إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - ذم الجدال والمتكلمين وترك آثار الصالحينللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وردت آثار كثيرة عن السلف رحمهم الله تعالى في ذم الجدال والكلام، واتباع المتكلمين وترك آثار الصالحين، وما ذاك إلا لخطورة هذا المسلك على العبد في دينه ودنياه، ومن كان يزعم أنه متبع لآثار السلف تاركاً لابتداع الخلف فعليه بالوقوف على ما وقفوا عليه، فهم قد خاضوا لما كان الخوض مطلوباً، وامتنعوا لما كان الخوض ممنوعاً.

    1.   

    ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين

    شرح أثر ابن الماجشون: (احذروا الجدل فإنه يقرب إلى كل موبقة...)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فلا زال الكلام موصولاً عن ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو صالح -وهو كاتب الليث بن سعد -: أملى علي عبد العزيز بن الماجشون قال: احذروا الجدل؛ فإنه يقربكم إلى كل موبقة -الموبقات: المهلكات- ولا يسلمكم إلى ثقة].

    أي: ليس له أجل ينتهي إليه، فمن دخل في طريق الجدال والكلام والخصومات فإن له بداية، لكن ليست له نهاية.

    قال: [وهو يدخل في كل شيء، فاتخذوا الكف عنه طريقاً إليه]. أي: أن الجدال والخصومات بغير حق يجب أن تكف عنها.

    قال: [فإن الجدل والتعمق هو جور السبيل، وصراط الخطأ، فلا تحسبن التعمق في الدين رسخاً]. أي: لا تتصور أنه لا يكون المرء راسخاً في العلم، أو ليس عالماً إلا بكثرة الجدال والمناقشة والخصومة والمراء وغير ذلك، بل هذا هو الجهل بعينه.

    قال: [فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم]. أي: يقفون عند حد العلم الذي علمهم الله تعالى إياه، وأما ما دون ذلك فإنهم يؤمنون به على الظاهر، ويلقونه كما جاء ولا يخرجون عنه.

    قال: [واحذرهم -أي: أهل الكلام- أن يجادلوك بتأويل القرآن، واختلاف الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجادلهم فتزل كما زلوا، وتضل كما ضلوا، فقد كفتك السيرة -أي: سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم- مؤنتها، وأقامت لك منها ما لم تكن لتعدله برأيك].

    أي: أن سيرة السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بالجدل والمناظرة وقيام الحجة على الخصم كفيلة أن تقف عندها ولا تتعداها؛ لأنهم خاضوا لما كان الخوض جائزاً، ووقفوا لما كان الخوض ممنوعاً، وإذا نت حقاً متبعاً لآثار من سلف، تاركاً لابتداع من خلف؛ فالسيرة الذاتية والعلمية لكل واحد من أئمة السلف قاضية بذلك.

    قال: [ولا تتكلفن صفة الدين لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك].

    فبعض الناس قد يتصور أنه قد أوجب الله تعالى في حقك أن تبين له صفة الدين، مع أنه ليس في حاجة لذلك؛ لأنهم يعرفون الدين بسمته وصفاته ومميزاته وغير ذلك.

    لكنهم يريدون الجدال والمماحلة والخصومة؛ لأنهم وإن عرفوا أو علموا دين الله عز وجل، إلا أن هذه المعرفة لم تستقر في قلوبهم؛ ولذلك هم يريدون أن يظهروا ما عندهم من علم بالتأويل، وتحريف الكلم عن مواضعه.

    فهذا يدل على أنهم أرباب ضلال، وهل تتصورون أن إبليس اللعين لم يكن يعرف قدر الله تبارك وتعالى؟ إنه يعرفه جيداً، ويعرف أنه المعبود الأوحد، ولا معبود بحق سواه، لكنه عصى وفرط وبغى، وقاس قياساً فاسداً أوقعه وأورده المهالك، فهذا لا يدل على أنه لم يعرف الحق من الباطل، بل هو يعلمه تماماً وجيداً، لكنه زاغ وضل وانحرف عن الصراط، بل كان إبليس من أكثر العباد عبادة قبل أن يعصي، فهل تتصورون أن إبليس كان يعبد معبوداً أو إلهاً لا يعرفه ولا يعرف قدره؟!

    الجواب: كلا، فقد كان يعرفه جيداً.

    وهكذا أهل الكلام؛ لأن إمامهم وسلطانهم هو إبليس، ومنه أخذوا، وعلى يديه تربوا، وأشربوا منهجه في الجدال والمخاصمة والمماحلة، فهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحق ليعملوا به، أو ليتعبدوا به، وإنما يريدون أن يجادلوا لأجل الجدال فقط، أو للتشهي، أو للنصرة على الخصم، أو لكثرة الأتباع أو غير ذلك.

    وعلى أية حال سمات أهل الحق كما أنها واحدة إلى قيام الساعة، فكذلك سمات أهل البدع والضلال واحدة إلى قيام الساعة.

    قال: [ولا تتكلفن صفة الدين]. أي: لا تكلف نفسك أن تظهر الدين.

    [لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك]، أي: إذا أرادوا الظلم، وعرضوا عليك المجادلة والمناظرة، فلا تمكنهم من نفسك، فإذا جاءك عاص أو ضال مبتدع أو غيره وطلب المناظرة فهذا لا يجوز محادثته أو مناظرته إلا بشروط:

    الشرط الأول: أن يغلب على الظن أنه يبتغي الحق.

    الشرط الثاني: ألا يأتي للمناظرة، وإنما يأتي للتعلم.

    الشرط الثالث: أن تكون من أهل العلم المشهود لهم بذلك، وممن تعَيَّن عليه التصدي لإظهار الحق، وقمع الباطل.

    فهذه ثلاثة شروط، فإذا تخلف شرط منها اختلت المناظرة، ويحرم عليك أن تتصدى لأهل البدع؛ حتى لا تصاب بما أصيبوا، ولا تزل قدمك كما زلوا، ولا تضل كما ضلوا.

    ضرر مناظرة أهل البدع والاستماع لهم

    قال: [إنما يريدون أن يفتنوك، أو يأتوا بشبهة فيضلوك؛ فلا تقعد معهم]، كما قال الله تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].

    فإذا كانوا هم سعوا في كل واد لفتنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفتنة أصحابه الكرام، فكيف بك أنت يا مسكين! ولا علم لك، ولا معرفة لك بأساليب وألاعيب القوم، فأنت من باب أولى خليق وجدير بأن تقع في شباك أهل البدع إذا تعرضت لهم ولم تتأهل لذلك؛ لأنهم يريدون أن يفتنوك، أو يأتوا بشبهة فيضلوك، فقد تذهب لتدفع عنهم شبهة قد بلغتك؛ فإذا بشبه متتابعة متعاقبة يلقونها على مسامعك لم تستعد أنت لها؛ فتؤثر هذه الشبه في قلبك؛ فتكون أنت أحوج الناس إلى إزاحة هذه الشبه من قلبك، فأنت الذي ذهبت لتقيم عليهم الحجة فأوقعوك هم في شراكهم وحبائلهم وشبههم، حتى زعزعوا قواعد الدين الأصلية في قلبك.

    ولذا فالمناظرة مع أهل البدع من أخطر ما يمكن، وحذار أن تتصور أنه خذلان أو ضعف أو خوف أو خور أن تعتذر عن لقاء القوم، بل هذا هو عين الاستقامة، فكثير من أئمة السلف مع إمامتهم، ووفرة علمهم لم يسمحوا قط بسماع كلمة واحدة، ولا حرف واحد من أهل البدع، كما قال ابن سيرين : والله لو قرءوا القرآن لم أسمعه منهم، أو تلوا علي حديثاً ما سمعته منهم. مع أن قراءة القرآن وسماع الحديث لا شيء فيه.

    فانظر إلى ابن سيرين وهو إمام أهل البصرة في زمانه، وسيد من سادات التابعين، وتلميذه أنس بن مالك رضي الله عنه، ومع هذا لم يكن يأذن لنفسه قط أن يسمع كلمة واحدة من صاحب بدعة، حتى لو كانت هذه الكلمات آية في كتاب الله، أو حديثاً من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

    مناهج التلقي عند أهل السنة والجماعة

    قال: [ولعمري! إن صفة الدين لبينة]، أي: إذا كانوا يريدون صفة الدين، فصفة الدين، ومعالم الدين، وسمات الدين، وخصائص الدين بينة وواضحة.

    قال: [وإن سبله لواضحة، وإن مأخذه لقريب]. ومأخذ الدين من كتاب الله، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن إجماع أهل العلم، وقياس صحيح يوافق العقل الصريح، ويوافق المنقول من كتاب وسنة، ويوافق كلام أهل العلم، فإذا كان كذلك فهو قياس صحيح، وإذا كان عكس ذلك فليس بصحيح؛ ولذلك فمصادر التلقي المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة هي: الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وما عداها مختلف فيها، والراجح أن هذه المصادر هي المصادر الأصلية التي يعتمد عليها المسلم في دينه، علماً وعملاً وعبادة وغير ذلك.

    اضطراب وشك أهل الباطل

    قال: [وإن مأخذه لقريب لمن أراد الله هداه، ولم تكن الخصومة والجدل هواه، ولولا أن يأخذ الأمر من غير مأخذه، أو يتبع فيه غير سبيله؛ فإن الله تعالى لا بد كاشف عوراتهم، وإن حجتهم لداحضة، دانوا الله بغير دين واحد، بل دانوا بأديان شتى، يمسون على دين ويصبحون به كافرين].

    يعني: يدينون الله تعالى في المساء بدين معين، فإذا أصبح عليهم الصباح اختلفوا فيما اتفقوا عليه بالأمس؛ فتفرقوا، فكفر بعضهم بعضاً، فهم يمسون على دين معين، ثم يصبحون بهذا الدين كافرين؛ لأنهم قد ضلوا السبيل، وضلوا منهج التلقي وهو الكتاب والسنة؛ فتلقوا هذا الدين الذي كفروا به بعد ذلك من وحي عقولهم، ومن وحي شياطينهم، وما وافق هواهم، ووافق شهواتهم، وأما إن وافق الكتاب والسنة، فإن هذا هو المصدر الحق، ولا يمكن أن يختلف؛ لأن الحق واحد، ومشكاة الحق واحدة لا تخطئ قط، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] أي: القرآن الكريم، فلما لم يجدوا فيه اختلافاً كثيراً ولا قليلاً؛ تبين أنه من عند الله عز وجل.

    ذم الشافعي لكل ما هو طريق إلى الكلام

    قال: [قال الربيع بن سليمان المرادي : جاء رجل يناظر الشافعي في شيء].

    والشافعي مع علو قدره، وعظيم منزلته يأتيه رجل من أهل الكلام ومن أصحاب البدع يريد أن يناظره في مسألة، فهل تعتقدون أن الشافعي يعجز أن يناقش أهل البدع جميعاً؟

    الجواب: لا، فـالشافعي إمام الدنيا في زمانه، ولم يكن أحد في الأئمة الأربعة، لا أبو حنيفة ، ولا مالك ، ولا أحمد بن حنبل يضاهي الشافعي في العلم، ولو كان التمذهب مشروعاً أو مسنوناً؛ لكان التمذهب بمذهب الشافعي من أوجب الواجبات، لكن التعصب لمذهب ما، وأخذ كل ما جاء عن صاحبه حقاً وباطلاً أمر مذموم، والممدوح لك أن تتمذهب بمذهب إمام معين، لكن لا يسعك اتباعه إذا أخطأ، وإنما يسعك مخالفته والأخذ بالحق.

    وقد كان مجلسه رحمه الله تعالى يزدحم بالآلاف، فمنهم من يأتي ليستمتع بعلو إسناده، ومنهم من يأتي ليستمتع ببلاغته وفصاحته، حتى قال قائلهم -وهو إمام من أئمة اللغة-: كلام الشافعي في اللغة حجة، فهو رحمه الله تعالى إمام في البيان والفصاحة، وحجة على الأمة إلى قيام الساعة؛ لأنه من أنحى العرب، فقد تلقى لغته عن قبائل العرب كلها، ودفعت به أمه إلى قبيلة هذيل التي هي أعظم القبائل لغة وفصاحة وبياناً، فمكث بها الشافعي عدة أعوام حتى أتى على بلاغتها وفصاحتها، كما أنه محدث عظيم جداً، وأسانيده مرتفعة، وإن كان أحمد بن حنبل تلميذ الشافعي ، إلا أن أحمد فاقه حديثياً؛ لانشغال أحمد بالحديث.

    وأما الشافعي فكان جل اهتمامه بالفقه؛ ولذلك هو الفقيه حقاً، فيقدم في الفقه على كل الأئمة الذين تكلموا في الفقه إلى قيام الساعة، بخلاف أحمد ، فإنه إمام الأئمة في زمانه في الحديث، وهكذا جمع القوم بين شتى فنون العلم: من الحديث، والفقه، واللغة، والتفسير، والقرآن وغير ذلك، لكن الواحد منهم اشتهر بعلم معين، وإن كان محصلاً لجميع العلوم الأخرى.

    قال: [فقال الشافعي : دع هذا، فإن هذا طريق الكلام]. أي: أن هذا الذي تسلكه هو منهج أهل الكلام، ونحن عندنا سنة وأثر، وإنما أنصحك باتباع الأثر وترك الكلام وذمه.

    قال: [وسمع الشافعي رجلين يتكلمان في الكلام، فقال: إما أن تجاورانا بخير، وإما أن تقوما عنا]. أي: إما أن تتكلما بخير، وإما أن تنصرفا عنا.

    تهوين الشافعي لسائر المعاصي مقارنة بعلم الكلام خلا الشرك بالله تعالى

    قال: [وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لئن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك به، خير له من النظر في الكلام]. يعني: لو أن المرء ابتلي بكل كبيرة من الكبائر: كالسحر، والفرار من الزحف، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، وغير ذلك من سائر الذنوب والمعاصي؛ أحب إلى الله عز وجل من أن يبتلى بأن يتكلم في دين الله عز وجل بغير علم، أو أن يخوض في دين الله عز وجل على منهج أهل الكلام، وأصحاب الأهواء والبدع.

    وليس في هذا الكلام دليل على أن البدع أو المعاصي محببة إلى الله عز وجل، لكن هذا الكلام خرج مخرج الزجر الشديد عن اتباع طريقة أهل الكلام، وسلوك منهج أهل البدع.

    تحذير الشافعي من ائتمان صاحب الكلام على الدين

    قال: [وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: يا أبا موسى! لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما لو رأيت رجلاً ارتكب كل ما نهى الله عنه خلا الشرك؛ كان أحب إلي من أن أراه صاحب كلام، قال: قلت: يا أبا عبد الله ! -وهذه كنية الإمام الشافعي- وتدري ما يقول صاحبنا -أي: هل سمعت ما قال صاحبنا؟ أي: صاحب يونس بن عبد الأعلى، وصاحب الشافعي، وهو الإمام العلم الجبل المصري الليث بن سعد عليه رحمة الله- الليث بن سعد؟

    قال: وما قال؟ قال: لو رأيت صاحب الكلام يمشي على الماء لا تأمنن ناحيته]. ومن الذي يستطيع أن يمشي على الماء؟ لا أحد، لكن لو تصورنا أن هذه الحادثة الخارقة للعادة وقعت في حق المتكلم، فتجمع الناس حتى سار على سطحه، ونظر الناس إليه.

    يقول الليث : لو رأيتم صاحب كلام على هذا النحو فلا تأمنوه على دينكم.

    [قال الشافعي : بل الأمر أعظم من ذلك، لو رأيت صاحب كلام يطير في الهواء فلا تأمننه على دينك].

    إذاً: فالقضية كلها متعلقة بالاستقامة؛ ولذلك يقول ابن تيمية عليه رحمة الله في المجلد الحادي عشر من الفتاوى: إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء؛ فلا تحكمن عليه حتى ترى عمله، فإن كان موافقاً للكتاب والسنة؛ فإنما ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإلا فهو استدراج من الشيطان.

    أي: أن هذا العمل من الشيطان وليس من الرحمن، وهذا الكلام أيضاً مذكور في كتابه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومعناه: لو رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي في الماء، أو يأتي لك بأشياء هي كالسحر، بل السحر نفسه، حتى تكاد تجزم وتقسم أنك رأيت حقاً؛ فلا نحكم لهذا الرجل ولا عليه حتى نرى عمله هل هو مستقيم على منهج أهل السنة أم لا؟ فإن كان كذلك؛ فإن الذي جرى على يديه كرامة من الله تعالى له، وأنتم تعلمون أن كرامات الصالحين أمر مستقر في عقيدة المسلمين، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى قيام الساعة.

    والله تبارك وتعالى يمن على من يشاء من عباده الصالحين بالخوارق للعادات كرامة لهم، كما تجري هذه الخوارق على أيدي الأبالسة، وعلى أيدي السحرة والأفاكين الكذابين، لكنها ليست كرامات، وإنما هي استدراجات من الشيطان.

    قال: [قال أبو حاتم : حدثني بعض أصحاب الشافعي أنه سمع الشافعي يقول: كلمتني أم بعض أصحاب الكلام على أن أكلم ابنها ليكف عن الخوض في الكلام].

    فالأم عقلت أن ابنها على ضلالة، فأتت إلى إمام المسلمين الإمام الشافعي ، فقالت: كلم ولدي أن ينتهي عن علم الكلام.

    قال الشافعي: [فكلمته ليكف عن الكلام، فدعاني إلى الكلام]. يعني: كلمته ليكف عن الهوى واتباع الشهوات، فدعاني هو إلى الخروج عن حد الاستقامة، والدخول في حد البدعة والضلالة.

    قال: [وقال أبو حاتم : قال أبو ثور إبراهيم بن خالد : سمعت الشافعي يقول: ما ارتدى أحد الكلام فأفلح]. أي: ما سلك أحد سبيل الكلام والهوى؛ إلا ويخسر خسراناً مبيناً.

    منهج أصحاب الكلام تجاه المخالف

    قال: [قال حسن بن عبد العزيز الجروي : كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء، ويقول: أحدهم إذا خالفه صاحبه قال: كفرت، وإنما يقال فيه: أخطأت].

    يريد أن يقول: إن أهل السنة -وهذا كلام قرره شيخ الإسلام ابن تيمية مراراً- أرحم من أهل البدعة بعضهم ببعض، فأهل السنة لهم حد يقولون فيه: لا يكفر من أصحاب الفرق الضالة إلا الغلاة الذين خرجوا عن أصول الديانة، أو بدلوا وحرفوا في دين الله عز وجل أو في هذه الأصول، وأما عامة أصحاب الأهواء والضلالات؛ فإنهم لا يكفرون بهذا.

    وهذا بلا شك غاية الاعتدال من أهل السنة والجماعة، لكن لو تأتي الآن وتنظر إلى أهل البدع أنفسهم ماذا يقولون فينا؟

    فالشيعة مثلاً هل يحكمون لنا -أهل السنة- بالإسلام؟

    الجواب: لا، بل نحن جميعاً عن بكرة أبينا -جاهل وعالم- عندهم كفار وصابئة، حتى إنهم لا يسموننا قط أهل السنة، وإنما يسموننا: الصابئة أو الناصبة، وليس لنا عند الشيعة إلا هذان الاسمان: الصابئة أو الناصبة، وهذا مشعر بالكفر، فضلاً عن أنه في لحظة صدق وصراحة يصارحونا بهذا، لكن لما كان دينهم التقية والكذب والنفاق؛ فإنهم يخفون هذا في غالب أحوالهم وأوقاتهم.

    وليس الأمر يقف عند ذلك، بل أكثر من ذلك، فإذا اختلف أهل البدع مع بعضهم البعض لم يقل أحدهم في صاحبه: إنك أخطأت، وإنما يقول له: إنك كفرت؛ ولذلك فالأحكام عند القوم: إيمان وكفر، ولا يعرفون طريقاً للفسق، وإنما عندهم -خاصة الخوارج- أن من ارتكب معصية فقد كفر بها، وغلاتهم يكفرون بالمعاصي كلها: صغيرها وكبيرها.

    فالواحد منهم لا يقول لمن عصى: لقد عصيت، أو فسقت، أو أخطأت، وإنما يقول له: لقد كفرت، وليس هذا فحسب، بل إذا وقع الواحد منهم -ممن يصدرون الأحكام على الآخرين- في معصية كفر نفسه، وحكم على نفسه بالكفر، وألزم نفسه الدخول في الإسلام من جديد، وإننا نعلم أناساً كثيرين يعيشون بيننا في هذه الأيام وفي هذا العصر، بل وفي هذه المدينة يطلِّق الواحد منهم امرأته لمعصية وقع فيها؛ ظناً منه أنه انتقل من الإيمان إلى الكفر، وبالتالي لا تحل له امرأته حتى يشهد من جديد، ويعقد عليها عقداً جديداً بمهر جديد، وغير ذلك مما يلزم العقد الشرعي من ولي وشهود، وغير ذلك من سائر شروط أحكام العقد الشرعي الصحيح.

    وأما أهل السنة فهم أرحم بأهل البدع من رحمة أهل البدع بعضهم ببعض، كيف لا وهم امتداد للنبي عليه الصلاة والسلام الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين: لعالم الإنس والجن، للأبيض والأسود، للأعجمي والعربي، فقد نهج أهل السنة نهجه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم مأمورون باتباعه، والتخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

    فإذا كنا حقاً نتابع النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا بد أن نتمثل أخلاقه، وآدابه، وأحكامه، وطريقته، ومنهجه، وكل ما يتعلق بأمر الدين والدنيا مما ورد إلينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في كتاب الله، أو في سنته الصحيحة.

    تعقيب الشيخ ابن بطة رحمه الله تعالى على موقف أهل الكلام من المخالف

    قال الشيخ ابن بطة: [فأهل الأهواء في تكفير بعضهم لبعض مصيبون؛ لأن اختلافهم في شرائع شرعتها أهواؤهم، وديانات استحسنتها آراؤهم؛ فتفرقت بهم الأهواء، وتشتت بهم الآراء، وحل بهم البلاء، وحرموا البصيرة والتوفيق؛ فزلت أقدامهم عن محجة الطريق، فالمخطئ منهم زنديق، والمصيب منهم على غير أصل ولا تحقيق]؛ لأنهم ليس لهم منهج يعتمدون عليه، بينما نحن منهجنا القرآن والسنة وإجماع أهل العلم، والذي عرفنا بالقرآن والسنة هم أهل العلم من السلف، وهم أدرى الناس بكلام الله عز وجل.

    معنى السلفية وعلى من تطلق

    ومعنى السلفية إجمالاً: اتباع السلف، وكلمة: (السلف) عند الإطلاق يقصد بها أهل زمن معين، وهم أصحاب القرون الخيرية الأولى، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

    والراجح أن أصحاب القرون الخيرية هم الثلاثة القرون الأولى، مع أن البدعة وقعت فيهم، فبدعة الخوارج وبدعة التشيع وبدعة القدرية -وهذه أسبق البدع ظهوراً في الإسلام- وقعت في نهاية القرن الأول، فهل هي المقصودة بالمدح؟

    الجواب: لا، إنما المقصود بالمدح أصحاب القرون الخيرية الأولى، الذين وافقوا مراد الله من كتابه، ووافقوا مراد النبي عليه الصلاة والسلام من سنته: كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

    الصواب في عبارة: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف

    فإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلم أن الكلام القائل: بأن كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف؛ كلام يحتاج إلى تدقيق وتحقيق، وأرى أن الصواب في هذا الكلام يقال: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان في القرن الأول أو الثاني أو الثالث أو العاشر أو المائة؛ لأن القرون الخيرية الأولى وقع فيها من البدع ما وقع.

    فيكون انضباط هذا الكلام بقولنا: الخير كل الخير في الاتباع، أي: في اتباع السلف رضي الله عنهم.

