قال أصحاب ابن المبارك له: ما لك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك : أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين، وأشار بذلك أنه ينظر في كتبه، وكان الزهري رحمه الله قد جمع من الكتب شيئاً عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة، حتى إن زوجته قالت: والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
وكان العلماء يحسبون عند تفصيل ثيابهم حساب الكتب، فهذا أبو داود رحمه الله، كان له كُم واسع -وكان الكُم يستخدم كالجيب- وكُم ضيق، فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه، وكان منهم من إذا أصابه مرض من صداع أو حمى، كان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب عليه الصداع ترك الكتاب، فدخل عليه الطبيب يوماً، وهو على هذه الحال يأخذ الكتاب متى استطاع أن يقرأ ويدعه إذا غلبه الصداع، فلامه على ذلك.
وكان سلفنا وعلماؤنا رحمهم الله يقرءون في الكتب على كل أحيانهم، فكان الخطيب البغدادي يمشي وفي يده جزء يطالعه، وكانوا يقرءون عند الاضطجاع، وينفلت الكتاب من يد أحدهم مرة أو مرتين أو أكثر فيعود إليه، فيأخذه، يسقط من النعاس ويعود إليه فيأخذه، وكان البخاري رحمه الله يقدم له الطعام، طعام الإفطار مثلاً وهو يقرأ ثم تأخذه الخادمة بعد فترة، فتأخذ الطعام ولم يمسه، لم ينتبه أصلاً أن الطعام قد جاء، ثم يأتي وقت الغداء، فيوضع له الطعام وهو يقرأ، وتأتي بعد فترة فتأخذ الطعام ولم يمسه؛ لأنه لم يدر أن الطعام وضع ولا أنه، وبعضهم كان يجلس يقرأ في الظل فينحسر عنه، وتأتي عليه الشمس وهو لا ينتبه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: وإني أخبرك عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، فلو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد لكان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع.
أرسل أحد الخلفاء في طلب أحد العلماء، ليأتيه فاعتذر إليه، بأن عنده قوماً من الحكماء يحادثهم، ثم عرف الخليفة أنه لم يكن عنده أحد، فعاتبه وسأله: من الذي كان عندك؟ فقال:
لنا جلساء ما نمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا |
يفيدنونا من علمهم علم ما مضى ورأياً وتأديباً ومجداً وسؤددا |
فلا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا |
من المقصود؟ الكتب.
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب تلهو به إذا خانك الأصحاب |
لا مفشياً سراً إذا استـودعته وتنال منه حكمة وصواب |
هذه الكتب لا تعترف بالفواصل الزمانية ولا المكانية ولا الحدود الجغرافية، فيستطيع القارئ أن يعيش في كل العصور، وفي الممالك والأقطار وأن يصاحب العظماء، وأعمالهم وإن استغرقت أعواماً، وتأمل حال المسلم عندما يقرأ قصص الأنبياء في القرآن الكريم، أين عاشوا؟ في بلاد متباعدة، متى عاشوا؟ في أزمنة متطاولة قديمة جداً، ومع ذلك يقرأ قصة موسى وفرعون كأنه يعيش معهم، وكذا إبراهيم، وكذا هود، وصالح وآدم وغيرهم من الأنبياء والصالحين في القرآن والسنة نقرأ أخبارهم كأننا نعيش معهم، كيف أتتنا إلا بالكتاب، فشأنه عظيم جداً، وبعض الناس يجمع الكتب ولكن لا يقرأ فيها ولا يحصل منها شيئاً، قال الشاعر في شأن مثل هؤلاء:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب فإن للكتب آفات تفرقها |
الماء يغرقها والنار تحرقها والفأر يخرقها واللص يسرقها |
إذا لم تكن حافظاً واعياً فجمعك للكتب لا ينفع |
تحضر بالجهل في مجلس وعلمك في البيت مستودع |
ولذلك أيها الإخوة : النصيحة إذا اشتريت كتاباً فلا تدخله مكتبتك، إلا بعد أن تمر عليه جرداً أو على الأقل قراءة لمقدمته أو فهرسته ومواضع منه، حتى إذا احتجت في المستقبل إلى هذا العنوان أو هذا الموضوع، تعرف أنه موجود في الكتاب الذي اشتريته، أما إذا جعلته في المكتبة مباشرة، فربما يمر عليك، زمان وقد يفوت العمر دون النظر فيه، أليس هذا قد حصل؟
كيف نستفيد من القراءة؟ ما هي الطريقة الصحيحة للقراءة؟
ما هي العوامل التي تسبب العداوة بين الناس والكتاب وكيف نزيلها؟
ما هي أسباب الفهم الخطأ أثناء القراءة؟ وكيف نقضي عليها؟
ما هي أنواع القراءة؟
إلى مسائل أخرى ستستمعون إليها إن شاء الله في هذا الدرس.
عند تعرضنا لموضوع القراءة، تبرز ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: لماذا نقرأ؟ وما هي أهمية القراءة؟
السؤال الثاني: ماذا نقرأ؟ وما هي الكتب التي نقرؤها؟
السؤال الثالث: كيف نقرأ؟
والكلام عن لماذا نقرأ، وماذا نقرأ قد يكون أكثر أهمية من كيفية القراءة، ولعلنا نتعرض لهذين السؤالين في درس قريب إن شاء الله.
لا بد أن تكون قراءتنا -أيها الإخوة- قراءة واعية، المنهج الجاهلي يقول : القراءة للقراءة، الفن للفن، أي أنهم يجعلون القراءة غاية وليست وسيلة، ولذلك فهم يقرءون ما هب ودب، دون تمحيص ولا تمييز، أما المسلم فإن القراءة عنده وسيلة لتحقيق الهدف وهو أشياء متعددة، وعلى رأسها طلب العلم الذي يعرف به المسلم كيف يعبد ربه، هذا الهدف، الوسيلة: القراءة، وهذا المنهج الجاهلي الذي أشرنا إليه وهو: القراءة من أجل القراءة مهما كانت المهم أن يقرأ، ويعتبر الشعب مثقفاً إذا كان فيه أعداد كبيرة من القراء بغض النظر عما يقرءون، هذا المفهوم الجاهلي، قد نتج عنه في مجتمعات المسلمين تكوين فئة من القراء بما يصلح أن نطلق على هذه الفئة: القارئ الإمعة، الذي يكون بوقاً مضخماً لهجمات أعداء الإسلام، لأنه لا يعرف ماذا يقرأ، فيقرأ الضار، ويقرأ أشياء سطرتها أيدي أعداء الإسلام وينشرها بين الناس، دون وعي ولا إدراك.
وبعض الناس -أيها الإخوة- عندهم عقدة، وهي الثقة بكل شيء مطبوع، أحياناً يعرض لك شخص من الناس فكرة خاطئة، تقول له: يا أخي! هذا الكلام خطأ، هذا الكلام مصادم للشريعة، يقول لك: هذا مكتوب في الكتاب، انظر! لو كان خطأ ما كانوا طبعوه.
سبحان الله العظيم!! التقليد الأعمى لكل ما هو مكتوب، آفة أصيب بها كثير من قراء المسلمين، وبعض الناس يشكون في معلوماتهم المؤكدة لمجرد أن الشيء المخالف مطبوع في كتاب!
ونحن أيها الإخوة: قد نلتمس الأعذار للكتاب فنقول: ربما أخطأ لكذا .. ربما وهم لكذا .. لكن هذا لا يجعلنا نتابعهم في أخطائهم مهما كان الكاتب عظيماً.
منها مثلاً: طول الكتاب أو طول الموضوع، وهكذا. فإن هذه المشكلات لها علاجات ولا شك، فمنها مثلاً: أن القارئ المسلم ينبغي أن يقرأ في الكتب السهلة في البداية قبل الكتب الصعبة، الخطأ الذي يصد بعض الناس عن القراءة أنه يقرأ كتباً متقدمة في الفن، أقصد الموضوع العلمي، الفن كلمة شريفة، كلمة جميلة عند المسلمين، ويقولون : فن الفقه، فن التجويد، فن القراءات، فن الأصول، فن النحو، فن الصرف، وهكذا، لكن الآن أهل الجاهلية هم الذين استخدموا هذه الكلمة، استخداماً معيناً، وجعلوا لها مدلولاً معيناً في نفس المستمع، فهو إذا سمع كلمة الفن، فإنها تعني الموسيقى، الغناء، الرقص، نحت التماثيل، وكما يسمونها الفنون الجميلة، ولا أقبح منها عند الله.
نعود فنقول: إن القراءة في الكتب المتقدمة في الفن قبل الكتب المبسطة أو الأساسية من الأخطاء التي تجعل بعض الناس ينفرون من القراءة، فمثلاً: لماذا يقرأ الشخص المراجع الكبيرة قبل الكتب الصغيرة المبسطة؟ لماذا يبدأ بالأصعب قبل الأسهل؟ بعض الناس عندهم نوع من الغرور، فيقول : أنا مثلها، وأنا على مستوى القراءة ولا يهمني أنه كبير أو صغير، ولكن النتيجة تنعكس على نفسيته، فمثلاً: أليس من الخطأ أن يبدأ إنسان يريد أن يقرأ في الفقه بكتاب المغني قبل كتاب العدة ؟ أليس من المفروض مثلاً: أن الإنسان إذا أراد أن يقرأ بالتفسير.
نأتي بأمثلة توضح الفكرة، وفي نفس الوقت نعطي شيئاً في الموضوع، لو أردت أن تقرأ في التفسير -مثلاً- وأنت لم تقرأ نهائياً من قبل، أليس من الأفضل أن تأخذ كتاباً مبسطاً في التفسير جداً مثل: زبدة التفسير من فتح القدير ، فتح القدير للشوكاني ، بسطه محمد سليمان الأشقر ، مثلاً: في كتاب: زبدة التفسير ، كلمة ومعناها، مع أشياء أخرى إضافية مفيدة، ثم إذا أردت أن تتوسع تأخذ مثلاً تفسير ابن سعدي رحمه الله، الذي ليس فيه ذكر المرويات بالأسانيد التي تنفر بعض الناس، وهو بأسلوب -أيضاً- مبسط وسهل، ثم إذا أردت أن تنتقل إلى تفسير ابن كثير ، تنتقل إلى تفسير ابن كثير ثم إلى غيره مما هو أطول وأصعب، وكذلك أليس من الحكمة إذا أردت أن تقرأ في السيرة النبوية أن تبدأ بكتاب دروس وعبر -مثلاً- للسباعي رحمه الله، ثم تنتقل للرحيق المختوم للمباركفوري ، هذا قبل أن تصل إلى البداية والنهاية لـابن كثير . كذلك إذا أردت أن تقرأ في العقيدة، أليس من المناسب أن تقرأ لمعة الاعتقاد مع شرحه، ثم الواسطية ، قبل أن تنتقل إلى الطحاوية فـالسفارينية ، أليس من المناسب إذا أردت أن تقرأ في الحديث على سبيل المثال: أن تقرأ الأربعين النووية مع شرح مبسط، قبل أن تنتقل إلى رياض الصالحين ومشكاة المصابيح بعد ذلك، ومن الأمور التي تجعل بعض الناس ينفرون من القراءة في كتب القدامى، من علمائنا الأجلاء، أن هذه الكتب التي يسمونها بالكتب الصفراء، مع أنها الآن والحمد لله بدأت تطبع طبعات بيضاء، وأكثر العلم موجود فيها، ومؤلفات الأولين قليلة ولكنها كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة ولكنها قليلة البركة.
ولذلك الحذر الحذر -أيها الإخوة- عندما تقرأ للكتاب المحدثين، وهذا يقودنا إلى مسألة وهي الاهتمام باللغة العربية، وتعميق فهمنا لهذه اللغة، والوقوف أمام من يدعو إلى إشاعة اللهجات العامية كما يريد المستشرقون وأعداء الدين، فخرجوا علينا بلغة شرشر ونحو ذلك من الأمور التافهة، وهنا قاعدة : كلما كان الكتاب ألصق بالقرآن والسنة، أي: فيه استشهادات من القرآن والسنة كثيرة، كلما كان أيسر، وكلما كان المؤلف الذي يكتب قريباً من القرآن والسنة، كان كتابه أيسر وأبسط وأقرب للفهم، لأن الله قال : وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
وينبغي -أيضاً- بالنسبة للمؤلفات القديمة، أن ننتقي أصحاب الأسلوب الرشيق، والقلم السيال، والعبارة الجميلة، مثل ابن القيم رحمه الله، لأنك إذا قرأت في كتبه، أو بعض كتبه على الأقل، تحس بانجذاب لكتب القدامى، هذا قبل أن تنتقل إلى قراءة كتب من في أسلوبهم شيء من التعقيد أو تداخل العبارات، أو كثرة الاستطرادات، بعض الناس يقولون: نقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لكن لا نفهم، نقول: نعم. يحصل كثيراً، ابن تيمية رحمه الله كان ذهنه سيالاً، كان يكتب وعندما يكتب تتدفق الأفكار، كالسيل العارم الجارف، فيخرج كل ما عنده ويفرغ في الكتاب.
ولذلك تجد في المسألة الواحدة أقاويل كثيرة جداً وتعليقات ونقد وعرض بشكل مذهل، لكن قد لا يستطيع القارئ البسيط أن يفهم مثل هذا، لكن في نفس الوقت له رحمه الله كتب بسيطة مثل كتاب: العبودية مثلاً.
فإذاً هناك كتب بسيطة يمكن أن يحتفظ بها القارئ، بجانبه تساعده أثناء القراءة، وهو سيلاقي صعوبة في البداية، لكن بعد فترة سيتعود، والكلمة الصعبة الآن إذا عرفت معناها في المستقبل لن تحتاج أن تنظر في معناها مرة أخرى أليس كذلك؟ وستتقوى الملكة اللغوية تدريجياً مع كثرة القراءة، ونعود فنقول : إن تعلم قواعد اللغة العربية، شيء ضروري، فمعرفة الفاعل من المفعول، يؤثر كثيراً عند القراءة، ومعرفة المضاف من المضاف إليه يؤثر كذلك، المبتدأ والخبر، الشرط، فعل الشرط وجواب الشرط، تقديم ما من شأنه التأخير، ماذا يعني في لغة العرب، وهكذا.
وإذا لم يفهم القارئ شيئاً في البداية، فليس من الضروري أنه يقف حتى يفهم، بل يتجاوز الآن ويكمل حتى يسهل عليه الأمر في المستقبل.
من الأمور التي تشد أو تحبب القراءة للشخص أن يحس بالمردود، وإذا كان المردود سريعاً، كان تحبيب القراءة أو حبه للقراءة أكثر، فمثلاً: لو أن الإنسان قرأ مسألة فقهية، ثم تعرض لها، فإنه يستأنس جداً لأنه يعرف الجواب، مثلاً: لو قرأت عن الحج ثم ذهبت إلى الحج سيكون إحساسك بفائدة القراءة كبيراً، لو قرأت كتاباً في صفة الوضوء، أو صفة الصلاة، وأنت تطبق ذلك يومياً، ستشعر بحب للقراءة، لأن الثمرة مرئية ومشاهدة وسريعة.
ومن الأمور أيضاً أن يقيد الإنسان الفوائد الجميلة، اللآلئ التي يقرؤها، وليس كل ما يقرأ يشد انتباهه، وليس كل ما يقرأ يقع في نفسه موقعاً جميلاً، فلو أن القارئ يدون الأشياء الجميلة التي يقرؤها، الأحداث المؤثرة، فإنه بعد فترة ستتجمع عنده أشياء، لو فهرسها، ستخرج في كتيب جميل، إذا قرأه استأنس لأن عنده فواكه عذبة مما قرأه، وكثير من العلماء لهم مصنفات، هي عبارة عن فوائد، حصلت لهم أثناء البحث والقراءة، انظر إلى كتاب: بدائع الفوائد لـابن القيم رحمه الله مثلاًُ، يتحدث الناس بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وأحياناً يحب الإنسان القراءة أكثر لأنه يعيد القراءة فيستفيد من إعادة القراءة معاني جديدة، لم يكن قد عرفها من قبل، وبالذات الذين يتدبرون القرآن الكريم، فإن هذا القرآن لا يشبع منه العلماء، كلما قرأت بتدبر وجدت معاني جديدة، وكذلك عندما تقرأ في كتب العلم وتعيد الكتاب مرة أخرى، تثبت ما كنت حفظته، وتحفظ شيئاً جديداً وتفهم شيئاً جديداً، وهذا يحببك في القراءة بزيادة.
عندما نقول: أن من الأشياء التي تنفر القارئ من الكتاب أنه يمر بأشياء لا يفهمها، يجب أن يكون للقارئ موقف مهم جداً في هذا المكان وهو: ما جاءنا من سنة علمائنا أنهم كانوا إذا استغلقت عليهم المسألة، أو مر بهم الأمر الصعب أثناء القراءة، كانوا يلجئون إلى الله، ويتضرعون إليه ويسألونه أن يفتح عليهم سر هذه المسألة، مثلما كان يقول شيخ الإسلام رحمه الله مناشداً ربه: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، لأن الله قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].
وهذه المناشدة لله هي التي تفتح عليك هذا الذي استغلق من المسألة أو الكلمة أو العبارة الصعبة في الكتاب، لكن بعض الناس مع الأسف ليست عندهم هذه الروح، أو هذه النفسية، التوجه إلى الله إذا استصعب عليه شيء في القراءة، ومن الأشياء التي تحبب الإنسان إلى الكتاب: الاعتناء بالكتاب، وكان علماؤنا رحمهم الله يعتنون بكتبهم اعتناء شديداً، فكانوا يقولون مثلاً: لا تجعل كتابك بوقاً ولا صندوقاً، بعض الناس يأتي بكتاب ويلفه على شكل دائرة، ويمسكه بيده فيكون كالبوق، وهذا ملاحظ في طريقة الحمل، يلف الكتاب ويحمله بيده، أو يجعله صندوقاً، يضع فيه الأوراق والأقلام والدفاتر، وينتفخ الكتاب ويتشقق بفعل هذه الأشياء التي تكون داخله، فتجد كل شيء في الكتاب، وذكروا في صفة القراءة قالوا: لا يفرشه، بعض الناس لما يأتي بكتاب يفتح الكتاب ثم يدعكه بيده بشدة حتى يفتحه، فالكتاب يتفلت، وتتفلت الأوراق، هذا الخيط الذي يمسك الأوراق والملازم يتفلت، والصمغ يتفكك، لا يفرشه لكي لا يتقطع حبله بسرعة، ولا يوضع على الأرض مباشرة .
إذا جاء يرص الكتب في الخزانة أو في الدولاب أو في الرفوف، لا يضعه على الأرض مباشرة وإنما فوق خشبة، لئلا يبتل، وإذا وضع على خشب وضع فوقها جلداً، وتحتها جلداً إذا لم يكن هناك عازل، أو بينه وبين الحائط يضع جلداً، ويراعي في وضعها أن يكون أعلاها هو أشرفها، ثم يراعي التدريج: القرآن ثم الحديث ثم شرح الحديث، ثم العقيدة، فالفقه فالنحو فأشعار العرب، حتى الكتب لها ترتيب، فإن استوى كتابان في فن معين، صاروا مثل بعض، جعل أعلاهما أكثرهما قرآناً أو حديثاً، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة، فإن استويا فأكثرهما وقوعاً في أيدي الصالحين والعلماء، أي: الكتاب الأكثر استخداماً، فإن استويا فأصحهما، وهكذا.
وحفظ الكتاب يشرح الصدر، عندما ترى كتابك جميلاً جيداً، يفتح نفسك للقراءة، بعض الناس يضعون كتبهم على الرفوف بشكل مائل، ماذا يحدث للكتاب، تختلف الصفحات، ولا بد من الاعتناء بتجليدها وتلصيق ما تمزق منها، ولا يرمي الكتاب، بعض الناس إذا أراد أن يناول أحداً كتاباً رمى له بالكتاب، وهذا يساعد في تشققه وتلفه، بل يناوله مناولة، ولا يكتب عليه بأقلام لا تمحى، إلا الأشياء المهمة، طبعاً الإنسان عندما يشتري ينتقي الطبعات النظيفة، والأوراق التي يسهل القراءة فيها، والحرف ترى له أهمية في القراءة، فعندما يكون صغيراً جداً يتعب في القراءة، لذلك بعض السلف قال: لا تقرمط، فتندم وتشتم، لا تقرمط أي: لا تكتب بحروف صغيرة جداً، فإذا احتفظت فيها ثم كبرت وصار بصرك ضعيفاً تندم في المستقبل، لأنك ما تقرأ بسهولة، وإذا ورثتها لغيرك مثل المخطوطات التي كانت تورث؛ تشتم، ويقال: فلان هذا كاتب الخط، هذا الذي ما يقرأ.
وكذلك لا يبقي الكتاب مفتوحاً لفترة طويلة، أو مقلوباً بعدما يفتح لفترة طويلة، ولا يضع ذوات القطع الكبيرة فوق ذوات القطع الصغيرة لئلا تسقط، ولا يجعل الكتاب خزانة للكراريس، أي يضع فيه أشياء: كراريس أو مخدة، فبعض الناس ينام عليها، أو يجعله مروحة، أو مكبساً يكبس به، ولا مسنداً ولا متكأً ولا مقتلة للبعوض، ولا يطوي حاشية الورق.
بعض الناس إذا أراد أن يعلم المكان الذي وقف عليه، طوى الصفحة، ثم يطوي صفحة ثانية، وكان العلماء يكتبون: بلغ، حتى يعرف أين وصل، ونحن الآن نطوي الأوراق، وإذا أراد الإنسان أن يضع علامة يضع ورقة رقيقة في المحل الذي وصل إليه، ولا يُعلِّم بعود أو شيء جاف، وحتى طريقة قلب الصفحات، بعض الناس يقلب بعصبية كأنه يريد أن ينتقم من الصفحة، مع أنه يمكن أن يقلب بكل تؤدة وسهولة ويحافظ على صفحات الكتاب، ويتفقده عند الشراء، حذراً من المسح أو النقص أو عكس الملازم وقلبها، وهذا يلاحظ كثيراً في الكتب، ويعيرها لمن يأتمنه عليها، حتى لا تضيع، ولا يجوز له أن يحبس الكتاب المعار عنده، المستعير إذا استعار كتاباً لا يحبسه، ولا يحشيه ويكتب في بياضه إلا إذا علم رضا صاحبه، إذا علمت أن صاحبه يرضى أنك تكتب اكتب وإلا لا تكتب، ولا بد من الاهتمام بالكتب ذات علامات الترقيم الجيدة، فواصل ونقط، ويبدأ فقرة جديدة من أول السطر.
وكذلك إذا حصل على كتب فيها تقسيمات وتفريعات في أشكال توضيحية تساعد في فهم الفكرة، مثل: كتابة الجداول الجامعة للعلوم النافعة، فيكون هذا جيداً.
ويمكن أن يسمع عند الاسترخاء، مثل ما فعل جد شيخ الإسلام ابن تيمية ، إذا دخل الخلاء أمر قارئاً أن يرفع صوته ليسمع ويستفيد، أفضل من أن يغتسل الإنسان نصف ساعة، ويجلس فارغاً، ممكن يفعل هذا، يسمع الشريط، لكن أن نقلع عن الكتاب ونرغب عنه بالأشرطة فقط، فهذا خطأ كبير جداً، حتى الفهارس التي صدرت فإنك تجد مع إيجابيتها الكبيرة إلا أنها قتلت روح البحث عند الناس، فالباحث يرجع إلى المسالة ولا يمر على أي مسألة أخرى، قد يكون بدون الفهرس سيمر عليها.
ونستطيع أن نشجع الناس على القراءة بأمور كثيرة، مثلاً: معارض الكتاب لها دور، الغرب عندهم أسبوع الكتاب، ونادي الكتاب، واتحاد القراء وأشياء كثيرة، لكن نحن نستطيع إقامة معارض الكتاب والإعلان عن الكتب في الوسائل المختلفة، إقامة محاضرات عن القراءة، وفقرات منهجية في المدارس والجامعات، وحصص خاصة بالقراءة الحرة إذا أمكن، وإنشاء مكتبة في البيت، وتكون هناك مسابقات للقراءة، الشاهد: هناك وسائل يمكن أن نشجع عامة الناس على القراءة من خلالها.
هناك نوعان من الشرود: شرود النظر والفكر معاً، وشرود الفكر فقط، أنت أحياناً قد تقرأ كما ذكرنا والعين تعمل والقلب لا يعمل، فهذا شرود الفكر وشرود القلب: النظر موجود لكن القلب لا يوجد، لاتوجد متابعة، وأحياناً تجد نفسك وأنت تقرأ قد نظرت في شيء وجلست تبحلق فيه فترة من الزمن، أو وضعت يدك على خدك وجلست تسرح في موضوع، أو ترى نظرك في جهة والكتاب في جهة، وقد ذهبت في وادٍ آخر أثناء القراءة، هذا الشيء طبيعي بالنسبة للشخص الذي يريد أن يتعود على القراءة في البداية، والناس كل واحد فيهم تقريباً لا بد أن يشرد، لكن المشكلة والقضية أنهم يختلفون في الشرود، فمنهم من يطول شروده ومنهم من يقصر، ومنهم من تخطر له خاطرة أو خاطرتان ومنهم من تخطر له عدة خواطر.
العين -أيها الإخوة- ترى رسم الحروف لكن لا تفهمك معنى الكلام، وإنما القلب هو الذي يفهمك المعنى، وعن طريق التدبر تلتذ القراءة، هناك أمر وهو: إذا لاحظنا القراء الآن نجد أنهم يختلفون، فمنهم قارئ سماعي، لا يقرأ إلا برفع الصوت، يوجد أناس لا يعرف يقرأ أبداً ولا يفهم ولا يستوعب إلا إذا رفع صوته، ولذلك يصير مزعجاً بالنسبة لشخص آخر.
هناك قارئ آلي، يحرك شفتيه لكن بدون صوت، تجده يقرأ بالشفتين، وهناك قارئ بصري لا يقول شيئاً ولا يسمع شيئاً، لكن فقط ينظر ويفكر، لا تسمع صوتاً ولا ترى حركة، وإنما يتابع ببصره وقلبه، بعض الناس المفكرين يقولون: إن الأخير هو أجود الأنواع لأنه يركز تركيزاً شديداً جداً، بحيث أنه لا يحتاج إلى أشياء أخرى تنبهه وتجعله يعيش داخل الموضوع، ولكن الناس يتفاوتون، وممكن شخص لا يستوعب إلا برفع الصوت، وممكن شخص لا يستوعب إلا بتحريك الشفتين، وممكن شخص لا يركز إلا بالنظر مع استعمال الفكر والقلب، فالناس يتفاوتون، كل واحد يرتاح بطريقة معينة.
وكذلك الأشياء نفسها المقروءة تختلف فمثلاً: ذكر بعض أهل العلم قال : ينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يسمع نفسه فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرؤه، وإذا كان المدروس مما يفسح طريق الفصاحة يكون رفع الصوت به مهماً، مثل قراءة الشعر، قراءة الأشياء التي تحسن الأسلوب، التي تحسن النطق، التي تجلب الفصاحة، هذه رفع الصوت بها مهم، ويقول أحد أهل العلم وحكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لكنة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتاب الجاحظ -و الجاحظ من المعتزلة ضال في العقيدة، لكن له كتب جيدة في أسلوب الفصاحة، مثل كتاب البيان والتبيين- فأرفع بها صوتي فما مر بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى، لذلك رفع الصوت كأن يسمع القارئ نفسه القرآن من الأمور التي تجعله فصيحاً جداً.
أيها الإخوة: من الأمور السيئة أنه وجد مطرب مغني ينصح الشباب الذين يريدون الإقبال على الغناء، فيقول لهم: وصية: أنصحكم بدراسة التجويد، لأنه يساعدكم على أداء الأغنية بكفاءة عالية، فالتجويد فيه علم مخارج الحروف، والتفخيم والترقيق، أي أشياء كثيرة، لكن انظر السفيه يريد أن يستغل التجويد في الغناء.
أحد الشباب كان في المذاكرة أيام الجامعة، يذاكر وكان الكتاب ضخماً فيه ما هب ودب، فكان يستخدم الألوان، اللون الأصفر للأشياء المهمة جداً، قانون يجب حفظه، الشيء الأزرق أقل أهمية، الشيء الأحمر أقل شيء، ويترك الباقي بياضاً أو يرقمه، فيجعل للشيء المهم جداً رقم واحد، وللمتوسط رقم اثنين، وما يمكن تأجيله في المذاكرة رقم ثلاثة، فإذا وجد وقتاً قرأه وإلا تركه.
فهذه أشياء مهمة نافعة جداً في التحصيل، وكذلك وضع الأرقام بالإشارة إلى أهم النقاط، ترقيم الأشياء، وقد تجد بعض الكتب ليس فيها شيء مرقم، فإذا رقمته فإنك تحس بنوع من التركيز أكثر، والإشارة إلى أرقام الصفحات التي ذكرت فيها النقاط لها علاقة بهذه النقطة، وهذا يدل على أنك مستوعب، ولذلك يقول -مثلاً-: انظر صفحة كذا .. تقدم الكلام عن هذا الموضوع في صفحة كذا، فمعنى ذلك أنك متابع وأنك تربط بين هذه الفكرة والفكرة التي سبقت، وأيضاً: القيام بكتابة أسئلة، فأحياناً الشخص يكتب سؤالاً على أساس أنه يقول: سأسأل عنه العالم كذا، أو يذكر نقطة فيكتب سؤالاً: هل يدخل فيها كذا، أو تبسيط الفكرة في الهامش، أنت إذا نظرت إلى كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم طبعة الشيخ: محمد حامد الفقي رحمه الله، ماذا تلاحظ في هذا الكتاب؟
فيه عناوين جانبية كثيرة جداً، في كل مقطع عنوان جانبي، وذلك لأن الأولين كانت كتبهم عبارة عن فصل ويسرد لك فيه عشرين صفحة، ثم فصل ويسرد فيه خمسين صفحة، يعني ذهن سيال ما شاء الله! حفظة، الناس الآن بدءوا يكتبون بهذا التفصيل وهذا التنقيط، وهذا الترقيم الموجود، فأنت إذا قرأت في كتب الأقدمين استخدم هذه الوسائل، العناوين الجانبية مثلاً: اكتب موضوعاً لكل فقرة ستلاحظ أول شيء التعريف اللغوي، ثانياً: التعريف الشرعي، اكتب: التعريف الشرعي، ثالثاً: الأدلة، رابعاً: أقوال العلماء، خامساً: القول الراجح، حاول أن تكتب في الهامش العنوان الذي يدلك ماذا يوجد في هذه الفقرة، وإذا كنت لا تحب أن تكتب في كتابك أو لم يكن الكتاب كتاباً لك، استعرته مثلاً، خذ ورقة خارجية ودون فيها الملخص، وإذا كنت لا تحب الكتابة حتى في كتابك أنت، خذ ورقة ودون فيها الأشياء، تكون مناسبة لمقاس الكتاب ثم ألصقها في الغلاف من الأخير أو من الأول، وبعض الناس يقول: يا أخي! الكتاب يضيع الوقت، أنا كل شيء أكتبه هذا معناه أن أجلس في الكتاب أسبوعاً، نقول: اجلس أسبوعاً واستفد أحسن من أن تكمله في ساعتين ولا تستفيد.
حاول أن تجعل كتابك ثرياً، كيف؟ بعض الناس يثرون كتبهم، يصير الكتاب عنده يساوي أضعاف أضعاف قيمته في المكتبة، وليس عنده استعداد أن يعطيه لأحد لأنه يخشى عليه، لأن الكتاب صار ثميناً، كيف صار ذلك؟ مثلاً: إذا مر على قول ذكره الكاتب قال -مثلاً- للعلماء أقوال أخرى، ونقل من كتب أخرى الأقوال في الهامش، حديث مر عليه ذهب إلى كتب التصحيح والتضعيف وخرج الحديث وبين صحته: صحيح، انظر صحيح الجامع رقم كذا، تلخيص الحبير رقم كذا، وهكذا، ينقل درجة الحديث، أو يكتب نقداً لفكرة خاطئة، يقول: وهم الكاتب هنا، والصحيح كذا، لأن فلاناً يقول من العلماء كذا.. ونحو ذلك.
أو يصوب الخطأ المطبعي فيضع إشارة بالقلم الرصاص، ويكتب فوق الكلمة: الصحيح كذا، ولكن لا تستعجل؛ لأن الشخص أحياناً يظن ما ليس بخطأ خطأً فيصحح، وتصحيحه خطأ، والموجود في الكتاب هو الصحيح، مثلاً: قرأ تذهيب التهذيب وهناك كتاب: تذهيب التهذيب قال: تذهيب التهذيب ما سمعت به ولكن المعروف: تهذيب التهذيب ، فشطب على تذهيب وكتب فوقها: تهذيب، مع أن هناك كتاباً اسمه: تذهيب التهذيب ، لكنه لا يدري، ومثلاً: قال الباوردي ، يقول : من هذا الباوردي ؟ لا، البارودي هذا المعروف، فيشطب على الباوردي وكتب: البارودي ، مع أن هناك عالماً معروفاً اسمه: الباوردي وهكذا، فلا تستعجل بالتصحيح، وليكن بقلم رفيع وخط دقيق، يوضع فوق الكلمة، وبعض الناس يحك حتى إنه يخرق الورقة، ومن المفيد عند انتهائك من قراءة الكتاب أن تكتب مذكرة على جلدة لكتاب، عبارة عن تقويم عام، أو اختصار للكتاب يحوي ما تضمنه من أفكار والملاحظات عليه سواء ما يتعلق بالشكل والمضمون أو الأسلوب، المربي والداعية الذي يعلم الناس يهمه جداً هذا الكلام، لأنه يعرف من خلال هذا التقويم من يصلح أن يهدى إليه هذا الكتاب ومن يصلح أن يقرؤه.
وإذا أردت أن تلخص كتاباً فلا بد أن تعرف فن التلخيص، والتلخيص له فن لا بد من الاستيعاب والفهم أولاً، ثم تقدر حجم التلخيص ثانياً، ثم تتحرر من عبارات الكاتب الأصلي إلا إذا كانت مهمة جداً، وتصيغها بكلماتك أنت وعباراتك، والتلخيص قدرات عند البشر، لذلك بعض الطلاب عندما يقول المدرس: لخص لي الكتاب الفلاني، تجدهم يأخذون من هنا سطرين ومن هنا سطرين، وهنا سطرين، فتجده ينقل نقلاً، ثم يخرج في النهاية كلام ليس بينه ترابط على الإطلاق، لأنه استعمل عبارات المؤلف، فلابد من صياغته صياغة كاملة تامة مترابطة.
الكفرة يقولون: الموسيقى الهادئة تساعد على القراءة، هم يقولون: أنها تساعد على حلب البقر الهولندي، لكن أنها تساعد على القراءة! لا حول ولا قوة إلا بالله! وبالمناسبة نحن نقول أيضاً: ليس المقصود أنك تستبدل وتفتح القرآن وتقرأ، القضية أن فيها حرجاً، أنك تلهو، أن يصير فقط اللحن وأنت تقرأ في شيء ولا تنصت للقرآن.
فلا بد -إذاً- من التوثق والمقارنة، كل ما أشكل شيء نرجع إلى الأصل، نرجع إلى الأصل وهكذا، أحياناً تكون صياغة المؤلف قصيرة جداً أو مختصرة، فتحتاج إلى تركيز في القراءة، وهذا شأن علمائنا، وقد يكون الكلام طويلاً متداخلاً يحتاج إلى تحليل، وحذف الأشياء الزائدة، وترتيب العبارات من جديد لتفهم.
من الأشياء التي تساعدك على فهم الكلام إذا قرأت -مثلاً- أدلة المسألة ثم أراد المؤلف أن يذكر الحكم، أغلق الكتاب ثم حاول أن تستنبط ماذا سيقوله الكاتب أو المؤلف أو العالم، حاول أن تفكر في المقدمات وتستنبط النتيجة، ثم افتح وقارن ما فكرت فيه واستنبطته بما كتبه العالم، هذا يساعد على تمرين الذهن للفهم وخصوصاً في المسائل الفقهية.
مثلاً الرموز: (خ) البخاري ، (م) مسلم ، (ت) الترمذي ، (ن) النسائي ، (هـ) ابن ماجة ، أحياناً هذه الرموز تختلف من مصنف إلى آخر، بعضهم (ق) متفق عليه، وبعضه يقول: (ق) ابن ماجة مثلاً، أحياناً يختلف من كتاب إلى آخر لنفس المصنف، وعلى أقل الأحوال لو أن الإنسان ما فاته مصطلحات، ستفوته فوائد من عدم قراءة المقدمة، وإن لم يقع في أخطاء، كمثل أنه لا يعرف ما معنى سكوت ابن حجر على حديث في كتاب: تلخيص الحبير ، ما معناه؟ إذا أنت ما قرأت المقدمة، وعرفت أن ابن حجر يقول: إذا سكت عنه -ما قلت شيء بعده- أي: أنه حسن، لا يمكن أن تعرف درجة الحديث، خلاص ذكره ابن حجر وما قال شيئاً.
وبعض الناس يقولون: ما معنى نا، ثنا، أنا؟ يقول: هذا كل حين يقول: أنا فلان، أنا فلان، يقول: ما شاء الله الرواة يعرفون بأنفسهم! والمقصود أنا، أي: أنبأنا، ثنا: حدثنا، اختصارات.
وأحياناً يحتاج القارئ أن يقرأ كتاباً آخر ليعرف طريقة مؤلف أو كتاب، مثل صحيح البخاري ، العلماء استقرءوا منهج البخاري ووضعوه في كتب، وبعض كتب الفقه لها مصطلحات مثلاً: مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لـابن عبيدان الحنبلي ، هذا إذا قال: اتفقوا يقصد الأئمة الأربعة مثلاً، أحياناً إذا قال: اتفقت يقصد ثلاثة إلا فلاناً، أحياناً إذا قال: اتفقا يقصد فلاناً وفلاناً، ولكن ليس دائماً يقول هذا، فلابد أن تعرف ذلك، وقد ذكر لك الاصطلاح في البداية.
ما معنى قول الترمذي حسن صحيح؟ ما معنى قوله: حديث غريب؟ وما هو مصطلح البغوي في المصابيح ؟ المنذري في الترغيب والترهيب له مصطلح معين يدل على درجة الحديث، بعض الناس عندهم سطحية تسبب سوء فهم، وبعض الناس عندهم بعد نظر أكثر من اللازم فيتجاوزن العبارة ويحملونها ما لا تحتمل، وهكذا.
وعن الفضل بن يوسف الجعفي قال: سمعت رجلاً يقول لـأبي نعيم : حدثتك أمك عن فلان، وعن فلان، ماذا أمك؟ يقصد راوي اسمه: أمي الصيرفي ، فقرأها هذا (أمي) وقال: حدثتني أمي، أعطني الحديث حدثتني أمك عن فلان، فقال: سنينك، سنينك متى كانت أمي تدخل يدها في جرة العسل.
وعن أبي العيناء قال: حضرت مجلس بعض المغفلين، فأسند حديثاً قدسياً، فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن الله، عن رجل، فقال: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فأخذ الكتاب ففحصه، فوجد أن قوله عن الله عن رجل، فإذا هي: عز وجل، لكن عز الزاء صارت من طرفها طويلة قليلاً إلى الأعلى، وكلمة (وجل) صارت فيها الواو راء.
وبعضهم كان لا يحلق يوم الجمعة، لماذا؟ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلق يوم الجمعة، كيف عن الحلق يوم الجمعة؟ حديث: (نهى عن الحِلَق يوم الجمعة) أي: النهي عن تحلق الناس قبل الصلاة، لئلا يقطعوا الصفوف في صلاة الجمعة، وحتى لا يلتهوا ويفوت غرض الخطبة والتهيء النفسي لها بالحلقات والأحاديث.
وجاء رجل إلى الليث بن سعد فقال: كيف حدثك نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي نشرت في أبيه القصة؟ قال: أعطني حديث الذي نشرت في أبيه القصة، فنظر فإذا هو حديث: (الذي يشرب في آنية الفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم) فبدَّل يشرب في آنية الفضة: نشرت في أبيه القصة.
وبعضهم صحف حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عنزة) العنـزة هي حربة كانت تركز له فيصلي وراءها إذا صار في الخلاء، فقال: (صلى عليه الصلاة والسلام إلى عنـزة) جاء بعنـزة وجعلها سترة، وبعضهم عرف أنها عنـزة لكن جاء الخطأ من شيء ثانٍ، هذا الرجل اسمه: محمد بن مثنى العنزي من قبيلة عَنَـزَة، قال لهم يوماً: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنـزة قد صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فتوهم أنه صلى إلى قبيلته.
وأما التصحيف في القرآن مع الأسف فهو كثير، اجلس بجانب أي واحد من العامة واسمع قراءته لتسمع التكسير والتخبيط في القراءة، شيء عجيب، أحدهم صحف فجعل السقاية في رجل أخيه، وهي في رحل أخيه، قال: في رجله، وهكذا.
سمع أعرابي إماماً يقرأ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] أي: لا تتزوجوا المشركة حتى تؤمن: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] معنى لا تنكحوا المشركين أي: لا تزوج بنتك أو أختك إلا لواحد مسلم، فالقارئ أخطأ، قال: ولا تَنكِحُوا المشركين حتى يؤمنوا فقال الأعرابي: ولن ننكحهم حتى ولو آمنوا، كيف نكاح الذكر للذكر! والرجل للرجل؟! قبحه الله لا تجعلوه بعدها إماماً فإنه يحل ما حرم الله. وهذا أعرابي جاء من البادية .
لذلك -أيها الإخوة- العلماء القدماء كانوا يضبطون، ما هو مثل المطابع الآن بالضمة والفتحة والكسرة، يقول: بفتح المثلثة وكسر المعجمة، ما المثلثة؟ أي: الثاء، المثناة الفوقية: التاء، بالموحدة: الباء أو النون، فيكتبون كتابة: بضم أوله، وفتح ثانيه وهكذا، حتى ما يحصل الخطأ في هذا.
ولذلك لا بد من الضبط والانتباه والتركيز والتثبت أثناء القراءة، وقد وصف رجل رجلاً فقال: كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: يسمع غير ما يقال له، ويحفظ غير ما يسمع، ويكتب غير ما يحفظ، ويحدث بغير ما يكتب، ما بقي شيء، وإذا كتب لحان عن لحان صار الحديث بالفارسية، إذا جاء شخص يغلط ونقله، وجاء شخص آخر ونقل من نسخة الذي يغلط، وآخر يغلط مثله ضاعف الغلط ثانياً، ولذلك الناس يشتغلون بالمخطوطات، ويهمهم المخطوطة الأصلية، حتى يتجنبوا تحريف النّساخ.
وأما بالنسبة لسرعة القراءة فقد كان علماؤنا رحمهم الله يقرءون بسرعة، كان ابن حجر يقرأ قراءة سريعة مركزة، كيف سريعة ومركزة؟ قرأ السنن لـابن ماجة في أربعة مجالس، وقرأ صحيح مسلم في أربعة مجالس، سوى مجلس الختمة في يومين وشيء، وقرأ السنن الكبرى للنسائي في عشرة مجالس كل مجلس نحو أربع ساعات، وأسرع شيء وقع له أنه قرأ في رحلته الشامية، معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر، وهذا الكتاب مجلد يشتمل على نحو ألف وخمسمائة حديث، وقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس أربع ساعات، يقرأ على شيخ، حتى قراءة الضبط، فالقراءة أنواع:
قراءة دقيقة متأنية، أي: بمعدل مائة وخمسين كلمة إلى ثلاثمائة كلمة تقريباً في الدقيقة، هذه قراءة بدقة متأنية، لماذا؟ مثلاً: شخص يريد أن يرد على كتاب، فلابد أن يقرأ بتؤدة شديدة. فالقراءة السريعة بمعدل ثلاثمائة كلمة إلى ستمائة كلمة في الدقيقة مثل مراجعة الحفظ، قراءة الحدر.
قراءة التصفح والاستعراض أي: بواقع تقريباً ألف وخمسمائة كلمة في الدقيقة، كيف ألف وخمسمائة في الدقيقة؟! مثلاً: يقرأ أول جملة من كل مقطع، يقرأ أسطراً معينة حتى يأخذ فكرة عن الكتاب قبل شرائه مثلاً، أو شخص -مثلاً- مسئول مكتبة يريد أن يعرف هل الكتاب جيد أو لا؟ الكتب كثيرة جداً، كيف يفعل؟ فيقرأ من كل صفحة ويأخذ مقاطع.
فيتحكم في سرعة القراءة أمور منها: الغرض من القراءة، والخلفية عن الموضوع، بعض الناس يستطيع أن يسرع، وبعض الناس ما يستطيع، لماذا؟ واحد عنده خلفية، وواحد ما عنده خلفية، وهكذا، هناك قراءة إطلاع، مثل واحد يقرأ الجرائد والمجلات فهذه قراءتها ليست مثل قراءة كتب العلم التي تكتسب فيها أشياء جديدة، وحتى قراءة كتب العلم تختلف من فن إلى آخر، فمثلاً: قراءة كتب الفقه ليست مثل أصول الفقه، قراءة كتب التاريخ ليست مثل قراءة كتب العقيدة، ولذلك يجب على الإنسان ألا يتأثر، المبتدئ يقول: والله فلان ينجز كتاباً في ساعتين أنا ما أنجزه إلا بعشر ساعات فتتحطم معنوياته، لا، إذا توسع عدد الكلمات التي يعرفها الشخص فإن قراءته تصبح أسرع، يتحكم في سرعة القراءة، بعض الخبراء يقترح لزيادة سرعة القراءة أشياء، يقول: إذا كانت سرعة القراءة أقل من مائة وخمسين كلمة في الدقيقة، طبعاً أنت اقرأ خمس دقائق ثم عد الكلمات، اقسم على خمسة يطلع سرعتك في الدقيقة كذا، فإذا كان أقل من مائة وخمسين كلمة في الدقيقة معناها أنك بطيء في المواضيع العادية، فيقترح بعض الخبراء، أن تقرأ خمس دقائق لمدة شهر بأسرع ما تستطيع من غير أن تهتم بما فاتك من المعاني، مع مرور الزمن ستلاحظ أنك بدأت تفهم مع السرعة.
الحل الثاني: توسيع نطاق النظر، بإقلال زمن الوقت على رسم الكلمة الواحدة، بدل أن تقف هنا، ثم هنا، حاول أن تسرع في الانتقال من كلمة إلى الأخرى، وثالثاً: عدم تحريك الشفة ورفع الصوت وعدم تكرار الكلمة ولو فاتك معناها، فإن الغالب أنك سوف تفهم من سياق الكلام.
هناك القراءة الجماعية، القراءة الجماعة مفيدة أحياناً، مثلاً: شيء قد لا تفهمه أنت، وقد يفهمه زميلك، ولذلك لما تكونون مجتمعين وشخص يقرأ والبقية يستمعون، فإن هذا مفيد من هذه الناحية، وبالعكس، قد لا يفهمه زميلك وتفهمه أنت، بالإضافة أنه يشجع بعضهم بعضاً، بالإضافة للفوائد والاقتراحات المفيدة أثناء القراءة، إلى غير ذلك من الأسباب التي تولدها البركة في الاجتماع، لكن هناك شرط مهم جداً جداً في القراءة الجماعية وهو الجدية، لأن كثيراً من الطلاب يجتمعون في المذاكرة فيضيع بعضهم وقت بعض، بالنكت والأضحوكات، والتسالي، وكل واحد يأتي بشيء، فيدور الشاي، وضاع الوقت، فالقراءة الجماعية لها شروط حتى تنجح.
وأخيراً: كما يحدث في الجامعات، هناك اثنان في غرفة أو أكثر، عندما تقرأ أنت وزميلك في الغرفة، فلا بد من وضع معاهدة، ولو غير مكتوبة عن أوقات معينة يحترمها الطرفان، لا تنتهك إلا لمرض مفاجئ أو حريق لا سمح الله، وإذا كان جدول الشخصين متفقاً، فإن هذا يسهل، لأن بعض الناس إذا جلس مع شخص في الغرفة فكل منهما يضيع وقت الآخر، وهذا يؤثر على النتيجة الدراسية، فلا بد من احترام أوقات المذاكرة من قبل الطرفين.
أيها الإخوة: هذا بعض الأمور في كيفية القراءة، والمسألة جهاد ومجاهدة وجد ومثابرة، وتوفيق من الله عز وجل، لتستوعب وتفهم وتحفظ، فإليه الملتجأ وعليه التكلان والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر