إسلام ويب

مختصر التحرير [53]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الأصوليون الصحة من أحكام الوضع، ثم ذكروا أنه يشابهها القبول في النفي والإجزاء، أي أن نفي القبول نفي للصحة، وإثبات القبول إثبات للصحة. وكما يرادف الصحة القبول، فإنه يقابلها الفساد، وله مرادف وهو البطلان، وهناك مسائل قليلة يفرق فيها بين الفاسد والباطل.

    1.   

    مشابهة القبول للصحة في النفي والإجزاء

    قال المؤلف: [وكصحة قبول].

    يعني: أن القبول بمعنى الصحة، فإذا قيل: هذه العبادة مقبولة فهي بإزاء قولنا: هذه العبادة صحيحة، وإذا قلنا: هذه العبادة لا تقبل فهو بإزاء قولنا: هذه العبادة لا تصح، هذا كلام المؤلف: أن القبول بمعنى الصحة، فمعنى (مقبول) أي: ترتبت آثاره عليه، وإذا كان عبادة قلنا: إنها مجزئة، برئت بها الذمة، وسقط بها الطلب.

    ولكن في كلام المؤلف على إطلاقه نظر؛ لأن القبول إذا ورد نفيه فإنه إن كان لفوات شرط أو وجود مانع كان بمعنى الصحة، ونفيه كنفي الصحة، وإن كان لأمر خارج فإنه لا يقتضي نفي الصحة.

    فمثلاً: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صدقة من غلول)، هذا نفي، وهل هو نفي القبول لفوات شرط من شروط الصدقة أو لأمر خارج؟ لفوات شرط من شروط الصدقة؛ لأن الصدقة لا تكون قربة إلا إذا كانت من كسب طيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يقبل الله إلا الطيب)، فمن شرط صحة الصدقة: أن تكون من كسب طيب، والغلول كسب خبيث. إذاً هذه الصدقة لا تصح، ولا تقرب إلى الله؛ لأنها من كسب خبيث.

    وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً)، (من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، نفي القبول هنا هل هو لوجود مانع أو انتفاء شرط أو لأمر خارج؟

    الجواب: هذا لأمر خارج؛ لأنه لا أثر لشرب الخمر في الصلاة، ولا أثر لإتيان الكاهن أو العراف للصلاة.

    إذاً: فنفي القبول هنا ليس نفياً للإجزاء، ولا نفياً للصحة، بل هو والله أعلم من باب مقابلة الحسنات بالسيئات، وأن السيئة التي حصلت لمن أتى عرافاً صار إثمها وجرمها يقابل الصلاة أربعين يوماً، فمن باب التقابل يكون وجود الصلاة كالعدم، فلهذا نفي عنه القبول.

    وقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، نفي القبول هنا نفي للصحة؛ لأن القبول نفي لانتفاء شرط من شروط الصلاة وهي الطهارة، وعلى هذا فقس.

    إذاً فقول المؤلف رحمه الله: (وكصحة قبول) ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، فيقال: إن كان نفي القبول لانتفاء شرط أو وجود مانع فهو كنفي الصحة، فيكون القبول والصحة بمعنىً واحد، وإن كان لأمر خارج فلا.

    قال: [ونفيه] أي: نفي القبول [كنفي إجزاء]، يعني فإذا قيل: لا يقبل الله صلاة كذا، أو لا يقبل الله كذا، فالمعنى أنه لا يجزئ، ولكن نقول في ذلك كما قلنا فيما سبق من التفصيل.

    1.   

    الصحة الشرعية والعقلية والعادية

    ثم قال: [والصحة شرعية وعقلية وعادية].

    يعني: أن الصحة تطلق ثلاثة إطلاقات: شرعية [كما هنا]، أي أن الصحيح ما ترتب عليه أثره، كما قال: (ترتب أثر مطلوب من فعل عليه)، ففي العبادة ما سقط به الطلب وبرئت به الذمة، وفي العقود ما ترتب عليه مقتضى العقد من انتقال الملك وشبهه، هذا في الصحة، إذاً الصحة الشرعية عموماً: ما ترتب أثره عليه؛ لكن في العبادات: ما سقط به الطلب وبرئت به الذمة، وفي العقد: ما ترتب عليه مقتضى العقد من انتقال الملك، وجواز التصرف فيما انتقل وما أشبه هذا.

    قال: [وعقلية: كإمكان الشيء وجودًا وعدمًا]، هذا اصطلاح عقلي، يقول: هذا صحيح، أي: ممكن، هذا غير صحيح، أي: غير ممكن، وهذا قليل الورود علينا، يعني: يقل أن يرد علينا كلمة صحيح بمعنى ممكن، لكن مع هذا هو المصطلح عند أهل العقل.

    قال: [وعادية: كمشي ونحوه] الإنسان المريض لا يستطيع المشي، والصحيح يمشي، فإذا قال: فلان صحيح، يعني: يمشي يستطيع المشي، ويستطيع الجري والركض، ويستطيع أن يحمل الأحجار الثقيلة، كل من يحمل الحجر الثقيل فهو صحيح، أما المريض فلا يستطيع، فعلى هذا نقول: الصحة عادة: إنسان صحيح، نشيط قوي يمشي.

    وهذا التقسيم في الواقع ليس له تعلق في أصول الفقه، لكن المؤلف على صغر حجم كتابه أراد أن يستوعب.

    1.   

    ترادف الفساد والبطلان

    قال: [وبطلان وفساد مترادفان].

    هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، هل الباطل والفاسد بمعنًى واحد أو لا؟ المؤلف رحمه الله يقول: إنهما بمعنىً واحد، لكنه ما قال: بمعنىً واحد، بل قال: (مترادفان)، لأن المترادف في اللغة العربية ما تعدد لفظه واتحد معناه، إذاً: (مترادفان) بإزاء قولنا: بمعنىً واحد.

    البطلان والفساد معناهما واحد، وهذا هو الغالب عند فقهاء الحنابلة وأكثر الفقهاء، فأحياناً يقال: إن شرط كذا ففاسد، وأحياناً يقال: إن شرط كذا فباطل، وأحياناً يقال: يبطل العقد بكذا، وأحياناً يقال: يفسد العقد بكذا، وأحياناً يقول: الصلاة باطلة، وأحياناً يقول: الصلاة فاسدة.

    1.   

    المسائل التي يفرق فيها بين الفاسد والباطل

    فالبطلان والفساد بمعنىً واحد، لكن يستثنى من ذلك مسألتان:

    المسألة الأولى في باب الإحرام، والمسألة الثانية في باب النكاح:

    المسألة الأولى التي يفرق فيها بين الفاسد والباطل

    ففي باب الإحرام يفرقون بين الفاسد والباطل، فيقولون: إن الفاسد هو ما جامع فيه المحرم قبل التحلل الأول، ويوجبون على المفسد المضيء في النسك، وهذا مما يلغز به فيقال: لنا عبادة فاسدة يجب المضي فيها! مع أن الفاسد لا يجوز المضي فيه، بل يجب التنحي عنه.

    إذاً: الفاسد في الإحرام ما جامع فيه المحرم قبل التحلل الأول؛ لكنه فاسد لا يبطل، فيستمر فيه الإنسان، ويقضيه، وهذا وجه كونه فاسداً أنه يجب عليه قضاؤه.

    فرجل جامع في الحج وهو في ليلة مزدلفة، هذا جامع قبل التحلل الأول، نقول: حجك فاسد، وعليك أن تكمله ولو كان فاسداً ثم تقضيه، فأنت الآن سترمي رمياً فاسداً، وتطوف طوافاً فاسداً، وتسعى سعياً فاسداً، وتبيت بمنى بياتاً فاسداً، وترمي الجمرات رمياً فاسداً، والمراد بالفاسد: أنه يلزمك القضاء من العام القادم.

    وقد شنع ابن حزم على هذا القول تشنيعاً عظيماً، فقال: سبحان الله! تقولون: ارم رمياً فاسداً، طف طوافاً فاسداً، اسع سعياً فاسداً، بت بياتاً فاسداً، من يقول هذا؟ بل إذا جامع قبل التحلل الأول فسد نسكه وخرج منه مثل غيره من العبادات، لكنه خالف ما جاء عن الصحابة، والصحابة أفقه منه وأعلم منه بمراد الله ورسوله، ونحن نتبع ما جاء عن السلف، والسلف لكلامهم غور بعيد عميق لا يدركه أهل الظاهر لأنهم سطحيون، لا يأخذون إلا بالظواهر، السلف قالوا: لو فتحنا هذا الباب لكان كل شاب حديث الزواج إذا كان ليلة المزدلفة (ليلة عيد الأضحى)، وغداً سيشبع لحماً ثارت عليه الشهوة وجامع وقال: خلاص مشينا للبلد؛ لندرك عيد الأضحى في بلدنا، فالصحابة فقههم له غور لا يدركه من بعدهم، فسدوا الباب وقالوا: يلزمه المضي كالتنكيل به، ثم يلزمه القضاء؛ لأن هذا النسك الذي مضى فيه ليس بصحيح.

    إذاً: هذا النسك الذي جامع فيه قبل التحلل الأول نسميه فاسداً، ولكن لا نسميه باطلاً، فما هو الباطل؟

    الباطل هو النسك الذي ارتد فيه المحرم والعياذ بالله، فإذا بطل لا يمضي فيه، بل ينقطع، فيبطل الحج بالردة سواء كانت قبل التحلل الأول أو بعده ولا يمضي فيه؛ لأنه بطل وصار المرتد الآن ليس من أهل العبادة، أما المجامع فما زال من أهل العبادة.

    طيب لو أن حاجاً صار يتحدث مع أصحابه ليلة المزدلفة، فاستهزأ بالدين، نقول: ارتد الآن فلا يكمل حجه، فإذا وقف رافعاً يديه مستسلماً وقال: أنا لم أقل ذلك جاداً إنما قلته لغواً، نقول: أبالله وآياته ورسوله كنت تستهزئ؟ لقد كفرت بعد إيمانك، فأحدث في نفسك توبة؛ لأن الله قال في أمثاله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:66]؛ ولهذا كان القول الصحيح: أن من استهزأ بالله أو رسوله فإن توبته تقبل ظاهراً وباطناً.

    ثم إن من ارتد وبطل حجه إذا تاب وأمكنه إدراك الوقوف بعرفات، فله أن ينوي حجاً جديداً ويقف بعرفات ثم يأتي ببقية أعمال الحج.

    إذاً هناك فرق بين الفاسد والباطل في الحج.

    المسألة الثانية التي يفرق فيها بين الفاسد والباطل

    الموضوع الثاني في باب النكاح: فالفاسد كل عقد اختلف العلماء في صحته، أي فهو فاسد عند من يرى فساده.

    والباطل ما أجمع العلماء على بطلانه.

    فما اختلف العلماء في بطلانه فهو فاسد، وما أجمعوا على بطلانه فهو باطل، ويترتب على هذا أحكام، فما أجمع العلماء على بطلانه كما لو تزوج الإنسان أم زوجته بعد أن ماتت زوجته، فنكاحه باطل؛ العلماء أجمعوا على فساده، فيسمى باطلاً، والنكاح الباطل وجوده كالعدم، فلو جامع الرجل في النكاح الباطل وهو يعلم أنه فاسد فهو زان؛ لأن هذا العقد لا يترتب عليه أي شيء. وهل يلزمه أن يطلق؟

    الجواب: لا؛ لأنه باطل بالإجماع، فلا يترتب عليه أثره.

    ولو أنه دخل على هذه المرأة لكن ما جامعها، بل بقي عندها أياماً يقبل ويلمس وينام لكن لم يجامع، فهل عليها عدة إذا فارقها؟

    الجواب: ليس عليها عدة؛ لأنه كما لو فعل هذا مع امرأة أجنبية بلا عقد فإنه ليس عليها عدة، فهذه أيضاً ليس عليها عدة؛ لأنه لا يترتب عليه شيء إطلاقاً، وجوده كالعدم.

    ولو تزوج رجل امرأةً بلا ولي فالنكاح فاسد؛ لأن العلماء اختلفوا في فساده، والنكاح الفاسد كالصحيح، إلا أنه لا يجوز الإبقاء عليه، يجب فيه التفريق، لكنه كالصحيح في وجوب المهر بالخلوة، وفي وجوب الطلاق إذا أردنا أن نفرق بينهما ولماذا لا بد أن يطلق ونحن نعتقد أنه فاسد؟ احتياطاً لقول من يقول: إنه صحيح، من أجل إذا تزوجت رجلاً آخر بعده يكون نكاح الرجل الآخر ليس فيه شبهة؛ لأن الرجل طلق.

    إذاً: يفرق بين الباطل والفاسد في بابين: في النسك، وفي النكاح.

    فقول المؤلف رحمه الله: إن البطلان والفساد مترادفان، نقول: يستثنى من ذلك على قاعدة الحنابلة موضعان: الموضع الأول: في باب النسك، والموضع الثاني: في باب النكاح.

    ويرى بعض العلماء أن الباطل والفاسد متباينان، فما نهي عنه لذاته فهو باطل، وما نهي عنه لوصفه فهو فاسد، فمثلاً: بيع الخمر والميتة والخنزير باطل، وبيع صاع من البر بصاعين منه فاسد؛ لأنه إنما نهي عنه للزيادة التي حصلت، وهي زيادة ربوية، وإلا فإن الأصل في بيع البر بالبر الجواز لكن بشرط أن يتساويا.

    1.   

    مسألة تتعلق بالردة وإبطالها العمل

    من ارتد ثم تاب في الحج ينظر: إن تاب قبل فوات الوقوف وذهب ووقف أتم نسكه.

    فإن قيل: فلو ارتد بعد الوقوف، يعني: كان قد وقف في يوم عرفة؟

    فالجواب: إذا كان قد وقف لكن وقت الوقوف لا يزال باقياً، مثل لو حصلت الردة في ليلة المزدلفة، فإنه يمكنه أن يحرم من جديد ويذهب إلى عرفة ويقف.

    أما إذا فات وقت الوقوف فإنه لا يمكن منه إتمام النسك.

    فهذه العبادة التي وقعت فيها الردة بطلت، والعلماء كما تعلمون أنهم قالوا: إن الوضوء ينتقض بالردة، فلو ارتد وهو على وضوء انتقض وضوؤه، فلو تاب لم يرجع صحيحاً، لماذا؟ لأن هذه العبادة بطلت بعينها.

    أما بطلان العمل عموماً فيشترط فيه أن يموت على الردة، وأيضاً بطلان العمل الذي يكون فيه رجوع عن الردة هو يبطل العمل الذي قد فات، ليس العمل الذي هو متلبس به، العمل الذي هو متلبس به إذا بطل لا يمكن إتمامه، أي لا يمكن بناء بعضه على بعض.

    فهناك فرق معلوم؛ لأن العمل المعين الذي هو متلبس به إذا بطل انقطع بناء آخره على أوله ما يمكن، وكأن الأول لم يكن.

    إذا جامع المحرم ليلة المزدلفة قبل الفجر، نقول له: الحج فاسد إذاً، امض فيه وكمل، وفي العام القادم ائت به من جديد.

    والنكاح بغير ولي لو أمضاه الولي فهل يصح العقد ولا يجب الطلاق؟

    الجواب: لا، بل لا بد من إعادته؛ لأن هذا حق ولاية وليس بحق ملك، هذا ليس مثل تصرف الفضولي، هذا حق ولاية وليس حق ملك، فحق الملك هو الذي إذا أجازه المالك نفذ على القول الراجح؛ لكن هذا حق ولاية.

    فإن قيل: ما الفرق؟

    فالجواب: الفرق: أن حق الولاية ما لك حق فيه أنت؛ ولهذا لو قالت المرأة: زوجني ألزم بالزواج، وإن أصر انتقل الحق إلى غيره، فهذا حق ولاية.

    يعني مثلاً: لو أن الولي زوج ابنته بدون علمها، فالنكاح غير صحيح، يعني من شرطه رأي الزوجة، لكن لو أجازته لصح على القول الراجح.

    مثلاً: هذا رجل زوج أخته بدون أن تعلم بذلك، فالنكاح غير صحيح؛ لأنه من الشرط رضاها، وهي ما علمت حتى ترضى، لكن لو أنه استأذن منها وأذنت فالنكاح صحيح على القول الراجح؛ لأن تصرف الفضولي سبق أنه إذا أجازه من هو له صح، لماذا يصح؟ لأنها هي المعقود عليها في الواقع، فإذا أجازت العقد صح، لكن لو أنها هي زوجت نفسها بدون إذن وليها لم يصح النكاح، فلو أن وليها قال: أنا آذن، نقول: لا ينفع إذنك؛ لأن العقد ليس عليك، أنت ولي، وقد فاتت الولاية في هذا النكاح فيكون فاسداً.

    بالنسبة للفساد والبطلان هل اللغة تقتضي التفريق بينهما أو هو اصطلاح الفقهاء والعلماء؟

    الجواب: اصطلاح العلماء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755832036