إسلام ويب

تفسير سورة النمل (17)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوم القيامة تسبقه أحداث عظام، وكلها لا تعد شيئاً أمام هول ذلك اليوم ذاته، فهو يوم الفزع الأكبر، والذي يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، ويحاسبهم فيه بميزان عدل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فمن جاء بالحسنات فله خير منها، وينجيهم ربهم من فزع ذلك اليوم، وأما أهل السيئات فليس لهم جزاء إلا النار، يكبون فيها على وجوههم جزاء ما كانوا يصنعون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:87-90].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن السور المكية مهمتها التي تقوم بها هي: إيجاد عقيدة سليمة صحيحة، يصبح صاحبها حياً بين الناس، يسمع ويبصر .. يعطي ويأخذ، وبدون تلك العقيدة فهو كالميت.

    أعظم أركان العقيدة الإسلامية

    أعظم أركان هذه العقيدة:

    أولاً: لا إله إلا الله.

    ثانياً: محمد رسول الله.

    ثالثاً: البعث الآخر والدار الآخرة، وما يتم فيها من جزاء على العمل في هذه الدنيا.

    فمن فقد أحد هذه الأركان فهو ميت، ليس بحي، لا يسمع ولا يبصر. وهذه الآيات والتي بعدها كلها تدور حول تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.

    وذكرنا وما زلنا نذكر أن على الإنسان ذكراً أو أنثى أن يعتقد هذا المعتقد، وهو الاعتقاد الجازم بأنه سيبعث بعد موته، وسيحاسب على عمله في هذه الدنيا، وسيجزى به، وأيما إنسان لم يعتقد هذا المعتقد وفقده ولم يحصل عليه فهو شر الخلق، ولا يعول عليه في شيء، ولا يوثق فيه في شيء، ولا يؤمن على شيء. فلهذا يجب تقوية إيماننا بلقاء ربنا عز وجل، واقرءوا قول الله تعالى في أصفيائه وخلص رجاله، يقول تعالى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]. فالذي يذكر الدار الآخرة ولا ينساها أبداً طول حياته ولا ينحرف انحرافاً يهلكه أبداً لا بد وأن يستقيم على منهج الحق، والذي ينسى الدار الآخرة ويعرض عنها ويقبل على الدنيا بما فيها فهو كالميت. ولذلك يقول تعالى لنا هنا: اذكر يا عبدنا! ويا رسولنا! واذكروا أيها المؤمنون! يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [النمل:87]. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل، وهو ملك من أعظم الملائكة، وهذه هي مهمته. والبوق الذي ينفخ فيه بين شفتيه، فهو ينتظر هكذا طول الدهر أمر الله من العرش متى يقول له: انفخ. والصور: البوق والقرن، كما هو معروف عند الناس. والذي ينفخ فيه هو إسرافيل عليه السلام.

    عدد النفخات في الصور

    قال تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [النمل:87]، النفخات ثلاث نفخات. والإمام ابن حزم يرى أنها أربع نفخات، والذي يتأمل كلامه يقول كما يقول، أنها أربع نفخات.

    النفخة الأولى: نفخة الفناء، والهلاك والدمار لكل هذه الحياة. هذه النفخة الأولى نفخة الفناء، فيفنى كل شيء في هذه الأكوان كلها.

    النفخة الثانية: نفخة بعث الأموات أحياء من قبورهم. وهذا لما تتكون أجسادهم تحت الأرض، وتصبح أجساد كاملة ينفخ إسرافيل بالأرواح نفخة، فإذا بالأرواح تنزل، وتدخل كل روح في جسدها، ولا تخطئ أبداً. هذه نفخة البعث.

    النفخة الثالثة: نفخة الصعق. وهذا لما تكون الخليقة كلها واقفة على صعيد واحد، ينفخ إسرافيل نفخة، فيصعق كل من هو على ذلك المكان إلا من شاء الله، كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]. وجاء في الحديث أنهم الشهداء، وجاء أنهم الحور العين، أو ملائكة العرش. فقد استثنى الله عز وجل مجموعة لا تصعق. ثم قال تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]. وهذه النفخة الرابعة. فهم يصعقون أربعين سنة، أو فترة يعلمها الله، ثم ينفخ إسرافيل نفخة، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]. ويجيء الرب تبارك وتعالى ليقضي بينهم بالعدل، كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ، أي: في الصور، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69]. جاء الله تبارك وتعالى والأنوار تملأ الكون. وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [الزمر:69]، ليتم الحساب، ثم الجزاء بالحسنات والسيئات.

    هذه هي النفخات الأربع، وجمهور العلماء يقولون: ثلاث. والرابعة كما علمتم نفخة الصعق.

    وقال تعالى هنا: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]. وورد في الحديث أن الشهداء لا يفزعون؛ لمكانتهم عند الله، ومنزلتهم بين يدي ربهم. وَكُلٌّ أَتَوْهُ [النمل:87]، أي: وكل الكائنات من البشر والإنس والجن أتوا الله، أو (آتوه). وهذه قراءة سبعية. ومعنى أتوه: جاءوا. دَاخِرِينَ [النمل:87] أذلاء.

    وقوله: وَكُلٌّ أَتَوْهُ [النمل:87]، أي: أتوا الله عز وجل، دَاخِرِينَ [النمل:87]. ومعنى داخرين: أذلاء صغراء صاغرين، لا عزيز بينهم، ولا رفيع الرأس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ...)

    قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ . فيا من يسمع كلام الله! وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً . قارة ثابتة لا تتحرك.

    وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88]. وهنا نظريتان: الأولى والتي عليها جماهير المفسرين من الصحابة والتابعين: أن هذا لما ينفخ إسرافيل نفخة الفناء، فتندك الجبال كالسحاب، وترى كأنها ثابتة وهي تمر مر السحاب. فالجبال لما ينفخ إسرافيل نفخة الفناء تتفتت الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، ولكن ترى كأنها قارة، وهي تمر في نفس الوقت مر السحاب. والآيات في هذا المعنى كثيرة، مثل قوله تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:1-6]. وقوله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5]، أي: الصوف الذي ينفش بالعصا ويتطاير. وقوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:1-4]. والقارعة هي هذه النفخة.

    والشاهد عندنا: أن هذه النظرية الأولى عليها جماهير المفسرين.

    والنظرية الثانية انكشفت في هذه الأيام، ويؤيد النظرة الثانية قول الله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ . وهذه النظرية وهي حق أيضاً ولا جدال فيها: أن الأرض تدور حول الشمس في اليوم والليلة مرتين، والأرض إذا دارت حول الشمس فإنها تدور بكل ما فيها، ومن بين ذلك الجبال، فهي ثابتة نراها، ولكنها تمر مر السحاب.

    وتأملوا: فالجبال ثابتة في المشاهدة، ولكن لما تمر الأرض وهي عليها تمر معها، ولا تبقى ثابتة، فهي تحملها على ظهرها.

    إذاً: فأنت ترى الجبال كأنها ثابتة، وهي تمر مر السحاب. والسحاب يمر كما نشاهده ويمشي من مكان إلى مكان. ولا حرج في هذا، بل ويرجح هذه النظرية قول الله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] صنعه.

    فلنقل: آمنا بالله. فهذه الصورة للجبال أولاً تكون يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور، حيث تتحلل وتتفتت، وتمر مر السحاب. وهذا قطعاً، وليس في ذلك شك.

    وكذلك هي الآن. فبما أن الأرض مجمع على دورانها حول الشمس في فلكها فهذه الجبال تدور مع الأرض، وليست ثابتة. ويرجح هذا المعنى قول الله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]. ولا حرج.

    ولا يسعنا إلا أن نقول: آمنا بالله. فهذه مظاهر قدرته وعظمته، وجلاله وكماله. فالله هو من أوجد هذه الجبال، وهو من جمع ذراتها، وهو من أوجد هذه التربة وهذه الأرض، وهو من أوجد هذه السحب، وهو من بنى السماوات وأوجدها. فلا إله إلا الله! فليس هناك أحد فعل هذا إلا الله. وعقولنا تضعف، ولا تدرك بعضها، ولذلك قال هنا: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] خلقه بأعظم الإتقان، وأحسنه وأجوده. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]. فانتبهوا عباد الله! فهو هنا يخبرنا تعالى بأنه خبير بفعلنا، فلتكن أفعالنا صالحة لا فاسدة، ولنعمل الحسنات لا السيئات، ولنعمل ما ينفعنا لا ما يضرنا، وذلك هو طاعة الله وطاعة رسوله فيما أمرا به وفيما نهيا عنه. فالمأمور به يجب أن ننهض به، وأن نقوم، وكلنا إيمان وإسلام، وما نهانا عنه نبتعد عنه ونبغضه، ونكرهه ونتجنبه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. فنحن تحت الرقابة، وإننا مراقبون، ولا نقول قولاً ولا نفعل فعلاً إلا ويدون علينا ذلك، ويحسب علينا، ونجزى به، ولسنا هملاً أبداً ولا سدى، بل إننا مراقبون، يحصى علينا حتى ماذا نقول، بل يحصى علينا حتى نفسانا.

    هكذا يقول تعالى هنا : وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88] من خير وشر، ويجزي العباد بفعلهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون)

    قال تعالى في بيان الجزاء عن العمل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل:89]، أي: من جاء منكم عباد الله بالحسنة، وأعظم الحسنات لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ إذ بهذه الشهادة يدخل المرء في الإسلام والإيمان، ويصبح مؤمناً مسلماً.

    فمن جاء بالحسنة العظيمة فله خير كثير منها، أي بسببها، ألا وهو الجنة دار النعيم المقيم، ومن جاء بالسيئة ألا وهي الشرك والكفر فله شر منها، كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل:90].

    والحسنة والسيئة معاشر المستمعين والمستمعات! هما: أن ما أمر الله به ورسوله أن يعتقد أو يقال أو يفعل فهو والله الحسنة، وما نهى الله تعالى عنه ورسوله من اعتقاد أو قول أو عمل فوالله هو السيئة. وجزاء الحسنة دار السلام، الجنة دار الأبرار، وجزاء السيئة النار، دار البوار والفجار.

    ومعنى هذا: أن نجاهد أنفسنا ما حيينا، وألا نعمل إلا الحسنات فقط، ومن زلت قدمه ووقع بضغط العدو عليه وفتنته له فليعجل بفعل حسنة؛ يمح بها ذلك السوء، والحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). فإذا قلت كلمة سوء فقل بعدها كلمة خير وحسن، وإذا نظرت نظرة محرمة فأعقبها بنظرة صالحة، وهكذا أتبع السيئة الحسنة تمحها، وتزيل أثرها.

    التوبة واجبة على الفور

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ كانت تلك بعض المحبوبات والمكروهات ] إذ تقدم لنا بيان المحبوبات وهي عشر، والمكروهات وهي عشر كذلك [ فإذا تركت محبوباً منها، أو فعلت مكروهاً منها فبادر بالتوبة على الفور، وهي فعل ما تركت ] من تلك المحبوبات [ وترك ما فعلت ] وأتيت من تلك المكروهات [ وأنت تستغفر الله ونادم أشد الندم على ما تركت من محبوب لله، أو على ما فعلت من مكروه لله ].

    والتوبة على الفور مسألة إجماعية، فقد أجمعت أمة الإسلام على أن التوبة تكون على الفور، فلا يسمح للمؤمن أن يقول: لا أتوب إلا بعد أن أتزوج، أو حتى أعود من سفري، أو حتى أفرغ من بناء بيتي، أو حتى أرحل من بيتي. فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يغشيا كبيرة من كبائر الذنوب ثم يؤجلا التوبة؛ لأن التوبة تجب على الفور، مثلها: مثل سائر في الطريق فزلت قدمه، فهو لن ينتظر ساعة أو ساعتين، أو ليلة ثم ينهض ويقوم، بل إنه ينهض على الفور، فالتوبة تجب على الفور، فلا يحل تأخيرها أبداً، قال الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:17].

    هنا لطيفة: وهي أن العبد إذا استمر على الذنب ولم يتركه يخشى أن يصبح طبعاً من طباعه، وغريزة من غرائزه، ويعجز عن تركه مرة أخرى، ومثال ذلك: المخدرات كالتدخين والأفيون وما إلى ذلك، فإذا استمر العبد على تلك المعصية يصعب عليه جداً أن يتخلى عنها، وكذا من اعتاد أكل الرطب بعد طلوع الشمس عاماً بعد عام فمن الصعب عليه تركه، وقد يتألم إن لم يأكل رطباً، فنحن مأمورون بالتوبة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التحريم:8]. فلنقل: لبيك اللهم لبيك! تُوبُوا إِلَى اللَّهِ [التحريم:8]، أي: ارجعوا إليه بترك المكروه الذي كرهه أو بفعل الواجب الذي تركتموه وقد أحبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ...)

    الآخرون الذين لم يجيئوا بالحسنة هالكون كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل:90]. فيرسلون هكذا على وجوههم في جهنم.

    ثم يأتي الطابع والختم الأخير على هذه الآيات، فيقول : هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]؟ ووالله ما نُجزَى إلا ما كنا نعمل، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون.

    ومن هنا إذا عملت أنت السيئات وكانت أطناناً أو قناطير ما يتضرر منها أحد أبداً، وإن عملت الحسنات لا ينتفع بها غيرك أبداً، بل يجزى كل فرد بعمله، كما قال تعالى هنا: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]؟ والجواب: نعم، والله ما يجزى أحدنا إلا بعمله، الذي كان يعمل من خير أو من شر .. من إيمان وعمل الصالح فيجزى بالجنة، أو من شرك ومعاصٍ فإلى النار، والعياذ بالله تعالى.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    الآن اسمعوا شرح الآيات من الكتاب.

    قال: [ معنى الآيات:

    ما زال السياق في ذكر أحداث القيامة تقريراً لعقيدة البعث والجزاء التي هي الباعث على الاستقامة في الحياة ] فعقيدة الإيمان بيوم القيامة هي الباعثة للإنسان على الاستقامة وعدم الاعوجاج، وصاحبها هو الذي ينهض بالتكاليف، ويتجنب المنهيات؛ لأنه حي كامل الحياة [ فقال تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [النمل:87]، أي: ونفخ إسرافيل بإذن ربه في الصور الذي هو القرن أو البوق ] فالصور يسمى القرن والبوق، وهذا معروف عند الناس.

    قال تعالى: [ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]، وهي نفخة الفزع، فتفزع لها الخلائق إلا من استثنى الله تعالى، وهم الشهداء، فلا يفزعون، وهي نفخة الفناء أيضاً، إذ بها يفنى كل شيء ] أي: تدل هذه الجملة على النفختين.

    [ وقوله تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ [النمل:87]، أي: أتوا الله تعالى دَاخِرِينَ [النمل:87]، أي: صاغرين ذليلين أتوه إلى المحشر وساحة فصل القضاء ] فقوله: وَكُلٌّ [النمل:87]، أي: من الناس والجن والحيوانات الكل أتوا الله تعالى دَاخِرِينَ [النمل:87].

    [ وقوله ] تعالى: [ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً [النمل:88]، أي: لا تتحرك، وهي في نفس الواقع تسير سير السحاب ] قال في الهامش: ( قيل إن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة) دون أمته ( أطلعه الله فيه على سر من أسرار الكون، ولم يبح به؛ لعجز الناس عن إدراكه في ذلك الزمن). فقد كانت الأمة ما تدرك هذا بالمعنى الذي نذكره. ولو قال للناس والقرآن ينزل: إن الجبال تسير سير السحاب لقالوا له: كذب هذا وباطل، ولا نؤمن به أبداً، وها نحن ساكنين على الجبل. ولكن ما أراد الله هذا.

    قال: ( وحقيقته: أن الأرض تدور حول الشمس دورة في كل يوم وليلة) وهذا مجمع عليه ( ودورتها هي تسير معها الجبال فيها قطعاً، فيرى المرء الجبال يحسبها جامدة، وهي تمر مع الأرض مر السحاب. والمرور غير السير، فالسير يوم الفناء، وأما المرور فيقال: مرّ بفلان يحمله معه، ولا يقال: سار به). ويرجح ها المعنى قوله بعدُ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88].

    والشاهد عندنا: أنه فسر المفسرون المعاصرون قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً [النمل:88] بأنها تمر مع الأرض كل يوم وليلة، وهي واقفة. ورجح لهم هذا المعنى قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]. مع أن الوجه الأول عليه أمة الإسلام بكاملها، والجبال سوف تسير، وتُنفَخ وتتبدد.

    قال: [ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، أي: أوثق صنعه وأحكمه. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]. وسيجزيكم أيها الناس! بحسب علمه ] بما تعملون [ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ [النمل:90] وهي الإيمان والعمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل:90]، ألا وهي الجنة. وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ [النمل:90] وهي الشرك والمعاصي فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل:90]. فذلك جزاء من جاء بالسيئة.

    وقوله تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]؟ أي: لا تجزون إلا ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير وشر، وقد تم الجزاء بمقتضى ذلك، فقوم دخلوا الجنة، وآخرون كبت وجوههم في النار ] والعياذ بالله العزيز الغفار.

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: تقرير عقيد البعث والجزاء ] والإيمان بيوم القيامة [ بذكر أحداثها مفصلة ] في هذه الآيات. فقولوا: آمنا بالله ولقائه.

    [ ثانياً: بيان كيفية خراب العوالم وفناء الأكوان ] وتحطمها وتهشمها كالسماوات والأرضين.

    [ ثالثاً: فضل الشهداء، حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر، وهم آمنون ] فلما تفزع البشرية في النفخة الثانية لا يفزع الشهداء.

    [ رابعاً: تقرير مبدأ الجزاء ] على العمل [ وهو الحسنة والسيئة، حسنة التوحيد وسيئة الشرك ] فالحسنة تكسب صاحبها الجنة، والسيئة تكسب صاحبها النار. والحسنة الإيمان والعمل الصالح، والسيئة الشرك والمعاصي.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756188931