أما بعد:
فيما يتعلق بالكلام عن مسائل الإيمان فقد تكلمنا عن مسائل وأصول قد اتفقنا عليها ولم نختلف فيها، والحمد لله تعالى.
وقلنا: إن الإيمان عند السلف بالإجماع قول وعمل، أو هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، أو هو قول وعمل ونية، أو هو قول وعمل ونية واتباع للسنة، وكل هذه مصبها في نهاية الأمر إلى أن العمل ركن من أركان الإيمان، ولم يخرج العمل عن مسمى الإيمان إلا المرجئة، بينما المعتزلة جعلوا العمل كله شرطاً في الإيمان، ولذلك يكفرون من لا يأتي به كالخوارج تماماً بتمام، لكن جعلوا له حكماً في الدنيا وحكماً في الآخرة، فجعلوه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة خلدوه في النار، والخوارج الذين جعلوا العمل كله ولم يفرقوا بين جنس العمل وآحاد العمل، خلافاً لما كان عليه السلف رضي الله عنهم، إذ إنهم فرقوا بين جنس العمل، وأنه ركن من أركان الإيمان لا يقوم الإيمان إلا به، وبين آحاد العمل، فينظر إلى آحاد العمل كل على حسبه، فإن كان العمل في أصل الإيمان فيبطل الإيمان بنقض هذا العمل، أو بترك هذا العمل، أو بمخالفة هذا العمل، وإذا كان من العمل الواجب كان من الإيمان الواجب، وإذا كان من العمل المستحب كان من الإيمان المستحب، وكلاهما يسمى بكمال الإيمان، أي: الإيمان الواجب والإيمان المستحب كلاهما يسمى بكمال الإيمان، فمنه الكمال الواجب ومنه الكمال المستحب، خلافاً لأصل الإيمان وهو جنس العمل، وأظننا قد اتفقنا على ذلك.
والليلة بإذن الله تعالى موعدنا مع سرد نصوص لكثير من علماء السلف يبينون في هذه النصوص أن العمل ركن من أركان الإيمان، وعليه فيمكن أن تكون الردة بمجرد ترك هذا العمل، أو الوقوع في مخالفة العمل.
يعني: السلف عندما يقولون: إن الإيمان قول وعمل، فهل يمكن أن يكون الإيمان عملاً دون أن يكون قولاً؟ إذا كان الإيمان لا يمكن أن يكون عملاً بغير قول محل اتفاق فكيف يكون قولاً بغير عمل؟! لأن هذا ركن وذاك ركن، وأنتم تعلمون أن الركن ما كان داخلاً في ماهية الشيء، ولا يكون الشيء إلا به، فإذا كان العمل من أركان الإيمان فلا بد من الإتيان به، كما أن القول لابد من الإتيان به، كما أن الاعتقاد القلبي لابد من الإتيان به، فهذه أركان الإيمان عند السلف، فلا يمكن أن يثبت الإيمان لأحد إلا بثبوت هذه الثلاث: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح.
ويمكن أن ينقض الإيمان من أصله ويرتد المرء عن دين الإسلام بالقول؛ لأن القول ركن، فثبت القول، أو التقول بما يكفّر يكفر به صاحبه، وكذلك الاعتقاد، وكذلك العمل، لكن مناط البحث كله والإشكالية الدعوية المطروحة على الساحة: هل يمكن ثبوت الردة بالعمل المجرد أم لا بد من الاستحلال القلبي؟ يعني: هل يمكن أن يعمل الإنسان عملاً يكفر به من غير استحلال، أو من غير نظر وسؤال هل هو مستحل أم لا؟ هذه هي القضية كلها.
الجواب: نعم، إذ إنه عند السلف من الأعمال ما يكفر بها العامل دون نظر واشتراط للاستحلال، والمرجئة قالوا: لا بد من الاستحلال، وهذا القول بلا شك قول مخالف لما كان عليه سلف الأمة رضي الله تعالى عن الجميع، لكني أذكر بما قلت آنفاً في الدرس الماضي: أنه لا يلزم من القول ببعض ما كانت تقول به بعض الفرق الضالة النسبة إلى هذه الفرقة، أي: ليس كل من وقع في البدعة مبتدع، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، ولذلك إذا قال بعض من ينسب إلى العلم مقولة وافق فيها الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة أو الخوارج فلا يكون مرجئاً ولا معتزلاً ولا خارجياً إلا أن يتبنى أصول الخوارج، أو يتبنى أصول المعتزلة؛ لأن المرء لا ينسب إلى الفرقة التي يقول هو بأحد أقوالها إلا إذا كانت أصوله هي أصول هذه الفرقة، يعني: أنا الآن يمكن أن أقول قولاً ثم أفاجأ بعد ذلك بأن هذا هو قول المرجئة، أو هو قول المعتزلة، فهل يلزم من هذا القول أو من قولي بقول المعتزلة أن أكون كذلك؟ لا يلزم؛ لأنه يمكن أن يكون هذا الكلام خرج مني مخرج الجهل وأنا لا أدري، وظني أنه معتقد أهل السنة والجماعة، فلا بد أن ينظر إلى أصل استقامة هذا الرجل، هل هو مستقيم على السنة فخالف في هذا؟ فإن خالف فلا تعد هذه المخالفة هي السبب في نسبته لهذه البدعة، أو أن الأصل فيه الابتداع والانحراف حتى وإن وافق أهل السنة لا يكون منهم.
كما في الدرس الماضي ضربت مثلاً بإمامين عظيمين: أحدهما في البدعة، والآخر في السنة، وهما: أبو حامد الغزالي وابن تيمية ، إذ إن الأصل في ابن تيمية الاستقامة على منهج السلف، فإذا قال ابن تيمية قولاً وافق فيه الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة -حاشاه أن يكون كذلك- فهل هذا يسوغ أن يكون هو من أهل هذه الفرق أو منسوباً إليها؟ لا يمكن أبداً، لكننا نحمل هذا الكلام على الخطأ البشري الذي لابد وأن لكل إنسان نصيباً فيه.
أما أبو حامد الغزالي فالأصل فيه الانحراف في الاعتقاد عن منهج السلف، فإذا وافق في مسألة من مسائل الاعتقاد ما كان عليه السلف رضي الله عنهم فهذه الموافقة في هذه المسألة لا تخرجه عن حد الابتداع وتدخله في حد الاستقامة؛ لأننا لا بد أن ننظر في أصل الرجل، هل هو على بدعة أو على استقامة؟
سئل الشافعي عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى؟ فقال: هو كافر، واستدل بقوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ [التوبة:65-66]، ولم يقل: قد أذنبتم، أو أخطأتم، أو جهلتهم، وإنما قال: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، وهذا يسوغ وقوع الكفر بعد الإيمان كما يسوغ وقوع الإيمان بعد الكفر، وهكذا فالمرء يتردد بين الإيمان والكفر.
وقال في كتاب له -أي: الإمام الحميدي - اسمه: مسند الحميدي تحت عنوان: أصول السنة والجماعة: وألا نقول كما قالت الخوارج: من أصاب كبيرة فقد كفر. والإمام الحميدي هو الذي نقل الإجماع على أن تارك مباني الإسلام الخمسة كافر، ومع هذا يقول: ولا نقول كما قالت الخوارج: من ارتكب كبيرة كفر، وهذه إشارة من الإمام الحميدي إلى التفريق بين جنس العمل وآحاد العمل، أما جنس العمل فهو أصل وركن من أركان الإيمان، وأما آحاده كارتكاب بعض الكبائر، فهو يذهب كما يذهب أهل السنة جميعاً إلى أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بذلك، قال: ولا تكفير بشيء من الذنوب، إنما الكفر في ترك الخمس التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).
قال: قتل نبياً، أو أعان على قتله وإن كان مقراً بنبوته ورسالته، ومع هذا قال إسحاق بن راهويه : هو كافر، وكذلك من شتم نبياً أو رد عليه قوله من غير تقية ولا خوف، ثم قال: أجمع المسلمون. وانظروا إلى نتائج الإجماع، فعندما تسمع إماماً عظيماً مثل ابن تيمية وإسحاق وغيرهم ينقل الإجماع على قضية من القضايا فلا بد أن تنتبه جداً، إذ الإجماع مصدر من مصادر التشريع، قال: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً من ما أنزل الله عز وجل فما بالك بمن دفع الشرع كله، والدين كله، والأحكام كلها، واستغنى عنها واستبدل مكانها بكيت وكيت؟! أو قاتل نبياً من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله. فانظر إلى هذا الكلام الجميل لـإسحاق بن راهويه.
وفي كتاب السنة لـلخلال كلام كثير ربما نقلناه قبل ذلك، لكن الإمام أحمد بن حنبل قال: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به.
وقال الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : سألت أبي عن رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك، يعني: أنه يسب المخلوق وخالقه، فقال: هذا مرتد عن الإسلام، مع أن هذا قول، إذاً الردة تدخل في القول وإن لم يصحبه استحلال، والردة تدخل في العمل وإن لم يصحبه استحلال كمن سجد للصليب، أو ألقى المصحف في القاذورات، أو شد على وسطه بالزنار، أو دخل الكنائس من باب تأييد أهلها ومودتهم وموالاتهم وغير ذلك، فهذا كله كفر بالله تعالى، قال: فقلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: نعم تضرب عنقه، من باب الردة؛ لأنه قال له: هو مرتد.
فإذا قال شخص: أنا كافر. فهل نعذره بجهله؟ لا. إذ إن الجهل والتأويل مسائل أصولية كلية لا يمكن أن تدخل تحت باب العذر، حتى الذين يعذرون بالجهل يعلمون هذه المسائل الكلية؛ لأنها معلومة من الدين بالضرورة.
أما الغضب فله مراتب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فمنه الإغلاق، أي: الذي لا يدري معه المرء ماذا يقول، ولا ماذا يفعل، حتى مثل بعض أهل العلم على ذلك: بأنه إذا ألقى ولده من مكان شاهق، أو نزل إلى الوادي فقتله، فلما أفاق من غضبه قيل له: لم قتلت ولدك؟ قال: والله ما قتلته، فكذلك لو أن واحداً بلغ به الغضب هذا المبلغ بحيث لا يدري ما يقول؟ فإنه لو قال كلمة كفر فلا يكفر بها؛ لأنه غير مكلف؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق)، وهذا الذي بلغ به الغضب هذا المبلغ هو كالمجنون سواء بسواء، ولذلك لو نكح لا ينعقد نكاحه، ولو طلق لا يقع طلاقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق)، أي: شدة الغضب.
وهناك غضب بسيط يستطيع الإنسان فيه أن يكبح جماح نفسه، وهذا الغضب يسميه ابن تيمية : الغضب البسيط، وهذا النوع من الغضب تترتب عليه الأحكام، فإذا طلق رجل امرأته في هذا الغضب فإنه يقع.
وهناك غضب بين هاتين المرحلتين، أو بين هذين الغضبين: الإغلاق والبسيط، وهو غضب شديد يدرك معه المرء ما يقوله، ويستطيع أن يكبح جماح نفسه، فالجمهور على أن هذا الرجل إذا نطق بكلمة الكفر كفر، وإذا طلق وقع طلاقه، والأحناف بخلاف ذلك، ولذلك عندما تذهب إلى الأزهر وتقول: طلقت امرأتي وأنا غاضب؟ فيقولون لك: لم يقع الطلاق؛ لأنهم يأخذون بالأنفع لحياة الناس، والأزهر عندهم مذهب الأحناف، وهذا الذي تتبناه لجنة الفتوى بالأزهر، بينما بعض أهل العلم في الأزهر يقولون بمذهب الجمهور، وبهذا التقسيم الذي قسمه ابن تيمية في الغضب، لكن تجد العوام الذين عرفوا توجه الأزهر من أمكر خلق الله! فتجد أحدهم يدخل على العالم فيقول: يا شيخ أنا كنت غضبان. من غير أن يقول له: أنا طلقت، أو لم يطلق، أو أي شيء آخر، ثم يقول له العالم: أنت كنت غضباناً إلى درجة أنك ممكن تقتل ابنك؟ فيقول له: لا، أنا كنت غضباناً وغير مرتاح، وكنت أصيح وغير ذلك، فيقول له: ومن الذي أغضبك؟ فيقول له: فلان وفلان، يعني: أنت كنت في أتم عقلك وإدراكك أن فلاناً وفلاناً كانوا موجودين؟ فيقول: نعم، إذاً طلاقك قد وقع، فيقول له: يا شيخ هم يقولون لي: إن الأزهر يقول: إن الغضبان لا يقع طلاقه، يعني: هو أتى ومعه فتواه، فيفاجأ بأن الأزهري يقول له: إن طلاقه قد وقع، ويقول له: اذهب وتزوج واحدة أخرى، ويذهب فيتزوج واحدة أخرى وهكذا، والشيخ إذا قلت لهم أي شيء يقول لك: ما دام هكذا خيرنا في مذهب الأحناف.
وقال تعالى: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، فنص تعالى على أن الكلام في آيات الله تعالى منه ما هو كفر بعينه، يعني: بمجرده هو كفر، وأمرنا بترك مجالستهم.
وقال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:65-66]، فنص الله تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى، أو بآياته، أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، يعني: لم يعلق الكفر على معرفته بما في قلوبهم، وإنما على مجرد الاستهزاء، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى.
ثم قال: الجحد لشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر، وهذا باتفاق، فالصلاة من الإيمان وجحودها كفر، والنطق بشيء مما قام البرهان بأن النطق به كفر كفر، إذاً ترك العمل المتفق على أنه من الإيمان جحوداً كفر، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والحج من الإيمان، فمن جحد شيئاً من ذلك فقد كفر.
وبالتالي فيكون هذا كفر بالعمل والاعتقاد أننا نقول: جحد، لكن هل يمكن أن يقع الكفر بالقول؟ نعم، وهذا القول جاء بالنص أو انعقد الإجماع على أن قائله كافر، قوله: والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفر كفر كذلك، يعني: يريد أن يقول لك: عندي الآن ثلاثة إجماعات: إجماع أن من اعتقد شيئاً هو كفر فإنه يكفر، ومن قال قولاً هو كفر كفر، ومن عمل عملاً هو كفر كفر كذلك، وهذا من مسائل الإجماع التي نقلها شيخ الإسلام الإمام ابن حنبل ، فالكفر يزيد، وكل ما زاد فيه فهو كفر، والكفر ينقص، وكله ما خفي منه وما نقص كفر، وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض، وكله كفر.
قال: وهو كيف ما كان كفراً، سواء كان جداً أو هزلاً، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، يعني: أن هذه من مسائل الإجماع عند الأمة، فإذا حصل الاستهزاء بآيات الله تعالى وأحكامه، وشرعه، ورسله، وأنبيائه، فإن ذلك كفر بالإجماع، سواء قالها أو فعلها جاداً أو هازلاً، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا [التوبة:65-66]، أي: لا تنفعكم المعذرة، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، هل يمكن أن يطلق الكفر هنا على الكفر العملي الذي لا يخرج به صاحبه من الملة؟
إذا كان كذلك فما معنى قوله سبحانه وتعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، فذكر الكفر في مقابل الإيمان الذي يدل على زوال الإيمان بالكلية.
الحكم الأول: أن الاستهزاء بالدين أياً كان كفر بالله تعالى، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف بدين الله تعالى، أو بشيء منه.
الحكم الثاني: أنه يدل على بطلان قول من يقول: الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب، يعني: أن هذا رد على من يزعم أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال أو التكذيب أو الجحود، مع أن هذا هو مذهب المرجئة، فهم يقولون: لا كفر إلا بالجحود والاستحلال والتكذيب! وليس كذلك، بل يكفر المرء بالقول المجرد إذا كان كفراً، وبالفعل المجرد إذا كان من أفعال الكفر.
الحكم الثالث: أن قولهم هذا الذي صدر منهم كفر في الحقيقة، وإن كانوا منافقين من قبل، إذ إن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحال.
الحكم الرابع: أن كفر هؤلاء إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين، أي: أنهم قد خرجوا من الملة بعد إيمانهم.
يقول له: رجل تكلم بكلمة الكفر فهل يكفر بذلك؟
قال: هو كافر ظاهراً وباطناً، أي: كافر عند الناس وعند الله، وإن لم يعتقد كلمة الكفر بقلبه؛ لأن الأحكام في الدنيا تجري على الظاهر، والرجل ليس مجنوناً ولا سكران، وإنما أتى إلي وقال: أنا مرتد، أنا كافر، أو أنه سب الله، أو سب رسوله، أو سب الدين، أو سب الشرع، أو سجد لصنم، أو رمى المصحف في القاذورات، أو وطئه بقدمه، فهذه كلها أفعال مسلم، ومع أنها أفعال فهو يفعل ذلك ويقول: أنا مقر بأن هذا هو كتاب الله، وأنا أحب كلام الله، مع أنه مستمر في أثناء مدحه لكلام الله في وطء المصحف! والحقيقة في الامتحان العام الماضي في جامعة الأزهر أنا أعجبت بشهامة أحد الأساتذة، فقد حكم على طالب بالردة، وذلك أن هذا الطالب عندما ذهب إلى الحمام من أجل أن يخرج الربع الذي جاءه في الامتحان من المصحف، ويضعه في جيبه ويذهب يغش منه على عادة كثير من طلبة الأزهر، ثم لما شعر بأن المراقب يراقبه ألقى المصحف في الحمام وشغل السيفون من أجل أن يذهب المصحف مع المياه إلى المجاري، ومع هذا ضبط وانتزع المصحف من عين الحمام، ولا شك أن إدارة الأزهر إنما نظرت إلى القضية قضية غش في الامتحان، لكن أحد الأساتذة -فتح الله عليه- نظر إليها من منظور إيماني آخر وقال: هذه من مسائل الإجماع التي انعقد الإجماع على كفر فاعلها، وحكم على الطالب بالردة، وأثارت هذه القضية جدلاً عظيماً جداً حتى على صفحات الصحف في شهر خمسة الماضي، وانتصر هذا الأستاذ على بقية أساتذة الأزهر الذين نظروا نظرة إدارية إلى هذه المقولة التي ذكرناها: أن هذه من مسائل الإجماع، وقال لهم: أنا أين أذهب بالإجماع؟! وقال لهم: هذا استهزاء بكتاب الله، وهذا الإجماع على كفر من فعل ذلك.
قوله: وظهور الردة، أي: كيف تظهر الردة؟ قال: إما أن يكون بالتصريح بالكفر، كأن يقول الرجل: أنا كافر، وقد تحققت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، فهل ستقول: لا عليك أنت مؤمن؟! لا، بل لو صرح بالكفر وإن كان في عقيدة نفسه ليس يعتقد الكفر فقد كفر بذلك، كذلك لو أتى الآن شخص وقال: يا شيخ! أنا مرتد عن دين الإسلام، فهل أقول له: تعال، كيف ارتديت؟ وما هي القصة والرواية؟ لا، فهذا ليس من شأني، أنا ما علي إلا أن أتحقق من الشروط وانتفاء الموانع فقط، فإذا تحققت فيه الشروط من التكليف، والعقل، والتمييز، والإدراك وغير ذلك أنظر بعد ذلك في الموانع، هل هو مكره؟ هل هو مجنون؟ ثم تنتهي القضية على هذا، مع بقية البحث في الشروط والموانع، فإذا تحققنا من هذا وذاك حكمنا عليه بالردة.
بل الذي حكم على نفسه بالردة، أو أنه تلفظ بلفظ يقتضي الكفر، أو بفعل يتضمنه، فقد انعقد الإجماع على أنه يكفر بذلك.
قوله: ولو لم يعتقد، أي: لم يعلم أنها لفظة الكفر، لكن أتى بها عن اختيار، فقد كفر عند عامة العلماء، وهذه المسألة التي سألني عنها الأخ في الدرس الماضي: لو أن واحداً سب الله تعالى وهو لا يعلم أن سب الله كفر، فهل يكفر بذلك؟
قلنا: نعم يكفر بذلك، قال: يا شيخ! أنت قلت: من موانع التكفير: الجهل فكيف ذلك؟
الجواب: أن سب الله ليس من المسائل الخاضعة للعذر بالجهل، وإنما يكفي أن يعلم أن هذا اللفظ وهذا السب حرام، وهذا عند عامة العلماء، وبعضهم قال: لا يكفر إلا إذا علم أن هذا كفر.
قال: أو لم يعلم أنها لفظة الكفر، ولكن أتى بها عن اختيار فقد كفر عند عامة العلماء، ولا يعذر بالجهل، ومن كفر بلسانه طائعاً، أي: غير مكره، وقلبه مطمئن بالإيمان فهو كافر، ولا ينفعه ما في قلبه، يعني: لو كفر بالقول وهو معتقد بالإيمان لا ينفعه ما كان في اعتقاده، وإنما يكفر بالقول الصريح.
قال: ويكفر بشكه فيما يكفر بالشك فيه، أي: لو أن واحداً الآن قلت له: كم إلهاً للكون؟ يقول: والله أناس يقولون: إله، وأناس يقولون: اثنان، وأنا في الحقيقة أمشي مع الناس وخلاص، ولا أعرف هو له إله أو اثنان، فإننا في مثل هذا نقول: إنه كافر؛ لأن هذه من مسائل الإجماع.
قال: وتكون الردة باعتقاد ما يكفر به، أو بالشك فيما يكفر بالشك فيه، أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئاً أو غير مستهزئ، أي: العالم والجاهل كلاهما سواء في ذلك.
وقال ابن الحاجب المالكي : الردة هي الكفر بعد الإسلام -هذا تعريف الردة- وتكون بصريح وبلفظ يقتضيه، وبفعل يتضمنه، يعني: إما أن يتلفظ بقول صريح في الكفر، أو يفعل فعلاً يتضمن الكفر.
قال: والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء -الجد واللعب- كالسجود للصنم، أو الشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، وذكر كلاماً طويلاً.
قال: وأما المتفق عليه فمنه ما هو اعتقادي، ومنه ما هو عملي يكفر، ونحن قبل هذا قد قلنا في الدرس الماضي: من الأخطاء الشنيعة الشائعة بين الناس تقسيم الكفر إلى نوعين: اعتقادي وعملي، أما الاعتقادي فلا يخرج المرء من الملة إلا به، وأما العملي فكله ليس مخرجاً من الملة، وهذا خطأ عظيم جداً في الاعتقاد؛ لأن الكفر الاعتقادي كله مخرج من الملة مع انتفاء الموانع وتحقق الشروط.
والكفر العملي منه ما هو مخرج من الملة، ومنه ما ليس بمخرج من الملة.
قال هنا: الكفر قسمان: متفق عليه اعتقادي وعملي، وذكر أمثلة للعملي، فقال: إنكار النبوات، وإنكار البعث، أو إلقاء المصحف في القاذورات، ووصفه تعالى بأنه لا يعلم ولا يريد، وغير ذلك من إنكار صفات الله تعالى.
أما المختلف فيه فقد توقف عند هذا الحد في أنواع الفروق كأنه باب طويل.
قال: وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلى، ويكون الكفر بفعل كرمي المصحف في القاذورات، أي: يقع الكفر بمجرد الفعل أو بالفعل المجرد، مثل: إلقاء المصحف في القاذورات، أو السجود لصنم، أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ومباشرة أحوالهم.
قال: الردة عبارة عن قطع الإسلام من مكلف -وفي غير البالغ خلاف- إما باللفظ، أي: الردة إما أن تكون باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات، ولكليهما مراتب في الظهور والخفاء.
وقال: إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: أنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وهذا كلام المرجئة، وإنما نقله القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوه عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جارياً على أصولهم، أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولاً، وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء، وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل ألبتة.
وأنا أرى أننا قد قرأنا كل النصوص، وبالتالي لا نخرج إلا بالنتيجة التي خرجنا بها الآن وهي: أن الكفر كما يكون بالاعتقاد يكون بالقول وإن لم يستحل أو يجحد أو يكذب، وكذلك بالفعل وإن لم يصحبه استحلال ولا تكذيب ولا جحود، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد رأيتم على ذلك نصوصاً من إجماعاتهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر