إسلام ويب

السعادة الحقيقية ومصادرهاللشيخ : صالح بن حميد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • السعادة يطلبها الجميع، والقليل من يجدها، فالناس في منظورهم أن السعادة إما في المال أو الجاه أو المنصب، وهي في الحقيقة بالإيمان بالله جل وعلا.

    والعمل والكد والذهاب والإياب في طلب الرزق مع الإيمان بالله والرضا بأقدار الله عامل من عوامل السعادة.

    والعلم يجلب للمؤمن السعادة، ولا ينبع السخط على أقدار الله إلا من الشك وعدم اليقين بالله جل وعلا، والمتسخط إن فتش نفسه وجد أن هناك شكاً في قلبه، فالشك والتسخط أخوان، والرضا واليقين قرينان.

    1.   

    حقيقة السعادة ومصادرها

    الحمد لله إيماناً بكماله وجلاله، ويقيناً بعلمه وحكمته، ورضا وطمأنينة بعدله ورحمته، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، أحمده سبحانه وأشكره، له الملك وله الحمد، نعمه على خلقه لا تعد، وفضله عليهم لا يحد، وما بكم من نعمة فمن الله، وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، من اتبعه واستمسك بهديه فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل السعادة والرضا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله واستغفروه فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وما من خيرٍ إلا والتقوى موصلة إليه ودليلٌ عليه، وما من شر إلا والتقوى حرزٌ منه حصين ودرعٌ منه مكين.

    أيها المسلمون: من يقاسي شدة الفاقة والبؤس يرى السعادة في الغنى وعند الأغنياء، ومن تتقلب به الأوجاع والأمراض يرى السعادة في صحة الأبدان وسلامة الأعضاء، والمستضعف الذي سلبت حقوقه ولم يقوَ على خلاصها يرى السعادة عند ذوي السلطان والجاه، ومن أشرب قلبه الفسوق والمجون والخلاعة والدعارة يرى السعادة أن تحف به الشهوات من كل جانب ليطلق لها العنان كيف يشاء .. يبحث الناس عن السكينة والطمأنينة، وينشدون السعادة والرضا، ويبتغون السرور والحبور، ويطلبونها في القوة والجاه، والثراء والحرية، والمناصب والرتب.

    السعادة -أيها الإخوة- ليست في المال الوفير، ولا في الجاه العريض، ولا في البنين ونيل المآرب، ولقد قال الله عز وجل في أقوام: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55] عذابٌ في الحياة الدنيا .. مشقة وألم، وهمٌ وسقم، إنه معذب النفس، متعب القلب، لا يغنيه قليل ولا يشبعه كثير .. عذابٌ وشقاء لا ينفك فيه عن ثلاثة: همٌ لازم، وتعبٌ دائم، وحسرة لا تنقضي .. ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا تراب ويتوب الله على من تاب، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.

    السعادة شيء لا يرى بالعين، ولا يقاس بالعدد، ولا تحويه الخزائن، ولا يشترى بالدرهم والدينار.

    السعادة شيء داخل الجوانح، يغتبط به الجنان، ويمتلئ به الجنبان .. صفاءٌ في النفس، وطمأنينة في القلب، وانشراحٌ في الصدر، وراحة في الضمير، وهدوء في البال .. إنها شعورٌ جميلٌ بالغبطة، وإحساسٌ لذيذٌ بالطمأنينة، مع بهجة وأريحية وانطلاق نفسٍ في سكينه.

    تصور أن واحداً من ذوي الجاه والثراء ابتلي بمرضٍ مزمن، يؤتى له بأطايب الطعام فلا يأكل، وإن أكل فلا يستلذ، أشرف مرة من نافذة بيته المنيف، وأطل من سرير مرضه الوثير، فلاحت منه التفاتة إلى عاملٍ من عماله قد افترش جانباً من الأرض تحت ظل شجرة، يأكل رغيفه مع إدامٍ يسير، لقمة في فمه وأخرى في يده وثالثة ترقبها عينه، كم يتمنى هذا الوجيه لو كان في متعة هذا العامل وصحته!

    الإيمان بالله مصدر السعادة

    إن السعادة مصدرها القلب، ومظهرها الرضا، ودليها إدراك النعمة والاعتراف بها، ولا ترى أوضح ولا أفضح من خيبة إنسان يطلب السعادة في شهوات الدنيا، وقد علم -وعلمتم- أن طالبها يظل منهوماً لا تنقضي شهواته هلعاً .. تتشعب رغباته، ثم يقوده همه إلى منازعة الآخرين أرزاقهم، وخصامهم في حقوقهم، فيُشقي ويَشقى، وفي العداوة والبغضاء يسعى، ومن الهم والنكد يزداد .. ملأ فكره بهموم الحياة، وفتنه اللهو والمجون، قد أعمته فوادح الزمن وقوارع الدهر، ولو دقق هذا وحقق لوجد أن كل ما ظفر به فعقباه حزن، وعاقبته خُسر؛ إما بذهاب المأمول، أو بذهاب الآمال.

    أيها الإخوة: لن يجد امرؤٌ ما يملأ نفسه رضاً بأقدار الحياة سوى الإيمان بالله، واللجوء إلى جناب ربه والانطراح بين يديه.

    إن الحياة بغير الدين تعقيدٌ تحفها المنغصات، وبضعف الدين تنبت الاضطرابات الاجتماعية، والأمراض النفسية، فيفزع المبتلون إلى المهدئات والمسكنات، بل إلى المسكرات والمخدرات -عياذاً بالله- قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124].. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

    إن الدنيا عند المؤمن ليست عبئاً مضجراً، ولا لغزاً محيراً، ولكنها مرحلة ومزرعة، ودار ممرٍ واختبار يرجو بعدها لقاء الله، الإيمان سفينته، والعبادة وسيلته.

    إن المؤمن تغمره السعادة؛ لأنه موقن بأن الحياة محفوفة بأقدار الله؛ فلا يأس على ما فات، ولا فرح بما حصل .. لا يستسلم للخيبة، ولا يهلك نفسه تحسراً، بل كل مواقف الدنيا عنده ابتلاءٌ بالخير أو ابتلاءٌ بالشر، ولئن زلزلته وقائع البلوى ردَّه الإيمان إلى استقرار النفس، وبرد اليقين، ورباط الطمأنينة، فنعم بالسكينة من غير هلعٍ ولا شقاق.

    المؤمن يملك السعادة والراحة التي تجمع له بين التوكل والعمل الكادح، لا يزعزعه جزع ولا يرهقه قلق، يعمر الحياة نشاطاً ويغمرها جهاداً.

    العمل سبب في السعادة

    أيها الإخوة: إن السعادة لا تحصل بالهروب والإهمال؛ ولكنها في مواجهة الحياة وغاياتها، إن ثمة أسباباً يحسن تحصيلها ورعايتها فهي عوامل الإسعاد وجالبات الرضا، جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة والمسكن الطيب والمركب الطيب }.

    أسبابٌ وعوامل منظورٌ فيها إلى النوع والكيف، وحسب الإنسان أن يسلم بإيمانه من المنغصات، ويتيسر له من القوت ويتحقق له من الأمن والعافية ما جسده الحديث النبوي الآخر: {من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها }.

    إن المال يحقق السعادة إن ابتغى به متعة عيشٍ مباحة، ولذة نفسٍ جائزة، ومكرمة تبتغي ذكرها، وصالحة تبتغي عند الله أجرها .. وإن لم يكن كذلك فإنه لا يعدو أن يكون حزماً من الورق الملون، أو لمعاناً من المعدن الثقيل، أو أكواماً من الطين والتراب، عليك غرمه ولغيرك غنمه.

    السعيد لا يأكل أكثر مما يأكل الناس، ولا يملك أكثر مما يملك الناس، ولكنه يرضى أكثر مما يرضى الناس، سبحان الله يا عباد الله! إن أسباب الرزق أدق من أن يدرك الناس حكمتها وأسرارها .. إن في الناس طلاب رزق لا ينالون خبزهم ولا خبز عيالهم إلا من قاع البحار اللجية، يغشاها موجٌ من فوقه موج، وآخرون طيارون رزقهم فوق السحاب يبتغونه صعداً في أعالي السماء، ومن بين هؤلاء وهؤلاء عمال المناجم والأنفاق، ينقبون الحجارة ويفجرون الصخور، لا يرون ضوء الشمس ولا بياض النهار، ومن دون هؤلاء وأولئك من يأتيه رزقه عند بابه، ليس في رءوس الجبال ولا في أعماق البحار: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

    السعداء مؤمنون عاملون، وعلى ربهم متوكلون، وبحكمته واثقون، وبأقداره موقنون .. نصيبهم المقسوم في السماء سيهبط إلى الأرض .. هذه هي السعادة ذات الخلق السمح والنفس المطمئنة.

    وإن من مصادر الشقاء وأسباب التعاسة أن تكثر البطالة، وينتشر الذين يتكففون الناس، وينظم إليهم رواد المقاهي والأندية البطالون الذين خلوا من أي عمل .. وإن السعادة لهم ولغيرهم أن تهيأ لهم فرص العمل؛ صناعة وزراعة، وحرفة وتجارة، مستفيدين من مستجدات العصر ووسائله الحسنة، ويهتم بذلك ولاة أمور المسلمين، وعلى رجال الأعمال كفلٌ في هذا غير يسير.

    العلم والتربية من أسباب السعادة

    ولئن كان العمل عاملاً من عوامل السعادة كبيراً؛ فإن العلم قريبه، ويقصد بالعلم الفقه في شئون الناس، وأمن الحياة علمٌ واستنارة يرتفع بها صاحبها عن مصاف الجهل والجهلاء، فالجهال تصعب قيادتهم، ويشق توجيههم، وتقل راحتهم، وتصعب إراحتهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].

    وتكون الشخصية المتعلمة إذا كانت متفتحة تدرك الحق والنافع، وتفهم المطلوب وتحسن التجاوب، وإن ردود الفعل غير المهذبة من الجهال هي العلة في كثيرٍ من أسباب الشقاء، وعدم انتظام طرق المعاش.

    ثم -أيها الإخوة- لا خير في علم إذا لم يصحبه خلقٌ كريم، وأدبٌ سامٍ، يتربى عليه أفراد الأمة؛ من الصبر والعزم، والجد والإقدام، والأمانة والصدق، والحلم وسماحة النفس، ورقة العاطفة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتربية البيت والمدرسة مقدمة بقالب الدين والشرع المطهر، فيتولد الحياء والعفاف، وسعة الأفق وانشراح الصدر: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:1-3].

    تربية تأخذ بالناشئة إلى ربهم؛ فيلجئون إلى ذكره وشكره، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].. وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]

    تربية تبعدهم عن الغل والحسد، وتملأ قلوبهم بحب الخير للناس، وسؤال الله من فضله للنفس وللناس أجمعين، قال تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [النساء:32].

    الهدوء والانضباط من عوامل السعادة

    وإن من أهم ما تتوجه إليه التربية ويستجلب السعادة الهدوء والانضباط، فالفوضى والاضطراب الشخصي، والانزعاج النفسي من أظهر مظاهر الشقاء .. إن المضطرب غير المنضبط يلقي ببصره هنا وهناك، ينزعج ويزعج، وإنكم لتعلمون كم يجلب تجاوز الأنظمة المرعية من الشقاء الاجتماعي والضغط النفسي فضلاً عن عدم وصول الحق إلى مستحقه وتجاوزه إلى غير أهله، فأي سكينة ترجى حين تسود الفوضى؟!

    أيها المسلم: أنت سعيد إذا عرفت قدر النعمة التي أنعم الله بها عليك .. سعيدٌ إذا عرفت نفسك وطلبت السعادة من نفسك لا ممن حولك .. سعيدٌ بإيمانك وخلقك وحبك للناس .. سعيدٌ إن كنت مع ربك فشكرت النعمة وصبرت على البلية، فكان لك الربح في الحالين وحسن الثواب في الحياتين.

    الله أكبر! سعادة عند أهل الإيمان لو علم بها المحرومون من أهل الثراء والجاه وأهل الكفر والنفاق لجالدوا عليها بالسيوف، بل إن الملاحدة لما رأوا ما يغشى أهل الإيمان من الرضا والطمأنينة والقناعة والسكينة؛ ظنوا بجهلهم أن الدين قد خدر أهله، وما درى هؤلاء المساكين أن أهل الإيمان موقنون بأن أهل الأرض والسماوات لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحداً بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.

    مؤمنون بأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وعندهم في دينهم الإيمان مقرونٌ بالعمل، ونواميس الكون وسنن الله لا تتبدل من أجل كسولٍ أو خامل والشفاء بإذن الله مرتبطٌ بالعلاج، والحصاد لا يكون إلا بعد الزرع، فاعمل وادأب وخذ وطالب وارض بما قسم الله لك من غير يأسٍ يدخل قلبك، ومن غير حقدٍ يأكل فؤادك، ومن غير حسدٍ يأكلك ويأكل حسناتك .. إن سلكت هذا المسلك فلسوف تعب السعادة عباً، ولسوف تتنزل عليك السكينة تنزلاً.

    وبعد -أيها الإخوة- فهذا هو الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وإن فيه حزناً لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وإن فيه قلقاً لا يسكنه إلا الفرار إليه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، وفيه حسراتٌ لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، والصبر على قضائه إلى يوم لقائه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4].

    نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    حياة الأشقياء

    الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأضحك وأبكى، وأسعد وأشقى، أحمده سبحانه وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الأبر الأتقى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه آمنوا بربهم وصدقوا بالحسنى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فاتقوا الله -أيها الناس- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.

    أيها المسلمون: إن البصير لا يأسى، فإن الأسى كله وأشده لأقوامٍ مخذولين تنكروا لفطرهم، وأظلمت بالشكوك قلوبهم .. لم تنفذ إليهم أشعة الإسلام بسكينة، ولا تسربت إليهم أنوار اليقين براحة، أولئك الأشقياء المطموسون الذين يجادلون في الله بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير .. مساكين ثم مساكين، دخلوا الحياة وخرجوا منها ولم ينعموا بأطايب ما فيها، وأعظم ما فيها الإيمان بالله والاحتماء بجنابه .. خسروا أنفسهم وخسروا حياتهم .. الساخطون الشاكون لا يذوقون للسرور طعماً .. حياتهم سوادٌ ممتد، وظلامٌ متصل، وليلٌ حالك، لا يرقبون الفجر الصادق.

    الشك والتسخط والرضا واليقين

    والغريب -أيها الإخوة- أن هناك ترابطاً وثيقاً بين الشك والتسخط، فلا سخط من غير شك؛ فلا تكاد ترى سخطاً من غير شك، ولا شكاً من غير تسخط.

    قال ابن القيم رحمه الله: قلَّ أن يسلم الساخط من شكٍ يداخل قلبه، وإذا فتش نفسه وجد يقينه معلولاً مدخولاً.

    فالرضا واليقين إخوان، والسخط والشك قرينان .. والساخط المتسخط دائم الحزن والكآبة، ضيق النفس والصدر، ضائقٌ بالناس وضائقٌ بنفسه، الدنيا في عينيه مثل سم الخياط.

    أما الرضا فهو سكون وطمأنينه، وراحة فيما قدر الله واختار .. من أنعم الله عليه بالرضا تأتيه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، لا يصبح ولا يمسي إلا راضياً مرضياً، لا يرى إلا الحسن والسرور، فإن عين الرضا تعمى عن العيوب، وعين السخط تملؤها المساوئ .. وليس من شرط الرضا ألا تحس بالمكاره، ولكن الرضا ألا تعترض على المقادير، ولا تتسخط على المكتوب.

    هنيئاً لمن ملأ الرضا فؤاده، فإنه لا يتحسر على ماضٍ باكياً حزيناً، ولا يعيش حاضراً ساخطاً جزوعاً، ولا ينتظر المستقبل خائفاً وجلاً، ولا يعيش في رهبة من غموض، ولا توجسٍ من جبروت .. إيمانه مصدر أمانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]

    هذا وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى نبيكم محمدٍ المصطفى، فقد أمركم بذلك ربكم عزَّ وجل فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الرحمة المهداه، والنعمة المسداه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الدين، اللهم واحمِ حوزة الدين.

    اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

    اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، وأصلح له بطانته، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.

    اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.

    اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.

    اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

    ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756228786