إسلام ويب

تفسير سورة الهمزةللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة الهمزة من سور القرآن العظيم التي ترشد المؤمنين إلى التحلي بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، بعيداً عن الصفات الذميمة والخصال المشينة، كالهمز واللمز وغيرها مما يفرق المجتمع ويشتت أوصاله ويمزق أصره، فضلاً عن أن هذه الصفات تردي صاحبها المهالك، وتوقعه في النار التي وصدت لمن عصى الله وخالف أمره وتعدى حدوده وانتهك محارمه وسعى بالقالة والنميمة بين الناس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الهمزة.

    وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:1-9].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول ربنا جل ذكره: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1].

    كلمة وَيْلٌ [الهمزة:1] تدل على العذاب. فإذا خفت أن يصيب أخاك شيء تقول: ويلك. بمعنى: نزل العذاب أو حل بك. ومع هذا أيضاً فإن كلمة وَيْلٌ [الهمزة:1]: علم على واد في جهنم، وجهنم عالم، وعالمنا هذا لا يساوي قطرة ماء في المحيط، وفيها صنوف العذاب، ما لا يخطر ببال، فلا مانع أن يكون وَيْلٌ [الهمزة:1] واد، يتوعد الله به أهل معصيته والخروج عن طاعته، فويل للمكذبين.. ويل للمطففين.. ويل للمجرمين.. ويل للكافرين.. في آيات عديدة.

    وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]. هل هذا الهمزة اللمزة صاحب هذه الصفات معروف عند نزول الآية المكية؟ نعم. لا يستبعد أن يكون الأخنس بن شريق أو العاص بن وائل من جماعات الإجرام، ولكن هذا غير مانع أن يكون الويل لكل من اتصف بهذه الصفات الأربع: الهمزة، اللمزة، الجامع للمال الذي يعدده، الذي يحسب أن ماله يخلده، ومن هنا يجب علينا ألا نكون من أهل هذه الصفات، ومن كانت فيه صفة منها فمن الليلة ينتزعها ويبعدها عنه ويتخلص منها.

    أولاً: الهمزة: أي: كثير الهمز.

    واللمزة: كثير اللمز.

    والهمز: العيب والطعن في الوجه، صاحب هذه الصفة يطعن في وجهك ويقول: فيك.

    واللمز: يكون في غيبتك، إذا غبت وبعدت عنه يلمزك، والكلمة تدور على عيب الناس وانتقاصهم، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينتقص أخاه، أو يسخر منه، أو يطعن فيه، أو يسبه، أو يشتمه، والذي يتصف بهذه الصفات مريض، قلبه ميت، فيصبح يتلذذ بالطعن والسب والشتم والاغتياب، وتشاهدون أن بعض الأفراد هذا طبعهم.

    إذاً: من كانت فيه هذه الصفة فلينتزعها من الليلة بالعزم الأكيد ألا يذكر مؤمناً بسوء، ولا يطعن في مؤمن، ولا يغمز، والغمز يكون بالجفن والعين، والهمز يكون باللسان وباليد أيضاً..

    إذاً: أراد الله أن يطهرنا؛ لأننا أولياؤه وعبيده، فيذكر لنا ما من شأنه أن يغضبه أو يسخطه فيعذب من أجله؛ من أجل ألا يكون بين المؤمنين والمؤمنات من يتصف بهذه الصفات الهابطة التي لا تدل على كمال صاحبها، ولا عقل ولا مروءة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالاً وعدده)

    الصفة الثالثة: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ [الهمزة:2]، جمع الأموال من الحلال والحرام وظل يعدها، ويحسبها، ويدونها، ويسجلها، مشغول الليل والنهار بماله.

    من يرضى منكم أن يكون هذا وصفه؟ لا أحد. هذا يعبد الدينار والدرهم، فلا هم له إلا العد والحساب والتسجيل و.. و.. حتى يأخذه النوم فينام إلى الضحى، فلا صلاة ولا ذكر لله.. صورة بشعة، من يرضاها لنفسه؟ لا مانع أن يكون لك مال وأن تعده، لكن لا يصبح مالكاً لقلبك ومشاعرك وأحاسيسك طول الليل والنهار المال.. المال، وعده و.. و.. هذا بمعنى أخذك، ما ترك لله منك شيئاً، فلا تذكر، ولا تصلي ولا تدعو.

    إذاً: فليحذر أحدنا أن يؤخذ بهذا المأخذ، ويصبح لا هم له إلا جمع المال وعده وحسابه وتسجيله و.. و.. فينسى الله والدار الآخرة. هذه هداية الآية، فالشخص الذي يأخذ المال قلبه قد يتنكر لربه، ويمنع حقوق الله وحقوق العباد، وقد يحمله ذلك على أن يسرق ويكذب ويفجر.. قل ما شئت فقد سيطر حب المال على نفسه، فالله لا يرضى لأوليائه أن تلتهمهم هذه النيران، أو تستغلهم هذه الشياطين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يحسب أن ماله أخلده)

    قال تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3]، يظن أن المال سوف يخلده ويبقيه حياً لا يموت.

    يوجد من يغتر إذا كثرت أمواله وتقلب فيها ليله ونهاره فينسى الموت ويظن أنه لا يموت!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كلا لينبذن في الحطمة)

    ثم قال تعالى: كلا [الهمزة:4] فإن هذا الحسبان باطل، فلو ملك حتى الأرض لا بد وأن يموت؛ إذ لم يخلق ليبقى بل خلق ليفنى وينتقل من عالم إلى عالم.

    الله يقدر عن صفات واقعة بالحرف الواحد وتقع في طول الزمان، ويوجد أهلها؛ لأنه كتاب هداية للبشرية، وإصلاح للخلق لا ينتهي بموت الأخنس بن شريق، فليحذر المؤمن من هذه الصفات الأربع، وبذلك يسلم المجتمع من شره وخطره، ويسلم هو في نفسه من أن يتمزق ويخسر كل شيء.

    فقوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، إذا شاهدناه يغمز.. يلمز.. يطعن.. ويتفكه بذلك؛ عرفنا أنه مريض ما داوى نفسه، ولا عولج، ولا عرف طبيباً.

    وقوله: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ [الهمزة:2] ما أكثر أصحاب الأموال الذين لا هم لهم إلا المال، تجلس معه ساعة ساعتين لا يذكر اسم الله، فقط التجارة كذا.. ربحنا كذا.. ارتفعت القيم كذا.. هكذا.. مجذوب انجذاباً كاملاً، فهل ترضى أن تكون مثلهم يا عبد الله؟ الجواب: لا.

    أما ظنه أن المال يخلده وقد يطغى على الإنسان هذا الظن ويتصور أنه كيف يموت؟ لم؟ إذا مرض فالأموال موجودة، لا يمرض؛ لأن اللباس موجود، الطعام الأدوية والسكن، كيف يمرض؟ هذا ما يخطر بباله.. يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3].

    فرد الله تعالى هذا الباطل بقوله: كلا [الهمزة: 4].

    ثم قال تعالى: وعزتي وجلالي، هذه اللام موطئة للقسم لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة:4]، كما تنبذ النواة وتطرحها يؤخذ ويرمى في جهنم.

    لَيُنْبَذَنَّ [الهمزة:4]: والنبذ يكون بالشيء التافه الذي لا قيمة له، كالوسخ.

    أين ينبذ؟ أين يطرح؟ أين يلقى به؟ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة:4]، من الحطم، حطمه محطم حاطم.

    و الْحُطَمَةِ [الهمزة:4]: دركة من دركات عالم الشقاء، إما الثالثة أو الرابعة، اسمها الحطمة، هذه تحطم الجسم وتقضي عليه.

    لَيُنْبَذَنَّ [الهمزة:4] والله في الحطمة ويلقى في النار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة)

    ثم قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ [الهمزة:5] ، أيها السامع! مَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ [الهمزة:5]، تقول: الحطمة؟! لو رأيتها.

    وفسرها بقوله: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:6]، فالنار موقدة منذ آلاف السنين.

    من الذي أوقدها؟ خالقها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (التي تطلع على الأفئدة)

    ثم قال تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:7]، تحرق البشرة والجلد واللحمة والعظم وتصل إلى القلب، وإذا وصل الحريق إلى قلب الإنسان تحطم.

    قد يتحمل الإنسان الكي في الجسم.. في البشرة الجلد.. في اللحم، لكن إذا أطلت بلهبها على القلب، فلا نستطيع أن نقدر هذا العذاب ولا أن نعرفه.

    تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:7]، قلوبنا الآن داخل أجسامنا، وقد يأتي حريق لا قدر الله يحرق البشرة لكن إذا وصل إلى القلب انتهى فما فوق ذلك عذاب.

    تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:7]، والأفئدة: جمع فؤاد ألا وهو القلب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنها عليهم موصدة)

    ثم قال تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ [الهمزة:8]، أوصد الباب يوصده: إذا أغلقه.

    كم باب لها؟ سبعة أبواب مفتوحة.

    هل يدخل الهواء؟ وهل يتغير الطقس؟ لا. أبوابها مؤصدة، مغلقة، حتى إذا جاء الفوج ووصل إليها يفتح الباب، لا يفتح الباب للقادمين والوافدين حتى يصبح نتنها وحرها وكل ما فيها داخلها، بخلاف الجنة، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] من قبل. أما النار: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] ، فُتِحَتْ لا فُتِّحَتْ أيضاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (في عمدة ممدة)

    ثم قال تعالى: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:9]، هذا النوع من العذاب لا نستطيع أن نقدره.

    كيف الواحد منهم مشدود إلى عمود.. مربوط من رجليه.. من يديه؟

    لا ندري كيف هذا العمود!

    بالسلاسل.. يؤخذ فيوضع ويشد بهذا العمود... عمد ممددة، إذا كانت هذه السلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فكيف هذا العمود، وإذا كان هذا الكافر عرضه مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، وضرسه طوله كجبل أحد، فهذا العمود كم تتصورونه؟ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:9].

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    معاشر المستمعين! هذه السورة سورة الهمزة مصباح هداية، إنها تهذب الأرواح، إنها تزكي النفوس، من قرأها وتأملها وسمع الله يقول: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:1-3]، يحاول ويجتهد ألا يتصف بهذا الوصف، ولا يرضى أن يكون في هذا الوصف، ولو أن يهاجر أو يترك الدنيا وما فيها، ولا يصبح يرى نفسه من هذا النوع.

    والجزاء: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة:4].

    ومن باب البيان والهداية: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ [الهمزة:5-7] بلهبها وإحراقها على القلوب فما تنتهي إلى الأجسام فقط.

    إِنَّهَا عَلَيْهِمْ [الهمزة:8]. من هم هؤلاء؟ الهمازون، واللمازون، والمغتابون، والطالبون العيب للبرآء، فإن أصحاب هذه النظرية المادية عباد الدينار والدرهم الذين لا هم لهم ولا شغل لهم إلا أموالهم، الذين يظنون أنهم يخلدون ولا يموتون، هذا النوع إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ [الهمزة:8]، وهم فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:9].

    والله نسأل ألا يجعلنا منهم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756013532