إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (53)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يعلم الله عز وجل في هذه الآيات نبيه صلى الله عليه وسلم أسمى الآداب وأرفعها، وأفضل الأخلاق وأكملها، وذلك بأن يأخذ من أخلاق الناس ما يسهل عليهم قوله وفعله، وألا يطالبهم بما لا يملكون أو بما لا يعلمون، وأن يأمرهم بالمعروف، وأن يعرض عن الجاهلين منهم، ثم أرشده إلى الاستعاذة من الشيطان إن هو حمله على عدم التزام الآداب؛ لأن الاستعاذة من الشيطان عند وسوسته بترك المأمور أو فعل المحظور من خصال المتقين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن في آخر سورة الأعراف المكية التي تعالج العقيدة الإسلامية، تقرر أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن لقاء الله حق، وما يتم فيه من جزاء على الكسب في هذه الدنيا، كما تقرر أن التشريع حق الله ليس حق إنسان من عباد الله.

    وها نحن مع هذه الآيات الأربع فلنصغ مستمعين متأملين تلاوتها، ثم نأخذ إن شاء الله في تدارسها.

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:199-202].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا توجيه الرب تبارك وتعالى لرسول هذه الأمة والأمة تابعة له، فكل واحد منا مأمور بهذه الأوامر.

    معنى قوله تعالى: (خذ العفو)

    خُذِ [الأعراف:199] يا رسولنا، خذ أيها المؤمن الصادق الإيمان

    خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] ما العفو؟ ما كان بدون تكلف، ولا تصنع، وإنما يخرج عفواً، فإذا تكلمت مع مؤمن، تحدثت مع مؤمن، تعاملت مع مؤمن فلا تكلفه ما ليس في قدرته لا من العمل ولا من القول، بل خذ العفو، ما جاء عفواً بدون تكلف؛ إذ ما كل الناس أرباب أخلاق عالية وعلوم ومعارف سامية، الناس مختلفون في أبدانهم وعقولهم وفهومهم وعلومهم ومعارفهم.

    فهذا مما يأمر الله تعالى به أولاً رسوله صلى الله عليه وسلم، ثانياً: أمته؛ إذ هي تابعة له في كل خير.

    معنى قوله تعالى: (وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)

    خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199] العرف هو المعروف، وهو ما تستسيغه العقول البشرية ولا تنفر منه الطباع، ولا يتنافى مع الأخلاق، وإن شق عليك ذلك فاعلم أن العرف هو ما عرفه الله تعالى وأمر به أمر إيجاب أو أمر ندب واستحباب، مر يا عبد الله، مري يا أمة الله بالمعروف الذي عرفه الشرع حقاً وصدقاً خيراً وبركة وفضلاً.

    ومن هنا لا يأمر أحدنا بغير المعروف، أي: لا يأمر بالمنكر، ومن أنكر المنكر: أن يأمر بالباطل، أن يأمر بالمعصية، أن يأمر بالجريمة، هذا من أنكر المنكر، فمن آداب الإسلام أن أهله يأمرون بالمعروف.

    خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199]، ثالثاً: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] الجاهلون: الذين لا بصيرة لهم ولا نور في قلوبهم لجهلهم، هؤلاء مرهم بالمعروف وانههم عن المنكر، فإذا لم يستجيبوا فأعرض عنهم، أعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم.

    جمع الآية الكريمة لمكارم الأخلاق

    هذه الآية يقول فيها جعفر الصادق من آل البيت: أجمع آية في كتاب الله لمكارم الأخلاق هذه الآية الكريمة: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

    هل نحن مؤهلون لهذا؟ الله أعلم، لكن نقول: مؤهلون بإيماننا وإسلامنا وإحساننا، فلنتكلف هذا لنكون من أهله؛ لأننا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

    خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] ما عفا وأصبح سهلاً ميسراً من أخيك خذه، لا تطالبه بما لا يقدر عليه مما لا يستطيعه، لعل صوته عالٍ مرتفع فلا تغضب أنت، لعل خلقه هكذا إذا طلبت منه شيئاً غضب وصاح في وجهك، إذاً: لا تكلفه ما ليس له ولا يقدر عليه، خذ منه العفو، ما فضل وجاء بدون ما تكلف، وعامل زوجتك وأولادك وإخوانك ومن معك بهذا المبدأ، خذ منهم العفو.

    ثانياً: وأمرهم بالمعروف، لا بالمنكر ولا بالباطل، بما هو سهل ميسر مشروع مأذون فيه، لا تأمرهم بغير ما أحل الله، لا تأمرهم بغير ما أوجب الله، بغير ما انتدب ودعا الله إلى فعله لما فيه من الخير لفاعله، ومعنى هذا: لا تخرج عن دائرة الإسلام، وتجنب أودية الشرك وأهل الضلال، لتتميز بما أوتيت من كرامة الإيمان والإسلام.

    خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] الجاهل: من لا يعرف الله ولا يعرف محابه ولا مكارهه، من لا يعرف المعروف ولا المنكر لجهله، هذا مره وانهه، ثم بعد ذلك إذا لم يستجب فماذا تصنع؟ أعرض عنه، اتركه، أعطه ظهرك.

    إذاً: نحن مأمورون بالإعراض عن الجاهلين إذا نحن بلغناهم وبينا لهم ووضحنا لهم بالتي هي أحسن، فإذا أصروا فبماذا نعاملهم؟ نضرب ونصيح؟ لا. نعرض عنهم إعراضاً كاملاً، علهم يرجعون.

    هذه الآية التي هي أجمع آية لمكارم الأخلاق: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] لا تواجههم بالسب والشتم أو بالضرب والتقريع، فقط مر وانه فإن حصلت استجابة فبها ونعمت، وإن أعرضوا وأبوا ورفضوا فلا تقاتلهم ولا تحاربهم، ماذا تصنع؟ أعطهم ظهرك ولا تلتفت إليهم، فإذا طلبوا منك البيان بينت لهم، هذا الإرشاد أليس من الله؟ هو ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.

    خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] ينبغي أنا لا نأمر بغير المعروف، والمعروف ما عرفه الله أنه واجب أو مستحب، هذا الذي نأمر به، وننهى عن المنكر الذي عرفنا أن الله حرمه ونهى عنه، وهذا يتطلب منا إلماماً بالشريعة الإسلامية، وهذا واجبنا، واجب كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف ما أحل الله وما حرم، وليس من الصعب هذا أبداً؛ لأن الله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] فمن لا يعلم فليسأل ليعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم)

    ثم يقول تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] والأصل: وإن ينزغك، فزيدت (ما) لتقوية الكلام، وإن ينزغك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم، سميع لأقوال عبيده عليم بأحوالهم، فلو كان لا يسمع فما فائدة الاستعاذة به، ولو كان يسمع ولكن لا يعلم فما فائدة الاستعاذة به، فهذا التعليل في بابه: إِنَّهُ سَمِيعٌ [الأعراف:200] لأقوال عباده عَلِيمٌ [الأعراف:200] بأحوالهم وما يريدونه.

    والنزغ والنهز واللمز والمس كلمات بمعنى واحد، نزغه الشيطان، مسه، نزعه، دفعه بمعنى: زين له الباطل، فهنا لما قال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] .

    مناسبة الآية الكريمة لما قبلها

    مناسبته لما بعده أن الشيطان ما سمح له أن يعرض، دفعه إلى أن يقول ما لا ينبغي، هنا في هذه الحالة يفزع إلى الله عز وجل: (( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ))[الأعراف:200] الجأ إلى الله واطلب أن يحفظك، واستعاذ بالله: طلب منه الحفظ من هذا الشر الذي يمليه الشيطان ويريده، مع أن الجملة هذه صالحة لكل مؤمن ومؤمنة، سواء مع من أعرضوا عن الدعوة أو من أقبلوا، أيما مؤمن يهجس في نفسه هاجس ويوسوس له وسواس يدفعه حركة باطنية من الشيطان، إذا شعر بها يفزع إلى الله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته )، ويقول: آمنت بالله .. آمنت بالله. هذه هي المناعة الربانية، من فزع إلى الله أمّنه المخاوف، من لجأ إلى الله صانه وحفظه، من استعاذ به نجاه ووقاه، وغير الله ما يقوى على هذا، لو كان هناك غير الله من يعيذك ويحفظك لأرشدك إليه، لكن هذه الفتنة الباطنية هذا الشيطان الذي هو هوى يدخل في النفس ويخرج ولا يلمس ولا يحس ولا يرى، ولكن آثاره واضحة كالشمس، عندما تشعر أنه يزين لك أن تقول كلمة باطل أو تمشي مشية محرمة أو تنظر نظرة ممنوعة، حين تشعر بذلك قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فتحفظ بإذن الله ولا تفعل معصية الله، من ذلك: أنك مأمور بالإعراض عن الجاهلين، فقد لا تستطيع، تريد أن ترد الكلمة وتقول الكلمة، اذكر أنها نزغة من الشيطان فاستعذ بالله وأعرض يحفظك الله عز وجل. (( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ))[الأعراف:200] من باب التبيين أقول: هل هناك من يرتكب معصية بدون تزيين الشيطان لها؟ إلا إذا كان نائماً في النوم والقلم مرفوع عن النائم، أما أن يريد أن يسب أو يشتم أو يسرق أو يقول أو يفجر فلا بد من دفع الشيطان له، فإذا كان من أهل البصيرة والنور الإلهي فبمجرد ما يشعر أنه يزين له أن يفعل كذا أو يقول كذا يفزع إلى الله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

    أثر الذكر والعمل الصالح في حفظ الإنسان من إغواء الشيطان

    في الروضة تخاصم اثنان واشتدت الخصومة بينهما، والرسول جالس صلى الله عليه وسلم، فالتفت إلى أصحابه ولم يلتفت إليهما وقال: ( إني لأعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه هذا الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ).

    إذاً: علم الرسول الكامل بأن هذه الكلمة تطفئ نار الغضب إطفاء كاملاً مهما كان غضبك أو اشتدادك، إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أولاً: ذكرت الله وعرفت الله ولذت بجنابه، ما تستطيع أن تفعل المعصية أبداً، فلهذا ذكر الله هو الحصن الحصين، وقد ذكر تعالى ما يحفظ به المؤمن دينه فقال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] اقرأ ما أوحي إليك من القرآن، بعض القرآن، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] هذه أربع مواد من استخدمها، من استعملها حفظ بإذن الله: الأولى: تلاوة القرآن تلاوة صادقة بالتأمل والتدبر والتفكر، فتالي القرآن ما يقوى على معصية الله وما يقدر.

    ثانياً: إقامة الصلاة، أي: أداؤها أداء سليماً صحيحاً تثمر زكاة النفس وطهارتها؛ لأن كلمة (أقم الصلاة) كما تقوم أنت على قدميك، كما يقوم هذا العمود على ساقه، إقامة: أداء أداءً صحيحاً بشروطها وأركانها وواجباتها، إقام الصلاة من شأنه أنه ينهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا ملاحظ، فالمقيمون للصلاة الذين في المحراب وفي الصف الأول هل تراهم يطالبون بالزنا أو الجرائم والموبقات؟ ما كان.

    وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] هذا الذي نريد أن نقول: ما تستطيع أن تذكر الله بقلبك ولسانك وتمد يدك للمعصية، ما تفعل المعصية إلا حال الغفلة والنسيان والإعراض، أما مع ذكرك لربك، لجزائه، لعقابه، لثوابه، لعلمه بك، لاطلاعه عليك، لكونه معك يراك؛ فهذا الذكر صاحبه ما يقوى على المعصية، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] في هذا الشأن.

    وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] هذا ما يسمى بالمراقبة، فالذي يعيش تحت مراقبة الله دائماً يذكر أن الله معه، يراه، يسمع كلامه ويرى عمله، فهذا الذي يعيش على المراقبة الإلهية ما يقوى على معصية الله؛ إذ لا يعصي الله إلا من جهله وغطاه الشيطان أمامه فما أصبح يرى الله.

    وهنا يقول تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] أي: اطلب العياذ به واللياذ إليه والحفظ منه يحفظك ويعذك.

    إِنَّهُ سَمِيعٌ [الأعراف:200] لقولك عَلِيمٌ [الأعراف:200] بحالك وحاجتك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)

    ثم يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] من هم الذين اتقوا؟ واتقوا ماذا؟

    الذين اتقوا: هم الذين اتقوا الله عز وجل، أي: اتقوا عذابه وسخطه وغضبه.

    بماذا يتقون ذلك؟ بفعل أوامره وأوامر رسوله، وترك نواهيه ونواهي رسوله صلى الله عليه وسلم.

    بم يتق الله؟ إنا نقول: يا فلان اتق البرد، يعني: البس ثياباً غليظة، اتق الحر: ابتعد من الشمس، أو اتخذ مروحة في يدك، اتق الفقر بالعمل والكسب. هذا معنى الاتقاء.

    لكن بأي شيء نتقي الله؟ لا يتقى الله بالسلاح ولا بالرجال ولا بالجيوش ولا بشيء؛ لأنه القاهر الغالب، وإنما يتقى بشيء واحد ألا وهو طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، بفعل الأوامر الواجبة وترك المنهيات المحرمة.

    اسمع: يخبر تعالى بهذا الخبر العظيم: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] هؤلاء الذين اتقوا الله أرواحهم زكية طاهرة، قلوبهم مستنيرة، اكتسبوا ذلك النور من طاعة الله من فعل المأمور وترك المنهي، هؤلاء أصحاب القلوب النيرة والأرواح الزكية الطاهرة -وهي ثمرة التقوى- إذا مسهم طيف من الشيطان، الطيف والطائف والطواف: هو ما يدور ويحوم حولك، إذا مسهم طيف من الشيطان شعروا بأنه يحوم حولهم، تَذَكَّرُوا [الأعراف:201] ماذا تذكروا؟ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] تذكروا الله، تذكروا العقوبة، تذكروا ما يمنعهم ويحول بينهم وبين القول أو الفعل الباطل فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] يشاهدون الواقع كما هو ويعرفون أن هذا الزنا حرام، أن هذه الأكلة من حرام، هذه الكلمة خبيثة، هذه النظرة تؤدي إلى كذا، وإذا هم مبصرون.

    من هؤلاء؟ بنو العباس؟ بنو هاشم؟ سكان المدينة؟ أهل مكة؟ إنهم الذين اتقوا، البيض كالحمر، والصفر كالسود ما هناك فرق، الكبير كالصغير، الشريف كالوضيع.

    إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201] ماذا؟ ربهم، كيف أتقي ربي؟ دلوني؟ بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، في ماذا؟ في الأوامر الواجبة التي أمرا بها وفي النواهي المحرمة التي نهيا عنها.

    يبقى أنه قد تقول: أنا ما عرفت أوامر الله ولا نواهيه. نقول: تعلم من الآن، ارحل إلى الهند وتعلم، كانوا يمشون من الأندلس يأتون إلى المدينة، والله! من الأندلس إلى المدينة ليتعلموا عن مالك الحديث.

    إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201] بين لنا حالهم؟ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فإذا أبصروا الأمر وعرفوا أنه قبيح سيئ يحبط أعمالهم، يفسد قلوبهم تركوه، إذا عرفوا الأمر من مغضبات الله ومساخطه تركوه عندما يبصرون.

    فعلينا -معشر المستمعين والمستمعات- أن نربي أنفسنا على تقوى الله، وهي: أن نعمل ما استطعنا على فعل ما أوجب الله فعله، أو قول ما ألزم قوله، أو اعتقاد ما أمر باعتقاده، ونعرف ضد ذلك مما حرم الله من اعتقاد فاسد أو قول باطل أو عمل سيئ، ونمشي في هذا الطريق والله يحفظنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)

    إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف:202] المد معروف، والغي كلمة حروفها كافية، وهو كل خبيث وفاسد، الخبث والفساد والشر والظلم هو الغي، من هؤلاء الذين يمدون الناس في الغي؟ إخوانهم من الشياطين، لو تبرءوا منهم وقطعوا الصلة بينهم ولعنوهم، وكلما حضر حاضرهم استعاذوا بالله منه لأصبحوا أعداء الشياطين لا إخوانهم، لكن الذين فتحوا قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم للشياطين، هذا يزين له الأغاني فيغني، هذا يزين له سماع الباطل فيسمع، هذا يزين له النظر إلى المحرمات فينظر، وأصبحوا إخوان الشياطين، هؤلاء -والله- يمدونهم في الغي، يدفعونهم دفعاً إلى الخبث والشر والفساد، من يحميهم؟ هل الله؟ لقد أعرضوا عنه، وكفروا بذكره، ما لاذوا به ولا استعاذوا بجنابه، أما الأتقياء أرباب العقول النيرة والأرواح الزكية فإذا مر العدو بساحة قلوبهم استعاذوا بالله ونجاهم الله عز وجل.

    وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] ما يقصرون أبداً، من معصية إلى معصية، من باطل إلى باطل، من خبث إلى خبث.. هذا شأن إخوان الشياطين، لماذا رضوا بمؤاخاتهم؟ مدوا أعناقهم وقلوبهم فقادتهم الشياطين وأصبحوا إخوانهم.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    معاشر المستمعين! اسمعوا هذه الآيات في هذا الشرح:

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ معنى الآيات:

    لما علّم تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يحاج المشركين لإبطال باطلهم في عبادة غير الله تعالى والإشراك به عز وجل؛ علمه في هذه الآية أسمى الآداب وأرفعها، وأفضل الأخلاق وأكملها، فقال له: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] أي: خذ من أخلاق الناس ما سهل عليهم قوله وتيسر لهم فعله، ولا تطالبهم بما لا يملكون أو بما لا يعلمون، وأمرهم بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين منهم فلا تعنفهم ولا تغلظ القول لهم، فقد سأل رسول صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية جبريل عليه السلام، فقال له: تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك ].

    تقول الرواية: الرسول الكريم سأل جبريل عن معنى هذه الآية، أو سأل جبريل الرسول ليمتحنه: ماذا تفهم من هذه الآية؟ قال: معناها: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك.

    أن تصل من قطعك، الذي قطعك صله أنت، ما يزورك فزره، ما يسلم عليك فسلم عليه، تصل من قطعك.

    ثانياً: وتعفو عمن ظلمك، الذي ظلمك في جسمك، في مالك تعفو عنه ولا تؤاخذه، وهذا موقف ما هو بالهين، تعفو عمن ظلمك لا تؤاخذه ولا تطالبه ولا ترفع شكوى به.

    ثالثاً: وأن تعطي من حرمك، الذي حرمك الخير وأنت في حاجة إليه وما أعطاك، ثم آل الأمر إلى أن أصبحت أنت بيدك الخير وهو لا خير له فإنك تعطيه، ولا تقل: هذا حرمني أيام كان غنياً وأنا فقير.

    خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] سئل جبريل عن هذا المعنى فقال ما سمعتم، وهو: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك.

    [ وقوله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ [الأعراف:200] أي: أثار غضبك حتى لا تلتزم بهذا الأدب الذي أمرت به، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] بدفعه عنك، إنه سميع لأقوالك عليم بأحوالك.

    ثم قال تعالى مقرراً حكم الاستعاذة مبيناً جدواها ونفعها لمن يأخذ بها فقال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي: ربهم، فلم يشركوا به أحداً ولم يفرطوا في الواجبات ولم يغشوا المحرمات، هؤلاء إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف:201] بأن نزغهم بإثارة الغضب أو الشهوة فيهم، تذكروا أمر الله ونهيه ووعده ووعيده فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] يرون قبح المعصية وسوء عاقبة فاعلها، فكفوا عنها ولم يرتكبوها.

    وقوله تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:202] أي: إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي يَمُدُّونَهُمْ [الأعراف:202] أي: الشياطين فِي الغَيِّ [الأعراف:202] أي: في المعاصي والضلالات ويزيدونهم في تزيينها لهم وحملهم عليها، ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] عن فعلها ويكفون عن ارتكابها ].

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: الأمر بالتزام الآداب والتحلي بأكمل الأخلاق، ومن أرقاها ] أي: أرقى الآداب والأخلاق [ العفو عمن ظلم، وإعطاء من حرم، وصلة من قطع ].

    هنا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرني ربي بتسع ) أي: تسع خلال أو خصال: ( الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً ) وأن يكون نطقي إذا نطقت ذكراً لله، ( وصمتي ) عندما أصمت ( فكراً، ونظري عبرة ).

    إذا نطق يكون نطقه ذكراً، لا بد أن يذكر الله عز وجل: اتق الله، افعل كذا، قل: الحمد لله. كلامه ذكر، صمته فكر، يفكر فيما هو خير ونافع، نظره عبرة يعتبر، ما ينظر بدون فائدة يجنيها.

    قال: ( أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر ) معنى القصد: الاقتصاد، لا تبذير مع الغنى ولا تقتير مع الفقر، القصد القصد.

    ( وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة ).

    [ ثانياً: وجوب الاستعاذة بالله عند الشعور بالوسوسة أو الغضب أو تزيين الباطل ].

    أيما مؤمن أو مؤمنة يشعر بوسوسة في قلبه، أو يشعر بغضب يريد أن يهيجه، أو يشعر بتزيين الباطل له إلا ويلجأ إلى الله وجوباً: لقوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فينجو ويسلم.

    [ ثالثاً: فضيلة التقوى ]، وما هي التقوى؟ [ وهي فعل الفرائض وترك المحرمات ]، أما المكروهات والمستحبات فهذه درجات للناس، لكن التقوى تتحقق بفعل المأمور وترك المحرم.

    قال: [ فضيلة التقوى وأنها حامية لصاحبها عاصمة له واقية له من كل سوء، وحسبها أنها تؤهله لولاية الله عز وجل.

    رابعاً: شؤم أخوة الشياطين حيث لا يقصر صاحبها بمد الشياطين له عن الغي ]، ما يقصر أبداً عن الغي [ الذي هو الشر والفساد ].

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755985417