إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
السهو في اللغة العربية: يطلق على: الغفلة، والذهول، والنسيان. وهذه الأشياء هي كما قال بعض أهل اللغة: كلمات متقاربة أو مترادفة: السهو، والغفلة، والذهول، والنسيان، وقد تكلف بعض أهل اللغة بين السهو وبين النسيان تكلفاً, والواقع أنها ليس بينها فروق تذكر, فالسهو: هو الغفلة عن الشيء فلا يتذكره.
أما في الشرع فالمقصود بالسهو: هو النسيان في الصلاة بزيادة أو نقص أو شك, فهذه أسبابه: زيادة في الصلاة أو نقص -ويكون ذلك عن غير تعمد- أو شك؛ فلا يدري كم صلى؟ ولا ماذا صلى؟ وقولنا: (أو شك) يقصد الفقهاء بالشك -كما قال الإمام النووي في المجموع وغيره- التردد في الشيء, وهذا هو معناه في اصطلاح الفقهاء, الشك: هو التردد في الشيء مطلقاً, يعني: بغض النظر عن حصول الترجيح عندهم، أو تساوي الطرفين.
أما الأصوليون فإنهم يقصدون بالشك ما استوى طرفاه, يعني: تساوى عنده الأمران. مثل إنسان شك في صلاته لا يدري كم صلى ثلاثاً أو أربعاً؛ فتقول له: رجح. قال لك: والله لا أدري! فقل: حاول، يغلب على ظنك شيء؟ قال: لا أدري بالضبط, يعني: (50%) أني صليت ثلاثاً, و(50%) أني صليت أربعاً. وهذا يسمى عند الأصوليين شكاً، وهو أيضاً عند الفقهاء شك, لكن لو قال: أنا أشك لكن كأنني أرجح أني صليت أربعاً, أو أظن أني صليت أربعاً, فهذا أيضاً يسمى عند الفقهاء شكاً, أما عند الأصوليين فلا يسمى شكاً, بل يسمى ظناً- يعني: الراجح يسمى ظناً.
فالمقصود أن قولنا هنا: (أو شك) على اصطلاح الفقهاء، يعني: بغض النظر عن ترجيح أحد الطرفين أو استواء الطرفين.
السهو الأول: السهو عن الصلاة, وهذا ذنب عظيم توعد الله تعالى عليه بالويل، قال عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].
والسهو عن الصلاة-كما قال المفسرون- قد يكون بتأخيرها عن وقتها, وقد يكون بتركها أحياناً, وقد يكون بالتقصير والتفريط في طهورها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها.
أما السهو في الصلاة فهو ما ذكرناه: أن يزيد فيها ناسياً, أو ينقص ناسياً, أو يشك في عمل من أعمال الصلاة, وهذا حصل حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، كما سوف يأتي في هذه الأحاديث, وكان حصوله من النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بأمته؛ ليبين لهم أحكام سجود السهو، ويدلهم عليها بقوله وبفعله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الإمام ابن القيم .. وغيره.
فالحديث إذاً لا يصح، ولم يرد فيه شيء من الطرق لا موصول ولا منقطع, ولو صح لكان حجة على أن النسيان والسهو بمعنى واحد, وهذا سبق أن بينا أنه معروف عند أهل اللغة, ولكان حجة أيضاً على أن نسيانه صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبين لأمته, وهو أيضاً معنىً ظاهر, ولكن الحديث لا يصح, وقد قال الله عز وجل في كتابه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى:6-7]؛ فلهذا قدر الله تعالى وشاء, حيث استثنى هنا في هذه الآية وشاء سبحانه أن ينسى رسوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة, وقد ينسى في الصلاة شيئاً من القرآن أحياناً، كما جاء في صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم دعا لـأبي بن كعب وقال: ( كأين من آية أذكرنيها، كنت أنسيتها ) فينساها في وقتها، وليس نسياناً مطلقاً، إنما ينساها في ذلك الوقت وفي تلك اللحظة.
ومن باب الاستطراد أقول: هذا الحديث ذكرت أنه واحد من أربعة أحاديث، لا توجد موصولة خارج الموطأ، وهي بلاغات.
أما الأحاديث الثلاثة الباقية فهي:
الحديث الثاني منها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الأمم من قبله، أو ما شاء الله تعالى من ذلك, فكأنه تقاصر أعمار أمته؛ فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر, وهي خير من ألف شهر ). هذا الحديث الثاني.
والحديث الثالث: هو أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( كان آخر ما عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: يا
والحديث الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أنشأت بحرية -يعني: السحابة- ثم تشاءمت فتلك عين غديقة )، يعني: ثرة معطاءة مثقلة بالمطر.
هذه الأحاديث الأربعة لم توجد موصولة في غير الموطأ ولا في الموطأ بطبيعة الحال؛ لأنه حتى في الموطأ قال: (بلغني) .
إذاً: الأول: حديث الباب: ( إني لأنسى -أو أنسى- لأسن ).
والثالث: عن معاذ أنه قال : ( آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا
والرابع: ( إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة ). فهذه لم توجد موصولة في الموطأ ولا في غيره كما ذكر الإمام ابن عبد البر، ووافقه عليه كثير من أهل العلم, ولكن قال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي في نظمه على الموطأ. قال:
وقد رأيت بعض متقني السنن من حاز في خير العلوم كل فن
عزا إلى نجل الصلاح أن وصل أربعة الأخبار فالكل اتصل
(عزا إلى نجل الصلاح ) يعني: الإمام أبا عمرو بن الصلاح. (عزا إلى نجل الصلاح أن وصل أربعة الأخبار) يعني: الأربعة الأخبار التي ذكرناها.
(أربعة الأخبار فالكل اتصل) يعني: وبناء عليه تكون جميع الأخبار التي ساقها الإمام مالك في الموطأ بلاغاً موصولة خارج الموطأ، على هذا الكلام, ولكن الواقع أن كون هذه الأخبار وجدت موصولة بأسانيد لا يعني: أن هذه الأسانيد صحيحة، بل قد تكون ضعيفة، وقد تكون دون الضعيفة أحياناً، وقد تكون الأسانيد منقطعة، فيتفطن لذلك.
قال الإمام الخطابي رحمه الله أيضاً: (المعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة), يعني: التي أشار إليها الإمام أحمد فيما صح عنه, وهي: حديثا ابن مسعود في التشهد, وحديث ابن بحينة، وهو حديث الليلة, وسندرسه الآن إن شاء الله تعالى, وحديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد الخدري، وكلها مما ساقه المصنف في الباب؛ فهي خمسة أحاديث.
أما النووي رحمه الله فقد ساق في كتابه المجموع ستة أحاديث، منها أربعة من أحاديث الباب، وأسقط أحد حديثي ابن مسعود، وساق لـأبي هريرة رضي الله تعالى عنه حديثين، وساق حديثاً عن عبد الرحمن بن عوف.
أما المصنف رحمه الله فقد ساق في هذا الباب -باب سجود السهو- ساق فيه تسعة أحاديث فيما يتعلق بسجود السهو, وسوف تأتي تفصيلاً, منها: حديث ابن بحينة الآن ندرسه, ومنها: حديثان لـأبي هريرة , ومنها: حديث عن عمران بن حصين , ومنها: حديث أبي سعيد , ومنها: حديث ابن مسعود , ومنها: حديث عبد الله بن جعفر , ومنها: حديث المغيرة بن شعبة , ومنها: حديث عمر , ومنها: حديث ثوبان . فتلك تسعة أحاديث في السهو.
ثم ساق بعدها ثمانية أحاديث في سجود التلاوة, ثم ساق بعدها ثلاثة أحاديث في سجود الشكر, ومما يلحظ أن المصنف رحمه الله جمع هذه الأنواع كلها في باب واحد: سجود الشكر وسجود التلاوة وسجود السهو, وهذا مسلك خاص, وإلا فالغالب أن المصنفين من المحدثين والفقهاء يفردون سجود السهو بباب خاص, حتى المصنف نفسه في كتبه الأخرى يفرد السجود، كما نجده مثلاً في تلخيص الحبير سجود السهو بباب خاص؛ لكثرة مسائله وأحكامه وأحاديثه وكثرة الخلاف في ذلك. وهكذا سائر الفقهاء.
أما سجود التلاوة وسجود الشكر فربما جمعها الأكثرون في باب واحد؛ لقلة مسائلها، وقلة أحاديثها.
والحديث رواه السبعة كما يقول المصنف, وهذا اللفظ للبخاري , وفي اللفظ الآخر- وهو إحدى روايات مسلم _ أنه قال بعد قوله: ( حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس ): بدل قوله: (كبر وهو جالس) قال: ( يكبر في كل سجدة وهو جالس ويسجد، ويسجد الناس معه، مكان ما نسي من صلاة ).
وكذلك رواه مسلم في كتاب المساجد, باب السهو في الصلاة والسجود له.
وقد رواه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد كما أشار المصنف بقوله: رواه السبعة, ورواه غيرهم أيضاً كثير من الأئمة, بل هذا الحديث من الأحاديث التي قلّ من صنف في سجود السهو إلا ذكره, فهو مشهور جداً, وهو أحد الأحاديث الخمسة التي أشار إليها الإمام أحمد , وذكرها الخطابي , وكذلك ذكرها النووي في المجموع كما أسلفت, وممن رواه أيضاً الإمام مالك في الموطأ, والشافعي في المسند, والدارمي في سننه, وأبو عوانة والبيهقي والبغوي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني والبيهقي وابن حبان وابن خزيمة وابن الجارود .. وغيرهم.
صحابي الحديث هو عبد الله بن مالك بن بحينة , وقد سبق ذكره وترجمته في غير موضع.
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا.
فقوله: (لا تقيمن عندنا) هي بدل من قوله: (ارحل).
إذا نقص في الصلاة نقصاً يجبره سجود السهو, وأن هذا السجود يكون قبل السلام، كما سجد النبي صلى الله عليه وسلم هنا قبل أن يسلم, وقد انتظر الناس تسليمه, فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم, وهذه المسألة سوف تأتي مع غيرها فيما بعد؛ وذلك لأن مسائل سجود السهو يصعب عرضها مجزءاً؛ إذ هي تتعلق بأحكام سجود السهو زيادة ونقصاً وشكاً بعضها, والخلاف يدور في هذه المسائل الثلاث كلها؛ فرأيت أن الأوفق والأنسب أن نعرض أقوال العلماء والراجح منها ضمن المسألة كلها، بعدما نمر على الأحاديث الأخرى المتعلقة بسجود السهو, فقد اختلف أهل العلم في السجود للسهو: متى يكون قبل السلام، أو يكون بعده ؟ فقال بعضهم: يكون قبل السلام أبداً, وقال بعضهم: يكون قبل السلام في أحوال معينة, وقال بعضهم: يكون قبل السلام فيما ورد به الحديث, وما عدا ذلك يكون قبل السلام.. في مسائل الأوفق والأنسب في تفصيلها ألا يكون الآن, بل يكون بعدما نسوق جملة من الأحاديث المتعلقة بالباب, فالمناسب هو عرض الخلاف بعد تلك الأحاديث, وسيكون إن شاء الله تعالى في درس قادم.
ما دام أن سجود التلاوة في صلب الصلاة، فلا يصح ما يفعله البعض أنهم ينتقلون في صلب الصلاة بلا تكبير للسهو أو للتلاوة.
أولهما: أنه جبره صلى الله عليه وسلم بسجود السهو هنا, وهذا الدليل قد يعترض عليه بعضهم، بأن السنن قد يسجد لها للسهو أحياناً، على ما سوف يأتي بيانه, فنثني بالدليل الآخر, وهو ما جاء في بعض رواية مسلم عن عبد الله بن بحينة إحدى روايات مسلم في حديث الباب: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس ), فقوله: ( عليه جلوس ) دليل على أن الصحابة كانوا يفهمون أن الجلوس للتشهد الأول واجب؛ لأن قوله: (عليه) دليل على أنه واجب عليه, وأنه قام وهو لم يجلس. هذا دليل على أنه ليس بسنة.
فأما الدليل على أنه ليس بركن، فلأنه لو كان ركناً لم يجبره سجود السهو لا عمداً ولا سهواً, وقد احتج بعضهم بهذا الحديث بعينه وذاته على سنية التشهد الأول, والأمر كما ذكرت.
وقد جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه -ومضى معنا في كتاب الصلاة, باب صفة الصلاة- ما يدل على غير هذا، فهل تذكر حديث أبي هريرة في محل التكبير، هل يكبر قبل الانتقال أو معه أو بعده؟
حديث أبي هريرة : ( يكبر حين يقوم, ثم يكبر حين يرفع, ثم يكبر حين يهوي ساجداً, ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد, ثم يكبر حين يرفع, ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس ). وقد اختصرت الحديث, ذكرت ما يتعلق بهذا, فيحتمل أن يكون هذا من باب التنوع, ويكون أحياناً يكبر مع الحركة, وأحياناً قبلها, وأحياناً بعدها, ويحتمل أن يكون المقصود بحديث الباب حديث عبد الله بن بحينة : أنه يكبر أي: يبدأ التكبير وهو جالس، ويتمه وهو ينتقل إلى السجود.
لا يسلم للصنعاني قوله: إنه مدرج؛ لأن الحديث كله من قول الصحابي، يحكي فيه ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم, فلا إدراج إذاً.
صحيح أن هذا القول ليس متعلقاً بالفعل, إنما هو من تفسير الصحابي لما حدث, ولكن لا يسمى مدرجاً في الواقع؛ لأن الحديث كله من قول الصحابي، فلا ينطبق عليه تعريف المدرج عند علماء المصطلح.
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل من الأعمال الصالحة المقربة إليه.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر