباحاً، فأنت إذا سافرت لحج فريضة فهذا سفر واجب تجمع فيه الصلاة، ويجوز لك أن تجمع قولاً واحداً عند من يقول بالجمع، وإذا سافرت إلى سفر مندوب وسفر طاعة وقربة مندوب إليها كعمرة النافلة، فإن هذا سفر مندوب، وتجمع فيه وجهاً واحداً لأهل العلم، ولكن إذا سافرت سفراً مباحاً كالتجارة وزيارة بعض أحبابك وإخوانك دون أن تكون بقصد القربة، فحينئذٍ اختلف العلماء:

    فجمهور من يقول بجواز الجمع يقول: لا فرق عندي بين أن يكون السفر سفر طاعة أو سفراً مباحاً.

    وهناك من يقول من السلف: إن الجمع يختص بالسفر الذي هو سفر القربة والطاعة، أما لو سافر للتجارة، أو سافر لنزهة وسياحة، أو لصيد فإنه لا يجمع بين الصلاتين، كما يختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.

    والصحيح أن كل سفر تقصر فيه الصلاة سواءٌ أكان واجباً أم مندوباً أم مباحاً، حل للإنسان أن يجمع الصلاة فيه.

    الجمع بين الصلاتين للمرض

    قال رحمه الله تعالى: [ولمريض يلحقه بتركه مشقة].

    النوع الأول من الموجبات للجمع: أن يكون الإنسان في حالة السفر.

    والحالة الثانية: أن يكون مريضاً، واختلف العلماء: هل المرض يبيح للإنسان أن يجمع بين الصلاتين، أو لا يبيح له ذلك؟

    في هذه المسألة قولان:

    فذهب طائفة من العلماء إلى القول بمشروعية بأنه يجوز للإنسان إذا كان مريضاً مرضاً يؤذيه ويشق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها أن يجمع بين الصلاتين، وهذا القول قال به الإمام مالك، وكذلك الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

    وذهب الحنفية والشافعية: إلى أنه لا يجمع في المرض ولو كان شديداً.

    واحتج الذين قالوا بجواز الجمع في المرض بحديث المستحاضة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤخر الظهر وتقدم العصر فتصليهما معاً، قالوا: الاستحاضة نوع مرض، فهذا أصل بجواز الجمع عند وجود المرض.

    وعندهم دليل من القياس، قالوا: إن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع من غير سفر ولا خوف)، وفي رواية: (ولا مطر)، قالوا: والخوف والمطر يبيحان الجمع، فكذلك أيضاً المرض؛ لوجود المشقة في كلٍ، هذا مذهب من يقول بمشروعية الجمع في المرض.

    هناك وجه عند العلماء وهو قول للإمام أحمد : يرى أن حديث ابن عباس (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير سفر ولا خوف - ولا مطر على الرواية الأخرى-) قال: هو عندي محمول على المريض الذي تلحقه مشقة أن يصلي كل صلاة في وقتها، هذا دليل من يقول بجواز الجمع في المرض.

    وهناك قول - كما قلنا - لا يقول بمشروعية الجمع في المرض؛ لأنه يقول: الأصل أن يصلي المصلي الصلاة في وقتها، فإذا كان مريضاً فإنه يبقى على الأصل، وحينئذٍ لا يجوز له أن يترخص بالجمع، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرض أكثر من مرة ولم يجمع بين الصلاتين، ولأن ابن عباس قال: (في غير مطر، ولا سفر، ولا خوف)، ولم يذكر فيه المرض، فدل على أن المرض ليس بعذر يبيح للإنسان أن يجمع.

    ولا شك أن القول بترك الجمع في المرض من القوة بمكان وفيه احتياط، خاصة وأن الأصل يقتضي عدم الجمع حتى يقوم الدليل الواضح الجلي على مشروعية ذلك، وهذا القول وهو أنه لا يشرع الجمع في المرض يقول به الظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في مرضه، وقد مرض غير مرة صلوات الله وسلامه عليه.

    فهذه ثلاثة أحوال كما ذكرنا: السفر، ثم يليه المرض، ثم يليه المطر.

    أما بالنسبة للمرض فلو قلنا ما قاله المصنف: أنه يجوز للإنسان إذا كان مريضاً أن يجمع بين الصلاتين، فضابط المرض أن يكون مرضاً يشق على الإنسان معه أن يصلي كل صلاة في وقتها، فيستوي في هذا المرض الذي يستمر مع الإنسان بالأيام والأسابيع أو المرض الذي يكون وقتياً، بمعنى: أن يكون في وقت الصلاة بحيث يشمل الصلاة الأولى والثانية، فلو أن إنساناً أصابته الحمى أو أصابته سخونة أو أصابه شيء يجحف به ويلحق به الضيق والعناء والمشقة أن يوقع صلاة الظهر في وقتها وينتظر إلى العصر قالوا: يشرع له أن يصلي الظهر ثم يقيم للعصر ويجمعها مع الظهر ثم ينام ويرتاح، هذا إذا كان يشق عليه أن يقوم في وقت العصر لكي يصلي العصر، هذا عند من يقول: إن الجمع في المرض رخصة.

    وهكذا إذا كان المرض في الأعضاء يشق معه أن يوقظ، أو كان هناك مثلما يوجد الآن في بعض العمليات الجراحية حيث تستغرق وقتين، كأن تستغرق الظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء فإنه يجمع، فإن كان غلب على ظنه أنه سيقوم في وقت الأخيرة فله أن يؤخر جمعه إلى أن يستيقظ ثم يتوضأ للصلاة ويصلي الظهر والعصر جمع تأخير، أو يصلي المغرب والعشاء جمع تأخير، هذا إذا كان يراد به أن يخدّر للعملية الجراحية ويفيق، لكن من المعلوم أن الإفاقة قد تستغرق ساعات، ولذلك يقولون: إنه يحتاط ويجمع بين الصلاتين تقديماً.

    وإذا قلنا في العمليات الجراحية: إنه يجمع قبل دخوله، فمحل ذلك أن يكون هناك ضيق بالإنسان، بمعنى: أن الطبيب لا يجد وقتاً لفعل الجراحة إلا هذا الوقت الذي يستغرق فيه وقت الفريضتين، أما لو كان هناك وقت ومتسع كأن تفعل العملية في الصبح أو في أول النهار ويمكن أن يستيقظ في آخر وقت الظهر ونحو ذلك فلا يترخص بالجمع.

    الجمع بين الصلاتين للمطر

    قال رحمه الله تعالى: [وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].

    هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع، وهو المطر، وللعلماء في المطر قولان مشهوران:

    القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين. وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، وفعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين كـسعيد بن المسيب، ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وكذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء، قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين، على تفصيل عندهم رحمة الله على الجميع.

    القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر. وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية، وهو قول إبراهيم النخعي، وكذلك ابن سيرين رحمة الله على الجميع.

    وأصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر، وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر) ، فلما قال: (مطر ولا سفر) دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع، كما أن السفر يوجب ذلك.

    والذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان في الصلوات التي يجمع بينها:

    القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.

    والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء، كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: [وبين العشاءين لمطر...] أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر. والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص -وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم- أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء، والظاهرية استدلوا بإطلاق ابن عباس : (من غير مطر ولا سفر)، قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواءٌ أكان بين الظهر والعصر أم بين المغرب والعشاء.

    والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر في ثيابهم، وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال)، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين، أعني المغرب والعشاء.

    ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء) ، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، فقالوا: تبقى الظهر والعصر على الأصل، ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب، فلا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.

    ثم إذا جمّع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلاً، كما جاء عن أبان بن عثمان -حينما أمّ وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه- أنه كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة. قالوا: هذا أرفق بالناس.

    فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير، لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين، ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر، ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب، أي: يكون الجمع في وقت الأولى.

    واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، كما لو أن إنساناً خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه، وأصابهم المطر وقت المغرب، ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فإن اختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة على المصلين.

    الجمع بين الصلاتين في الوحل والريح الشديدة

    قال رحمه الله تعالى: [أو لوحل وريح شديدة باردة].

    قوله: [أو لوحل] أي: أن ينقطع المطر ثم تبقى الأرض فيها الزلق والوحل، قالوا: فيجوز أن يجمع، وهذا في الحقيقة فيه خلاف، وإن كان قوّى غير واحد من الأئمة أن الوحل لا يوجب الجمع، وهو من القوة بمكان، لعدم ورود النص بالترخيص في مثله، وإنما رخص في المطر، وشرط المطر الذي يبيح للناس أن يجمعوا بين المغرب والعشاء أن يكون مطراً يبل الثياب، أما لو كان مطراً يسيراً أو خفيفاً فإنه لا يوجب الترخيص في الجمع.

    وفي حكم المطر الثلج، ثم يفصل في الثلج مثلما يفصل في المطر، فإن كان الثلج يسيراً وخفيفاً لا يشق على الناس أن يصلوا كل صلاة في وقتها فلا جمع، وإن كان الثلج كثيراً ويؤذي الناس فإنهم يجمعون بين الصلاتين كالحال في المطر.

    وقوله: [وريح شديدة باردة].

    هذا قول بالقياس، وهو قول ضعيف.

    والصحيح أن الريح الشديدة لا توجب الجمع بين الصلاتين، إعمالاً للأصول من النصوص الواردة في الكتاب والسنة بإلزام المكلف بإيقاع كل صلاة في وقتها، واستثني ما استثني من الجمع لورود النص، فلا يقوى القياس ولا الإلحاق. قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى في بيته أو مسجد طريقه تحت ساباط].

    إذا كان العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الناس يرخص لهم أن يجمعوا بين المغرب والعشاء لمكان المطر، فهذه الرخص التي تقع في المطر وفي السفر وفي المرض نظر الشرع فيها إلى غالب أحوال الناس، فأعطى الرخصة بغض النظر عن أفراد لا تتوفر فيهم معاني الرخصة، وتوضيح ذلك أن الأصل في السفر أن فيه مشقة، وأن فيه عناءً وتعباً ونصباً، فلو فرض أن إنساناً سافر ولم يجد عناءً ولا مشقةً ولا نصباً فلا نقول: يبقى على الأصل ولا يفطر ويبقى على موجب الإمساك والصيام، بل نقول: إن الرخصة هنا عامة من الشرع ولا يلتفت فيها إلى الأفراد، كأن الشرع قال: الغالب في السفر أن يكون فيه الضرر، فلا عبرة بالنادر؛ لأن الحكم للغالب، كذلك هنا -إذا قلت: إن المطر يوجب الترخيص- لأن الناس إذا مضوا إلى المسجد تضرروا، فلو فرضنا أن المسجد طريقه مظلل، أو كان الإنسان قريباً من المسجد، أو بيوت الناس كلها تطل على المسجد، فليس هناك وحل، وليس هناك ضرر ببلة الثياب، فهل نقول: لا يجمعون؟

    قال بعض العلماء: العبرة عندي بوجود موجب الرخصة، أي: الوصف العام وهو وجود المطر، بغض النظر عن كونه يتضرر أو لا يتضرر، وبغض النظر عن كون طريقه تحت الساباط الذي هو المظلات التي هي مثل ما يكون تحت البيوت، أو الذي يكون ملصقاً بالبيوت يقي الناس الشمس ويقيهم المطر، فيقول: العبرة عندي بوجود المطر، بغض النظر عن كونهم تضرروا أو لم يتضرروا، كالحال الآن، حيث يمكنه أن يركب سيارته ويمضي إلى المسجد فلا يبتل له ثوب ولا يتضرر، قالوا: لا نلتفت إلى هذا؛ لأن الحكم للغالب والنادر لا حكم له.

    وهذا أصل في الرخص، فيقولون: ننظر إلى الأصل، وكون بعض الأفراد يتخلف فيهم المعنى الذي هو موجب الرخصة لا نلتفت إليهم، ولذلك لو اعترض عليك معترض وقال: كيف تقولون بالفطر والإنسان قد يسافر في طائرة وقد يسافر في سيارة وهو مستريح؟ تقول له: أذن الله بالفطر في السفر؛ لأن الغالب فيه وجود المشقة، وكون النادر في بعض العصور وفي بعض الأزمنة لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تلتفت إلى عصر دون عصر، ولكن إذا اختلفت العصور فإنك تنظر إلى الغالب، وبناء على ذلك فالغالب أنه إذا نزل المطر تضرر الناس، فكون بعض الناس يكون طريقهم إلى المسجد لا مضرة فيه ولا مشقة لا يلتفت إليه، ويبقى على الأصل من موجب الرخصة.

    1.   

    مسائل في الجمع بين الصلاتين

    الأفضل من جمع التأخير أو التقديم

    قال رحمه الله تعالى: [والأفضل فعل الأرفق به من تأخير أو تقديم].

    الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجمع لسفر أو مرض أو مطر أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن يقدم قدم، وإن كان الأرفق به أن يؤخر أخر؛ لأنها رخصة وسعة، وقد استحب بعض العلماء أن يجمع جمع التأخير، قالوا: لأن جمع التأخير لا خلاف فيه عند من يقول بمشروعية الجمع، ولكن جمع التقديم فيه خلاف، وجمع التأخير تقع فيه الصلاة الثانية وقد دخل وقتها؛ لأنها تقع بعد حكم الشرع بفعلها، ولكن جمع التقديم تكون فيه الصلاة الثانية في غير وقتها، ولذلك قالوا: الأفضل أن يراعي جمع التأخير. فهذا مذهب بعض العلماء، وهو تفضيل جمع التأخير على جمع التقديم.

    والصحيح أن الإنسان ينظر إلى الأرفق؛ لأن الله وسع على عباده بالجمع، فليس لنا أن نحد حداً معيناً، وإنما نقول: ما دام أن الله وسع عليك فإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تقديم فافعل، وإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تأخير فافعل، والدليل على ذلك السنة، فقد روي أنس رضي الله عنه -كما في الصحيح-، وكذلك مثله حديث معاذ في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -يعني: قبل أن تزول- أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً) ، فقوله: (كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس) يلاحظ فيه أنه إذا ركب قبل أن تزول الشمس وقبل أن يدخل وقت الأولى فالأرفق أن يؤخر، وقوله كذلك : (وكان إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى وقت الظهر فصلاهما معاً)، فدل على أن الأفضل للمكلف أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن ينزل ويصلي في أول الوقت نزل وصلى، وإن كان الأرفق أن يؤخر أخر.

    فلو أنك خرجت من مكة تريد المدينة وأذّن للظهر وأنت تريد حاجة وقت العصر، فإنك إن نزلت وصليت ربما تأخرت عن حاجتك، فإذا شئت نزلت وجمعت جمع التقديم ولا حرج، لكن لكون التأخير أفضل لك حتى تدرك الوقت وتحصل جد السير فحينئذٍ تجمع جمع تأخير ولا حرج، والعكس بالعكس أيضاً، فلو أن إنساناً أذن عليه الأذان بعد أن خرج من مكة ويريد أن يقف لزاد ونحو ذلك، فقال: ما دمت أني واقف فالأفضل أن أصلي الصلاتين فصلاهما حتى يكسب الوقت فلا حرج، فلا يقيد الناس ولا يلزمون بتقديم ولا بتأخير.

    النية في الجمع بين الصلاتين

    قال رحمه الله تعالى: [فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها].

    قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ، فإذا أردت أن تجمع فيشترط أن تنوي الجمع في وقت أولاهما، فتكون النية أن تجمع الثانية إلى الأولى، وعلى هذا فإذا نويت كان لك الجمع، وأما إذا لم تنو فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى) ، فمن نوى الجمع كان له، ومن لم ينو لم يكن له.

    وقالت طائفة من العلماء: النية ليست بشرط للجمع، ويجوز له أن يجمع ولو لم ينو.

    مبطلات الجمع بين الصلاتين

    قال رحمه الله تعالى: [ولا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما].

    قوله: [ولا يفرق بينهما] يعني: لا يفرق بين الظهر والعصر، ولا بين المغرب والعشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفاصل بين الصلاتين قليلاً، فلما صلى عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء ليلة النحر بمزدلفة تركهم بقدر ما يحط الإنسان رحله، ولذلك قالوا: بقدر ما يتوضأ الإنسان ويفرغ من وضوئه. وهذا هو الهدي، يقولون: لأن الجمع بين الصلاتين جعل الصلاتين قد صارتا بمثابة الصلاة الواحدة، فلا تدخل بينهما راتبة، ولا تدخل بينهما فاصلاً مؤثراً، كمن ينام نوماً يفصل بين الصلاتين به، أو كشغل يخرج به عن الصلاة، قالوا: فإذا وقع الفاصل فإنه لا جمع، وحينئذٍ يصلي الثانية في وقتها ولا يجمع جمع التقديم.

    قوله: [ويبطل براتبة بينهما].

    ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن بين المغرب والعشاء، فقال: (ولم يسبح على إثر واحدة منهما) كما في الصحيحين، فدل على أنه لا يصلي الراتبة بينهما.

    قال رحمه الله تعالى: [وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى].

    هذا في المطر، فلو أن الإنسان أراد أن يجمع في المطر بين المغرب والعشاء، فيشترط عند تكبيرة الإحرام أن يكون المطر موجوداً، فيكبر للمغرب والمطر موجود، ويسلم من المغرب والمطر موجود، وحينئذٍ يقيم ويصلي العشاء ويكبر ويكون المطر موجوداً، فلو أنه كبر للمغرب والمطر موجود، ثم بعد ذلك انقطع المطر، فسلم والمطر منقطع، فحينئذٍ لا يجمع؛ لأن موجب الرخصة غير موجود، وينتظر إلى دخول وقت الثانية، لكن لو أنه كبر ثم انقطع المطر بعد تكبيره حتى كان في الركعة الثالثة، فنزل المطر فسلم والمطر ينزل، فأقام وكبر للعشاء والمطر لا زال نازلاً، ثم بعد ذلك انقطع قبل سلامه من العشاء صح فعله وأجزأه.

    وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سلم من العشاء والمطر موجود. وهذا على مسألة: (هل العبرة بالابتداء، أو العبرة بالانتهاء) كمسألة من تيمم ثم رأى الماء أثناء الصلاة، فإن قلنا: العبرة بإحرامه مضت له الرخصة ولا يقطع، وإن قلنا: العبرة بسلامه -وهو أحوط ورجحناه في التيمم- فإنه حينئذٍ لا يعتد بجمعه.

    اشتراط النية قبل الجمع بين الصلاتين وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية

    قال رحمه الله تعالى: [وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى إن لم يضق عن فعلها واستمر العذر إلى دخول وقت الثانية].

    إذا كان الإنسان يريد أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر، أو المغرب إلى وقت العشاء فإنه ينوي عند تأخيره أن يجمع، أما إذا لم ينو فإنه حينئذٍ تخرج عليه الصلاة الأولى، فيكون كأنه ترك الصلاة الأولى، فتعتبر صلاة قضاء لا صلاة جمع، والدليل على ما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) ؛ لأن من ترك الصلاة الأولى حتى دخل وقت الصلاة الثانية لا يخلو من حالتين:

    الأولى: أن يكون معذوراً لنسيان أو نوم ونحو وذلك.

    الثانية: أن يكون غير معذور.

    فلما لم ينو الجمع دخل في حكم غير المعذور، وبقيت صلاته قضاءً لا جمعاً.

    وقوله: [واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية] بمعنى أنه يستمر المطر إلى دخول وقت الثانية، وهكذا السفر، فلو أن جماعة خرجوا لتدريس ونحو ذلك مسافة مائة كيلو، ثم رجعوا بعد انتهاء التدريس وأرادوا أن يجمعوا بين الظهر والعصر -لأنهم إذا دخلوا مكة سيكونون في عناء السفر ومشقة السفر، وقد يصعب عليهم أن يصلوا بعد التعب أو يكون عندهم من الخشوع ما يستحضرون به الصلاة- فنقول: فيه تفصيل: فإن كان دخولهم إلى مكة بعد دخول وقت الثانية فحينئذٍ يصح جمعهم؛ لأن العذر استمر إلى دخول وقت الثانية وهم مسافرون، فترخصوا برخصة لوجود موجبها، وأما لو دخلوا قبل أذان العصر فحينئذٍ لا يعتد بجمعهم، وعليهم أن يصلوا ثم بعد ذلك يرتاحون، فلو شق عليهم أن ينتظروا الجماعة نقول: امضوا إلى بيوتكم وصلوا؛ لأن الإنسان إذا شق عليه حضور الجماعة وانتظار ثلث الساعة أو نصفها الذي بين الأذان والإقامة بحيث يشق عليه فحينئذٍ يجوز له أن يقيم وأن يصلي العصر، ويكون ممن رخص له في الجماعة، كما تقدم معنا في أعذار ترك الجماعة.

    1.   

    الأسئلة

    الجمع الصوري بين الصلاتين

    السؤال: هل قال بعض العلماء رحمهم الله بأن حديث ابن عباس محمول على الجمع الصوري؟ وما هو الجمع الصوري وحكمه؟

    الجواب: حديث ابن عباس حمل على الجمع الصوري عند الجمهور، وهناك من روى الحديث عن ابن عباس فقال: أراد أن يؤخر الظهر إلى قرب وقت العصر فيصلي الظهر فيدخل وقت العصر ويصليها. وهذا أصح الأقوال.

