إسلام ويب

الأخفياءللشيخ : إبراهيم الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من هو هذا العبد الخفي؟! ومن هم الأخفياء؟! إنهم أولئك الذين عرفوا ربهم، فأحبوه وأحبهم .. إنهم الأنقياء الأتقياء .. إنهم الجنود المجهولون .. الناصحون العاملون .. إنهم الراكعون الساجدون في الخلوات .. إنهم الذين يسعون في ظلمة الليل ليتمسسوا أحوال الضعفاء المساكين، والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال .. إنهم أولئك الذين لا يعرف الناس أعمالهم، ولكن الله يعرفهم وكفى بالله شهيداً.

    1.   

    حقيقة الأخفياء

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .

    أما بعد:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    وهذه ليلة الإثنين (23/10/ 1414هـ) وعنوان هذا اللقاء: (الأخفياء).

    ولقد كنت قد تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قوله: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (الخفي)، فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود، من هو هذا العبد الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى؟!

    فقلت: لربما أنهم الذين عرفوا ربهم، وعرفهم سبحانه وتعالى، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم.

    وقلت: ولربما أنهم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس.

    وقلت: فلربما أنهم هم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة، فكم من ناصح.. ومن مرب.. وداع للحق لا يعرف، وكلمة.. ورسالة.. وشريط طار في كل مطار، فسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء، فهنيئا لهم!

    وقلت: فلربما أنهم أيضاً هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء، وكم من دمعة بللت الأرض، وبهذه الدمعات وهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا، ورزقنا وسقانا ربنا.

    وقلت: فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل، ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال؛ ليفكوا بها كربة مكروب، وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شريدة الحال كثيرة العيال.

    وقلت: فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس، أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم، وكفى بالله شهيداً.. فهنيئاً لهم.

    ثم قلت: وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعاً، وأن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء؟!

    ولذلك ترددت كثيراً في الحديث عن هذا الموضوع، فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم، وأستغفر الله جل وعلا، ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا، وقد قالها عبد الله بن المبارك :

    لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم     ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد!!

    رحمك الله يا بن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك، فماذا نقول إذاً نحن عن أنفسنا؟!

    ورحم الله القائل:

    أحب الصالحين ولست منهم     وأرجو أن أنال بهم شفاعه

    وأكره من سجيته المعاصي     وإن كنا سواء في البضاعه

    1.   

    سبب الحديث عن الأخفياء

    أولاً: الأسوة والاقتداء بالأخفياء

    كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة .. فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟!

    والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله.

    يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب..

    أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار.

    همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، إلا من رحم الله منا.

    وانظر لحالنا كأمة .. ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ، ومذبحة في السودان!

    أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا:

    رب وامعتصماه انطلقت     ملء أفواه الصبايا اليتم

    لامست أسماعـهم لكنها     لم تلامس نخوة المعتصم

    إذاً.. فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله.

    وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي ؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم.

    ثانياً: لأهمية الإخلاص وخطر الرياء

    ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله.

    ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله)!

    أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله.

    وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!]

    انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟!

    يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله.

    فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية.

    ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم.

    لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع.

    وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه.

    1.   

    الخفاء في الكتاب والسنة

    الخفاء منهج شرعي، لذلك اسمع -أيها المحب- لقول الحق عز وجل في الصدقة: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] فهو خير لكم! فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها.

    ويقول سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].

    ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه) انظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة، فقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وقال أيضاً الحافظ ابن حجر : وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة.

    وفي الحديث نفسه صورة أخرى يذكرها صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

    ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلاً على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، ووجه الدلالة من هذا الحديث على أن الخفاء منهج شرعي، هو: أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فأصبحوا يتحدثون) بل وقع في لفظ صريح كما في مسلم بقوله صلى الله عليه وسلم على لسان الرجل: (لأتصدقن الليلة) فدل ذلك على أن صدقته كانت سراً في الليل، إذ لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهاراً لما خفي عنه حال الغني، بخلاف حال الزانية والسارق، فالغني ظاهر حاله، فلذلك كانت الصدقة سراً في الليل.

    وأيضاً حديث صلاة النافلة في البيوت، فمن حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وإسناده صحيح.

    وروى الطبراني من حديث صهيب بن النعمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع).

    انظر الشاهد: (حيث يراه الناس)، إذاً فالاختفاء عن أعين الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل.

    ومن حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، كما أخرج البخاري ومسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به).

    ومن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره) أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي وإسناده صحيح.

    -الخفاء عند السلف :

    وذكر الذهبي في السير في ترجمة عبد الله بن داود الخريـبي، أنه رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يستحبون -أي: السلف الصالح - أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها!!

    وذكر الإمام وكيع بن الجراح في كتابه الزهد، والإمام هناد بن السري في كتاب الزهد أيضاً أن الزبير بن العوام قال: [من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل].

    وسنذكر بمشيئة الله صوراً عديدةً لحياة كثير من السلف تدل على أن هذا الأمر كان منهجاً لهم، وكانوا يحرصون عليه ويتمسكون به.

    1.   

    أزمان يستحب فيها إخفاء الأعمال

    قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم: وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيئاً أبداً؟!

    الإجابة على هذا السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين عندما قال: فصل: قوله ولا مشاهداً لأحد فيكون متزيناً بالمراءاة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا فيه تفصيل أيضاً؛ وهو أن المشاهدة -والمشاهدة يقصد بها مشاهدة الناس لك أثناء العمل- فالعمل لغير الله نوعان: أولاً: مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه -تبعث على العمل أو تقوي هذا العمل- فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة، كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضاً من الآفات والحجب، أي: كما أن المشاهدة التي تجعلك تقطع العمل بتاتاً أيضاً هي من الآفات والحجب.

    ثم يقول: ومشاهدة -أي أخرى- لا تبعث عليه ولا تعين الباعث، بل لا فرق عنده -أي: صاحبها- بين وجودها وعدمها، لا يهمه يراه الناس أو لا يراه، فهذه لا تدخله في التزين والمراءاة، ولا سيما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة.

    يقول ابن القيم : إما حفظاً ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها، أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة، أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسناً إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص، أو قصداً منك للاقتداء وتعريف الجاهل، فهذا رياء محمود، والله عند نية القلب وقصده.

    ثم يقول رحمه الله تعالى: فالرياء المذموم أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح، والرغبة فيما عند من ترائيه، أو الرهبة منه، وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك؛ فليس في هذه المشاهد رياء، بل قد يتصدق العبد رياءً وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر.

    مثال ذلك يقول ابن القيم : رجل مضرور سأل قوماً ما هو محتاج إليه فعلم رجلٌ منهم أنه إن أعطاه سراً حيث لا يراه أحد لن يقتدي به أحد، ولم يحصل له سوى تلك العطية، وأنه إن أعطاه جهراً، اقتدي به واتبع، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية، فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين . اهـ.

    وينقل لنا الحافظ ابن حجر أيضاً في فتح الباري ، لما تكلم عن صدقة الفرض وصدقة النفل، وهل الأفضل إعلانهما أو إخفاءهما، قال رحمه الله تعالى ينقل عن الزين بن المنير: لو قيل إن ذلك يختلف -أي الإخفاء أو الإظهار- باختلاف الأحوال لما كان بعيداً، فإذا كان الإمام مثلاً جائراً ومال من وجبت عليه -أي: الزكاة صدقة الفرض- مخفياً؛ فالإسرار أولى، وإن كان المتطوع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده، فالإظهار أولى. اهـ .

    ومن هنا نعلم أنه ليس دائماً تخفى الأعمال، بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى.

    1.   

    أخفياء.. ولكن!

    يكثر في هذا الزمن الأخفياء، ولكنهم أخفياء من نوع آخر، أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم.

    هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً) نعوذ بالله! يقول راوي الحديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم!).

    اسمع ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول: (ألا نكون منهم ونحن لا نعلم)!! فرحمك الله يا ثوبان ورضي الله تعالى عنك!

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح.

    وأخفياء من نوع آخر، وهم المقصرون الفاترون، أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله، فقلت له مثلاً: ماذا حفظت من القرآن؟! وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟!

    أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يرى حاله على حقيقتها، فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه، وتقول له: ماذا قدمت للإسلام؟! وهل تنكر المنكرات؟! وهل.. وهل.. إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه؛ لأجابك هذا الشخص بقوله: هذا بيني وبين الله!! وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟؟!!

    انظر هو الآن يظهر لنا الإخلاص، لكنه يخفي الحقيقة.. ما هي الحقيقة؟! أنه قصّر في أعماله وأنه قد لا يكون عنده شيء، ولا حفظ من القرآن شيئاً وإن حفظ فالقليل، قد لا يكون قدم للإسلام شيئاً وإن قدم فالقليل القليل، وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة، فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك: هذا بيني وبين الله، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟!!

    فانظر كيف وقع هذا المسكين، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر، وما أكثر أولئك وللأسف، وهذا لا شك خداع للنفس، وتشبع بما لم يعط، وهكذا التصنع والتزين والتظاهر.

    أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبداً أن يخفيها يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا.

    ويقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، واسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يقول: [فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله]. ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين.

    1.   

    عقبات في طريق الأخفياء

    وانتبه لهذه العقبات! والعقبات في طريق الأخفياء -يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة- كثيرةٌ جداً.

    فالحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص طويلٌ جداً، ولكني أسوق هنا عقبتين من هذه العقبات للاختصار:

    العقبة الأولى: الرياء الخفي

    هو ما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء رحمه الله تعالى، حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي، قال: (وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس، وهو لم يظهر العمل والعمل خفي بينه وبين ربه، ولكنه -يريد مادام أنه عمل- نظر لنفسه فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس، فإن قصر الناس في هذه الأمور، إذن استبعد نفسه ونظر لحاله، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه... إلى آخر كلامه.

    العقبة الثانية: ذم النفس عند الناس

    صورة أخرى من العقبات في طريق الأخفياء، وهي ما أشار إليها ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه شرح حديث ما ذئبان جائعان قال: وهنا نكتة دقيقة، وهي: أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح ، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : [كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه!].

    1.   

    الضابط الصحيح للإخلاص والرياء

    ما هو المعيار في الإخلاص والمعيار في الرياء؟!

    ولا بد أن ننتبه لهذا الأمر، ولعلكم تتساءلون، فالقضية حساسة وقد تصيب النفس بالخواطر والهواجس، وقد ينشغل الإنسان لملاحظة نفسه في هذا الباب!

    إذاً ما هو المعيار والميزان الدقيق والضابط الصحيح في معرفة أنني مخلص أو غير مخلص؟!

    - استواء الظاهر والباطن:-

    ذكر ذلك أهل العلم، فبينوا أن الضابط في الإخلاص هو: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن .

    أي: أن تستوي أعمالك في ظاهرك وباطنك، هذا معيار الإخلاص.

    وأما الضابط في الرياء هو: أن يكون ظاهرك خيرٌ من باطنك.

    وأما صدق الإخلاص: أن يكون الباطن خيرٌ من الظاهر، ليست القضية أن يستوي الظاهر والباطن، فهذا هو الإخلاص.

    - ترك العمل خوفاً من الرياء أمام الناس:-

    وهنا تنبيه هام جداً لا بد أن ننتبه له عند الحديث أو الكلام عن الإخلاص أو الرياء كما ذكرت، لأنه مسلك شائك، ولا ينبغي للإنسان أن يترك كثيراً من أعمال الخير بحجة الخوف من الرياء.

    انتبه يا أخي الحبيب! وانتبهي أيتها الأخت المسلمة! لا ينبغي لكَ ولا ينبغي لكِ أن تترك كثيراً من الأعمال بحجة الخوف من الرياء، أو حتى أن تفتح على نفسك باب الهواجس والوساوس فيقع الإنسان فريسة لهذا الأمر، فيدخل الشيطان على القلب فيصبح الإنسان دائماً في وساوس وهواجس حول هذا الباب.

    ولذلك اسمع للإمام النووي رحمه الله تعالى، وهو يقول كلاماً جميلاً جداً حول هذا الأمر المهم في كتاب الأذكار: فصل: الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل، ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفاً من أن يظن به الرياء، بل يذكر بهما جميعاً، ويقصد به وجه الله تعالى، وقد قدمنا عن الفضيل رحمه الله تعالى: أن ترك العمل لأجل الناس رياء، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريقة العارفين. انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو كلامٌ نفيسٌ جداً.

    واسمع لكلام ابن تيمية رحمه الله عندما يقول: ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سراً لله، مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص.

    وبعض الناس يدخل على بعض الناس من باب أن ينهاه عن أمر لا يفعله أمام الناس. لماذا؟! يقول: خشية الرياء!

    يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه من وجوه:

    الأول: أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفاً من الرياء، بل يؤمر بها وبالإخلاص فيها، فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياءً.

    الثاني: أن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم).

    الثالث: أن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين، فإذا رأوا من يظهر أمراً مشروعاً قالوا: هذا مراءٍ!! فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذراً من لمزهم، فيتعطل الخير.

    الرابع: أن مثل هذا -يعني إنكار الناس على عمل مشروع بحجة أنه رياء- من شعائر المنافقين، وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].انتهى كلامه مختصراً من الفتاوى .

    1.   

    صور من حياة الأخفياء

    نأتي الآن وبعد هذا المشوار للب هذا الدرس، وهو صور من حياة الأخفياء.

    وأسوق إليكم -أيها الأحبة- هذه الكوكبة والمواقف والأحداث في حياة أولئك الأخفياء، وهي مليئة بالدروس والعبر لمن تفكر وتدبر ونظر، فسير الصالحين المخلصين مدرسة تخرج الرجال والأجيال، ولعلي أكتفي بسرد هذه الصور، أولاً: طلبا للاختصار، وثانياً: حتى لا أقطع عليك لذة هذه المواقف والعيش معها برفعة إيمان وسمو روح ورقة في القلب، فاسمع لهذه القصص ولهذه الأحداث:

    الأخفياء وحالهم مع الصدقة على الفقراء والمساكين

    - أمير المؤمنين عمر في ظلمة الليل:

    خرج عمر بن الخطاب يوماً في سواد الليل وحيداً حتى لا يراه أحد، ودخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، ورآه رجل لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه، رآه طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فظن أن في الأمر شيئاً، أوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر هذا البيت؟! ولماذا وحده؟! ولماذا في الليل؟! ولماذا يتسلل؟! ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟! ارتاب طلحة في الأمر، والأمر عند طلحة يدعو للريبة.

    ولما كان الصباح، ذهب طلحة فدخل ذلك البيت، فلم يجد إلا عجوزاً عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟! وكانت المرأة لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قالت العجوز العمياء المقعدة: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج الأذى عن بيتي. أي يكنس بيتها ويقوم بحالها ويرعاها عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    ولا نعجب! لا نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكم من المرات فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، فهذه المواقف ليست عجباً في حياة عمر ، ولكننا نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد، وفي الليل، في سواد الليل، ويمشي لواذاً خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله.

    - زين العابدين وصدقة السر:-

    ومثل ذلك سار عليه أيضاً زين العابدين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، علي بن الحسين ، فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة : أن علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل). وهذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة لا تخلو أسانيدها من مقال، ولكنها بمجموع الطرق صحيحة، وقد صحح ذلك الألباني رحمه الله في الصحيحة .

    وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟! قالوا: كان يحمل جرب الدقيق -يعني: أكياس الدقيق- ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة .

    وذكر ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    - ابن المبارك يفك أسر صاحبه:-

    وعن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس ، وكان ينزل الرقة في خان -يعني في فندق- فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب، وكان مستعجلاً -أي عبد الله بن المبارك - فخرج في النفير -أي: في الجهاد- فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه، فقال عبد الله : وكم مبلغ دينه؟ فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبد الله حياً، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس، وأدلج عبد الله -أي: سار في آخر الليل- وأخرج الفتى من الحبس، وقيل له: عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج، فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال عبد الله بن المبارك للفتى: أين كنت؟! لم أرك في الخان! -انظر عبد الله يتصانع رضي الله عنه أنه ما علم عن حال الفتى- قال: نعم. يا أبا عبد الرحمن ! كنت محبوساً بدين، قال: وكيف كان سبب خلاصك؟! قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس، فقال له عبد الله : يا فتى! احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك. فلم يخبر ذلك الرجل أحداً إلا بعد موت عبد الله .

    الأخفياء وحالهم مع العبادة

    - الأخفياء والصلاة

    ففي الصلاة مثلا: قالت امرأة حسان بن سنان : كان يجيء فيدخل معي فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت، سل نفسه فخرج ثم يقوم يصلي، قالت: فقلت له: يا أبا عبد الله ! كم تعذب نفسك، ارفق بنفسك! فقال: اسكتي ويحك! فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زماناً.

    وعن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة.

    - الأخفياء والصيام

    وفي الصيام: من أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير قال: قال الفلاس: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق.

    وكان بعضهم إذا أصبح صائماً ادهن ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يرى أنه صائم.

    - الأخفياء وقراءة القرآن

    وفي قراءة القرآن: ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن سفيان قال: أخبرتني امرأة الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.

    أي: إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يرى الرجل أنه يقرأ القرآن.

    الأخفياء والبكاء من خشية الله

    قال محمد بن واسع : لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه على رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته.

    ويقول رحمه الله تعالى: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه!

    وذكر الذهبي في السير عن حماد بن زيد رضي الله تعالى عنه ورحمه قال: كان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول: ما أشد الزكام!

    يظهر رحمه الله تعالى أنه مزكوم لإخفاء البكاء.

    هكذا كان حرصهم على هذه الصفة، صفة الخفاء في الأعمال، تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة؛ كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، ذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد يوم قال: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام.

    قمة الخفاء عند السلف

    واسمع لهذه القصة العجيبة الغريبة، ووالله لقد أدهشتني هذه القصة -واسمع لها يا أخي الحبيب- وهي قصة طويلة، فسر مع أحداثها وفصولها، وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة ، وذكرها أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء ، عن محمد بن المنكدر وفي ترجمته قال -أي محمد بن المنكدر -:

    كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس أصلي إليها الليل، فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فتساندت إلى ساريتي، فجاء رجل أسود تعلوه صفرة متزر بكساء، وعلى رقبته كساء أصغر منه، فتقدم إلى السارية التي بين يدي وكنت خلفه، فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال: أي رب.. أي رب! خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم -يعني إلا أن تسقيهم- يقول ابن المنكدر: فقلت: مجنون! قال: فما وضع يده حتى سمعت الرعد، ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي -يعني: من كثرة المطر- فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، قال: ثم قال: ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكن عذت بحمدك وبطولك.

    ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزراً به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل قائماً يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه، فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب.

    فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها، وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائماً حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه، فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل داراً عرفتها من دور المدينة، ورجعت إلى المسجد.

    فلما طلعت الشمس وصليت؛ خرجت حتى أتيتُ الدار فإذا أنا به قاعد يخرز، وإذا هو إسكاف -يعني: يرقع الأحذية- فلما رآني عرفني وقال: أبا عبد الله مرحباً، ألك حاجة؟ تريد أن أعمل لك خفاً؟ فجلست فقلت: ألست صاحبي بارحة الأولى؟! فاسود وجهه وصاح بي وقال: ابن المنكدر ما أنت وذاك؟! قال: وغضب ففرقت والله منه -أي خفت والله من غضبه- وقلت أخرج من عنده الآن، فلما كانت الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجئ، فقلت: إنا لله ما صنعت! إنا لله ما صنعت!

    فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح، وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟! قلت: ما له؟ قالوا: لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلداً ولا قالباً إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب، يقول ابن المنكدر : فما تركت في المدينة داراً أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله.

    خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عرف خرج من المدينة كلها، فهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله.

    يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة! أترك لكم هذه القصة العجيبة، أتركها لكم لتعيشوا معها ولتقفوا معها، وانظروا إليها وإلى أنفسكم لنرى من أنفسنا عجباً.

    وذكر الذهبي في السير بإسناده إلى جبير بن نفير : [أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق! -أبو الدرداء يتعوذ بالله من النفاق!- فأكثر التعوذ فقال له جبير : وما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟! فقال أبو الدرداء : دعنا عنك.. دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه]. وقال الذهبي : إسناده صحيح.

    الأخفياء وحالهم مع الجهاد

    ذكر الذهبي أيضاً عن أبي حاتم الرازي قال: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله -أي: الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو- فقتله فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك ، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت من طرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال -أي عبد الله بن المبارك لـعبدة بن سليمان المروزي -: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا! يعني: يفضحنا.

    وعن عبيد الله بن عبد الخالق قال: سبى الروم نساءً مسلمات، فبلغ الخبر الرقة وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين، فقيل لـمنصور بن عمار -أحد العلماء-: لو اتخذت مجلساً بالقرب من أمير المؤمنين فحرضت الناس على الغزو، ففعل منصور بن عمار ، وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم، يقول: إذ نحن بخرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار ، وإذ بكتاب مضموم إلى الصرة، ففك الكتاب فقرأه فإذا فيه: إني امرأة من أهل البيوتات من العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك، فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتي -يعني جديلتي- فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرسٍ غاز في سبيل الله، فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال فينظر إلي نظرة فيرحمني بها. قال: فبكى منصور بن عمار وأبكى الناس، وأمر هارون أن ينادى بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى بالروم وفتح الله عليهم.

    وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول:

    كيف القرار وكيف يهدأ مسلم     والمسلمات مع العدو المعتدي

    الضاربـات خدودهن برنة     الداعيات نبيهن محمـد

    القائلات إذا خشـين فضيحة     جهد المقالة ليتنا لم نولـد

    ما تستطيع وما لهـا من حيلة     إلا التستر من أخيها باليـد

    أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات، لينظرن أن المرأة المسلمة إذا أخلصت لله وكان همها العمل لله، فإنها دائما تبحث عن العمل أياً كان هذا العمل، لا يقف أمامها ذلك السؤال: ماذا أعمل وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع؟! فإن من اهتم لأمر عمل وفكر بالعمل ووجد ماذا يعمل، هذه المرأة علمت وسمعت واهتمت واحترق قلبها، فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها، أكرم شيء في بدنها، حتى يصنع من هاتين الجديلتين قيد لفرسٍ غازٍ في سبيل الله.

    وأقول: ماذا قدمت أيتها المسلمة للمسلمات وأنت تسمعين الروم الآن كيف يفعلون بهن؟! وماذا قدمت يا أخي الحبيب؟! وماذا فعلنا وماذا فعلت للمسلمين في كل مكان والروم وغيرهم ترون وتسمعون بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يفعلون بالمسلمات؟!

    الأخفياء وحالهم مع العلم

    جاء في ترجمة الإمام الماوردي رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه: وفيات الأعيان قال: إن الماوردي لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه: إن الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة، قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي؛ فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده.

    وقبله كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأؤجر عليه ولا يحمدوني.

    فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يظن أن حمد الناس له منقصة في الأجر، ونقص في صفة الخفاء، تلك الصفة التي عشقت منهم رحمهم الله تعالى.

    وينقل الذهبي أيضاً في السير قول هشام الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل!

    سبحان الله! القائل هشام الدستوائي !

    يقول الذهبي معلقاً على هذا الكلام: والله ولا أنا! فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً؛ لا لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق..، إلى آخر كلامه في السير لمن أراد أن يرجع إليه.

    فإذا كان هذا كلام هشام وكلام الذهبي رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، فماذا يقول إذاً طلاب العلم اليوم؟! بل ماذا يقول المتعالمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى؟!

    ويصل الخفاء منتهاه عند أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه، قال محمد بن منصور : كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها إلى الأرض -يعني: في المسجد- فرأيت البخاري ينظر إليها وينظر إلى الناس، فلما غفل الناس عنه رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها إلى الأرض.

    سبحان الله!! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفاءها بدقة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

    هذه المواقف وهذه الصور من حياة أولئك الأعلام وأولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من عمل، الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، وتلك الأعمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا فتكشف الأعمال وتكشف الصحف، فإذا الصحف مليئة بتلك الأعمال، وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل.

    أيها الأخ الصالح! هذه القصص والصور ليست لمجرد القص والحديث، بل هي للعبرة والعظة -يا أخي الحبيب..- أنت تجلس في المجالس وتتحدث مع الآخرين، ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها، أو في الغيبة والنميمة والكلام عن فلان وعلان؟!

    يا أختي المسلمة لنعلم مثل هذه المواقف، ولنحفظ شيئاً منها وإن كان قليلاً، ولنملأ مجالسنا بذكرها حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور، ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال، فيتخرج الأجيال من مدارسهم رحمهم الله تعالى بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم.

    1.   

    الأخفياء في كلمات

    قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: ما رأيت أحداً ارتفع مثل مالك ، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة.

    إذاً فالقضية ليست قضية كثرة صيام ولا صلاة، وإنما بالإخلاص والإخفاء في هذه الأعمال.

    وقال ابن وهب : ما رأيت أحداً أشد استخفاء بعمله من حيوة بن شريح ، وكان يعرف بالإجابة، أي: بإجابة الدعاء.

    وقال يوسف بن حسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر.

    واسمع لقوله رحمه الله: وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فالاجتهاد في البعد عن الرياء والتسميع وطلب محمدة الناس وثنائهم أمر كانوا يعانون منه رحمهم الله تعالى.

    وقال ابن القيم: أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص، وعن نفسك بشهود المنة، فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق.

    وقال الأخفياء رحمهم الله تعالى وصاحوا بملء أفواههم لمن لا يخلص نيته ولمن غفل عن هذا الأمر، صاحوا بقولهم كما يقول مالك بن دينار: قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى.

    فقولوا -أيها الأحبة- لمن لم يكن صادقاً بعمله ومخلصاً لعمله لله سبحانه وتعالى لا يتعنى، لا يتعب نفسه، فقد رأيتم وسمعتم أولئك الثلاثة وتلك الطاعات العظيمة التي أصبحت وبالاً على أصحابها فكانوا أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة -والعياذ بالله-، فقولوا ورددوا وصيحوا بأعلى أصواتكم لمن لم يكن صادقاً في عمله وفي دعوته وفي أفعاله كلها لا يتعنى، لا يتعب نفسه!

    1.   

    الطريق الموصل إلى حياة الأخفياء

    ما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء؟! ما هو العلاج؟!

    والوصول لطريق الأخفياء رحمهم الله تعالى ألخصه بالنقاط التالية:

    الدعاء والإلحاح فيه

    مواصلة الدعاء وتحري ساعات الإجابة، وأهمه الاستمرار في الدعاء، والإلحاح فيه، لا تملّ ولا تكلّ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وعلمنا في الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره عندما قال: (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) احفظ هذا الدعاء وكرره كثيراً، واسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال.

    الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين

    إن وجدت عليهم في هذا الزمن فعض عليهم بالنواجذ، وإن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء، والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بقراءة أقوالهم والنظر في الكتب والتراجم، للاطلاع على تلك الأحوال، ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك.

    معرفة عظمة الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته

    اعرف من تعبد، ولمن تعمل، وعظمة الله جل وعلا، واملأ قلبك بتوحيد الأسماء الصفات تطبيقاً عملياً حتى تعظم الله، وقديماً قالوا: (من كان بالله أعرف كان لله أخوف) ومن عظم الناس خاف من الناس وعمل للناس وسمع للناس وطلب ثناء الناس ومحمدة الناس، ولكن الله هو الذي سيجازيك وهو الذي يحاسبك.

    الحرص على خبء من عمل صالح

    احرص دائماً أن يكون لك سر بينك وبين الله جل وعلا، لا يعلمه أحد من الناس، إن استطعت حتى ولا زوجك! إن استطعت أن تفعل عملاً بينك وبين الله لا يعلم عنه أقرب الأقربين إليك، فلا شك أن هذه الأعمال هي المنجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.

    الخوف من عدم قبول العمل

    دائماً كن خائفاً على عملك أن لا يقبل، وأن يخالط هذا العمل رياءٌ أو سمعةٌ، مع الانتباه لذلك التنبيه المهم الذي أشرنا إليه أثناء الموضوع، وقد تقدم الكلام عن ذلك، وأخشى أن تقدم على الله تعالى بتلك الأعمال الكثيرة والأقوال الكثيرة فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، عافانا الله وإياك من حال أولئك.

    تذكر ثمرات الإخلاص

    تذكر هذه الثمرات، وحلاوة القلب، وحب أهل السماء للمخلص، ووضع القبول له في الأرض، ومحبة الناس له، وطمأنينة القلب، وحسن الخاتمة، واستجابة دعائه، والنعيم له في القبر وفي الآخرة.

    1.   

    الأسئلة

    أهم علامات الإخلاص التي تظهر على العبد المؤمن

    السؤال: ما هي أهم علامات الإخلاص في الإيمان والتي تظهر على المؤمن الحق خاصة في هذا الزمان التي يظهر فيه الفتن من كل جانب؟

    الجواب: محبة الناس له، المحبة القلبية من الناس، لا ينظر للناس إنما ينظر لله، ظاهره وباطنه سواء، تجد أن الكلمة مباركة منه، حديثه من القلب للقلب، وهكذا علامات كثيرة مما ذكرتها وغيرها كثير.

    ولكن إياك أن تخضع للوساوس والهواجس التي قد تقطع عليك حلاوة العمل، وقد تترك كثيراً من أعمال الخير، وأؤكد وأكرر لأهميتها ولوقوع كثير من الناس فيها: قد تقطع على نفسك كثيراً من أبواب الخير بسبب أنك لم تخلص في هذا العمل! وهذا غير صحيح ولا يوافق عليه أبداً!

    من مداخل الشيطان على الناس

    السؤال: إذا كان الإنسان لا يتصدق أمام الناس مخافة من الرياء، وهو بهذا العمل لا يقصد الرياء والسمعة، هل الشيطان يدخل في هذا الباب؟

    الجواب: نعم. لا شك في أن الشيطان يدخل في هذا الباب، ويحرص دائماً أن يفوز من الإنسان بأي شيء ولو كان قليلاً، فهو لا شك يريد من الإنسان الكفر، فإن لم يحصل على ذلك فهو ينزل بالتدريج حتى ولو بالوسوسة في قلب الإنسان لإخراج حلاوة العمل وحلاوة الإيمان منه.

    أما قولك إذا كان لا يتصدق أمام الناس مخافة من الرياء، فلا شك أن صدقة السر أولى وخير -كما سمعنا- ولكن لا يعني هذا أننا لا نتصدق، فقد يكون الحال الآن لا نستطيع أن نخفي الصدقة كما لو أن إنساناً سأل هنا، وكان السائل بحاجة وبحق فلا نملك أن نرد أو أن نقول إذاً: نخفي الصدقة، فلا يمكن أن نخفيها الآن، فيخرج ويذهب ويخفي الصدقة. لا. بل يتصدق ويحاول أن يخفيها بقدر ما يستطيع.

    وإن كان هناك مصلحة راجحة -كما ذكرنا- لإظهار هذه الصدقة تعليماً أو قدوة أو غيرها مما ذكر فلا بأس، وهذا من الرياء المحمود، بل قد ينالك أجر من تصدق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فكيف يكون ذلك لولا أنك تفعل ذلك أمام الناس؟ تقوم وتفعل ذلك الفعل ظاهراً أمام الناس فيقوم الناس ويفعلون ذلك، فلا شك أن هذه الأدلة وغيرها مما ذكرنا قبل قليل دليل على أن إظهار الأمر في بعض الأحايين يكون أفضل من إخفائه، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص كما ذكر ذلك ابن المنير كما تقدم.

    الأفضل في أعمال من هو قدوة حسنة

    السؤال: ما رأيك في قدوة يقتدى به؛ هل الأفضل له الإسرار أم الإعلان؟

    الجواب: أجبنا وتكلمنا عن هذا، ولكن ليس للقدوة دائماً أن يُظهر أعماله من أجل أن يقول: إنه قدوة، أما الأعمال التي تظهر والتي تعود أن يظهرها من السنن وغيرها أمام الناس، أو أن يفعلها في الخفاء والسر فلا يمنعه أن يفعلها أمام الناس، لأن بعض الناس قد تعود مثلاً أن يصلي ركعتي الضحى ولا يجلس في المجلس حتى يصلي الركعتين، فيقول: المسجد اليوم فيه ناس، فأخشى إن فعلت ذلك يقولون: هذا فيه وفيه!!

    لا! تعودت أن تفعل ذلك سواء كنت أمام الناس أم خافياً عن أعين الناس فافعل ذلك ولا يهمك -وهذه النقطة أكررها كثيراً- لا يهمك ملاحظة الناس وإياك أن تفتح على نفسك باب ملاحظة الناس -كما ذكر الإمام النووي ذلك- لا تفتح على نفسك باب ملاحظة الناس والنظر إلى أقوالهم وأفعالهم أو نظراتهم إليك؛ فتغلق على نفسك باب العمل! لا! بل اعمل!

    أما إن كان قدوة فلا بأس أن يفعل بعض الأعمال إن كان الناس يرونه، وإن كان الناس يفعلون بفعله، ولكن بشرط أن الله عند نية العبد وقصده، لا يهمه نظر الناس إليه أم لم ينظروا، لا يهمه فعل ذلك ظاهراً أم خافياً عن أعين الناس، الأمر عنده سواء، فإن وجد في نفسه شيئاً فليترك العمل، وإن أدخل الشيطان على قلبه مداخل فليترك العمل أمام الناس ولا يقول إنني قدوة!

    وليخف كثيراً من الأعمال بينه وبين ربه، حتى القدوة يجب أن يكون بينه وبين ربه أسرار وأسرار -كما ذكرنا- وقد سمعت كثيراً من القدوات الذين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أخفوا أعمالهم بينهم وبين ربهم.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله جل وعلا أن يعفو عنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يعيذنا وإياكم من الرياء والتسميع، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756006136