    وليست العبرة أن تحتج بكلام لله عز وجل، أو بكلام قاله النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أو في غيرهما مما صح عنه عليه الصلاة والسلام، لكن العبرة: مَن فهم هذا الكلام كما فهمت أنت؟ هب أنك تحتج بآية من كتاب الله لم يسبقك أحد إلى هذا الفهم إلا الجهم بن صفوان ، فهل يكون هذا الفهم صحيحاً؟ وهل يكون المراد صحيحاً؟ لا، فهذا فهم جهمي للآية.

    وأما لو كان الفاهم لمعنى الآية هو: أبو بكر أو عمر ؛ فيا حبذا هذا الفهم، وهؤلاء هم حقاً سلف الأمة رضي الله عن الصحابة أجمعين، وعن الأئمة المتبوعين أئمة الدين، وأصحاب الاجتهاد المطلق في الفقه وأصول الدين وغير ذلك.

    استمرار المنهج السلفي إلى قيام الساعة

    فالسلفية لم تنقطع عند أصحاب القرون الخيرة الأولى، بل السلفية من جهة المعنى مستمرة إلى قيام الساعة؛ لأن العبرة من سار على نهجهم إلى يوم الدين، فـابن تيمية ممن سار على نهج الصحابة وهو سلفي، وإن لم يكن من أصحاب القرون الخيرية.

    وابن القيم سلفي؛ لأنه سار على نهج الصحابة، وإن لم يكن من أصحاب القرون الخيرية الأولى، وبالتالي فلا يخلو عقد ولا قرن من عالم وقائم لله بحجة على منهج السلف، والله تبارك وتعالى لا يمكن أن يترك الناس أو العباد بغير عالم يقيم عليهم الحجة؛ حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.

    وإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلم أن الله تعالى له جنود ظاهرون على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم على ذلك.

    والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، والذي أحسبه من المجددين في هذا الزمان وفي هذا القرن هو شيخنا العلامة الألباني ، وكذلك شيخنا العلامة ابن باز ، وغيرهما من أهل العلم ممن هو باق على قيد الحياة، نسأل الله أن يطيل أعمارهم، وأن يحسن أعمالهم، وأن يحسن خواتيمنا وإياهم جميعاً، ومنهم من مات ولا يقل في الفضل والعلم عمن ذكرناه.

    فالسلفية لها معنى قديم متعلق بالقرون الخيرية الثلاثة، ومعنى حديث، أي: من جهة المعنى لا من جهة الزمن، وهذا مستمر إلى قيام الساعة، ولا يخلو منه عصر ولا مصر، فالذي أمرنا نحن به من قِبَل الله عز وجل، أو من قبل النبي عليه الصلاة والسلام، أو من قبل الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين، أو من قبل أئمتنا في هذا الزمان: أن نكون تبعاً لأهل العلم الصادقين المخلصين، المتبعين لآثار من مضى، لا المتبعين لأهوائهم، ولا المتبعين للجدال والكلام والخصومات والمراء والملاحاة؛ إذ كل هذا ليس منهجاً للسلف، بل قد ذموه ونقدوه وحذروا الأمة منه، بل وتعرضوا له بالنقد حتى بينوا زيفه، وبينوا عجزه وتقصيره، وبينوا فساده ومخالفته لهذا المنهج الذي أمرنا ألا نتلقى إلا منه وعنه، وهو الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح.

    قال: [يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : العلم بالكلام جهل، والجهل بالكلام هو العلم].

    بيان ضلال القرآنيين الطاعنين في السنة النبوية

    إن مادة أصول الفقه من أعظم المواد إظهاراً لمراد الله تعالى ومراد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وهذه المادة أنا أحبها غاية الحب، وأستمتع بالنظر في كتبها أيما استمتاع، وإن الدارس لهذه المادة بمجرد النظر في كتاب الله يعلم المراد، أو يعرف توجيه الآية.

    لكن قوماً اتخذوا هذه المادة منهاجاً، فقدموها على كتاب الله، وقدموها على سنة النبي عليه الصلاة والسلام، كما سبقهم إلى ذلك أبالستهم، مثل: القرآنيين.

    فالقرآنيون يقولون: نحن لا علاقة لنا بالسنة! وهذا أمر عجيب جداً، كيف يفهمون القرآن بغير سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذه دعوى قديمة جداً، فقد ظهرت في زمن الصحابة، بل قد حذر النبي عليه الصلاة والسلام منها، ولا يزال قوم منهم يستترون، ويعبثون بأدمغة وعقول شباب الأمة.

    وأذكر على سبيل المثال: الجاحد والمنكر للسنة جمال البنا، وهو أخو الشيخ الكبير العلم الشيخ حسن البنا رحمه الله، فهذا الرجل لم يكتف فقط بأنه أجهل من حمار أهله فيما يتعلق بالعلم، بل ذهب ليصنف مصنفات بلغت العشرات، يزعم أنه من المجددين، وهو لا يعلم شيئاً بالدين، وإنما منهجه الطعن في سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، وهو من مدرسة ابن خلدون ، وهو رفيق الطريق، وصديق الهوى للمدعو الدكتور: مصطفى محمود ، ونصر أبو زيد وحسن حسني ، وهذا الملحد العلماني الكبير في كلية الآداب، وبقية الملاحدة في كلية الألسن؛ كل هؤلاء جمعتهم دار تسمى: دار ابن خلدون ، هذه الدار التي تنفق عليها أمريكا، كما تنفق عليها إيران بغير حياء، بل بكل بجاحة.

    والعجيب أن يلتحق بهذه الثلة الإجرامية المجرمة اسم لعلم من أعلام الدين وهو ابن الشيخ عبد اللطيف السوري الذي لا يخفى على أحد، وهو إمام من أئمة الذب عن السنة النبوية، وقد أفنى أبوه حياته في الدعوة إلى السنة ونبذ البدعة، وهذا اشتغل وجعل جل أمره واهتمامه إنكار السنة، ويزعم أنه قرآني فقط، فلا والله لا أنت قرآني، ولا أنت من أهل السنة كذلك، بل أنت من أهل البدع والضلال، وإنما يتكلم بكلام خفي؛ حتى لا يفتضح أمره، لكن الله تبارك وتعالى فضحه وكشف ستره، وهتك أمره على يد تلامذته رجالاً ونساءً، الذين تربوا على يديه إنكاراً للسنة، حتى أنكر بضع مائة حديث متفق عليهم عند البخاري ومسلم .

    فكيف يكون هذا آدمياً؟! بل هو إلى الحيوانية أقرب، فقد تربى في بيت علم وفي بيت سنة، ثم هو ينقلب رأساً على عقب ليحارب السنة تحت مسمى أنه قرآني فقط، فلم لم يزعم أحد من الصحابة هذا الأمر؟ فهل هذا هو الخير الذي كشفه الله تعالى لك وستره على نبيه، وعلى أصحابه الكرام، وعلى أئمة الدين؟

    إن الصحوة الإسلامية الآن تمر بمخاطر عدة من أخطرها: ما يحاك خلف الكواليس وخلف الأسوار في الطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

    والعجيب أن بعض الشباب يقول: لا يعقل أن محمد بن عبد اللطيف يطعن في السنة، فلا بد أن نذهب إليه ونكلمه، فإذا ذهبت إليه إذا بك تمكث عنده، وتأبى أن تخرج من عنده؛ لأنك أصغيت أذنك لأهل الأهواء وأصحاب البدع، وخالفت ما حذرك منه سلف الأمة في هذه الكتب المسندة بأسانيد صحيحة، فلما خالفْتَ أوقع الله تبارك وتعالى عليك العقوبة؛ لأنه يعلم عدم صدقك، وعدم إخلاصك في الطريق، أو لعدم فهمك لمنهجية السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم في التعامل مع أصحاب الأهواء.

    تحذير هشام بن عبيد من الكلام

    قال: [قيل لـهشام بن عبيد حين أدخل على المأمون: كلم بشرا المريسي -أي: أن المأمون قال للإمام: ناظر بشراً المريسي هذا الضال- قال هشام : أصلح الله الخليفة، لا أحسن كلامه].

    أي: أنا لا أحسن أن أتكلم معه، مع أن هشام بن عبيد كان من أئمة الدين، فلما طلب منه المأمون أن يكلم بشراً المريسي ويقيم عليه الحجة ويناظره ويسكته؛ اعتذر الشيخ عن ذلك، وقال: إني لا أحسن الكلام، [بل من يحسن الكلام عندنا فهو جاهل].

    يعني: من يحسن أن يكون كهذا فهو عند أهل السنة جاهل، أي: جاهل بالأصول السلفية التي منها: ترك المناظرة والجدال مع أصحاب الأهواء والكلام.

    تحذير العتابي من الكلام والجدل وموقف المأمون من مناظرته مع بشر المريسي

    قال: [وعن أبي علي محمد بن سعيد بن الحسن قال: دخل العتابي على المأمون وعنده بشر المريسي ، فقال المأمون : ناظر بشراً في الرأي، فقال العتابي : يا أمير المؤمنين! قبل المناظرة فإنه لا يحمد المرء في أول وهلة على صوابه، ولا يذم على خطئه؛ لأنه بين حالين من كلام قد هيأه أو حصر، ولكنه يبسط بالمؤانسة، ويبحث بالمثاقبة، فقال له: ناظر بشراً في الرأي -أي: أن المأمون مصرٌّ على أن العتابي يناظر بشراً في الرأي- فقال العتابي : يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق]. أي: أنهم لا يتكلمون بصراحة، وإنما يلفون ويدورون، وديننا سهل وليس بصعب، والدليل على ذلك: أن الواحد من البادية كان يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيجلس في المسجد، ويسمع النبي عليه الصلاة والسلام، وبعدما يخرج النبي صلى الله عليه وسلم يقوم وينطلق إلى باديته، فكل كلمة سمعها قد فهمها.

    لكن الآن تأتي لواحد يدرس الناس مادة أصول الفقه، أو مادة أصول الحديث، أو مادة اللغة العربية، أو يدرسهم معنى حديث، أو معنى آية، لكنه رزق شيئاً من الكلام والفصاحة والبيان، أو القواعد الكلية في اللغة العربية، أو في الدين أو غير ذلك، فتجده يتلاعب بهذه الألفاظ، وبهذا التراث الكلامي الذي لديه، حتى إن السامع يضرب كفاً على كف -ولا أقول: إنه يضرب كفه بوجهه- لأنه يحاول جاهداً أن يفهم كلام المتكلم، لكنه دائماً يبوء بالفشل، فإن علم المتكلم أن المستمع لم يفهمه؛ ازداد إعجاباً وفرحة بنفسه؛ لأنه يقول كلاماً على أعلى وأرقى مستوى، لدرجة أن أحداً لم يفهمه!!

    وهذا هو الجهل بعينه؛ لأن العلم النافع ما سمي نافعاً إلا لأن صاحبه قد انتفع به، كما أن المستمع له قد انتفع به أيضاً، فإذا كان لا ينتفع به أحد، ولا حتى المتكلم؛ لأن الذي يتقعر في كلامه، ويأتي بجمل حشوية في أثناء كلامه، ذلك يدل على عدم الإخلاص، والمرء إذا لم يكن مخلصاً في قوله وعمله فلا بد أن تنزل من السماء عليه عقوبة تدمره، عقوبة في ولده، في ماله، في امرأته، في نفسه، في صحته، في علمه الذي بين جنبيه وغير ذلك، لكن يرد على وجهه فينسي أن هذه عقوبة، وربما يصاب بأزمة نفسية يبقى بقية حياته مريضاً منها، ولا يذكر أن هذه عقوبة من الله نزلت عليه بسبب تفريطه في الإخلاص الذي هو مأمور به قبل تعلم العلم.

    وكم من إنسان لم يكن مخلصاً في طلبه للعلم، ولم يدعوه العلم لطلب الإخلاص؛ فباء أمره بالفشل، واستحب العلم لحصول أعراض الدنيا من مال وكرسي ومتاع وزينة وسيارات وأبهة ومنصب وغير ذلك؛ لأنه رضي من دينه وعمله أن يكتفي بكرسي يجلس عليه، أو بمال يحوزه، أو بأكلة شهية، أو بامرأة جميلة، أو غير ذلك من أعراض ومتاع الدنيا؛ فهذا حظه من العلم.

    بخلاف ما لو قرأت في كتب السلف وسير أهل العلم، كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، فوالله لكأنك تقرأ في سيرة الصديق رضي الله عنه، ولو أنك قرأت في سيرة الشافعي لكأنك تقرأ في سيرة عمر رضي الله عنه، فهؤلاء أئمة وأعلام بقيت سيرتهم نيرة تنير الطريق للسالك إلى يوم القيامة، مع أنهم ماتوا، وقوم بيننا أحياء يمشون على الأرض، لكنهم كالبهائم، فهم في عداد الموتى وإن كانت أجسادهم كأجسام البغال والحمير؛ لأن المرء بدينه، وإن المرء بإخلاصه، لا بتقعره بالكلام لإثبات العلم، أو بالمفاخرة والمباهاة وغير ذلك.

    قال العتابي: [يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق، واختلافاً في آرائهم، وأنا واصف لأمير المؤمنين ما أعتقده من ذلك، لعل صفتي تأتي على ما يحاول أمير المؤمنين].

    أي: سأحكي لك حكايتي كلها، وبعد أن أحكيها لك ستعلم صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إلى مناظرته، وبالتالي إذا عرفت صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إليه؛ فأنت الذي ستقول: كف عن مناظرته.

    قال: [إن أمر الديانة أمران -أي: أن أمر التدين لله على قسمان-: أحدهما: لا يرد إلا جحداً -لأنه قرآن- وهو الأصل المعروض عليه كل حجة]. أي: لا ينكر أحد منه آية إلا كفر؛ لأن الإنكار جحود.

    قال: [وعلم كل حادث لا نرده أو لا يرد، من انتحله حجة عليه، فما وضحت فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها، أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اختلاف فيها، أو إجماع من العلماء، أو مستنبط تعرف العقول عدله؛ لزمهم الديانة به].

    هو الآن يتكلم على مصادر التلقي، فيقول: إن مصادر التلقي هي: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح.

    قال: [ولو كان هذا الكلام متفقاً عليه، واجتمع الناس على تأويل آية على نحو معين؛ فلا يحل لأحد بعد هذا الإجماع أن يخالف هذا التأويل].

    وهذا الكلام كما أجريناه في القرآن نجريه في الحديث، ونجريه في الإجماع الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه؛ لأن الإجماع كالنص، بل لا ينعقد الإجماع إلا بناءً على النص.

    قال: [والقيام عليه وما لم يصح فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها، ولا سنة تلزمهم الديانة بها، ولا القيام عليه، كان عليهم العهد والميثاق في الوقوف عنده].

    أي: إذا لم يكن عنده كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس؛ فهو مطالب شرعاً بأن يقف عند حد الآية، أو يقف عند حد الحديث فلا يتعداه، ولا يخوض فيه؛ لأنه لما سمع هذا الكلام أخذه وعرضه على القرآن فما وجد له شاهداً، وعرضه على السنة فما وجد له شاهداً، وعرضه على الإجماع فما وجد فيه إجماعاً، وعرضه على القياس ففقد أحد أركانه أو كل أركانه؛ فهذا الشيء الذي أراد إثباته بهذه الأصول فلم يفلح لا حرج عليه أن يلقيه في الحش، أو أن يبول عليه؛ لأنه ليس ديناً.

    ولذلك قال مالك : وما لم يكن يومئذ ديناً؛ فليس اليوم ديناً، أي: الذي لم يكن أيام الصحابة والتابعين ديناً؛ لا يمكن أن يكون ديناً إلى قيام الساعة، وهذه كلها نصوص سلفية تبين لك منهج التلقي، لذا لو عرضت لك مسألة ما فاعرضها على هذا المنهج، فإذا لم تستقيم مع هذا المنهج فألقها، واعلم أنها لا علاقة لها، ولا نسبة لها بدين الله عز وجل.

    قال: [كذلك نقول في التوحيد فما دونه، وفي أرش الخدش فما فوقه].

    وأرش الجنايات هي: دية الجنايات، فالذي قطعت أصابعه ديتها كذا، والذي قطعت يده ديتها كذا، والذي قطعت رجله كذا، والذي قطعت أذنه، أو جدع أنفه ديتها كذا؛ فكل أعضاء الإنسان مبين أصلها في الشرع، ولو أن أحداً اعتدى عليك فقطع منك جزءاً من بدنك فإن لك به دية معينة حددها الشرع.

    فالإمام يقول: [أرش الخدش] ولم يقل: أرش القطع، مذكور في السنة، فلو أن شخصاً خدشك فإما أن تخدشه، أو يسترضيك حتى يرضى، بحيث لا يتعدى هذا الرضا أقل أرش الجنايات، فمثلاً لو قلنا: قطع الأصبع ديته عشر ناقات، فعندما يأتي شخص يخدشك فتقول له: أنا أريد الدية، فيقول لك: لا توجد دية في هذا الشيء، فتقول له: أنا لن أرضى إلا بمائة بعير، لكن هذه المائة بعير دية القتل، وإزهاق النفس، فنقول له: بل لا بد أن ترى أقل أرش الجنايات كم يكون، فأنت تسترضى بأقل منه؛ لأني خدشتك ولم أقطع شيئاً منك.

    فالإمام هنا يقول: إن هذا المنهج الذي بيناه وهو منهج التلقي: كتاب، وسنة، وإجماع، وقياس نجريه في التوحيد وغيره، لكن لا قياس فيما يتعلق بالاعتقاد في ذات الإله، أو في أسمائه وصفاته.

    فيقول: [وكذلك نقول في التوحيد فما دونه، وفي أرش الخدش فما فوقه، فما أضاء لي نوره اصطفيته].

    أي: يا أمير المؤمنين! الذي أعرفه بيناً واضحاً كضوء الشمس أو القمر اصطفيته، يعني: أخذته واعتمدته ديناً.

    [وما عمي عني نوره نفيته]، أي: نفيته من دين الله عز وجل.

    فهو يريد أن يقول له: إن الذي يقوله بشر المريسي لا يوافق كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا قياساً؛ ولذلك أنا لا أعرفه.

    [فقال المأمون: اكتبوا هذا الكلام وخلدوه ببيت الحكمة].

    أي: اكتبوا هذا الكلام بماء الذهب، وعلقوه على مدخل بيت الحكمة، وبيت الحكمة عبارة عن دار كتب.

    ودار الحكمة هذه جرت على المسلمين بلاء كثيراً؛ لأن أمراء الدولة العباسية أنشئوها في عهد الرشيد والأمين والمأمون، ونقلوا إليها تراجم كتب اليونان، فكان أول بلاء ينزل بالأمة، مع أن قصدهم كان خيراً، لكن ليس كل ما يبغيه المرء يدركه، فقد أرادوا بها خيراً والانتفاع بحضارة اليونان وغير ذلك، فإذا به الوبال كل الوبال؛ ولذلك إذا أردت أن تصدق كلامي بأن ترجمة كتب الفلاسفة اليونان كانت وبالاً على الأمة؛ اذهب واجلس مع أي أستاذ يدرس فلسفة ومنطق، ابتداء بالثانوية العامة حتى الكلية المتخصصة في الآداب، واجلس معهم ساعة أو ساعتين فانظر هل تفهم ماذا يقول، بل هو لا يفهم ماذا يريد، وإنما هو كلام يبثه فقط؛ لأنها مجرد قواعد فلسفية حفظها، فيتكلم بكلام البول أطهر منه، وهذا في حقيقة الأمر.

    كما أن عندهم فيما يتعلق بذات الله وبأسمائه وصفاته كلاماً هو الكفر المحض، وقد استقوه من الفلسفة، لا من القرآن، ولا السنة، ولا الإجماع، ولا القياس.

    إذاً: فدار الحكمة أو بيت الحكمة كانت داراً للكتب المترجمة من اليونانية إلى العربية.

    تحذير أبي يوسف من الكلام

    قال: [قال أبو يوسف : لا تطلب ثلاثاً إلا بثلاث: لا تطلب العلم بالكلام؛ فإنه من طلب العلم بالكلام تزندق]؛ لأن الشرع يطلب من الأصول التي اتفقنا عليها، وأما أن تأخذه من علم الكلام أو من علم الفلسفة أو المنطق؛ فليس بعلم، بل هو زندقة وإلحاد.

    ولذلك قال ابن تيمية: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق. أي: أن الفلسفة تؤدي إلى المنطق، والمنطق يؤدي إلى الزندقة والإلحاد، ولذلك تجد معظم الملاحدة في هذا الزمان يحتجون بكلام الفلاسفة، والعجيب أنهم عندما يصنفون الكتب فإن معظم الأسماء التي في كتبهم هي أسماء أفرنجة ليسوا بعلماء، يقول لك: كيف والفيلسوف اليوناني قال كذا، والفيلسوف الإنجليزي قال كذا، والفيلسوف الفرنسي القديم قال كذا، والحديث قال كذا، فاعتمادهم كله على كلام الفلاسفة، وهذا يدل على أنه تلقى علمه عن هؤلاء.

    فأنت في رحمة من الله عز وجل أن وفقك وعصمك في الإسلام بالكتاب والسنة، وأنك تتلقى علمك في بيوت الله تعالى من القرآن والسنة والإجماع والقياس، وأما غير ذلك فألقه في الحش ولا حرج عليك؛ لأنه ليس ديناً ولا علماً، بل هو زندقة وإلحاد.

    التحذير من طلب الغنى بالكيمياء وبيان معنى الكيمياء

    قال: [ولا تطلب الغنى بالكيمياء؛ فإنه من طلب الغنى بالكيمياء افتقر].

    وفي الحقيقة أن هذه المسألة معماة عندي، وأنا لا أحسن الكلام فيها، غير أن بعض أهل العلم سمعته يذكر رأيه ويقول: المقصود به السحر، إذ إن الساحر يستخدم مواد كيماوية وغير ذلك، فيأتي بعناصر مكونة للذهب، أو بعناصر مكونة للفضة؛ لأن هذا مصدر المال، أو هذا أصل المال: الذهب والفضة، فهو يأتي بعناصر كيميائية بإضافة أنساب منها إلى أنساب أخرى معينة، وهذا الخليط يخرج ذهباً وفضة، أو معدناً يباع ويشترى، فمن طلب الغنى بالكيمياء أفقره الله عز وجل.

    الجرأة على العلماء لا تأتي إلا من الجهال

    قال: [وجاء أبو بكر الأصم -وهو فعلاً أصم- إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين].

    عاملك الله بما تستحق! ألم تجد إلا عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام الشافعي ، فـعبد الرحمن بن مهدي تورع، وأحمد بن حنبل تورع، وهؤلاء هم أئمة الدنيا، ودائماً الجرأة لا تأتي إلا من جاهل أو غبي، ولذلك قال عبد الله بن المعتز: لا يتصدر إلا فائق أو مائق.

    والفائق: هو المتفوق، فيكون له صدر في الأمة، وصدر في الناس، وعلم يشار إليه؛ لأنه طول عمره وهو رجل فاضل ومحترم، يحافظ على وقته، ويذاكر ويحفظ، ويستمع كلام أهل العلم، ويحاول أن يحصل العلم من مصادره؛ حتى يكتب له التفوق والتصدر في الناس، وإن لم يبغ هو التصدر لكن الناس يقدرونه، مع أن علماءنا ليس أحد منهم من أهل الدنيا، أو صاحب منصب، وما فرض علينا علمه من خلال منصبه.

    وأما أصحاب المناصب فهم أكبر سلاطين في الدنيا، لكن لما يدخلوا علينا نقول لهم: لا نريدكم؛ لأن عندنا أناساً أحسن منكم، وأنظف منكم، فنتلقى عنهم، وأنتم لستم أصحاب دين، بل أصحاب انحراف، والانحراف ثابت عنكم، وقد كنتم مستقيمين قبل الكرسي، وبعد الكرسي تغيرت أحوالكم، ومن أجل ذلك كلامكم عندنا غير معتمد، مع أنهم في العلم أناس جيدون، فهم ليسوا جهلة، لكننا لا نثق في علمهم أو في فتاواهم.

    فمثلاً: عندنا الشيخ الألباني رحمه الله، وابن باز وغيرهم من أهل العلم، هؤلاء أناس كتب لهم القبول والصدارة في العالم كله كافرهم ومؤمنهم، وليسوا أصحاب كراسي ووجاهات، ولا عندهم من الأموال الكثيرة لكي نتملق لهم من أجل أن نأخذ من دنياهم.

    بل أنا أذكر مراراً أن الجهلة كانوا يأتون إلى عمان الأردن، ويجهلون أيما جهل على الشيخ الألباني، حتى هم كثير من الطلاب أن يضربوهم؛ لأنه لا يمكن مناقشة العالم بهذا الأسلوب أبداً.

    فمثلاً: جاء رجل من مصر إلى عمان الأردن، وصلى الجمعة عند الشيخ الألباني في مسجد صلاح الدين في الدوار الرابع عند الشيخ أبي شقرة ، وبينما أنا صاعد المسجد سمعته يقول: أين الأخ الألباني ؟! فقلت له: لا يصح هذا يا فلان! من الخطأ أنك تخاطب عالماً مبرزاً في الأمة بلقب الأخ، فهل تدخل على أبيك فتقول له: يا أخ فلان؟! أو على أمك وتقول لها: يا أختي؟!

    المهم خرج الشيخ الألباني من المسجد الله يرحمه ويحسن إليه، فقال له: يا شيخ! أنا جئت لك من مصر مخصوص، قال له: لماذا؟ قال له: أنا ذهبت أقدم في الجامعة الإسلامية فقالوا: لا بد أن تأتي بتزكية من الشيخ الألباني ، فقال له: قالوا لك: تزكية من الشيخ الألباني ؟ قال له: نعم، قال له: ولكن أنت أول واحد ينقل إلي أن هذا الطلب من الجامعة موجه إليّ، وإلا فالأصل أنهم يقولون: اذهب وائت بتزكية من شخص معتبر عندهم وكفى، لكن أنهم عينوا لك الألباني فعجيب، قال: نعم عينوا الألباني ، فقال: طيب يا أخي! إن التزكية شهادة، فكوني أشهد لك أنك من أهل الاستقامة في العلم والعمل والعقيدة وغير ذلك أمر مهم جداً، ثم قال له: أليس الواجب علي ألا أشهد إلا بما علمت؟ فقال الرجل: أنا الحمد لله أخ مسلم جئت من مصر، فكيف تردني؟ وهل كان النبي عليه الصلاة والسلام يرد سائلاً؟ وأخذ يناقش بجلافة وقلة أدب مع الشيخ، ثم طلب من الشيخ المال الذي أنفقه في سفره إليه، فقال له الشيخ: ومن أين آتي لك بفلوس؟ هل أنا قلت لك: تأتي؟ فقال له: إما أن تعطيني الشهادة أو تعطيني الفلوس.

    ثم إن الإخوة الذين هم مختصون بهذه الأشكال قاموا وصرفوه من الشيخ، ثم أتى إلى هنا ولم يتعلم لا في الجامعة ولا في المدرسة، ولا يزال إلى الآن يحمل حملة شعواء على الشيخ الألباني .

    قوة الشيخ الألباني في الحق وعدم محاباته لأقربائه

    مثال آخر: ولده عبد المصور الذي تغيب في أمريكا عدة أعوام، هذا الولد إذا نظرت في وجهه استحييت من فرط أدبه، جاء عبد المصور من أمريكا وذهب إلى الجامعة، فقالوا له: ما معك تزكية وأنت ابن الشيخ الكبير؟! اذهب وأحضر إجازة من والدك؛ لأن هذا عندنا إجراء روتيني لا بد من استيفائه.

    فجاء إلى والده -ونحن جلوس في بيته- وتلطف غاية التلطف في طرح قضيته على والده، فالشيخ الألباني قال له: تريد تزكية؟ قال: نعم، قال: ائتني بورقة وقلم، ونحن أخذنا الأمر عادياً وطبيعياً أنه سيعطي لابنه إجازة، فكتب في الورقة:

    أما بعد:

    فهذا ولدي عبد المصور بن محمد ناصر الدين الساعاتي تغيب عني منذ أربعة عشر عاماً في بلاد الكفر، ولا أدري عن دينه ولا خلقه شيئاً، والسلام.

    فأخذها عبد المصور وأطبقها، ثم وضعها في جيبه ولم يقرأها حتى انصرف عن والده، فسألناه بعد ذلك عما كتب أبوه، فأخرج الورقة وقرأها علينا، وقال: هو محق في ذلك؛ لأنه بالفعل الإنسان يتغير في يوم وليلة، ويتغير في لحظة، وأنا قد تغيبت عنه، فالولد التمس لأبيه هذا، وهو يعرف منهجية أبيه وشدته في الحق، فالتمس له العذر، لكن ذاك المصري لا، حتى وإن كان طالب علم، لكن بمجرد أنه يريد منك شيئاً فلا بد أن تعمله له وإلا سيغضب منك.

    والشيخ يا إخواني قد وضعناه في مئات المرات الحرجة مع الجامعة الإسلامية، فأخ من الإخوة يأتي ويلح ثم يلح، ولا شيء غير الإلحاح، فتحت ضغط الأخ وإلحاحه يكتب له الشيخ تزكية إلى الجامعة الإسلامية، ثم يذهب الأخ هناك فيأتي بالموبقات والكبائر، فالجامعة ترسل رسالة للشيخ الألباني تقول له: لا ترسل إلينا أحداً من قبلك بعد ذلك، إي والله! والشيخ قد أطلعنا على مثل ذلك عدة رسائل من الجامعة موجهة إليه، وفي النهاية قال: أنا جعلت المسئولية على عاتق الغير، فيزكيه الغير، وأنا على تزكيته في نفس الورقة أزكيه؛ حتى يخلع مسئوليته أمام الجامعة.

    ثم وقع في نفس الحرج وزيادة، فالآن نحن يا إخواني! لا نزكي أحداً قط حتى وإن كنا نعرفه، لكن الأخ يأتي يلح مئات المرات، حتى يلحق الواحد في بيته وفي شارعه وفي سوقه وفي كل مكان، ولا يكون أمامنا إلا التزكية، فهل ترضون أن نزكي واحداً منكم، ثم من ورائه فوراً أتصل بالشيخ وأقول: له كذا وكذا وكذا، فلا تعتمدها يا شيخ؟! أيصح هذا؟!

    نرجع إلى أصل كلامنا وهو: أن منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة يكون من القرآن والسنة والإجماع والقياس، وما دون ذلك فليس بمنهج، وما دون ذلك فهو الكلام والأهواء والجدل والملاحاة والخصومات، وليس هذا هو منهج السلف رضي الله عنهم.

    احتقار الإمام ابن مهدي لأصحاب الكلام والجدل

    قال: [قال: جاء أبو بكر الأصم إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيء من أمر دينك فقف حتى أخرج إلى الصلاة، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى ولم يثبت].

    أي: بالنسبة لي فديني مستقر وكامل، ولا أحتاج فيه إلى مناظرة، وإذا كنت شاكاً في شيء من أمر دينك، فقف عند الباب ولا تدخل، حتى آتي إليك بعد أن أخرج إلى الصلاة، ثم سل عن مسألتك حتى أعلمك بأنك جاهل.

    قال: [وقال أبو يوسف : العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة، كما قال أبو يزيد السراج : قال لي أبو عمر الطويل : العلم بالكلام بمنزلة التنجيم، كلما كان صاحبه أزيد علماً كان أشد لفساده].

    ولذلك حين يوصف الساحر بأنه معتق، فإن ذلك يعني: عتيق وقديم، أي: متمترس في الكفر والإلحاد والزندقة، وكل الأبالسة جنوده، بخلاف الساحر المبتدئ فلم يزل بعد غير متمكن، فمعه شيطان أحياناً يحضر له الحاجة ويفلح فيها، وأحياناً لا يفلح، فيحرج أمام المسحور، بخلاف الساحر القديم؛ فإنه يسحر ومعه أبالسة عدة، إن لم يأت هذا جاء آخر وهكذا، لكن هذا كفر، وإن رأيت أنه في الظاهر ينفع.

    ذم الإمام أحمد للكلام

    قال: [وقال: أبو عبد الله أحمد بن حنبل: من أحب الكلام لم يخرج من قلبه -أي: من أحب الكلام واستهواه تمكن من قلبه، وتربع فيه ولم يخرج منه- ولا ترى صاحب كلام يفلح قط.

    وقال: عليكم بالسنة والحديث، وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء؛ فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاماً لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تئول إلى خير قط، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، وسلمنا وإياكم من كل هلكة.

    وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله فقلت: إن ها هنا رجلاً يناظر الجهمية ويبين خطأهم، ويدقق عليهم المسائل فما ترى؟ قال: لست أرى الكلام في شيء من هذه الأهواء، ولا أرى لأحد أن يناظرهم، أليس قال معاوية بن قرة : الخصومة تحبط الأعمال، والكلام الرديء لا يدعو إلى خير، لا يفلح صاحب كلام، تجنبوا أصحاب الجدال والكلام، وعليكم بالسنن، وما كان عليه أهل العلم قبلكم، فإنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل البدع، والجلوس معهم، وإنما السلامة في ترك هذا، لم يؤمر بالجدال والخصومات مع أهل الضلالة، فإنه سلامة له منه.

    وقال كذلك أحمد بن حنبل : صاحب الكلام لا يخرج حب الكلام من قلبه، إنه لا يفلح، كلما تكلم بمحدثة حمل نفسه على الذب عنها]. يعني: كلما ذكر بدعة تكلف الدفاع عنها؛ لأجل إثباتها.

    غربة الدين في هذه الأزمان

    والمعلوم أنه ما أحدثت بدعة إلا وأهلكت سنة، فتصور أن تنتشر البدع حتى تكون هي السنن في نظر الناس، ولذلك الآن إذا فتح الله عليك بالعلم، وذهبت إلى قرية من القرى تعلمهم الوضوء الصحيح فإنهم يضحكون عليك؛ لأنك في نظرهم يا ابن الجامعة! صغير، فمثلاً: أنت من مواليد الثمانين، فيقول لك: أنا عمري مائة سنة، فكيف تعلمني الوضوء؟! ووضوءه عبارة عن حفنة ماء يرش بها وجهه من الأمام، ثم يقف إماماً أو خطيباً في الناس! والعجيب أنه الوحيد في البلد الذي عنده إلمام، وأما أنت فلا، ويا ليت أنك تدخله في باقي متاهات العقيدة، أو في التوحيد، أو في الأسماء والصفات، أو في فروع العلم الدقيقة؛ فإنه بذلك يقول لك: فلان جاء بدين جديد، يعني: جاء به من باريس.

    وكل واحد فينا من الفلاحين قد مر بهذه المرحلة، فقد كانوا يدعونني في قريتي -ووالدي موجود هنا يسمع- بـحسن الكاذب ، وكان الأهل والجيران والخلان هم الذين يحذرون أكثر تحذير، وهذا كان يذكرني بموقفهم من النبي عليه الصلاة والسلام في العهد المكي.

    فتصور أن أدعى حسن الكاذب ، فعندما يسمع أحد أن هذا حسن كاذب هل سيأتي أحد ويأخذ منه شيئاً؟ لا، ثم إنني تركت البلد، وقام بالدعوة من بعدي أناس، مع أننا كنا من أحسن الناس أدباً، وألطف الناس ممن سكن معهم، فلم يكن فينا عنف ولا حدة، وقد كان الواحد منهم يجلس على سلم الجامع ويشرب شيشة، فيقال له: يا عم! هات الشيشة معك وادخل فصل، فيقول: لا، أنا لا أصلي، ثم بعد انتهاء الصلاة يقول: يا ليت أني صليت معكم، لقد كسلت.

    وآخر وجدته جالساً في بساطة المسجد الخارجية وراكن على جدار المسجد، فلما أنكرت عليه قال: أنا قيم المسجد! فهذا بلاء عظيم جداً.

    وفي يوم من الأيام كانوا قد عملوا عرساً على سطح المسجد؛ عملته الجمعية الزراعية، وهذا العرس فيه من المنكرات ما الله به عليم، وفيه بلاء عظيم جداً، لكن من الذي سينكر!

    فأنا أقول: لو جاز أن يرسل الله تعالى نبياً؛ فإن مصر لا يكفيها إلا خمسة وعشرون نبياً من أولي العزم، ولا يكفيها شيخ ولا داعية إلى الله، مع أن الأصل فيهم الطيبة، لكن قلوب بعضهم أصلب من الصخر!

    نهي ابن سيرين عن الجدال إلا إذا كانت وراءه فائدة مرجوة.

    قال: [وكان ابن سيرين ينهى عن الجدال، إلا رجلاً إن كلمته طمعت في رجوعه] فهذا شرط: أن يغلب على ظنك أنك لو كلمته أنه سيرجع، وإلا فلا.

    1.   

    كلام الإمام أحمد في ذم الكلام

    نختم هذا الدرس بكلام نفيس جداً للإمام أحمد بن حنبل، يقول أحمد بن حنبل : لا تجالس صاحب كلام وإن ذبَّ عن السنة؛ فإنه لا يئول أمره إلى خير. أي: لا تجالس صاحب كلام وصاحب هوى وبدعة؛ حتى وإن تظاهر بأنه يدافع عن السنة، وهذا كلام واقعي، واذهب الآن إلى منكري السنة فإن أحدهم يقول لك: أنت فهمتني خطأ، نحن لم ننكر السنة، ولكن نقول: السنة هي فكرة في العقل؛ ولذلك لما اعتمدوا على عقولهم وجعلوا العقل حاكماً على السنن؛ صححوا أحاديث موضوعة، وردوا أحاديث متفق عليها؛ لأن القواعد التي وضعها أهل العلم ليست هي الحاكمة والحاسمة، وإنما الحاكم والحاسم هو العقل.

    يقول لك أحدهم: أنت إذا تصورت أنني أنكر السنة فأنت مخطئ، فتقول له: يا أخي! أنت رددت حديث الذبابة وهو وارد في البخاري ، فيقول لك: هل حديث الذبابة معقول يا أخي؟!

    وتقول له: كذلك أنت رددت حديث فقء موسى لعين ملك الموت، فيقول لك: وهل هذا حديث؟

    متى يجاب الإنسان إذا سأل عن بعض الأهواء والمحدثات

    قال: فإن قال قائل: قد حذرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة، وقد علمنا أن هذا هو الحق، وأن هذا سبيل العلماء وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين، فإن جاءني ربي يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت، والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مني الجواب عليها، وأنا ممن قد وهب الله الكريم لي علماً بها، وبصراً نافذاً في كشفها، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته، ولا أرد عليه قبيح مقالته.

    أي: قد عرفنا الحق في هذا المنهج، لكن افرض أن شخصاً جاءني فسألني عن هذه الأهواء المضلة، وأنا ممن وهب علماً، وأستطيع أن أقيم الحجة عليه؛ وهذا هو الشرط الثاني.

    والشرط الثالث بعد ذلك: أنه يغلب على ظنك أنه سيقبل منك.

    قال: فإني أقول له: اعلم يا أخي رحمك الله! أن الذي تبلى به من أهل هذا الشأن لن يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة:

    إما رجلاً قد عرفت حسن طريقته، وجميل مذهبه، ومحبته للسلامة، وقصده طريق الاستقامة، وإنما سلك طريقاً سمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم، وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به، والشفاء مما أوذي به، أضف إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته، وأمنت مخالفته، فهذا الذي قد افترض عليك -أي: افترض الله تعالى عليك أن توفقه للرشاد والسداد، وأن تبين له الحق الذي يسأل عنه ويسترشد فيه- توفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين؛ وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي -أي: إياك أن تتكلف في أن تدخل في الرأي- والغوص على دقيق الكلام، فإن ذلك من فعلك -أي: إذا فعلته- بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإنَّ إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل، وكلامك على السنة من غير طريق السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك -أي: لا تداويه فتمرض أنت- ولا تطلب صلاحه بفسادك؛ فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره، ومن أراد الله وفقه وسدده، ومن اتقى الله أعانه ونصره.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756323080