    والحقيقة أن حديث ابن عباس نفسه في صحيح مسلم يؤكد هذا، فـابن عباس كان أميراً على الكوفة، ثم خطب الناس في يوم في الظهر، فكانت خطبته طويلة؛ لأن الخطبة في مصالح المسلمين فيها توجيه ويصعب قطعها، فما زال يخطب، فقام له أعرابي وقال: الصلاة. فسكت عنه ابن عباس واستمر في خطبته، فقام له مرة ثانية وقال: الصلاة. فسكت عنه، فقام المرة الثالثة وقال: الصلاة، فقال له: (أتعلمنا بالصلاة لا أم لك؟! جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مطر ولا سفر)، فقالوا: إن ابن عباس أخر الظهر إلى آخره، فلما أقام وصلى الظهر دخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، مع أن الأصل يقتضي أن يصلي الظهر في أول وقتها، فهذا وجه الرفق، وهذا وجه دفع الحرج؛ لأن الناس بدل أن يخرجوا للظهر ويرجعوا إلى بيوتهم، ثم يرجعوا إلى العصر ويرجعوا مرة ثانية إلى بيوتهم سهل عليهم بأن يصلوا الصلاتين بخروج واحد ورجوع واحد، وهذا هو وجه قوله: (أراد أن لا يحرج أمته) ؛ لأن الأصل يقتضي أن تصلى الصلاة لوقتها، وهذا في الحقيقة هو أقوى الأقوال وأولاها بالصواب، خاصة وأن من روى عن ابن عباس فسره بذلك وقال: أراه ذلك.

    وأيضاً عندنا قاعدة، وهذه القاعدة تدل عليها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للصحابة: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) قالت طائفة: النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل، فنبقى على الأصل، فنصلي العصر في وقتها. وقالت طائفة: نبقى على ظاهر اللفظ. فلما علم بالطائفتين أخبر أن الذين صلوا في الوقت أصابوا السنة؛ لأنهم نظروا إلى أن الأصل في الصلاة أن تصلى في وقتها، ونظروا إلى أن الحديث : (لا تصلو العصر إلا في بني قريظة) محتمل بين أن يكون للاستعجال وأن يكون على ظاهره، فردوا الأمر إلى أصله فقال: (أصابت السنة) ، فالرجوع إلى الأصل هو إصابة للسنة.

    فكان عندنا الأصل أن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].

    ولو قلنا بالجمع بدون حاجة فمعنى ذلك أن الظهر والعصر صار وقتهما واحداً، فحينما تجمع لعذر وغير عذر تصير الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة، وبناء على ذلك سنلغي الأصل بناء على هذا الحديث، فتلغى نصوص الكتاب، وتلغى أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، لكن حينما تبقي أحاديث المواقيت على دلالتها وآيات المواقيت على دلالتها وتقول: الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ومعنى: (أن لا يحرج أمته) على ظاهره تكون جامعاً بين النصوص، والجمع بين النصوص أولى من العمل ببعضها وترك الآخر، والنفس تميل إلى هذا.

    يقول العلماء: لو أن شيخاً أو عالماً عنده أمر مهم، أو كان الناس عندهم موضوع مهم لا يستطيعون أن يقطعوه، وهم يتشاورون في أمره فلهم أن يؤخروا الصلاة، فيجلسون يتحدثون حتى يقضوا هذا الأمر وينتهوا منه ويفرغوا منه، ثم يقيمون للصلاة الأولى التي هي الظهر، ثم بعد ذلك يقيمون للعصر ويصلونها، وهكذا المغرب والعشاء، وكل ذلك تيسير من الله عز وجل ولطف بعباده.

    العبرة بنية الجمع حال الائتمام

    السؤال: إذا دخل الرجل مع إمام يريد أن يجمع ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة الأولى، فهل يحق له الجمع ونية الإمام نية النفل، أم لا يحق له ذلك؟

    الجواب: النية معتبرة بالمأموم، فكل مأموم على حده، فإن نوى صح جمعه عند من يقول باشتراط النية، وإن لم ينو لم يصح جمعه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756306749