إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
القول الأول: أن التنشيف مكروه، واستدل القائلون بالكراهة بحديث الباب، وهو قول ميمونة رضي الله عنها: ( ثم أتيته بالمنديل فرده )، وفي لفظ: ( فأتيته بخرقة فلم يردها )، يعني: لم يقبلها ولم يأخذها، فقالوا: رده صلى الله عليه وسلم للمنديل دليل على عدم مشروعية التنشيف بل على كراهته.
واستدلالهم بهذا فيه بعض النظر؛ لأنه قد يكون رده صلى الله عليه وسلم للمنديل -كما يقولون- هذه واقعة محتملة، يحتمل أن يكون رده للمنديل لغرض، ليس لكراهته بل لسبب آخر، وهذا قد يحصل للإنسان.
والدليل الثاني عندهم: ما رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن أنس قال: ( لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتنشف بعد الغسل، ولا أبو بكر، ولا
القول الثاني: أن التنشيف مباح، ليس بسنة ولا مكروه؛ وذلك لعدم وجود أدلة قوية صريحة في الاستحباب أو الكراهة، فيبقى على أصل الإباحة كغيره من الأشياء.
القول الثالث: أنه مكروه في الصيف، مباح في الشتاء، ولعلهم ينظرون إلى أن الإنسان يحتاج إليه في الشتاء للبرد، فيكون محتاجاً إلى إزالة الماء عن بدنه وأعضائه.
أما القول الرابع: فهو أن التنشيف مستحب، وهؤلاء الذين قالوا بالاستحباب لهم أدلة عديدة:
منها: حديث الباب، قال بعضهم: إن كونها أتته بالمنديل دليل على أن عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعمله، هذا وجه للاستدلال.
كذلك ذكر ابن دقيق العيد وجهاً آخر في الاستدلال بالحديث، وهو: ( وجعل ينفض يديه )، فإن نفض اليدين المقصود منه
إزالة قطرات الماء الموجودة على اليدين، فمعنى ذلك: أنه قد يفهم منه أنه بأي شيء أزال هذا البلل، سواء بالمنشفة، أو بنفض اليدين، أو بما يوجد الآن من بعضهم يضعون آلة عند دورات المياه، يضغطون الزر فتشتغل هذه الآلة وتخرج هواءً حاراً، فيضع يديه أمامها أو بدنه حتى ينشف، فأخذ ابن دقيق العيد وغيره من قوله: ( جعل ينفض يديه ) دليلاً على أنه قد يقال بمشروعية التنشيف وسنيته من ذلك.
الدليل الثاني: هو ما رواه قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: ( أتانا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فأمر أبي له بغسل، فاغتسل صلى الله عليه وسلم، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بورس أو زعفران فالتحف النبي صلى الله عليه وسلم بها )، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وإسناد أبي داود صحيح، فهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا التحف بهذه الملحفة، ومن الطبيعي أنه إذا التحف بها تنشفت بها أعضاؤه.
الدليل الثالث: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقة ينشف بها بعد الوضوء )، والحديث رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بذاك القائم، فيه أبو معاذ، وأبو معاذ هذا اختلف في اسمه، قيل: اسمه سليمان بن أرقم كما سماه الترمذي والبيهقي، سليمان بن أرقم وهو ضعيف، يقول الترمذي: ولا يصح فيه شيء، يعني: لا يصح في ثبوت التمندل أو عدمه حديث.
الدليل الرابع: هو ما رواه الترمذي أيضاً عن معاذ رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بطرف ثوبه )، كأنه تنشف صلى الله عليه وسلم بطرف ثوبه.
والحديث أيضاً كما ذكرت رواه الترمذي وضعفه، وذلك لأن في إسناده رجلين ضعيفين، أما أولهما فـرشدين بن سعد، وأما الثاني فـعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهما يضعفان في الحديث.
والخلاصة: أن هذه أدلة القائلين بالاستحباب، ونخرج من ذلك بعد سرد هذه الأقوال إلى أن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلتزم بالتنشف، وإن حصل منه هذا في مرات، فلا يدل هذا الفعل على استحباب التنشيف مطلقاً، بل لعل القول بأن الأمر في ذلك واسع ومباح أولى، فإن تنشف الإنسان فلا حرج، وإن ترك فلا حرج.
والحديث رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم وأبو عوانة.
الحثيات: جمع حثية كما سبق وهي الحفنة، ويقال: حثى يحثي حثياً، وحثا يحثو حثواً، لغتان مشهورتان.
في المسألة ثلاثة أقوال:
قيل: إنه يجب عليها أن تنقضه في الغسل من الجنابة وفي الغسل من الحيض، وهذا مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص والنخعي، وهو قول لأصحاب الإمام أحمد، وكأنهم استدلوا بأن الغسل يجب أن يعمم فيه البدن بالماء، وهذه القرون المضفورة لا يصل إليها الماء إلا بحلها.
أما القول الثاني في المسألة فهو نقيض القول الأول، وهو أنه لا يجب على المرأة أن تنقض ضفائر رأسها، لا لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، هو مذهب عائشة رضي الله عنها، وأم سلمة، وعبد الله بن عمر فيما يظهر، كما يدل عليه ما رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن نافع : ( أن نساء
واستدل من يقولون: لا يلزم المرأة أن تنقض شعر رأسها لا لحيض ولا جنابة بأدلة، من أقواها: حديث الباب.. حديث أم سلمة في مسلم أنها قالت: ( إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة؟ قال: لا )، فبين أنه لا يلزمها أن تنقضه لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة.
ومن أدلتهم أيضاً: أن هذا الشعر الذي ضفرته المرأة، ورد عن عدد من النساء أنهن سألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل مع كثرة استعمال النساء للضفر، فلم يأمر أحداً منهن بأن تحل قرون رأسها، بل أمرها أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات فإذا هي قد طهرت.
والقول الثالث: أنه يجب على المرأة أن تحل قرون رأسها لغسل الحيض لا لغسل الجنابة، فيتسامح في غسل الجنابة ولا يتسامح في غسل الحيض، أما غسل الجنابة فلكثرة الحاجة إليه بخلاف غسل الحيض، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وحجة أصحاب هذا القول ما سبق في رواية: ( أفأنقضه لغسل الحيض )، فقالوا: أما الجنابة فإنه يجب عليها أن تنقضه لها.
وكذلك احتجوا بما رواه أبو داود وغيره عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أما المرأة فلا عليها أن لا تنقض شعر رأسها )، فقالوا: إنه لا يلزمها أن تنقض شعر رأسها في غسل الجنابة، أما في غسل الحيض فيجب، واستدلوا كذلك بما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضاً: انقضي رأسك واغتسلي ).
وهذا الحديث لعله عمدتهم في الاستدلال، ولذلك يكثر الحنابلة من ذكره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( انقضي رأسك واغتسلي )، فقالوا: أمرها بنقض رأسها لغسل الحيض؛ فدل على وجوبه، ولكن هذا الاستدلال لا يسلم لوجوه:
فأولاً هناك من العلماء من اعتبر هذه الرواية شاذة، وإن كان إسنادها صحيحاً، وهذا رأي الألباني كما في إرواء الغليل، لكن لا يسلم بالشذوذ.
وثانياً: فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة بأن تنقض شعر رأسها لم يكن للحيض، وإنما كان للإحرام؛ لأن هذا كان في الحج، فلما حاضت أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقض شعر رأسها وتغتسل للإحرام، لا للحيض، قال: بسبب الطهر.
وثالثاً: فإن في الصحيحين من حديث عائشة نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (وامتشطي)، ولم يقل أحد بوجوب الامتشاط على المرأة عند طهرها من الحيض، فدل على أن ما قارنه يأخذ حكمه في عدم الوجوب.
ولذلك فإن الحنابلة أنفسهم -وهم القائلون بالتفريق بين غسل الحيض وغسل الجنابة- اختلفوا هل يجب عليها نقضه في غسل الحيض أم يستحب لها، على قولين:
فبعض الحنابلة قالوا: يستحب لها أن تنقضه ولا يجب، قال ابن قدامة في المغني : وهو الصحيح إن شاء الله؛ أنه يستحب لها -يعني حتى عند الحنابلة- ولا يجب عليها، وذكر حديث أم سلمة وهو حديث الباب.
هذه ثلاثة أقوال في المسألة أقواها وأرجحها أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعرها لا لغسل الحيض ولا لغسل الجنابة، بل يكفي أن تفيض الماء على رأسها ثلاث مرات، وتغمس شعرها عند كل مرة وتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ الماء شئون رأسها.
ولذلك كان هذا المذهب هو مذهب أمهات المؤمنين كـأم سلمة وعائشة، ومن المعروف أن أم سلمة وعائشة وغيرهن من أمهات المؤمنين أولى بالفقه في هذه المسألة من غيرهن، بل في صحيح مسلم عن عبيد بن عمير: (أن عائشة رضي الله عنها بلغها أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر النساء أن ينقضن شعورهن للغسل، فقالت: يا عجباً لـعبد الله بن عمرو يأمر النساء أن ينقضن شعورهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن شعورهن؟!) تقول هذا مستنكرة، فكأنها تؤمي رضي الله عنها إلى أن مسألة نقض الشعر لغسل الجنابة أمر شاق، والمرأة خلقت ذات شعر، فيصعب تكليفها بهذا، وقالت: ( لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فلا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات ).
وهذا دليل قوي جداً يضاف إلى حديث أم سلمة في أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعر رأسها، لا لغسل المحيض ولا لغسل الجنابة، هذه هي المسألة الظاهرة أو البارزة في حديث أم سلمة رضي الله عنها.
إذاً: أبو داود روى الحديث عن أفلت بن خليفة، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ووجوه بيوت أصحابه شارعة إلى المسجد -يعني: أبواب الصحابة مفتوحة على المسجد- فقال صلى الله عليه وسلم: وجهوا هذه الأبواب عن المسجد، ثم جاء مرة أخرى ولم يصنع أصحابه شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة -يعني: يسمح لهم بكون أبوابهم إلى المسجد- فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قال: وجهوا هذه الأبواب عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب )، هكذا ذكر أبو داود قصة هذا الحديث.
وضعفه طائفة ثالثة: فضعفه الإمام أحمد كما ذكره البغوي في شرح السنة، وضعفه الخطابي، وضعفه البيهقي، وقال لـابن حزم : إنه باطل. فبالغ في تضعيفه، حتى قال: إنه باطل.
وفي الحديث ثلاث علل، أو الحديث أعلّ بثلاثة أوجه:
الأول: أن فيه أفلت بن خليفة كما ذكرت لكم، وقد قال بعضهم: إنه مجهول، والصواب أن أفلت هذا ليس بمجهول بل هو معروف، قال الإمام أحمد : ليس به بأس، وقال أبو حاتم : شيخ، ووثقه ابن حبان، وقال ابن حجر والذهبي : صدوق .
فالصحيح أن وجود أفلت ليست بعلة في الحديث ؛ لأنه صدوق، كما تلفظ بذلك أو ذكر ذلك ابن حجر والذهبي .
العلة الثانية: جسرة هذه، فإن جسرة يقول فيها البخاري : عندها عجائب، وبالمقابل فهناك من وثقها، وثقها ابن حبان كما في كتاب الثقات، ووثقها العجلي فقال: كوفية تابعية ثقة، وقال ابن حجر : مقبولة، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، والظاهر أن هذه العبارات لا تكفي لتوثيق المرأة، وقد قال فيها البخاري وهو الإمام الجبل المعروف، قال: إن عندها عجائب.
والعلة الثالثة: وهي التي تزيد الطين بلة، هو أن الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد روي عن جسرة من وجهين: أحدهما: عن عائشة وهو ما سبق عند أبي داود وغيره، والثاني: عن جسرة عن أم سلمة، وحديث أم سلمة عند ابن ماجه والطبراني، وقد أخطأ أو وهم الشوكاني رحمه الله فقوى حديث عائشة بحديث أم سلمة .
والصواب: أنه يضعف به لا يقوى به؛ لأن مدار الحديثين على جسرة، فمرة روته عن عائشة ومرة روته عن أم سلمة، فدل على وجود اضطراب في الحديث، ولعل هذا التقرير يقوي جانب من يميلون إلى تضعيف الحديث خاصة وأنه ليس له شواهد يتقوى بها.
القول الأول: أنه لا يجوز للحائض ولا للجنب المكث في المسجد، وهذا مذهب ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ومذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبي حنيفة، قالوا: لا يجوز للحائض ولا للجنب المكث في المسجد، واستدلوا بحديث الباب لو صح، ولكنه لا يصح، وإلا فهو نص في المسألة، لكن لا يصح ولا يحتج به.
ومن أدلتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم منع عائشة من الطواف بالبيت، كما في حديثها في الحج في الصحيحين: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، فقالوا: هذا دليل على عدم جواز دخولها إلى الحرم وإلى المسجد.
وهذا الاستدلال أيضاً فيه نظر؛ لأنه قد يكون منعها لأن الطواف بالبيت عبادة وصلاة، فلا يجوز لها أن تفعله إلا بطهر، وليس لأنه لا يجوز لها دخول المسجد.
والدليل الثالث: وهو قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، وهذه الآية موضع الشاهد منها قوله تعالى: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43].
وفي معنى الآية وجهان: ذكرهما أهل التفسير كـالطبري وابن كثير وغيرهما، انتبهوا لهما:
الوجه الأول: قالوا: إن معنى قوله: ولا جنباً يعني: لا تقربوا الصلاة وأنتم مجنبون، إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ، يعني: لا تقرب الصلاة.. لا تصل وأنت جنب حتى تغتسل، إلا أن تكون عابر سبيل، يعني: مسافراً ليس معك ماء، فيجوز لك حينئذ أن تتيمم وتصلي، فعلى هذا يكون قوله: ولا جنباً يعني: ولا تقربوا الصلاة وأنتم مجنبون، إلا أن تكونوا مسافرين فيجزئكم التيمم عن الغسل إذا لم تجدوا ماء، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني في معنى الآية: أنه لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى، يعني: المساجد، أي: لا تقربوا الصلاة نفسها أيضاً ولا مواضعها، ولا جنباً يعني: ولا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم مجنبون إلا بعد أن تغتسلوا.
وعلى هذا الوجه يكون المعنى: لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، يعني: إلا مارين بالمسجد دون أن تجلسوا بالمسجد وتمكثوا فيه.
الذي يظهر لي أن الوجه الثاني أقوى؛ لأن المعنى: لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مارين بالمسجد دون أن تمكثوا فيه فيجوز لكم ذلك.
ومما يقوي هذه الوجه الذي رجحته، وهو الذي رجحه من قبل إمام المفسرين الإمام ابن جرير الطبري، ورجحه الشافعي كما في كتاب الأم، قال: إن هذا هو القول، ورجحه الشوكاني في نيل الأوطار وغيره، أن المقصود: نهي الجنب عن المكث في المسجد، إلا أن يكون عابر سبيل، يقويه وجهان:
الأول: أن الجنب إذا لم يجد ماءً يجوز له أن يتيمم، سواء كان عابر سبيل أو كان مقيماً في البلد، فالمقيم في البلد إذا لم يجد الماء أو لم يستطع استخدامه، فإنه يعدل إلى التيمم، فيكون قوله: (إلا عابري سبيل) قيد لا معنى له؛ لأن الحكم عام للمسافر وغيره، وإن كان أغلب من يحتاج هذا الحكم المسافرون.
الوجه الثاني الذي يقوي ما ذكرت: أن الله تعالى فيما بعد قال: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، فذكر التيمم فيما بعد، فلو كان المقصود بأول الآية التيمم، يعني وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43] لو كان المقصود التيمم لكان في الآية تكرار، أنه ذكر حكم التيمم مرتين.. ذكره في أول الآية ثم ذكره في آخرها، وهذا تكرار يبعد أن يكون معنى الآية هكذا، فيترجح والله تعالى أعلم أن معنى الآية: لا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مارين عابري سبيل في المسجد، فيجوز لكم ذلك.
وهذا التقرير يجعل استدلال هؤلاء الجمهور بالآية على تحريم مكث الحائض والجنب في المسجد قوياً.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب الظاهرية والمزني من الشافعية، ورجحه الألباني من المعاصرين في تمام المنة في التعليق على فقه السنة : أنه يجوز للحائض والجنب المكث في المسجد مطلقاً، وبالنسبة للألباني لم يصرح بالحائض، إنما تكلم على الجنب أنه يجوز له ذلك.
واستدلوا بثلاثة أدلة قوية لولا ما يعارضها:
الدليل الأول: أن هذا هو الأصل، ولا ينتقل عن الأصل إلا بدليل صريح.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن المؤمن لا ينجس )، وهذا الحديث متفق عليه عن أبي هريرة وقد سبق، فهو صريح أن المؤمن لا ينجس، بدنه طاهر، فيجوز له دخول المسجد والمكث فيه ولو كان جنباً.
الدليل الثالث قالوا: إنه يجوز للكافر أن يدخل المسجد ويمكث فيه، وقد سبق أن بعض الكفار يدخلون المسجد، بل إن ثمامة بن أثال أسر في المسجد ثلاث ليالي كما مر معنا في هذه الدروس.
قالوا: إذا جاز للكافر أن يدخل المسجد ويمكث فيه، فكيف بالمسلم ولو كان جنباً فمن باب الأولى يجوز له ذلك.
أما القول الثالث: وهو مذهب أحمد رحمه الله وإسحاق بن راهويه قالوا: يجوز للحائض والجنب دخول المسجد والمكث فيه إذا توضئوا، واستدلوا بما رواه سعيد بن منصور عن عطاء قال: ( رأيت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا ).
