ولعل ذلك هو ما أهله ليكون ثاني اثنين إذ هما في الغار، وليكون بعد ذلك أول خليفة للمسلمين، ولقد سجل لنا التاريخ مواقف رائعة لهذا الرجل العظيم.
هذا ما احتوته هذه المحاضرة، وفي آخرها نبذة عن عمر بن الخطاب، وفضائله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
[الأحزاب:70-71].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من جمع التقى حباً في ذكر الله، وحيا الله قلوباً أقبلت تئرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تعز فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات، اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، ووصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجل المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن الختام.
صور وعبر: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى
[يوسف:111].
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر |
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمديا |
أيها الأحبة في الله! إن أمر آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، ولا يشك عاقل يؤمن بالله ورسوله أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير الخلق بعد رسول الله، وأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وصحابته أفضل قرن من أمة وجدت على وجه الأرض، وإن معرفة أحوالهم وأخلاقهم وسيرهم لتضيء الطريق أمام المؤمن الذي يريد أن يعيش أسوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة أخبارهم وسيرهم، ونشرها بين المسلمين عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع، لماذا؟ لأنهم نقلوا الإسلام إلينا نقلاً صحيحاً؛ ولأن المحافظة على الإسلام تستوجب العناية بتاريخهم، لئلا يجد أعداء الإسلام سبيلاً للطعن في الإسلام عن طريق الطعن في نقلته.
ولما كان الأمر كذلك دعت الحاجة إلى تبيين فضائلهم؛ ليكون ذلك ردعاً للموتورين الذين كفروا الصحابة وضللوهم، وأسقطوا عدالتهم كي يهدموا الإسلام من قواعده وأنى لهم ذلك؟ لكنهم قوم لا يفقهون!!
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل |
ولعل ديننا القويم قد تميز عمن سبقه من الأديان بمعجزة تتجدد في كل وقت وآن، ألا وهي معجزة الرجال الذين عاشوا حياتهم للإسلام فلم يعرفوا للراحة طعماً، ولم يعرف الخمول إلى نفوسهم طريقاً، فكانوا حركة مشبوبة لا تهدأ ولا تفتر ولا تكلُّ ولا تملُّ، لا يهمها من الحياة مالٌ أو متاع، ولا تشغلها دون غايتها زخارف الدنيا وبهجتها، وحدوا همتهم في إرضاء الله، محقوا من بواطنهم كل نية تشوبها الشوائب فكانوا خالصين لله، فأكرمهم بأن جعلهم من معجزات نبيه الكريم، ليثبتوا للدنيا كلها أن دين الله تام كامل، وأن شرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون والظالمون والفاسقون.
إن أخبار هؤلاء الأخيار دواء للقلوب، وجلاء للألباب من الدنس والعيوب، وقدوة في زمن كادت القدوات أن تغيب، فمنهم مثال يحتذى، ونبراس يقتدى، ليعرف المتأخر للمتقدم فضله، ويسعى على دربه ونهجه.
بالوقوف على أخبار هؤلاء الأخيار تحيا القلوب، وباقتفاء آثارهم تحصل السعادة، وبمعرفة سيرهم ومناقبهم تحيا القلوب، وبمعرفة مناقبهم تحصل السعادة، وبمعرفة مناقبهم تكون القدوة بجميل الخصال ونبيل المآثر والفعال، فهيا أيها الجمع الكريم إلى الصور ذات العبر، ولست مدعياً ولست زاعماً أني سأبين العبرة من كل صورة، بل إن البعض منها سيسرد سرداً تتبين فيه العبرة من خلال الصورة، فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه أول من آمن من الرجال على الصحيح، إنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه، إنه الورع الحيي، الحازم الرحيم، التاجر الكريم، صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يؤثر عنه أنه شرب خمراً قط، ولم يؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل برباً قط، ولم يؤثر عنه كذبٌ قط، كان شبيهاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعم به من شبه، رجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير، إنه من لا يخفى عليكم، ولا على مثلكم من المؤمنين، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه.
إنه من دعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر إلى الإسلام وما تلبث وما تلعثم، وما كان لأصحاب الفطر السليمة أن يتلبثوا عن خير دعوا إليه، وكيف يتلبث وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وعلم صدقه وأمانته وحسن سجاياه، وكرم خلقه، علم عدم كذبه على الخلق فكيف يكذب صلى الله عليه وسلم على الخالق، إذ كان لسان حال أبي بكر رضي الله عنه يوم دعي إلى الله من جانب رسول الله: ما جربت عليك كذبا.
أما لسان مقاله: فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فتمتد يده إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فتكون أول يد تمتد إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحسبي وحسبكم هذه الليلة أن نقف مع بعض صور من حياة هذا العلم، وقفة تذكر وتدبر وعظة وعبرة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، كل هذا ليعلم أن ما نحن فيه بسبب بعدنا عن منهج أبي بكر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، لنعلم أنه يوم توارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة.
وجدير إذا الليوث تولت أن تلي ساحها جموع الثعالب |
وجاء بنو تيم قوم أبي بكر ، وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأراً لـأبي بكر ، أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار، ترى بما تكلم! قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! همه الرسول والرسالة، سبه قومه وعذلوه إذ هم مشركون ثم تركوه.
أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئاً وهو يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول: والله يا بني ما لي من علم بصحابك، قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، قالت أم جميل : أتحبين أن اذهب معك إلى ابنك -تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي به كما فتن هو وغيره- قالت: نعم. فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعاً، فقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
رحمهم الله ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أم جميل : هذه أمك تسمع -ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة رضي الله عنها على سرية الدعوة فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة ! قالت: إنه سالم صالح بحمد الله، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن أبي الأرقم ، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحب رسول الله حباً يفوق حب النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون، انتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! هذه أمي برت بولدها وأنت مبارك، فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها ودعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت أن لا إله إلا الله.
همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه أن يدعوها إلى الله جل وعلا.
أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله! والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة، أفضل من عبادة أحدنا عمره كله، يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان وكفى به هادياً ودليلاً إلى القلوب، وحادياً إلى جنات النعيم.
بشرها دليلها وقالا غداً ترين الطلح والجبالا |
علم ذلك أبو بكر فخرج من عند نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، خرج وهمه نصرة هذا الدين ونشره في العالمين، خرج وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام، وبعد أيام يعود فبم عاد أبو بكر ؟ عاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، خرج صادقاً مبلغاً فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة فيما بعد.
فيا لله! يأتي أبو بكر يوم القيامة وفي صحيفة حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يعود وقد أسلم على يديه عثمان وطلحة الزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين.
أرأيتم عطاءً للإسلام كهذا العطاء! قد يعيش الإنسان منا ستين عاماً أو سبعين عاماً أو أقل أو أكثر، لكنها والله لا تعدل في ميزان الحق ساعة من ساعات أبي بكر ، قد لا يكون الصديق حفظ بضع سور من القرآن في ذلك الوقت، ولم يكن حفظ بضع آيات، وبعضنا يحفظ القرآن، ويحفظ من السنة الكثير، ويستمع إلى عشرات المحاضرات، ويستمع إلى عديد من الأشرطة، ويقرأ عشرات الكتب، وينقضي عمره وما هدى الله على يديه رجلاً واحداً، ما السبب؟ إنه نقص الإيمان، أو نقص الصدق لضعف الإيمان في القلوب.
حصان إخلاصنا ما زال يُسمعنا صهيله غير أنا ما امتطيناه |
فهلا صدقنا الله، وهلا أخلصنا النوايا لله، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لـأبي بكر وسلفنا، نرجو الله أن يَمنَّ علينا بذلك، فـ{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش لكن أ نَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور، رأى أبو بكر نفوساً مؤمنة أمضها العذاب، وأعيتها المعاناة، وآلمها التعذيب، جروا في الرمضاء، ضربوا بالسياط، البسوا أدرع الحديد، طفروا في الشمس، كووا بالنار.
في السيرةلـابن كثير يقول ابن عباس : إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلاهان من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ
[النحل:106].
الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف، ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يخبر فيقول: {لقد كان في من كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب} فالابتلاء سنة ماضية أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
[العنكبوت:2] .
أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات فآلمه ما يرى، جمع أمواله وصفى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة ، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله، ليحقق الشعور بالجسد الواحد والبناء الواحد والأمة الواحدة.
يسمع أبو بكر ويرى بلالاً يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أحد أحد قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فصاروا يطوفون به شعاب مكة ، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بـمكة- توضع على صدره ثم يقول له أمية : لا تزال على هذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، ولسان حال بلال وهو الثابت يقول:
أهفو إلى جنة الفردوس محترقاً بنار شوقي إلى الأفياء والغرف |
وقد أمر على الدنيا وسادتها من الطغاة مروراً ليس بالجيف |
أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر رضي الله عنه وأرضاه، يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك، فيقول: لينجينك الواحد الأحد، ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالاً ؟ قال: أبيعه لا خير فيه، فباعه من أبي بكر بعبد أسود لـأبي بكر ، وقيل: بخمس أواق من ذهب، ليعتقه أبو بكر لوجه الله تعالى، ونعم المال الصالح للعبد الصالح.
يقول أمية : يا أبا بكر ! لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً لا خير فيه، فيقول أبو بكر : [[والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهباً لأعطيتكها]].
إعلاناً من أبي بكر للبشرية كلها، أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة، أعتق أبو بكر بلالاً وعامراً وأم عمير وزنيرة وp=1000071>النسية
وابنتها وغيرهم كثير، اعتق الله رقبته من النار وبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.ويأتي أبوه وهو شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني! أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء ينفعونك ويمنعونك في وقت الشدائد، فيقول: يا أبتي إنما أريد ما أريد، ماذا يريد أبو بكر ؟ أيريد السمعة؟! أيريد الرياء؟! أيريد الشهرة؟! والله لو يريدها لوضعها في الأشراف والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة.
ويأتي المنافقون: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
[التوبة:79]
فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
[التوبة:58] يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالاً ليدٍ كانت لـبلال عنده، أي: لمعروف كان لـبلال عنده.
وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب مثل هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله يعلم ما في قلبي، هو عالم السر وأخفى، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله جل وعلا: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى
[الليل:19-21] أي متاع يساوي:
وَلَسَوْفَ يَرْضَى
؟!
أي زخرف يساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى
؟!
أي دنيا تساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى
؟!
لا الدنيا ولا متاعها ولا زخرفها ولذائذها وزينتها، بل هي بحذافيرها لا تساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى
؟!
من الذي وعده بالرضى؟
إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
[آل عمران:30].
وقف أمامهم كالطود الشامخ ليقول في كلماته الخالدة التي حددت منهج الإيمان في حياته: [[إن كان قال فقد صدق، والله إنه ليأتي بالخبر من السماء في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، أفلا أصدقه الآن]] أو كما قال، وانظروا إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الثبات على المبادئ، عاد هؤلاء خائبين خاسرين، واستحق أبو بكر أن يلقب بـالصديق .
أيها الأحبة في الله! لقد علمنا أبو بكر كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال، بل آمنا وصدقنا وعملنا، سمعنا وأطعنا فوالله ما خرج من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحق.
يا لله! هل يبكي فرحاً بمنصب؟! هل يبكي فرحاً بمال؟! بجاه؟! بوظيفة؟!
لا والله الذي لا إله إلا هو إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكن.
فما لجرح إذا أرضاكم ألم. |
أولئك حزب الله آساد دينه بهم عصب الطاغوت تشقى وتعطب |
أولئك أنصار النبي ورهطه لهم يتناهى كل فخر وينسب |
أولئك أقوام إذا ما ذكرتهم جرت عبرات العين حراً تصبب |
جزى الله خيراً شيخ تيم وجنده فراياته في الخير والبر تضرب |
ويلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه: {والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} دموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن للدين إلى قيام الساعة، أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله وإلى رسول الله، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله.
وفي الطريق إلى الغار -كما في الدلائل للبيهقي-: يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبه، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يا
ويصلان إلى الغار ، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، إن كان به أذى وقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها.
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال |
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال |
أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطناً ذكياً لبقاً، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر.
أما راعي أبو بكر -حتى راعي أبي بكر كان له دور، وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء وعبد الله ، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك.
تضحيات ومفاخر خالدات لم تجتمع إلا لآل أبي بكر رضي الله عنهم.
ولذا كان لـأبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم، روى عن أبي الدرداء بإسناد حسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يمشي أمام
تلك المكارم لا صعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا |
النبي صلى الله عليه وسلم لا زال في الغار ، ووصل المشركون إلى الغار ، وأبو بكر يقول: {لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا} لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
[الأنفال:30].
يا أيها الأحبة! إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو أو هروب من محنة لا، بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية.
وحين يراجع المرء حدث الهجرة يلاحظ أن الذي اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ هذا المخطط من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر ، لقد كان صلى الله عليه وسلم بهذا يمثل القائد الفذ، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقتها، ويعطيها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء أكانت الطاقات أطفالاً كـجابر وعائشة ، أو رجالاً وفتيات كـأسماء وعبد الله ، ليؤدي كل واحد دوره.
ولا يرضى صلى الله عليه وسلم لعملية الصحبة بالهجرة، إلا أصحاب السوابق، بل إلا واحد منهم وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة، فهو حارس الطريق، ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلفحه الشمس، يقول عمر : [[والله لليلة من ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
[التوبة:40] والذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: [[أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك يا رسول الله]].
إن أية دعوة إلى الله عز وجل لا بد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلاً إليه رجالاً كانوا أو نساء، ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان على السر، إن مسئولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال، من جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره إلى أبي بكر شاب كهول، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها والصبر على الأذى في تبليغها.
فأنتم أمة رسالة، بل أنتم شهود الله في أرضه، فأين الشهادة على البشرية؟! أين حملنا لمنهج الدعوة إلى الله؟! أصبحت الدعوة إلى الله وظيفة أفراد قلائل، ليست وظيفة الأمة في مجموعها ومجملها، أصبحت وظيفة عالم أو داعية، أو موظف في الدعوة، فأين نحن من التكليف الرباني: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
[يوسف:108]؟
ألست من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ألست ترضى بالسير على خطى محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن كنت كذلك فلا بد لك أن يكون لك من دعوته نصيب عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
[يوسف:108].
في الفضائل للإمام أحمد بسند صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة التي تدخل منه أمتي، فقال
صور عجيبة وحقيقة بالتأمل يا أيها الأحبة، أبو بكر ينفق كل ماله، وعمر نصف ماله، وعثمان ينفق حتى يقول صلى الله عليه وسلم: (ما ضر
من منا أيها الأحبة يلقى الله وقد أنفق عشر ماله مرة واحدة في حياته في سبيل الله ومآسي المسلمين في كل مكان، وجراحات المسلمين في كل مكان، شباب المسلمين صاخب باسم الشهوة فلا يجدون من يعينهم على إعفاف أنفسهم، بيوت تصاب بالتخمة وأخرى بجوارها تصاب بالضعف والهزال، مسلم ينام على الحرير وجاره ينام على الكراتين، فأين الشعور بالجسد الواحد يا أيها المسلمون؟! القرآن للصدقة يندبنا، والسنة تندبنا، وحال المجتمع يندبنا، وفيض المال من فضل الله سبحانه وتعالى بأيدينا يندبنا، من منا يلقى الله وفي صحيفة عمله أنه تصدق بعشر ماله مرة واحدة في حياته؟!
يا أحفاد أبي بكر ! ويا أحفاد عمر وعثمان وعلي !
سيروا كما ساروا لتجنوا ماجنوا لا يحصد الحب سوى الزراع |
وتيقظوا فالسيل قد بلغ الزبى يا أيها النومى على الأمطاع |
واسترجعوا ما فات من أمجادكم ما دمتم في مهلة استرجاع |
يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع |
صورة أخرى: أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: (كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يغفر له، فخرج يبحث عنه حتى أتى منـزل أبي بكر فسأل، هل ثم أبو بكر ؟ فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ما يكره، فجثا أبو بكر على ركبتيه وقال: يا رسول الله كنت أظلم، كنت أظلم، مرتين يقول: أنا أظلم له، أنا البادئ بذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم مبيناً مكانة أبي بكر وفضل أبي بكر: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر : صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي لي فهل أنتم تاركو لي صاحبي
عن ربيعة الأسلمي بسند صحيح كما في الفضائل للإمام أحمد ، قال: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً، وأعطى وانطلق أبو بكر وتبعته، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: فحدثه الحديث، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وقال: يا ربيعة ! مالك وللصديق ؟ قلت: يا رسول الله! قال كلمة كرهها وطلب مني أن أقتص، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل فلا ترد على أبي بكر ، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر ، قال: فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر ، قال الحسن : فولى أبو بكر يبكي
أيها الأحبة! قفوا وتأملوا كلمة ليست من فاحش القول تزلزل كيان أبي بكر، ويأبى إلا القصاص منه، فيا لله! ماذا يقول الفاحشون؟!
ماذا يقول اللعانون؟!
ماذا يقول الطعانون؟!
ماذا يقول المغتابون؟!
ماذا يقول النمامون؟!
ماذا يقول الوالغون في أعراض المسلمين؟!
ماذا يقول من لم يلغوا في أعراض المسلمين عامة لكنهم ولغوا في أعراض خواص المسلمين وهم العلماء، ثم يَدَّعون أنهم على منهج أبي بكر وعمر وسلف المؤمنين؟!
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا |
رويداً على علمائنا أيها الأحبة، رفقاً بورثة الأنبياء، حسن ظن بالعلماء، معرفة لحق العلماء، احتراماً وتوقيراً وتقديراً للعلماء، علماؤنا هم زهرة الدنيا ومشعل نورها في دربنا المتعثر، أنفسنا لأنفس العلماء فداء، وأعراضنا لأعراضهم مطاء.
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللـوم أو سدوا المكان الذي سدوا |
وكان من هذه الشروط: إن جاء من قبل المشركين مسلماً رد عليهم، عندها قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلماً، وبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، فضرب أبوه وجهه وأخذ بتلابيبه -أبوه سهيل مشرك- وضرب وجهه، وقال: يا محمد! هذا أول من أقاضيك عليه أن ترده، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نكتب الكتاب بعد، قال: فوالله لا أصالحك على شيء أبداً.
فوافق صلى الله عليه وسلم على رجوع أبي جندل إلى المشركين، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين! أورد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت، وقد عذب في ذات الله عذاباً شديداً، فازداد الناس غماً على غم، وهماً على هم، ثم قال صلى الله عليه وسلم -كما روي- لـأبي جندل : (يا
لم يتحمل عمر الموقف، رأى أن الموقف موقف ذلة، وما أدرك تحت وطأة غضبه أن رسول الله نبي يوحى إليه، وأن ذلك الصلح فتح من الله مبين، لكن العباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد، لم يستبن له الأمر فأبى إلا أن يعلن عن نفسه عمر حتى يجد الحق الذي يوجد بهما بكبده.
فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قال
ثم أتى عمر أبا بكر رضي الله عنه، فقال: [[أوليس رسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أولسنا على الحق؟ أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال
أما فاطمة رضي الله عنها، فكانت تقول: [[أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، ثم تقول بعد دفنه: يا أنس ! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!]] فلا والله ما تسمع بعدها إلا النشيج والنحيب، ولسان حال أنس ما طابت والله ولن تطيب، ولكنه امتثال لأمر الحبيب، والله ما دفن حتى أنكرنا أنفسنا.
أما الفاروق فأذهله الخبر عن صوابه، فصار يتوعد وينذر ويشهر السيف ويقول: [[ما مات لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن، وليقطعن أيدي وأرجل رجال زعموا أنه مات]].
ويأتي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيدخل المسجد، فلم يكلم أحداً حتى دخل على عائشة ، ميمماً وجهه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسجىً ببرد، فيكشف عن وجهه الشريف، ثم يكب عليه يقبله ويبكي ويقول: [[بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً]].
ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: [[اجلس يا عمر ! فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على أبي بكر ، فقال أما بعد: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
[آل عمران:144]]] يقول ابن عباس : [[والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس فلا أسمع بشراً إلا يتلوها]].
أما عمر فيقول كما في صحيح البخاري : [[والله ما أن سمعت أبا بكر يتلوها حتى هويت إلى الأرض ما تقلني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات]] ذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه مع نبيه وحبيبه، وذلك موقف الصحابة جميعهم، والله لولا الإيمان الذي رجح بإيمان الأمة ما كان لـأبي بكر أن يقفه، معذورون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الخطب جسيم والمصيبة عظيمة، قد كان صلى الله عليه وسلم كل شيء لهم في حياتهم، كان حاكمهم وحبيبهم وأباهم وأخاهم وقائدهم ومربيهم ومنقذهم وهاديهم، فقدوا ذلك كله في ساعة من نهار.
فليهنأ الصديق إذ اختص بذلك الموقف، ومعه لم يكن يضعف وهو اللين الرقيق البكَّاء الحنون، إنه الإيمان الذي وقر في قلبه فصدقه حياً وميتاً، قال في حياته: [[ إن كان قال فقد صدق ]] وقال بعد موته بلسان حاله: إن كان مات فقد بلغ وصدق، ولا ننسى موقف الصحابة ووقوفهم عند كتاب الله، يوم سمعوا الآية من فم أبي بكر رضي الله عنه، صدقوا وآمنوا وثبتوا وأيقنوا، كيف لا وهم خير القرون، بل هم تربية محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: {الصلاة الصلاة} فهلا وعينا هذه الوصايا من صاحبها القائل: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}، كان شغله الشاغل صلى الله عليه وسلم سلامة الصف الذي لا يمكن أن يسلم إلا بسلامة العقيدة، فلا بد أن يبقى عند الدعاة إلى الله في الأرض هم هاتين القضيتين: سلامة العقيدة يتبعها بالتالي سلامة الصف، ولعل آخر نظرة ألقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في فجر يوم وفاته قد أثلجت صدره، وهو يرى أمته صفاً واحداً وراء أبي بكر يصلي بهم، فيتبسم صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلى غبطته بوحدة أمته وراء أبي بكر رضي الله عنه.
وتذهب اللحظات، وما يطلع فجر اليوم الثاني إلا والمسلمون قد جعلوا الصديق خليفة لهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون نموذجاً فريداً من خريجي مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فيا له من نموذج! ويالها من لحظتين متضادتين! لحظة وداع مؤثرة تمزق الأكباد والقلوب، ولحظة أخرى هي لحظة تولي الصديق أمر الأمة، التي أثلج الله بها صدور المؤمنين يوم ولى عليها خيرها، فله الحمد والمنة أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.
فما القوي قوي رغم عزته عند الخصومة والصديق قاضيها |
وما الضعيف ضعيف بعد حجته وإن تخاصم واليها وراعيها |
أسدٌ يقدم في ذاك الوغى رحمة الله على ذاك الأسد |
استعرض الجيش، وأمرهم بالخروج رغم الأعداء، ورغم إحاطة الأعداء بموطن الدعوة والرسالة، ومع ذلك يخرج طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويبلغ من تكريمه لـأسامة رضي الله عنه أن خرج في توديعه ماشياً وأسامة راكباً، يقول أسامة : [[لتركبن أو لأنزلن -فيعلن أن من تواضع لله رفعه- فيقول أبو بكر : والله لا نزلت ولا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي هاتين ساعة في سبيل الله]] لقد كان أبو بكر مسدداً رشيداً، فإخراجه لجيش أسامة حقق للأمة مصالح عظيمة، فما مر الجيش على حي من أحياء العرب إلا أرعبهم، وأثبت أن الضعف لم يتسرب إلى الأمة بعد وفاة نبيها.
تقول قبائل العرب التي ارتدت: ما أخرج أبو بكر الجيش إلا لقوة ومنعة عنده، اتجه أسامة بجيشه إلى البلقاء ، ورجع من هناك بعد سبعين يوماً بعد أن قضى على كل من وقف بوجهه من أعداء الإسلام، رجع مظفراً منصوراً، قد انتقم للمسلمين ولأبيه وأرضى ربه ونبيه والمسلمين، وكل ذلك والله ثمرة للاتباع، أطاع أبو بكر ربه بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الرعب في قلوب أعداء الله، فكان النصر الأول على الروم يشهد بعظمة الصديق ، وسداد رأيه وصلابة موقفه وحزمه، وكل ذلك ثمرة للاتباع.
بمثل هذه المواقف ثبت الصديق أركان الدولة، وعزز هيبة المسلمين.
لا تعرضن بذكرنا مع ذكره ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد |
أيها الأحبة! لقد عامل الصديق مانع الزكاة كالمرتد تماماً، وهذا من فقه أبي بكر رضي الله عنه، فإنكار شريعة من شرائع الإسلام كفر وخروج من الإسلام يستحق صاحبه أن يقاتل، انشرح صدر عمر والمؤمنون لهذا الموقف، فمضى ذلكم الجيل الرباني يلاحق المرتدين في أوكارهم، يدك عروشهم ويفل جيوشهم حتى يعودوا للإسلام أو يلقوا مصارعهم كافرين، وكان له ذلك.
والله يا أيها الأحبة إن الإنسان وهو يسمع تلك الكلمات التي سمعتموها من أبي بكر آنفا ليذكره ذلك بصفحة مضيئة من تاريخنا أيضاً، ومن صحابي آخر ألا وهو خالد رضي الله عنه كما في تاريخ ابن كثير، يوم يقول ماهان أحد قادة الروم: قد علمنا ما أخرجكم من بلادكم أيها العرب إلا الجوع، فهلموا نعطي كل واحد منكم عشرة دنانير وارجعوا، فإذا كان كل عام بعثنا لكم مثل ذلك. فقال خالد بعزة المؤمن الذي يثق بنصر الله، والذي أرعب الناس بذلك الدين الذي يحمله في قلبه، قال: [[لا والذي نفس
خالد الذي يحاصر بلدة من البلدان أشهراً، فتستعصي عليه هذه المدينة ، فيكتب رسالة لقائدها من قلب صادق تخرج الكلمات منه صواعق وقذائف، يقول لذلك القائد الرومي -وهو قائد بلدة قنسرين : [[من خالد بن الوليد إلى قائد الروم في بلدة قنسرين، أما بعد: فأين تذهبون منا، ووالله لو صعدتم إلى السماء لأصعدنا الله إليكم أو لأمطركم علينا]]، فما كان من ذلك الرجل إلا أن رعب وفزع، وألقى الله الرعب في قلبه، فقال: اخرجوا وافتحوا أبواب المدينة لا طاقة لنا بهؤلاء.
خالد معركة اليرموك، يقابله فيها الروم وعددهم مائتان وأربعون ألفاً في مقابل أربعون ألفاً مع خالد ، ربع مليون نصراني قريبون من قياداتهم ومن مصادر تموينهم ومن كل شيء، وأربعون ألفاً من المسلمين بينهم وبين أرض الخلافة صحار شاسعة يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد.
يقال لـخالد في هذه الظروف الحرجة الحالكة القاسية: ما أكثر الروم! فيقول خالد مغضباً: [[اسكت بل ما أقلهم، إنما يكثر الروم بنصر الله ويقلون بخذلانه، وددت أن الروم أضعفوا لنا العدد، وأن الأشقر برء من وجعه]] والأشقر هو فرسه فقد كان قد أصيب بوجع في حافره، فما أصبح يمشي كما ينبغي، أصبح يضلع وهو يمشي، الله أكبر يا أيها الأحبة! إن الإنسان ليقف أمام هذه، فيقول: قد وقعت هذه؟ نقول: والله لولا النقل الصحيح لما صدقنا ذلك.
في عالم القوة المادية المزمن ربع مليون نصراني لا يساوون ضلعاً في رجل فرس خالد رضي الله عنه، لماذا؟ لأنه عَلِمَ عِلْمَ يقين أن الله سينصره، ووالله لا نصر لنا في حياتنا إلا بتطبيق منهج الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، حتى نرى الله سبحانه وتعالى يسير أحداث الكون بقدرته لصالح تحقيق أهداف المؤمنين التي تتمثل في هدف واحد وهو تحقيق العبودية لله في الأرض وحده لا شريك له.
انظروا كيف تصبح كلمات أولياء الله قدراً يجري في هذا الكون لا يثبت أمامها شيء بإذن الله، ينطقون بالكلمة فيطوع الله لها كل شيء، فتبلغ مبلغاً عظيماً لا يقدره إلا الله جل وعلا.
أحبتي في الله: إن الدين الذي قاتل به خالد وأصحابه رضوان الله عليهم محفوظ غض طري بين أيدينا نقاتل به مدى الحياة متى ما شئنا فننصر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
[الحجر:9].
ها هو هرقل وهو على إنطاكية كما في تاريخ ابن كثير يقول لجنده وقد قدمت الروم منهزمة: ويلكم! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موقف، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: أأصدقك؟ قال: نعم. قال: لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون فيما بينهم، أما نحن فنشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، قال هرقل: لقد صدقتني ولقد أتانا منهم ما لا طاقة لنا به.
هكذا كان الجيل الأول من أمة الإسلام، العبرة عندهم بقوة العقيدة لا بكثرة العدد ولا العدة، إذ لا قيمة للسلاح في يد الجبان.
شهد الأنام بفضلهم حتى العدى والفضل ما شهدت به الأعداء |
إنهم منهم:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه |
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدوهن رؤياه |
فما حالنا أيها الإخوة في الله! نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بنعمة منه توقظ قلوبنا، مع الكفار استسلام وضعف وذلة وهزيمة، وبيننا أسود أشاوس، أشداء جلداء.
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر |
فيا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين!
ألم يبق أوس آخرون وخزرج ألم يبق للإسلام جيش عرمرم |
فغاية ما نبلي من الجهد أننا نسب طواغيت اليهود ونشتم |
إذا اتسموا باللؤم والغدر فالذي يفاوضهم منا أخس وألئم |
فيا أمة الإسلام إن شئت عزة فإن كتاب الله هاد مقوم |
وليس لكم شيء سواه يعزكم ويحفظكم من كل سوء ويعصم |
ومع ما نحن فيه أيها الأحبة! إلا أن هناك بشائر عظيمة، ومع ما نحن فيه فإنا نقول:
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج |
في قمة الظلام يولد النور، ولا تزال طائفة على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، وإني لأرجو الله أن نكون من أهل هذه الطائفة.
وإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج |
جاءته السكرة رضي الله عنه بعد أن قدم للرسالة والرسول والأمة ما قدم، حتى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وقال: حسن غريب: (ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها، إلا
ثم يقول أبو بكر وهو في السكرات لابنته عائشة كما في كتاب الخلفاء للذهبي : [[أما إنا قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهماً ولا ديناراً، ولكنا أكلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي]] فما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ خلف عبداً حبشياً، وبعيراً كان يسقي عليه، وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، بعثت بها عائشة إلى عمر ، فلما جاءته بكى عمر حتى سالت دموعه، ونشج وهو يقول: [[رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، فيقول الصحابة: يا عمر! ردها على عياله فهم أحوج لها، قال عمر : والذي بعث محمداً بالحق نبياً لم يكن ليخرجها عند الموت، وأردها على أهله بعد الموت، ولكن أهله أهلي وعياله عيالي]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا أسلم الروح أبو بكر إلى بارئها، فأسكت فم لطالما جلجل بذكر الله، ودعا إلى الله، وأغمضت عينان لطالما سهرتا وبكتا من خشية الله، واستراحة يدان لطالما دافعتا وجاهدتا مع رسول الله، ودّع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلاً للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي، جاهد في الله حق جهاده طيلة أيام رسول الله، ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك المواقف، في أحد والأحزاب وحنين وجميع المشاهد، ولما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، يوم وسد الأمر إليه لم يحد عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر أُنملة.
فحقق في سنتين ونيف ما لا يفعل في مئات السنين، والبشر لا تقاس بأعمارها، لكن بهممها وأعمالها، وهكذا طويت صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، فرضي الله عمن خطها وأرضاه، وجزاه الله خير ما جزى خليفة عن رعيته، بل عن أمته المسلمة إلى يوم القيامة، قد حفظ الله به الدين، وأعز به الحق المبين، ونصر به الإسلام والمسلمين.
أيها المسلمون! أولئك آباؤنا وهاهم أجدادنا فمن نحن؟
أبواب أجدادنا منقوشة ذهباً وهاهياكلنا قد أصبحت خشباً |
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وبعضنا اليوم من أعدائنا شرباً |
إني أبشر هذا الكون أجمعه أنّا صحونا لنبني للعلا عجباً |
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضباً |
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنباً |
أنتم كهم، ومن يشابه أَبَهُ فما ظلم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح |
لا أريد أن أطيل الحديث بحياة أبي بكر رضي الله عنه، وإن كانت حياته جديرة بأن نطيل فيها الحديث، لكن لعل هذه الإشارات كافية في مثل هذا الحين.
روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل : أن أم عبد الله بنت حنتمة كانت تستعد للهجرة إلى الحبشة فراراً بدينها أن تفتن فيه، وإذ بـعمر يقف عليها وهو لا يزال مشركاً، ويقول في رقة لم تعهد منه: [[إنهم طلاق يا
فجاء زوجها، فقالت: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر الآن ورقته وحزنه علينا لطمعت في إسلامه، فقال زوجها: لا يسلم هذا حتى يسلم حمار آل الخطاب، لما يرى من غلظة عمر وقسوته على المسلمين.
حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! ألا إن عمر قد صبأ، قال: فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فثاروا عليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه في المسجد حتى قامت الشمس على رءوسهم، فتعب وضعف وأرهق، وهو يقول بعزة المؤمن وهم وقوف على رأسه وهو جالس: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لتركتموها لنا أو لتركناها لكم.
فيا لله! من كان يقال فيه: إنه لن يسلم حتى يسلم حمار أهله يصبح اليوم يتحدى الكفر، ويعلن إسلامه في وقت لا زال الناس يخفون إسلامهم خوف الفتنة، إنه أمر الله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً
[الأحزاب:38].
أخي لا تيأسن والله خالقنا بالصبر في محكم التنزيل أوصانا |
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : {والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}.
هو الوقاف عند كتاب الله، هو المجاهد المجالد مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، هو الشديد في الحق، ثم هو المستشار لـأبي بكر رضي الله عنه، ثم هو من ولي الخلافة بعد أبي بكر؛ فنشر دين الله في الأرض وعدل وفتح الله على يديه فتوحات عظيمة، أزيلت في عهده دول، شَرَّق الإسلام في عهده وغَرَّب، لم يكد يمضي وقت حتى صار الإسلام بلغ غالب الأرض، فامتدت دولة الإسلام من الشرق إلى الغرب، واهتزت عروش كسرى وقيصر، بل وسقطت على يدي عمر فرضي الله عن عمر .
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه |
ونظرة أيها الأحبة يجيلها المرء اليوم على الحاضر بعد تذكر هذا الماضي، وهذه الصورة المضيئة، فلا يملك إلا أن يقول:
إني أرى ناراً أعد هشيمها وثقابها لكنها لم توقد |
عام وآخر مقبل ومودع لم نعتبر وكأننا لم نشهد |
ولقد تشابهت السنون كأنني ما عشت عمري غير عام مفرد |
ما حيلة العصفور قصوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غرد |
أين الذي نظم الجيوش من الذي نظم الكلام قلائداً من عسجد |
قد كان همهم الفتوح وهمنا أن نغتدي أو نرتوي أو نرتدي |
ومع هذا فإننا متفائلون؛ لأن العاقبة للمتقين، والضربات توقظ النائمين، وظننا بالله حسن.
وإنا لندعو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع |
يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما روى ذلك الإمام أحمد في الفضائل بسند حسن: [[لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله جل وعلا، والله لو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـعمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيء حتى العضى]] إن إسلامه كان فتحاً، وهجرته كانت نصراً، وسلطانه كان رحمة، فرضي الله عنه ورحمه، ولي ولكم موعد مع صور أخرى من حياة هذا العلم وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكني أقول: ما هي المناهج التي خرجت مثل هذه النماذج؟
وما هي الثقافة التي نهلوا منها؟
وما هي التربية والتوجيه الذي جعلهم يقومون بهذا الدور؟
إن المناهج التعليمية والتربوية والثقافية التي خرجت هؤلاء لا زالت بين أيدينا، وتحت أسماعنا وأبصارنا، ما أجدرنا نحن المسلمين رجالاً ونساء شيباً وشباباً أن نقف على هذه المناهج وقفة الضنين على الثروة الرائعة، والظمآن على الماء البارد، لنعد وننهل ونقذف ونتذكر ونذكر.
ما أجدرنا أن نقف على صور هؤلاء العظماء لنتخذها نبراساً نسير على ضوئه بتربية أنفسنا وأبنائنا، وتنشئة جيل مؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بصلاحية هذا الدين وهذا المنهج لكل زمان ومكان، جيل يضحي بكل شيء في سبيل سيادة دينه، لا يثنيه عن هذه الغاية الشريفة بلاء ولا إيذاء ولا طمع ولا إغراء، لسنا نريد الوقوف على هذه الصور لتكون حصيلة علمية نتشدق بها في المحافل والنوادي، ونتفيهق بها في المساجد لنحظى بالثناء وننتزع من السامعين مظاهر الإعجاب.
لا والله: إننا نريد أن تكون هذه الأحداث الصادقة من تاريخنا مدرسة نتخرج منها كما تخرج أولئك السادة الأولون، لنكون مثلاً صادقة لهم في إيمانهم وعلمهم وعملهم وأخلاقهم وسلوكهم وقياداتهم حتى يعتز بنا الإسلام كما اعتز بهم، وما ذلك على الله بعزيز.
وإنا لنرجو الله حتى كأنما نرى بجميل الظن ما الله صانع |
والخير في هذه الأمة أولها وآخرها.
اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، يا من دبر الظهور، وقدر الأمور، وعلم هواجس الصدور، يا من عز فارتفع وذل كل شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أعظم العطية، تجيب المضطر وتكشف الضر وتغفر الذنب وتقبل التوب لا إله إلا أنت، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا عظيم المن، يا كريم الصفح، يا سامع كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا رافع كل بلوى، يا من عليه يتوكل المتوكلون، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك أن ترحم هذه الأمة رحمة عامة، تعز فيها أولياءك وتذل أعداءك، وتجعل كلمتك العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، اللهم أدم ودها واهدها واهدِ بها ويسر الهدى لها، اللهم ولِّ عليها خيارها.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنىً لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
صورة تظهر فهل لها من معتبر يهدى بها من حيرة الخذلان |
لم آت فيها من جديد محدث غير اختيار اللفظ يا إخواني |
فإذا أسأت فذاك من كسبي وإن أحسنت ذا فضل من المنان |
يا رب لا تجعل جزائي سمعة تسري على البلدان والأكوان |
أهدي صلاتي والسلام جميعه لأحب خلق الله في الأكوان |
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر