إسلام ويب

تفسير سورة النساء (40)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • طاعة الله عز وجل ورسوله هي مفتاح دار السعادة، والله عز وجل ما أرسل الرسل إلا ليبلغوا الناس محاب الله فيأتوها، ويبينوا لهم مكاره الله فيجتنبوها، والتحاكم إلى غير الله ورسوله عصيان وضلال وكفر بعد إيمان، فيجب على كل مسلم التحاكم عند الخصام إلى كتاب الله وسنة رسوله، وقبول ذلك الحكم والتسليم له، ورضا القلب واقتناع النفس به، وأنه فيه صلاح العبد في الدنيا والآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ...)

    الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!

    إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة النساء المباركة ومع هاتين الآيتين المباركتين.

    إليكم تلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فتأملوا وتدبروا في هاتين الآيتين؛ فإن فيهما العلم الكثير، والأجر العظيم.

    قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:64-65]. ‏

    معنى قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يخبر تعالى عن نفسه فيقول: وَمَا أَرْسَلْنَا [النساء:64] نحن رب العزة والجلال والجمال وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ [النساء:64] وقد علمتم أن الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، أولهم نوح، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأنبياء فعشرات الآلاف، مائة وأربعة وعشرون ألفاً، إلا أن النبي يتبع الرسول الذي تقدمه أو عاصره.

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64] أي: بأمر الله وإعلامه العباد بأنه إذا أرسل إليهم رسولاً يجب أن يطيعوه، فحاشاه تعالى أن يرسل رسولاً ويأذن للناس ألا يطيعوه، كيف يكملون ويسعدون؟ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ في أي زمان وفي أي مكان مع آية أمة إلا وقد أعلم تعالى وألزم الناس بطاعته إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64].

    وقد علمتم -زادكم الله علماً- أن طاعة الرسول من طاعة الله؛ إذ لا يأمر الرسول ولا ينهى إلا بما يحب الله أن يُفعل وبما يحب الرسول، فطاعة الله عز وجل هي مفتاح دار السعادة، والذي لا إله غيره ما سعد امرؤ حق السعادة بغير طاعة الله ورسوله، فلا ترهبن، ولا تخافن من كلمة الطاعة؛ لأن هذه الطاعة من أجل إكمالك في عقلك، في أدبك، في أخلاقك، في ذاتك، في آمالك، في حياتك، في أموالك.. لا تفهمن أبداً أن طاعة الله تنقصك شيئاً أو تؤذيك بأي أذى، أو تحدث لك شراً أو ضرراً! والله ما كان؛ لأن الله تعالى ولي المؤمنين فهو يأمرهم كالطبيب يأمر المريض بالأدوية ليشفى، وكالأم تأمر الطفل ليرضع من أجل أن يحيا وينمو، فالله عز وجل يأمر عباده وينهاهم، يأمرهم بما يزيد في كمالهم، وينهاهم بما يسبب خسرانهم أو ضياعهم، ثقوا في هذا، والذي لا إله غيره ما أمر تعالى أولياءه ولا نهاهم إلا من أجل إكمالهم وإسعادهم في الدنيا، وفي الآخرة لا تسأل؛ إذ الآخرة أي الحياة الآتية بعد هذه، ونحن نرحل واحداً بعد واحد، تلك الحياة السعادة فيها، وهي أن ينزل الإنسان في دار السلام، في الجنة دار الأبرار، في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا ينزل عبد ولا أمة لا رجل ولا مرأة إلا إذا كان قد طهر نفسه وطيبها وزكاها، بأدوات التطهير والتطييب والتزكية، والله ما هي بالماء ولا الصابون، وإنما هي بطاعة الله والرسول.

    إذا أمر الله بأن تقول قل تلك القولة وفي لحظة وإذا هي انعكاسات على نفسك من طهارة وصفاء، إذا نهاك عن كلمة وتركتها له خوفاً منه أو حباً فيه، ما إن تتركها في تلك اللحظة وأقل من اللحظة، وإذ هي إشاعة نور في قلبك، وما ننسى القاعدة التي لا يجهلها إلا الضالون، وهي قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    وكل إلينا التزكية والتدسية أو لا؟ لأننا نحن الذين نباشر العمل الصالح والعمل الطالح، نحن الذين نعمل بالطاعة ونعمل بالمعصية، فالذين يعملون بطاعة الله ورسوله زكوا أنفسهم، طيبوها، طهروها، أصبحت قابلة للعروج والنزول في الملكوت الأعلى، والذين دسوها ولوثوها، وخبثوها وعفنوها، بمعصية الله والرسول، هؤلاء أرواحهم لا تقبل -والله- في الملكوت الأعلى، ويعرج بها ملائكة الموت، ملك الموت وأعوانه، وما إن يصل إلى السماء الأولى وهي سبع، فيستفتحون فلا يفتح لهم، وتعود إلى أسفل سافلين، ولنقرأ لذلك قول الله تعالى من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41].

    المجرمون والظالمون ما زكوا أنفسهم ولا طهروها، بل خبثوها ودسوها ولوثوها، من يقبلها في ذلك الملكوت الأعلى؟ وقد علق تعالى دخول هذه النفس الخبيثة إلى الجنة تعليق المستحيل، هل يعقل أن الجمل الأورق البعير الأكبر يدخل في عين الإبرة؟ مستحيل.. مستحيل.

    فذو النفس الخبيثة بالشرك والمعاصي والذنوب والآثام، هذه النفس الخبيثة يستحيل في حقها أن تدخل دار السلام، هذه حقيقة ينبغي لكل إنسان -ولا أقول: كل مؤمن فقط- أن يعيها ويفهمها.

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64] أي: بأمره وإعلامه بذلك، لماذا؟ لأن الله عز وجل لا يخاطب الناس واحداً واحداً ولا جماعة، وتعالى الله عز وجل على أن يسمع كلامه ويفهم مراد الله منه لأنهم أقل شأناً، فمن هنا يرسل الرسول ويوحي إليه ويكلمه وهو يبلغهم، فمن هنا ما أرسل من رسول إلا وأوجب طاعته بإذن الله؛ لأن طاعة الرسول هي: أن تعمل بمحاب الله فتزكو نفسك وتطيب وتطهر، وتتجنب مكاره الله ومساخطه فتسلم لك الطهارة، ويبقى لك الصفاء والطيب.

    معنى قوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ...)

    قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64] سبق أن عرفنا أن منافقاً من منافقي المدينة، ويهودياً من يهود المدينة على عهد رسول الله قبل أن تنزل هذه الآيات، اختلفا في شأن من شئونهم، اختصما في قضية من قضايا دنياهم، فاليهودي قال: نتحاكم إلى محمد، لعلم اليهودي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق، ويستحيل أن يجور أو يحيف أو يظلم، وهو يريد أن يأخذ الحق، والمنافق المشرك والعياذ بالله خاف من هذا العدل والحق فقال: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى فلان الكاهن، وهي زلة من أعظم الزلات.

    فها هو ذا تعالى يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64] بأي ذنب؟ بالهروب من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله والحاكم العام، وقل ما شئت، يكفي أنه نائب عن الله في إصدار أحكامه، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64] بذاك الذنب، الرغبة عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبه كفر، ظلم.

    وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ [النساء:64] يا رسولنا، يأتونك إلى مسجدك، إلى روضتك، إلى بيتك، ما كان عنده صلى الله عليه وسلم قصور ولا حصون، جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء:64] أول خطوة أن يأتوا؛ لأنك صاحب الحق، فأعرضوا عنك هروباً من الحق وإحقاقه، فأولاً يأتوا بين يديك، ويستغفرون الله، يصلون إليك، ويقولون: نستغفر الله ونتوب إليه.. نستغفر الله ونتوب إليه.. نستغفر الله ونتوب إليه، ثم تستغفر لهم أنت، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ [النساء:64] ما قال كما في الأول: جاءوك، كان المفروض أن يقال: واستغفرت لهم: قال: واستغفر لهم الرسول؛ لأن هذه العظمة وهذا الجلال للرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا من كونه محمد أو عربي، ولكن من كونه رسول الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64] لتاب عليهم وغفر لهم ورحمهم.

    مسألة: المعنى المراد من استغفار الرسول في الآية

    هنا مسألة تأملوها يفتح الله علينا وعليكم فيها وتأملوا، ذكرناها في هداية الآيات، قال في هذه الآية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

    هنا يتجلى بطلان من يزعم أن في الآية دليلاً على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم، ملايين من القرون التي هبطنا فيها، والعلماء وو.. كلهم يقول: يا رسول الله استغفر لي، يا رسول الله استغفر لي، أمام الحجرة الشريفة، كيف يستغفر لك رسول الله؟ هل هو ما زال يعبد الله ويتعبد الله في الدنيا بالصيام والجهاد والصلاة؟ الرسول صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى: جسده الطاهر محفوظ هنا، وروحه في الجنة في دار السلام، كيف تكلفه بأن يستغفر لك؟ أيعقل هذا؟!

    ومع هذا اتخذوها سنة مطردة متبعة: استغفر لي يا رسول الله، نعم أيام كان صلى الله عليه وسلم في الدنيا يعبد الله ويتقرب إليه بالعمل الصالح، لو قال مؤمن: يا رسول الله استغفر الله لنا، ويقول الرسول: اللهم اغفر لفلان.. اللهم اغفر لفلان، أما بعد وفاته والتحاقه بالملكوت الأعلى نكلفه بأن يستغفر، ما يستغفر.

    قال: لأن قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ [النساء:64] الآية نزلت في الرجلين اللذين أراد التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي، وإعراضهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشترط الله لتوبتهما إتيانهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفارهم الله تعالى، واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما وإلا فلا توبة لهما، أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لاستغفاره له.. وهذا محل إجماع بين المسلمين.

    تأمل لو كان يذنب ذنباً في الهند، في الصين، في أوروبا، في أمريكا، في أفريقيا.. لا تقبل له توبة إلا إذا جاء للرسول واستغفر له الرسول، من يستطيع أن يتوب؟

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم قريباً في مكة الناس بعد فتحها في البلاد هنا بالجزيرة، ما فيه مؤمن يذنب ذنباً ويقول: أنا لا بد لي وأن أذهب إلى رسول الله، وأستغفر الله ويستغفر له الرسول حتى يغفر الله له، والله ما كان هذا أبداً، وإنما المؤمن في أي مكان كان إذا أذنب استغفر ربه وتاب إليه يغفر له.

    وشيء آخر لو كان هذا لازماً لكان الرسول ينبغي أن يبقيه الله على حياته إلى يوم القيامة؛ لأن توبة البشر متوقفة على استغفاره، لكن ما هناك من يوضح أو يبين أو يهدي، فوقع المسلمون في هذا الخلط والخبط، هذه خاصة برجلين ظلما أنفسهما بالتحاكم عند يهودي أو كاهن، وأرادا التوبة أرشدهم الله كيف يتوبون؟

    تعالوا إلى رسول الله الذي ظلمتموه؛ حيث تحاكمتم إلى غيره وهو الحاكم، واستغفروا الله ويستغفر لكم الرسول -وقطعاً ما يمنعهم لما جاءوا تائبين- وحينئذ يتوب الله عليكم.

    اسمعوا الآية مرة ثانية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ من هو هذا؟ رسول الله فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أولاً وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

    مرة أخيرة: لا تفهم يا عبد الله، يا تفهمي لا أمة الله أنه يجوز لي أو لك أو لفلان أن يأتي إلى القبر الشريف ويقول: يا رسول الله استغفر لي، ويقرأ هذه الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ [النساء:64] هذا فعله جهلة مقلدون لا أقل ولا أكثر في أيام الظلمة والهبوط، ومن أذنب ذنباً في الشرق أو الغرب ليس إلا أن يقول: أستغفر الله.. أستغفر الله، يصرخ بها ويقلع عن ذلك الذنب ويفر منه ويهرب، ويندم على زلته يبصر ذنبه وتمح خطيئته.

    اسمعوا الآية مرة ثانية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64] فلم هرب هذا المنافق واليهودي من التحاكم إلى رسول الله وطاعته إلى كعب بن الأشرف؟ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ...)

    قال تعالى، وهذا لنا ولهم ولكل مؤمن ومؤمنة: فَلا [النساء:65] ليس الأمر كما يفهمون أو يدعون، وَرَبِّكَ يقسم تعالى بنفسه؛ إذ هو رب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورب العالمين، وربك يا محمد لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] إذا اختلط أمرهم عليهم واختلفوا في قضية من قضاياهم، لا بد وأن يأتوا إليك ويحكموك فيها، وأنت الذي تحكم بالحق، من رفض ذلك ما هو بمؤمن.

    هذه الآية عظيمة الشأن، فهي لا تسمح لمؤمن أن يتحاكم إلى كافر أبداً، اختلف مؤمن مع مؤمن يجب أن يتحاكموا إلى الله ورسوله، إلى الكتاب والسنة فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي: اختلط عليهم من الأمور ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65]، إذا دخلت المحكمة القرآنية تتحاكم مع أخيك الذي اختصمت معه، إذا صدر الحكم عليك يجب أن تخرج من المحكمة ونفسك طيبة، لا ضيق فيها ولا تململ ولا حرج أبداً، رضاً بقضاء الله تعالى وحكمه.

    حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا [النساء:65] مما قضيته وحكمت به عليهم ويسلموا تسليماً كاملاً.

    شيئان: الأول: أن لا يوجد في نفسك ضيق من هذا الحكم، بل يجب أن ينشرح صدرك وتطمئن نفسك وتفرح أن الله نجاك من أكل أموال الناس أو حقوقهم.

    ثانياً: وتسلم بالحكم تسليماً، إذا قضى بأن تخرج من هذه العمارة ليست لك سلمها كاملة، قضى بأن هذه السيارة ليست لك أعطها كاملة، ويسلموا تسليماً كاملاً، ومن لم يتصف بهذه الصفات ما هو بمؤمن؛ لأن الله هو الذي نفى الإيمان أو لا؟ وأقسم على ذلك وحلف: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    وقد بينا غير ما مرة أن على الذين يساسون ويحكمون بغير كتاب الله وسنة رسوله، قلنا: على أهل القرية أو أهل الحي أن يتحابوا أن يتعاونوا بعد أن يتعارفوا ويتلاقوا على عبادة الله في بيت ربهم، حتى يصبحوا كأسرة واحدة، أبيضهم كأصفرهم، وغنيهم كفقيرهم، وإذا حصل خلاف بين اثنين، رأساً إلى الإمام إمام المسجد على أن يكون فقيهاً، ويتقاضيان عنده، وما قضى به وحكم به يسلم له صاحبه ويأخذه، ويحمد الآخر ربه ولا يبق في صدره حرج، وبعد ذلك لا نبال بالحكام حكموا أو لم يحكموا.

    ستقولون: ما نطيق هذا، كيف ما نستطيع؟ ما نستطيع أن نجتمع في بيت ربنا ونحن أهل قرية واحدة أو سكان حي من أحياء المدينة الكبيرة، نجتمع كل ليلة كما نحن الآن مجتمعون، نتعلم كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً بعد يوم والحب ينمو والطهارة تعلو والإخاء والمودة يفرضان أنفسهما علينا، وإذا بأهل القرية كأنهم أسرة طيبة، فإن حصل خلاف بين اثنين إلى أين نتحاكم؟ إلى القانون الفرنسي أو الإيطالي؟ عندنا كتاب الله وسنة رسول الله، وإذا القرية ما فيها عالم نأتي به، نذهب إلى الشرق أو الغرب ونبحث عن عالم نقضيه ونحكمه في قضايانا في بيت ربنا؛ لأننا مسلمون مؤمنون، أما والوضع كما تشاهدون وتعلمون، كيف نعرج إلى الملكوت الأعلى وندخل دار السلام، كيف؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، الكذبة الواحدة تلطخ النفس، النظرة الشزرا تعوقها، فكيف بالسب والشتم والقتل والضرب، والغيبة والنميمة والكذب والسرقة والتلصص والحسد والكبر.. لا إله إلا الله، كيف ندخل الملكوت الأعلى؟ كيف نستطيع وقد أصدر الله حكمه وقضاه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10].

    كن ابن من شئت يا عبد الله لن تنفعك أبوة ولا بنوة ولا أخوة ولا قبيلة ولا.. ولا..، إنما هي نفسك إن زكيتها طيبتها طهرتها بهذه العبادات المقننة المقدرة، وثبت على ذلك في صدق، وجاء ملك الموت أخذ نفسك وهو فرح مسرور، وتفتح لها أبواب السماء، ويسجل اسمك في عليين، وإن كنت لا تريد هذا ولا تعرفه فسيأتي اليوم الذي نندم فيه حيث لا ينفع الندم.

    معاشر الأبناء! الشيخ مريض وتعب، وأنا جئت لعدة مسائل: منها التبرك بدعائكم ليشفينا الله.

    اللهم اشفنا.

    ثانياً: حتى ما يتعب الإخوان بزيارتي إلى البيت ويرهقون أنفسهم.

    وثالثاً: نسمع كلمات الهدى وننتفع بها إن شاء الله.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755985234