والحديث فيه هشام بن سعد وفيه مقال، فلا يتم الاستدلال به، والذي يترجح للعبد الضعيف والله تعالى أعلم بالصواب: أن منع الحائض والجنب مطلقاً من المكث في المسجد والبقاء فيه هو القول الأقوى.
ومن أدلته أيضاً ما ورد عن عائشة رضي الله عنها كما في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( ناوليني الخمرة من المسجد -والخمرة: هي الشيء الذي يصلى عليه - فقالت: إني حائض فقال: إن حيضتك ليست في يدك )، وهو صريح بأنه يجوز لها أن تأتي إلى المسجد وتأخذ الخمرة منه لتأتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل ما رواه النسائي وأحمد بإسناد صحيح عن ميمونة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على نسائه ويجلس في حجورهن وهن حيض يقرأ القرآن، وكان يأمر إحداهن فتناوله الخمرة من المسجد )، وهو كحديث عائشة في الدلالة على ذلك.
ومما يدل أيضاً على جواز العبور: ما رواه سعيد بن منصور عن جابر قال: ( كان الرجل منا يدخل المسجد وهو جنب مجتازاً )، يعني: ماراً بالمسجد دون أن يمكث فيه، فهذه الأدلة ترجح جواز المرور في المسجد دون المكث فيه للحائض والجنب، والله تعالى أعلم.
وفيه مباسطة الرسول عليه الصلاة والسلام لأزواجه، وتلطفه معهن، وحسن معاشرته لهن، حتى كانت رضي الله عنها تقول للرسول صلى الله عليه وسلم: دع لي دع لي، وتبادره -يعني: تعاجله- لتأخذ الماء قبله، فيبادرها الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: دعي لي دعي لي.
وقال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحارث بن وجيه، وهو شيخ ليس بذاك، وقد سبق أن كلمة غريب عند الترمذي تعني الضعيف إذا أطلقها، وهو شيخ ليس بذلك، يعني: الحارث بن وجيه .
وقال الشافعي : ليس بثابت.
وقال البيهقي : ضعفه أهل العلم بالحديث البخاري وأبو داود وغيرهما.
وورد المعنى عن عائشة عند أحمد كما ذكر المصنف، ولم أهتد إلى هذا الحديث الذي رمز إليه المصنف، لم أدر أي حديث يعني، ولكن يكفي أنه قال: فيه راو ضعيف فلا يحتج به.
وقد ورد المعنى أيضاً من حديث علي رضي الله عنه عند أبي داود وابن ماجه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا، قال
والحديث اختلف فيه؛ لأنه من رواية حماد بن سلمة عن عطاء، وقد اختلفوا هل روى عنه قبل الاختلاط -قبل اختلاط عطاء- أم بعده؟ والذي رجحه الجمهور أن حماداً روى عن عطاء قبل الاختلاط، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: إسناده صحيح، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وسبق ذكر هذا الحديث في أبواب الوضوء.
ولكن ذكر عن الدينوري وغيره من الفقهاء ما يقدح في ثبوت هذا الإجماع، إنما يجب على الإنسان إذا أراد الغسل أن يغسل حتى يظن -ولا يلزم في ذلك اليقين لأنه عزيز- أنه غسل البشرة وروى أصول الشعر.
ولذلك جاء في حديث أسماء عند مسلم : ( حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تغتسل إحدانا من المحيض؟ قال: تأخذ ماءها وسدرتها، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً، حتى تروي شئون رأسها، ثم تفيض عليها الماء ).
أحدهما: يجب غسله، وهو مذهب الشافعي وعليه الأصحاب من الحنابلة، أنه يجب غسل المسترسل من الشعر.
والوجه الثاني: وهو مذهب الحنفية، وهو قول بعض الحنابلة : أنه لا يجب غسله، وهو الذي يظهر أن ابن قدامة رجحه وانتصر له في المغني .
ومن أدلتهم على عدم وجوب غسل المسترسل من الشعر: حديث أم سلمة لأنها قالت: (إنني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه؟ قال: لا)، فقالوا: لو كان يجب غسل جميع الشعر المسترسل لأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بنقضه؛ لأن من المعلوم أن الشعر إذا كان مشدوداً فلا يصل الماء إلى الشعر الذي في داخل الضفيرة.
ولعله قال والله تعالى أعلم: إن المرأة إذا أرادت أن تغتسل وشعرها مضفور، فإن عليها أن تروي شئون رأسها، أما الشعر المسترسل فتغسله دون أن تحله بحيث يصل الماء إلى ظاهر الشعر المضفور، ولا يلزم أن توصله إلى الشعر بداخل الضفيرة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر