والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الحديث أوجهه إلى كل مبتلى، إلى كل مَن أصيب بمصيبة، ونزلت عليه بلية، إلى كل مهمومٍ مغموم، إلى كل مكروبٍ منكوب، إلى كل مَن تعرضت له كارثة، وسَمِع بفاجعة، أوجه هذا الحديث: (وبشر الصابرين).
وهل منا إلا مكروبٌ، أو مهمومٌ، أو مغموم!
التفت إلى مَن حولك مِن الناس جميعاً؛ هل تجد فيهم إلا منكوباً، أو مكروباً، أو مهموماً، أو مغموماً؛ إما بفقد حبيب، أو بحصول مكروه، أو بنزول مرض، أو بسماع فاجعة، أو بغيرها من البلايا، أوجه هذا الحديث إلى كل مَن أوذي، إلى كل مَن ظُلم، إلى كل من قُهر، إلى كل من أصيب بمصيبة، أقول لهم: قال الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156] (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أي: أول ما تأتيه المصيبة؛ سَمِع بوفاة القريب، أو بفقد الحبيب، أخبره الطبيب بالمرض، يا لها من فاجعة! سوف تموت ولا بد، إن المرض قد استشرى في الجسد، سمع بالخبر، فأتته المصيبة، ماذا يقول؟
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].
إلى هؤلاء جميعاً أوجه حديثي، وأرسل هذه الكلمات؛ من الروح إلى الروح، ومن القلب إلى القلب، أقول لكل واحد منهم: عظَّم الله أجرك، ورفع درجتك، وجبر كسرك، واسمع! فإنها الدنيا، ألم تعرفها إلى الآن؟! ألم تدر أنها كما قيل:
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار |
إنها الدنيا! ابن عباس كان في سفر، فجاءه خبر مفزع، ما الخبر؟ مات ابنه، ابن ابن عباس مات، ويأتيه الخبر وهو بعيد عنه، وهو ليس بجنبه، هو في السفر، ماذا فعل ابن عباس؟ هل شق جيباً؟ هل لطم خداً؟ هل نفش شعراً؟ هل صاح بأعلى صوته؟ تنحى عن الطريق، ثم كبر، ثم صلى ركعتين، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فعلنا كما أمرنا ربنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] صَبَر وصَلَّى ركعتين، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. هل عندما تأتيك المصيبة تكون هذه حالك؟!
أحد الشعراء يسمى: أبا الحسن التهامي ، مات ابنه الصغير، والابن ليس كغيره، موت الابن يعرفه مَن مات له ابن، يعرف كيف الابن غالٍ! قطعة من الكبد قد ذهبت، يتمنى الأب أن لو مات ولم يرَ وفاة ابنه، عندما مات ابنه أنشد شعراً فقال:
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار |
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار |
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري |
وما هي إلا فترة من الزمن فيموت الشاعر، فيُرى في المنام، فيقال له: ماذا صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قالوا: وبم أدخلك الجنة؟ قال: بهذا البيت:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري |
لو كل من مات له حبيب، أو صاحب، أو ابن، أو قريب فكر بهذا، فنحن الآن في سجن، فإذا مات كأنه أطلق من هذا السجن، وكأنه خرج منها، أليست الدنيا سجن المؤمن؟
فكر! فكر يا من مات قريبه! يا من مات حبيبه! يا من مات صاحبه! أليست الدنيا سجن المؤمن؟ فإذا مات خرج من هذا السجن للحديث الصحيح: (ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلاَّ الجنة) لو احتسب هذا الحبيب، واحتسب ذلك القريب.
وفي الحديث الآخر: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم. وهو أعلم، قال: ماذا قال؟ وهو أعلم، يقولون: يا رب حمدك واسترجع -مات ابنه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال- قالوا: حمدك واسترجع، فقال الله جل وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
مات ابن المصطفى صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فدَمَعَت عيناه، ثم قال: (إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون).
تقول: ماتت زوجتي وهي غالية، ماتت أمي لا أملك أغلى منها في الدنيا، ماذا أصنع؟
أقول لك: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] يا مَن دَفَنْت أمك وأباك، وشيَّعْت ابنك وابنتك، وودَّعْت زوجتك، هل سوف تبقى في هذه الدنيا؟ لا والله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
وقالوا في الشعر:
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد |
واصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد |
وإذا أتتك مصيبة تشجى لها فاذكر مصابك بالنبي محمد |
مات ابنٌ لـزينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام، انظر ماذا قال يعزيها، وأنا أعزي كل مصاب، قال: (لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، مروها فلتصبر ولتحتسب) نعم: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].
أنت وأبناؤك وأحبابك وأقرباؤك كلنا لله عز وجل، إنما هي عارية أعطانا الله إياها، ثم أخذها منا، فهل تصبر؟
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
إن أيوب عليه السلام كان يملك مالاً عظيماً، وجاهاً، وأهلاً، وأولاداً، وأنعاماً، وصحةً، وبدناً قوياً، خسر كل هذا، ما الذي بقي له؟
بقي له لسانٌ يذكر الله به، وقلبٌ يعقل، هذا الرجل العظيم جلس على الفراش سبع عشرة سنة يقاوم المرض، ليس عنده إلا زوجته تطببه وتداويه، سبع عشرة سنة على فراش المرض، ماذا قال؟
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:84] مَن الذي مَرِض؟ مَن الذي ابتُلِي؟ (أشد الناس بلاءً الأنبياء) أبشر! إذا أحب الله عبداً ابتلاه، بل إن دليل الإيمان البلية وشدتها، مَن أشد الناس بلاءً؟ (... الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل) ماذا سَمَّى الله عز وجل أيوباً؟ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] (إن الله عز وجل يُذْهِب عن العبد خطاياه كلها بحُمَّى ليلة واحدة) حمى وحرارة ليلة واحدة يُذْهِب الله ويكفر جميع الخطايا.
يا من أصيب بالمرض فجزع، ويا من أتاه خبر المرض فلم يصبر! اسمع إلى الحديث الصحيح: (إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فقال: انظرا ماذا يقول لعواده فإن هم إذ جاءوه حمد الله، وأثنى عليه ...) هل رأيت مريضاً لما يُسأل كيف حالك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على كل حال، الحمد لله أخذ مني شيئاً وأعطاني أشياءً، الحمد لله الذي لم يجعلني مثل فلان وفلان، الحمد لله إن كان قد ابتلى فقد أنعم: (... فإذا هو قد حمد الله، وأثنى عليه يخبران الله عز وجل وهو أعلم، فيقول الله جل وعلا: لِعَبْدي -اسمع وعُد إلى الله- لِعَبْدي إن توفيته أن أدخله الجنة -إن مات بهذا المرض أدخله الجنة، يحمد الله على هذا المرض، ويصبر، ويحتسب الأجر، لو مات في هذا المرض يدخل الجنة- قال: وإن شفيته له علي أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته) هل لك بعد هذا الأجر من أجر؟!
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء |
انظر القوة في الإيمان! يعرفون حقيقة الدنيا، إنها دار بلاء، دار محن، دار مصائب، دار كرب.
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء |
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء |
ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرضٌ تقيه ولا سماء |
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضا ضاق الفضاء |
نعم، علموا حقيقة الدنيا.
عبد الله! تلفت يمنة ويسرة، إن أصبت بمرض انظر إلى غيرك، انظر إلى من حولك، انظر إلى من هو أشد منك مرضاً، وأقسى منك مصيبة.
رجل من الأعراب في البادية ليس هناك أفضل منه نعمة؛ عنده أموال، وأغنام، وأبقار، وإبل، وعنده بُنَيَّات وأولاد صغار، وزوجة ما أحسنها من زوجة! وفي بيته الصغير يعيش في تلك البادية.
في يوم من الأيام ضاعت إبله، فذهب يطلبها، تأخر ثلاثة أيام، ولما رجع أتعرف ما الذي حصل لأهله؟ كان الأهل في البيت، وفي آخر الليل اشتد المطر، وجاءهم سيلٌ عظيم يقتلع الصخور من الأرض، جاء هذا السيل فهدم البيت، وأوقعه على رأس أطفاله، فلم يبق في البيت حيٌ تطرف عينه، لا ابنٌ، ولا ابنة، ولا زوجه، هلكت الأموالُ، والشياه، والضياع.
رجع فوجد الأرض قاعاً صفصفاً، لم يجد أهلاً، ولا ولداً، ولا مالاً، ولا مسكناً، ذهبت الدنيا بلمح بصر، وهل أدرك الإبل؟ رجع حتى الإبل لم يدركها، خسر الدنيا بلحظة وبلمح البصر.
فإذا به من بعيد يرى ناقة من الإبل قد شردت فتبعها لعله يدرك ناقة من أمواله، تبعها، فإذا به يمسك ذيلها فلما مسكها رفسته برجلها على وجهه، سقط على الأرض فإذا هو قد عمي، ذهب بصره، ما الذي بقي له من الدنيا؟ أخذ يمشي في الصحراء يصيح وينادي علَّ من يجيبه، علَّ من ينقذه.
فإذا أعرابيٌ آخر أخذ بيده، أخبره الخبر، فجع الأعرابي من قصته، فذهب به إلى الخليفة، أخبره بالخبر، فقال له الخليفة: وكيف تجدك الآن؟ من يتحمل هذه المصيبة ومن يطيقها، قال: كيف بك الآن؟ قال: أما أنا الآن فقد رضيت عن الله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
إن بعض الناس لا يطيق مصيبة أن يفقد واحداً من أهله، أو يخسر سيارة، أو يفقد جزءاً من ماله، فإذا به لا يتحمل، ويجزع، ويتسخط، وللأسف لم يذق إلى الآن حلاوة الصبر، نعم، إنه مرٌ في ظاهره، لكن عاقبته أحلى من العسل.
اسمع ماذا يقول بعض العلماء! يقولون: إن الله يبتلي العبد وهو يحبه -أتعرف لِمَه؟- ليسمع تضرعه، يحب الله جل وعلا أن يسمع تضرع العبد إليه سبحانه وتعالى.
هل فكرت قبل أن تطرق الأبواب، وقبل أن تستغيث بالناس، وقبل أن تلجأ إليهم أن تفر إلى الرب الغفور الرحيم، أن تلجأ إلى ذي الجلال والإكرام، قيل: البلاء يَسْتَخْرِج الدعاء، تجد الرجل لا يذكر ربه، لا يدعو الله، لا يقوم الليل، لا يقرأ القرآن، لا يتصدق، لا يفعل شيئاً، فإذا نزل البلاء اسْتُخْرِجَ هذا كله، فدمعت عينه، ورفع يديه، خشع قلبه، سكنت نفسه، وتاب إلى الله.
يقول لي المسكين: قال لي الطبيب: مرضك لا شفاء له، قلت له: كذب الطبيب، فما من داء إلا أنزل الله له دواء، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه؛ ولكن هل طرقْتَ باب الله؟ وهل استغثت بالله؟ وهل جربت الدعاء من القلب؟
أقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام هو أشد من أوذي، وأكثر من أصيب.
ولِمَ خرج من مكة مهاجراً إلى الطائف؟
لأنه في مكة ضُرب، وشتم، واتُّهم بعقله حتى قيل: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52].
في مكة كان يسجد فيُؤتى بسلى الجزور فيوضع على ظهره.
في مكة خُنِق حتى كاد يُقتل عليه الصلاة والسلام.
في مكة أصيب بالجوع حتى تمر عليه الثلاثون ليلة لا يجد ما يأكل إلا ما يواريه بلال تحت إبطه.
هكذا أصيب عليه الصلاة والسلام.
خرج إلى الطائف ما الذي حصل له؟
رمي بالحجارة، وتُبِع بالعبيد، والصبيان، والأطفال، والسفهاء، يركضون خلف خير مَن وطئت قدمُه الثرى، خلف خير إنسانٍ على وجه الأرض، يرمونه بالحجارة، دَمَعَت عينه، انطلق وهو مهمومٌ على وجهه، رفع يديه إلى الله وهو يقول ولسان حال كل داعية إلى الله مهموم، كل داعية إلى الله مكلوم، كل داعية إلى الله مبتلى، لسان حاله يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين، يا رب المستضعفين، إلى مَن تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي؛ لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سَخَطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
يا أخي الكريم! يا أخي العزيز! يا من ابتُلي! يا من ظُلم! يا من قُهر! يا من استهزئ به! اسمع يا أخي الكريم إلى هذا الشاعر ماذا يقول وهو يرى حال المسلمين! وكأنه يصف حالنا، المسلمون في الدنيا إما حروبٌ قاتلة، أو جوعٌ طاحن، أو مرضٌ متفشٍ، أو جهلٌ قابع، هذه حال المسلمين إلا مَن رحم الله، اسمع ماذا يقول!
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان |
هي الأيام كما شاهدتها دولاً من سره زمن ساءته أزمان |
وتلك دار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان |
أما سمعت أن زكريا قُتِل، ويحيى ذُبِح، ويوسف سُجِن، وسار على هذا الطريق الأولون، فهل أنت بعيدٌ عنهم؟! لقد حفت الجنة بالمكاره.
سُب الرسول حتى قيل له: ساحرٌ مجنون، عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] أخْرِجْ لي رسولاً ما قيل له: ساحرٌ أو مجنون، وهم أعقل الناس، وأفضلهم، وأشرفهم مكانة، قال الله: أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53] هل يوصي بعضهم بعضاً؟ بل السب والشتم والطعن، حتى الطعن في العرض وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تُكِلِّم في عرضه، والإفك العظيم والإفك الكبير يفنده الله في القرآن إلى قيام الساعة، وكأنها سنة كونية أن يرسلوا الكذب حول المصلحين، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقف صامداً ثابتاً وكأن الله عز وجل يقول له: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127] بل موعد هؤلاء وهؤلاء يوم اللقاء، يوم يجمعهم الله جميعاً، المؤمنون الصالحون الدعاة مع المنافقين، يجمعهم الله جل وعلا يوم القيامة، فإذا بالرب جل وعلا يقول لهم: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً [المؤمنون:109-110] أتذكرون لما كنتم تسخرون منهم، ومن أعمالهم، ودعوتهم، وسنة نبيهم، بل من مصحفهم؟! أتذكرون؟! فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا [المؤمنون:110-111].
الصبر.. الصبر.. أيها الداعية: لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] اصبر .. كن حكيماً، كن حليماً، فإن هذا الطريق لا يَثْبُت عليه إلا الصابرون.
إن يعقوب عليه السلام أُخِذ منه ابنه وهو طفلٌ صغير، ولم يكن قلبه متعلقاً بأحد أكثر من هذا الولد، يوسف الذي أوتي شطر الجمال، أُخذ من بين يديه وهو أقرب الناس إليه، أتعرف كم فقده؟ فقده منذ الطفولة إلى أن بلغ أشده، ثم أُدْخِل السجن قيل: تسع سنين، ثم صار عزيزاً في مصر سنوات طوال، لكن يعقوب عليه السلام هل يئس؟ هل قنط من رحمة الله؟ قال لبنيه: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] قالوا له: إلى الآن ما مللت الدعاء؟! ما مللت الذكرى؟! ما مللت الأسف؟! ذهب الأسير، انقطعت الأخبار، ماذا قال يعقوب؟
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] أنا لا أطلب منكم، لا أرجوكم، ولا أشتكي إليكم، إنما أشتكي لله.
إلى كل قريبٍ لأسير، طرقْتَ كل الأبواب وولَجْتَ كل السبل، وناديتَ مَن ناديتَ، لكن اعلم أن الأمر بيد مصرف الأمور، بيد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، إن كان هو أسير وأنت طليق فإن شاء الله تنقلب الأمور فتفرج الكرب ويفك الأسير، إن الأمر بيد الله: إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] لم ييأس يعقوب، فإذا به بعد سنين طوال، يأتيه الخبر فإذا الله يَرُد عليه يوسفَ وأخاه، ويَرُّد عليه بصرَه، ويشكر الله على هذا.
الحجاج بن يوسف الثقفي -اسْمَعِي!- أوجه الحديث خاصة إلى أم الأسير، وإلى زوجة الأسير، وإلى ابن الأسير، اسمعوا هذه القصة، والقصة حقيقية!
الحجاج أحد الطغاة، الذي قتل ما يزيد على مائة وعشرين ألفاً من المسلمين، يداه تسيل بالدماء، يوماً من الأيام أسر شاباً من شباب المسلمين، أخذه أسيراً في سجنٍ من السجون، سمع عمه ابن محيريز ، وهذا عابد زاهد، عالم ورع، سمع أن ابن أخيه قد سجن، من الذي سجنه؟ ومن الذي أسره؟
إن الذي أسره هو الحجاج بعينه، حاكم العراق في ذلك الوقت، فإذا بـابن محيريز يطرق الأبواب، ويذهب للوجهاء، وللعظماء وللكبراء علَّ أحداً أن يشفع له، ابن أخيه كابنه؛ لكنه لم يجد مجيباً، كل الناس خافوا، كل الناس أمَّلوه ولكن لم يستطع أحد، ولم يجرؤ أن يطرق باب الحجاج أحد.
ذهب إلى البيت حزيناً كئيباً، نام، غَلَبَتْه عيناه فنام، فجيء له في المنام فقال له قائل في المنام: يا ابن محيريز! قصدت الأمر من غير بابه -لم تحسن ولوج الأمر في الباب الصحيح- فقام فزعاً، فإذا به يتوضأ، ثم يصلي آخر الليل، ويلجأ لله جل وعلا، يقول الثقاة المحدِّثون: "إن الحجاج فَزِع من نومه واستيقظ، ونادى الحرس، والجيش، فقال لهم: أين فلان السجين، قالوا: لا زال حياً، قال: أخرجوه طليقاً الآن، فأُخرج من سجنه، يقول الثقاة المحدِّثون: لا ندري ما الذي جعل الحجاج يُخرج ذلك الشاب" أتدري ما الذي أخرجه؟
المهم: أن لا نيأس.
نعم. إن كان الحزن أمراً طبيعياً جِبِلِّياً في البشر فاغلبه يا عبد الله، وانطلق بحياتك، ماذا يعني أنك أصبت بمرض، أو فقدت حبيباً، أو خسرت أموالك؟
ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها |
ابدأ حياتك من جديد، ابدأ طريقك من جديد، الدنيا أحقر من أن تغتم بها، أو تهتم بها، أو تأسى على ما فات: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]. (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خير له) عجباً لأمر المؤمن.
في الحديث: (من أصابه هَمٌّ أو غمٌ فقال: الله ربي لا شريك له، أذهب الله غَمَّه).
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك؛ سَمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر