أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
عباد الله! لقد سمعنا في رمضان ما وقع في السابع عشر من الغزوة الكبرى التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسميت بذلك يوم الفرقان؛ لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، وفي هذه اللحظات نعيش دقائق أو بضع ساعة مع الغزوة التي تليها وهي غزوة أحد.
أيها الإخوة في الله! إن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي غزوة بدر الكبرى، نعم. إنها غزوة بدر الكبرى التي فرق الله بها بين الحق والباطل، الغزوة التي قتل فيها رءوس الكفر وصناديدهم، الغزوة التي حصل فيها النصر للإسلام والمسلمين، حيث مكن الله المسلمين من عدوهم فقتلوهم شر قتلة وأسروا منهم من أسروا، وولى بعضهم مدبرين منهزمين، مغمومين مقهورين.
ولكنهم مع ذلك إذا ذكروا تلك الهزيمة وتلك المقتلة أثرت عليهم، وأجاشت شرهم وحمستهم على أن يأخذوا بثأرها.
فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وألحوا عليه في ذلك وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة ، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، وألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض صلى الله عليه وسلم ودخل بيته ولبس لامته وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله! إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه}.
فخرج صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي بـالمدينة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤياً وهو بـالمدينة؛ رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح وأنه أدخل يده في درعٍ حصينة، فتأول الثلمة في سيفه: برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر: بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع: بـالمدينة.
فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرة بني حارثة ، وقال: {هل من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟ فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين وكان صاحب هذا الحائط أعمى فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: لا تقتلوه، فهذا أعمى القلب أعمى البصر} وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشِعْب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.
استعرض الشباب يومئذٍ فرد من استصغره عن القتال، خرجوا لم يبلغوا من العمر الرابعة عشرة وكانوا يبكون لما ردهم عن القتال رضي الله عنهم وأرضاهم، أين نحن من شبابنا أو من بعض شبابنا؟ أين نحن من بعض الشباب الذين لم يهتموا بذلك وإنما اهتموا بأشياء تافهة دسها عليهم أعداء الإسلام وأعداء المسلمين؟
كان من هؤلاء الشباب: عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد ، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت ، وغيرهم من الصحابة وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم من رآه مطيقاً، وكان منهم: سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهم من العمر خمس عشرة سنة فقيل: أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ.
فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً وكان شعار المسلمين يومئذٍ: أمت، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، لا لـقومية ، ولا لوطنية، ولا لجاهلية، وإنما يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا.
وأبلى يومئذٍ أبو دجانة، وطلحة بن عبيد الله، وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر ، وسعد بن الربيع.
هذه معصية وقعت عصوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مركزهم وقالوا: يا قوم! الغنيمة الغنيمة فذكَّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة وذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلو الثغر، وكر فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرماة فجاوزوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، وقُتِل من المسلمين من قُتِل، أكرمهم الله بالشهادة وهم سبعون.
وكان الذي تولى أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمئة ، وعتبة بن أبي وقاص.
وقُتِل مصعب بن عمير الذي معه لواء المسلمين ، قتل ذلك الشاب وخر صريعاً شهيداً في سبيل الله، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب ، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه صلى الله عليه وسلم، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم وقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: مجه -أي: اتفل هذا الدم- فتحسف أن يتفل دم رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتلعه فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
ياله من ابتلاء وقع للمسلمين، تكالبت أيدي المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون ما الله حائل بينهم وبينه، فحال الله عز وجل دونهم وما يريدون، حال دونهم الله عز وجل ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم حال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك رضي الله عنه وأرضاه، وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان وسقطت فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها بيده فردها مكانها وكانت أصح عينيه وأحسنهما.
وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثيرٍ من المسلمين وفر أكثرهم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشِعْب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر ، وعلي ، والحارث بن الصمة الأنصاري ، وغيرهم.
فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف على جوادٍ له يقال له: العود، زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه عدو الله تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فخر عدو الله منهزماً، وكان يعلف فرسه بنفسه ويقول: أقتل عليه محمداً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: {بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى} فلما طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله؛ فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح فمات منه في طريقه وهو راجع إلى مكة.
وجاء علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماءٍ ليشرب منه، فوجده آجناً فرده وغسل عن وجهه الدم صلى الله عليه وسلم، وصب على رأسه فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هنالك، فلم يستطع لما به من الجراح فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالساً صلى الله عليه وسلم.
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار.
أولئك الصحابة رضي الله عنهم الذين تفانوا تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لنصرة دين الله، فحيا بكم أيها المسلمون! انصروا دين الله عز وجل إن أردتم النصر من الله إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
[محمد:7].
هذه نبذة يسيرة عن أخبار أولئك الرجال الذين دافعوا عن دينهم وعن عقيدتهم، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى كتب أهل العلم، علماء الإسلام الذين خدموا العلم ودونوه جزاهم الله خير الجزاء.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله: اعتبروا بأحوال أولئك الرجال، هذا أنس بن النضر لما انهزم الناس قال:[[اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين- ثم تقدم رضي الله عنه، فلقيه
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي:[[أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت: له ألم تقتل يوم بدر ، قال: بلى. ثم أحييت]] فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هذه الشهادة يا
وقال خيثمة رضي الله عنه وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: [[لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمت ابني في الخروج أي: ضربت أنا وهو السهام فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً وقد والله يا رسول! أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة وقد كبر سني ورق عظمي]].
الله أكبر! لا إله إلا الله! هؤلاء الرجال يقول يا رسول الله: [[قد كبر سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله! أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة]] فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بـأحد شهيداً.
نعم. أولئك الرجال الذين يستجيبون لداعي الله وأين هم منا؟ وفي مجتمعنا الذي يسمع بعض الناس (حي على الصلاة حي على الفلاح) ولا يجيب.
بعض الذين يتزوجون يجلس سبعة أيام لا يعرف بيوت الله، وبعضهم يسافر إلى الخارج ليتعرف على الكفار ويخالط الكفار؛ يشرب معهم الخمور ويأكل معهم لحوم الخنازير، وهذا شهر العسل الذي خالف فيه حنظلة بن أبي عامر الذي غسَّلته الملائكة بماء السلسبيل بين السماء والأرض.
أولئك الرجال الذين عرفوا المستقبل الحقيقي، إنه المستقبل الذي لا يبيد في جنات النعيم في جوار رب العالمين.
أما البعض من مجتمعنا يسمعون المنادي ينادي للصلاة وكأنهم لا يسمعون، فيالها من مصيبة وياله من كسر لا يجبر، نسوا أنهم سوف يهجم عليهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، سوف يخرجهم من القصور والفِلل العامرات وسوف يسكنون في حفر مدلهمة ليس فيها أنيس ولا جليس إلا الأعمال، فإن كانت صالحة فيالها من نعمة في روضة من رياض الجنة، وإن كانت الأعمال خبيثة فيالها من خسارة ويالها من حسرة، ما أعظمها إنه في حفرة من حفر النار.
فيا من أضاع العمر بالأعمال الخبيثة! بادر إلى المتاب قبل غلق الباب، وقبل طي الكتاب، وإسبال الحجاب إلى ما فيه.
يا عباد الله! الصلاة.. الصلاة! التي كان يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ آخر أنفاسه في الحياة وهو يقول: {الصلاة.. الصلاة} التي أضاعها كثير من الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الأحزاب: 56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وارض الله على خلفائه الراشدين أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم رد المسلمين إلى دينهم الصحيح ليكونوا عباداً لك دائماً وأبداً، لا عباداً لرمضان، ولا عباداً للشهوة، يكونوا عباداً حتى يأتيهم اليقين أسوةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيقظنا من رقدة الغفلة، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، يا رب العالمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر