إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - معجزات الرسول صلى الله عليه وسلمللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اختص الله عز وجل الأنبياء والرسل بالمعجزات، واختص الأولياء بالكرامات، وكل ذلك من خوارق العادات، ولكن معجزات الرسل مصحوبة بالتحدي لأقوامهم، وإقامة الحجة عليهم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أكثر الرسل معجزات، منها ما حصل وشهد عليه أصحابه، كنبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى والطعام بين يديه، ومنها ما حصل بعد وفاته من بشارات ودلائل على نبوته، أما أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم فهو القرآن والذي سيبقى ما بقيت السماوات والأرض.

    1.   

    الفرق بين المعجزة والكرامة

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    لقد اختص الله عز وجل الأنبياء والرسل بالمعجزات، واختص الأولياء بالكرامات، وجعل الجميع يشتركون في صفة وهي: أن ما يحدث لهم هو من خوارق العادات، فالمعجزة خارقة للعادة، والكرامة خارقة للعادة، بل حتى السحر كذلك، لكن المعجزة تختلف عن الكرامة بأنها خاصة بالنبي، ولذلك سميت معجزة؛ لأنها مصحوبة بالتحدي، فالنبي يتحدى قومه أن يأتوا بمثلها، ولذلك تحدى الله تعالى في كتابه أبلغ العرب وأفصحهم أن يأتوا بمثل هذه القرآن، أو بعشر آيات، أو بسورة، أو بآية، فما أفلح أبلغهم وأفصحهم وأبينهم وأعذبهم لساناً أن يأتي بآية واحدة تشبه آية من كتاب الله عز وجل، مع أن الله تعالى تحداهم في مجال مشهود لهم فيه بالكفاءة.

    كان الأعرابي في باديته يعلم لحن القارئ؛ لأن الآية عنده لا تستقيم على ذلك النحو، فإذا صححها التالي وافقه على هذا التصحيح، وهو أعرابي ربما لم يسمع أهل العلم من قبل، لكن القوم كانوا أبلغ الخلق، ومع هذا فقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا ولو بآية واحدة مما أوحاه الله وأنزله على محمد عليه الصلاة والسلام فعجزوا عن ذلك، ولذلك المعجزات لا تكون إلا للأنبياء، بخلاف الكرامة فإنها تكون للنبي ولغيره، لأن المعجزة ما هي إلا كرامة لهذا النبي، وإظهار لنبوته.

    كما أن المعجزة مصحوبة بالتحدي، وإلا فلن تكون معجزة، أما الكرامة فغير مصحوبة بالتحدي، وإلا كانت معجزة، ولذلك إذا أجرى الله تعالى كرامة على يد رجل صالح فلا يحل له أن يتحدى بها، وإلا كانت باباً عظيماً من أبواب فساد القلب لمن جرت على يديه هذه الكرامة، ويوشك أن تؤخذ منه، وأن يحرمها بقية حياته؛ لأنه لا يحل له أن يتحدى بها، بل الكرامة للأولياء والصالحين إنما هي محض فضل من الله عز وجل.

    وإذا أردنا أن نفرق بين الكرامة وبين السحر، ونميز بين ما إذا كانت هذه الخارقة للعادة هي كرامة أم دجل، فلابد من النظر إلى من جرت على يديه هذه الخوارق، وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله وكلام من سبقه وأتى بعده، يقول: لا تحكم على فعل الرجل إلا إذا نظرت إلى دينه واستقامته، فإذا جرت على يديه أمور خارقة للعادة فلا تحكم بأنها كرامة أو دجل إلا بعد النظر إلى استقامة الرجل وإلى دينه، فإذا كان مستقيماً فهذه كرامة، وإذا كان غير مستقيم فهذا دجل، ويقول في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان): إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تحكم له حتى ترى أمن أهل الاستقامة هو أم لا؟ فإذا كان من أهل الاستقامة فاعلم أن ما هو عليه كرامة من الله عز وجل وإلا فلا. هذه مقدمة سريعة في بيان الفرق بين المعجزة وبين الكرامة، وبين السحر أو الدجل.

    1.   

    حديث قصة أبي سفيان مع هرقل وما فيها من المعجزات

    لم يأت النبي عليه الصلاة والسلام بمعجزة واحدة فحسب بل أتى بمعجزات عدة، بل هو أكثر الأنبياء معجزة، وإذا كان قد جرى على يد موسى أو عيسى أو إبراهيم عليهم السلام بعض الأمور الخارقة للعادة، وهي معجزات في حق الأنبياء، فلابد أن تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد جرت على يديه المئات من المعجزات الخارقة للعادة، والتي لا تكون إلا على يد نبي، نذكر بعضاً منها:

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في -أي: من فمه إلى مسمعه مباشرة- قال: انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم، جاء به دحية الكلبي رضي الله عنه، فدفعه إلى عظيم بصرى -أي: إلى أمير بصرى، وهي إحدى القرى بالشام، وهي غير البصرة التي هي إحدى مدن العراق- قال: فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل] وهو سيد مملكة الشام، وكانت الشام تحت حكم الرومان في ذلك الوقت، وأبو سفيان لما ترك مكة وذهب إلى الشام كان هذا في مدة عهد صلح الحديبية بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين مشركي مكة.

    أسئلة هرقل لأبي سفيان

    وكان أبو سفيان أثناء حديثه مع هرقل يتمنى لو أنه يكذب كذبة واحدة، ولكن لما كان الكذب صفة مذمومة حتى في الجاهلية، وخاف أبو سفيان أن يؤثر عنه الكذب في قومه ترك ذلك، وكان يريد أن يكذب إظهاراً لعوار يلحق محمداً عليه الصلاة والسلام.

    [قال هرقل لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ أهو من أوضع القوم، أو من أعلى القوم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب]، وهذا صحيح، أما من جهة الحسب فهو خيار من خيار من خيار.

    [قال: فهل كان من آبائه ملك؟ -يعني: من عائلته: أبوه، جده، جد أبيه، جد جده- قال أبو سفيان : لا.

    قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي، وأنه يأتيه الوحي والخبر من السماء؟- قال: قلت: لا]. وأنتم تعلمون أن أهل الجاهلية كانوا يدعونه الصادق الأمين قبل أن يوحى إليه، ولو أنه قال: نعم، لطولب بالبينة، ولكن أبا سفيان صدق في الجواب.

    [قال هرقل : من تبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: لا، بل ضعفاؤهم هم الذين اتبعوه، قال: فهل يزيدون أم ينقصون؟ -أتباعه عليه الصلاة والسلام في زيادة مستمرة أم ينقصون؟- فقال: بل يزيدون.

    قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة لدينه؟] بيت القصيد هنا: هل يرتد سخطة لدينه؟ أما الذين ارتدوا فهم كثير، لكن هل فعلاً يرتد أحد سخطة لدينه؟ الآن كثير من المسلمين إذا ذهب إلى بلاد الكفر، وضاق به الحال هناك ذهب إلى الكنائس وإلى أديرة اليهود يأخذ مالاً مقابل أن يغير اسمه وبطاقته وينطق بشهادة الكفر، أن ينخلع من إسلامه ويدخل في دين اليهود أو النصارى، لكن الذي دفعه إلى ذلك هو حاجته، لكنه في الحقيقة وفي قرارة نفسه لا يرتد سخطة لدينه، بل حبه لدينه سيظهر وقتاً ما، فهو يسأله هنا: هل يرتد منهم أحد بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ [فقال أبو سفيان : لا.

    قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، يصيب منا ونصيب منه]. أي: يأخذ منا تارة ونأخذ منه تارة، يغلبنا تارة، ونغلبه أخرى.

    [فقال هرقل : هل يغدر؟ قلت: لا، ونحن في مدة لا ندري ما هو صانع فيها]، هذه هي الفرصة الوحيدة لـأبي سفيان التي استطاع أن يدخل منها ويطعن في النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: إذا كان الغدر ليس من شيمته، وليس معروفاً عنه حتى قبل البعثة، فكيف يغدر؟ الإجابة سليمة إلى الآن، لكنه أراد أن يغمز النبي من خلال هذه الإجابة، ثم يقول: [فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه.

    قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ -هل زعم أحد قبله أنه نبي؟- قال أبو سفيان : لا].

    رد هرقل على إجابات أبي سفيان واستنتاجاته منها

    [قال هرقل لترجمانه: قل له -أي: قل لـأبي سفيان- إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها]. إذاً ليس هناك نبي عنده منقصة في قومه، ولا في حسبه، فقد أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وهم أشراف أقوامهم، وأحساب أقوامهم.

    قال: [وسألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لكان رجلاً يطلب ملك آبائه]، أي: له حق مسلوب مغصوب يطالب به الآن، بعد أن اشتد ساعده يطالب بثأر آبائه وأجداده.

    [وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال هرقل : وهم أتباع الرسل].

    ولذلك الإسلام ينتشر بحمد الله عز وجل في طبقة الفقراء أكثر من انتشاره في طبقة الأغنياء، والالتزام والإقبال على دين الله عز وجل، والتمسك بالسنة إنما يكون بين الفقراء أكثر، فالإسلام ينتشر، والالتزام يظهر، وتظهر السنن في وسط هؤلاء الأقوام على علة فيهم على أية حال، لكن يبقى أن الإسلام يجد طريقه سهلاً ميسوراً إلى قلوب الفقراء والمساكين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وهو حديث حسن على الراجح، وغير ذلك من الآيات التي وردت في كتاب الله تحث على صحبة المساكين، وعدم ازدرائهم، وكذلك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والناظر إلى أتباعه يجد أن من أوائل أتباعه صهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، وغير ذلك من الموالي والعبيد.

    قال: [وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويذهب يكذب على الله عز وجل]، يعني: لا يتصور أنه يدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله! لأن الذي يكذب على الله من باب أولى أن يكذب على الناس، والذي اعتاد الكذب في حديث الناس ربما يكذب على الله عز وجل، فإذا كان النبي عليه السلام لا يعلم عنه الكذب قط في حديثه مع الناس فمن باب أولى ألا يفتري الكذب على الله عز وجل بأن الله أرسله، وأن الله أوحى إليه، وأن الله تعالى كلفه بالرسالة والنبوة.. كل هذا ممتنع في حقه؛ لأنه لم يعلم عنه الكذب في حديث الناس؛ فمن باب أولى أن يكون كذلك مع الله.

    قال: [وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة لدينه؟ فزعمت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب]. يعني: إذا تمكن نور الإيمان من القلب لا يمكن أن ينخلع منه، ولذلك الذي يرتد عن دينه، أو منهجه، أو مسلكه لابد أن تعلم أن أصل تربيته على هذا النهج كان فيها خلل، فالذي يتحول عن تمسكه بالكتاب والسنة ويترك مذهب ومنهج السلف وسبيلهم فلابد أن تعلم مهما طال التزامه وانخرط في سلك السلف لابد أن تعلم أن تربيته إنما كانت تربية سطحية ليس فيها تأصيل، ولذلك لما عرض عليه منهج الغير تحول إليه، ولذلك لا يمكن لأحد قط أن يتعرف على منهج الخلفاء الراشدين، والأئمة المتبوعين وكلامهم في المنهج، والمسلك، والمشرب، والأخلاق، والسلوك، ثم يتعرف على أئمة الرواية كـالبخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والبيهقي ، وأحمد بن حنبل وغيرهم ثم يرضى أن يكون بعد هؤلاء العظماء الشرفاء تبعاً لواحد من الناس خطؤه أكثر من صوابه، لابد أن يكون في تربيته خلل.

    قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت. أنهم يزيدون، قال: وكذلك الإيمان حتى يتم]. يعني: كذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ المنتهى، وتصوروا أن الرجل الكافر يعلم أن الإيمان يزيد وينقص! لماذا؟ لأن الإيمان هو دين الأنبياء جميعاً، وهرقل كان نصرانياً يعلم من دين عيسى عليه السلام أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد حتى يبلغ درجة التمام، وينقص بالمعاصي حتى لا يبقى منه شيء.

    ولذلك قال سفيان: واعلم أن أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: لا تقل: وينقص، قال: اسكت يا صبي -وفي راوية: اسكت يا غبي- إنما ينقص حتى لا يبقى منه شيء. وأظن أن رواية: (اسكت يا غبي) إنما هي تصحيف صبي؛ لأن إبراهيم أصغر من سفيان، وسفيان كان إماماً منذ كان عمره عشرين عاماً، وهكذا أئمة الدين السابقين، كما ثبت عن مالك رحمه الله أنه قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: في مجلس التدريس والإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون من أهل المدينة، قيل: كم كان عمرك وقتئذ قال: لقد بلغت خمسة عشر عاماً!

    وكذلك ثبت عن الشافعي عليه رحمة الله أنه بلغ الإمامة في صباه، قيل له: متى؟ قال: قبل أن تنبت لحيتي، وفي رواية: قبل أن يسود وجهي، أي: تنبت لحيتي.

    قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم]، يعني: الإيمان يزيد حتى يتم، فما زاد شيء وبلغ التمام إلا وكان إلى نقصان، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا في الغالب وليس بلازم اطراده في كل شيء، بل قد روى البخاري من حديث أنس : (أن النبي عليه الصلاة والسلام سابق رجلاً في دابته، وكانت دابة النبي عليه السلام لا تسبق). يعني: كل دابة سابقت القصواء -وهي ناقته عليه الصلاة والسلام- سبقتها حتى أيس الصحابة رضي الله عنهم أن يسابقوا النبي عليه الصلاة والسلام، فعلم لديهم أن القصواء لا تسابق، وأي واحد تسول له نفسه يسابق دابة النبي عليه الصلاة والسلام فهو خاسر، حتى قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: تسابقني؟ قال: نعم. فسابقه حتى قيل: عضبت القصواء، أي أصابها خلل وفساد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لما سبقه ذلك الأعرابي: (ما بلغ شيء تمامه إلا كان مآله إلى وضعه)، أي: ما بلغ الكمال والتمام إلا ولا بد أن ينزل، وهذا أمر عجيب، وبوب البخاري عليه رحمة الله لهذا الحديث بباب: أدب النبي عليه الصلاة والسلام وتواضعه. يستشهد بهذه الرواية على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في غاية الأدب والتواضع، بدليل أنه قَبِل أن يسابق الأعرابي.

    قال: [وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً، ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى حتى تكون لها العاقبة]. يعني الحرب سجال حتى مع الأنبياء والمرسلين، لكن العاقبة والنهاية للأنبياء وأتباع الأنبياء، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، لكن لابد لأهل الإيمان أن يرثوا الأرض وأن يتحكموا فيها، وأن يقيموا عليها شرع الله عز وجل، ولكن ليس هذا اعتباطاً وإنما له عدة ينبغي توفرها، فإذا توفرت العدة التي هي سنة الله تبارك وتعالى في الكون أقام المسلمون دينهم، وسعدوا بشرعهم إذا التزموا أمر الله تعالى ورسوله، لكن الواضح في هذا الزمان وفي فترة الضعف التي نمر بها أن المسلمين تركوا دينهم، فمع الترك لابد من أن يورثوا الهوان والذل، ويجعل الله تبارك وتعالى رءوسهم تحت نعال غيرهم، حتى وإن كانوا من أقذر خلق الله كاليهود؛ لأن سنة الله عز وجل قائمة في خلقه لا محيد ولا مناص عنها.

    أما قوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا)، (لن): نفي للضلال في المستقبل، لكن هذا الضلال المنفي في المستقبل مشروط بشرط التمسك بالكتاب والسنة (تركت فيكم ما إن تمسكتم): يعني لو أنكم تمسكتم (لن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي)، ومفهوم المخالفة: أن ترك التمسك بالكتاب والسنة يورث الذل، والهوان، والضلال، والحيرة، والتيه في الأرض، كما تاه بنو إسرائيل لما حاربوا أنبياءهم وقتلوهم ضرب الله تعالى عليهم التيه في الأرض أربعين سنة لا يهتدون طريقاً ولا سبيلاً.

    وكذلك سنة الله في خلقه، لو أنهم تمسكوا بشرعه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أقامهم، وأعزهم، وأكرمهم، وجعل لهم السيادة والريادة على بقية الأمم، وأنت تعلم أن خير هذه الأمة هم الخلفاء الراشدون بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وانظر إلى عز الأمة وسؤددها في زمانهم، مع أنك إذا نظرت إلى أصلهم لوجدت أنهم رعاة إبل، وأغنام، لا هم لهم قبل البعثة إلا رعي الأغنام، وهذِّ الأشعار، لم يكن لديهم ما عندنا الآن، ومع هذا فإن الله تعالى أذلنا بسبب معاصينا، وأعز القوم بسبب إخلاصهم وإقبالهم على الله وصدقهم في نشر دينه ودعوته، ولذلك كانوا قلة تسود العالم، ونحن كثرة ولكن العالم فوقنا، وصدق فينا قوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟)، يعني: هم اليهود والنصارى، الواحد منا الآن إذا لقي في الطريق يهودياً أو نصرانياً نظر إليه بنظرة إعجاب، وتبجيل، واحترام، وإذا نظر إلى شيخ أو داعية أو عالم من علماء المسلمين اتهمه بالتزمت، والتشدد، والتطرف، فلما انعكست الأمور كان لزاماً أن تنعكس الدنيا كلها فوقنا ولابد؛ لأنها سنن كونية.

    قال: [وسألتك هل يغدر؟ فزعمت: أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر -جميع الرسل لا يغدرون- وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت: أن لا، فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.

    ثم قال: بم يأمركم؟ -وهذا سؤال جديد وأخير سأله هرقل لـأبي سفيان- قال: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف]. ومعنى ذلك أن هذا الرجل حتى إذا لم يكن نبياً فيلزمك اتباعه، لأنه يأمركم بمكارم الأخلاق، ومعالي الشيم.

    تصديق هرقل لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام

    [قال هرقل : إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم -أي: من العرب- ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين].

    وهذه بشرى النبي عليه الصلاة والسلام لنا، أن الإسلام سيدخل كل بيت من حجر أو مدر، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله تعالى الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله.

    قراءة هرقل لكتاب النبي وما يستفاد منه

    [دعا هرقل بكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي حمله إليه دحية الكلبي فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم. إلى هرقل عظيم الروم)]، وليس هذا تفخيماً لـهرقل وهو كافر؛ حتى لا يعترض عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا للمنافق يا سيد)، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما خاطبه بما اتصف به على الحقيقة؛ لأنه كان فعلاً عظيم الروم وسيدهم في ذلك الوقت، وأخبره أنه رسول الله، قال: [(من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى)]، لم يقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا سلام من الله له، ولا بركة من الله على هرقل ؛ لأنه كافر.

    ومن أراد أن يسلم على الكفار يقول: سلام على من اتبع الهدى، ومعناها: لو اتبعت الهدى يا هرقل فسلام عليك من الله ومنا.

    [أما بعد]، وفي هذا سنية أن يقول الرجل بعد المقدمة: (أما بعد)، وهي كلمة للفصل بين المقدمة وبين ما بعدها، وهي تقال في الخطب، والرسائل، والرسالة المكتوبة ما هي إلا خطبة موجهة إلى القارئ، بخلاف الخطبة والكلمة المسموعة فهي رسالة موجهة إلى مستمع، ويستحب أن يكون بين المقدمة وبين غرض الرسالة كلمة أما بعد؛ ليعلم أن ما بعد هذه الكلمة هو أصل الرسالة، وكل رسالة وخطبة إنما تتكون من مقدمة، وغرض، ونهاية.

    ثم قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: أدعوك للإسلام- أسلم تسلم)] تسلم من القتال، تسلم من الآفات، تسلم من العاهات، تسلم من المصائب، تسلم من لقاء عدوك؛ لأن أهل الإيمان هم أعداء هرقل في ذلك الوقت، ويمكن أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (تسلم) أي: من عذاب الله في الآخرة إذا أسلمت في الدنيا.

    قال: [(يؤتك الله أجرك مرتين)] لماذا مرتين وليس مرة واحدة؟ لأن العظيم في الغالب إذا أسلم أسلم من بعده، فيأخذ أجر إسلامه هو، ثم يأخذ أجر إسلام من تبعه على الإسلام، [(فإن توليت -أي: فإن أعرضت وكذبت ولم تسلم- فإن عليك إثم الأريسيين)]، والأريس: هو الفلاح، وهذا يدل على أن ولاية الشام إنما كان عملها الفلاحة والزراعة، يعني: بامتناعك عن الإسلام فيمتنع من بعدك في مملكتك وولايتك، فكما أنك إذا أسلمت تأخذ أجرين، أجر إسلامك وإسلام من تبعك، فإذا جحدت وكذبت ولم تسلم فإن عليك إثمك وإثم من تبعك، وهم الأريسيون، وهم أصحاب مملكة الشام.

    ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] إلى قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64])]، هذه الآية وجهت إلى هرقل ، والكافر نجس العقيدة، ويستشهد بها ابن حزم وغيره كـالشيخ الألباني عليه رحمة الله وكثير من أتباع مدرسته إن لم تكن كل المدرسة، وكذلك بعض علماء الحجاز.. يستشهدون بأن مس القرآن للجنب والحائض جائز من باب أولى، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أرسل بهذا الكتاب وفيه آية من كتاب الله عز وجل إلى رجل كافر، وهو يعلم أنه لا محالة سوف يأخذه بيده، فمن باب أولى أن يأخذه المسلم الذي لا ينجس؛ فإن الجنابة ليست بنجاسة، وقد ورد في الحديث: (أن أبا هريرة رضي الله عنه أجنب، فتنحى من طريق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم دعاه النبي عليه السلام فلم يأته، فقال: ما منعك؟ قال: يا رسول الله إني نجس، قال: إن المؤمن لا ينجس) فإذا كان الأمر كذلك، وأن الجنب والحائض ليسوا بنجس؛ فمن باب أولى أن يقرأ كتاب الله عز وجل.

    [فلما فرغ هرقل من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر هرقل بـأبي سفيان ومن معه فأخرجوهم، فقال: أبو سفيان لأصحابه حينها: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة -أي: لقد ظهر أمر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة هو من أجداد النبي عليه الصلاة والسلام- [إنه ليخافه ملك بني الأصفر]، أي: الروم، قال لهم: إذا كان هرقل نفسه يخشاه فكيف بنا؟ ويقول: إن ملك محمد سيبلغ ما تحت قدمي هنا.

    قال: [فما زلت موقناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام] والحديث أخرجه البخاري ومسلم .

    1.   

    معجزة انشقاق القمر

    قال: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهدوا)] أي: انظروا وعاينوا انشقاق القمر فإنه لم ينشق إلا بعد أن أمرته، أو لم ينشق إلا بعد أن طلبت انشقاقه من ربي، فهي معجزة ساقها الله تعالى إليه لم تكن لنبي قبله، وهذا الحديث كذلك أخرجه الشيخان.

    [وعن عبد الله قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام شقة فوق الجبل، وشقة يسترها الجبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهد)]، أي: اشهد يا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    [وعنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال القوم: هذا سحر سحركموه ابن أبي كبشة فسلوا السفار)] يعني: المسافرين الذين يأتون من خارج مكة؛ لأن أهل مكة المعاندين أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا محمد! إذا كنت صادقاً فيما تقول فأرنا آية مثلما صنع الأنبياء من قبلك، فقد كانوا يأتون بآيات يعجز عنها الخلق، قال: بأي آية؟ قالوا: اطلب من ربك أن يشق القمر فلقتين، وهذا ليس أمامه على الأرض ليتصرف فيه كما يريد، هذا شيء في السماء لا يمكن له أن يبلغه، وكأنهم اختاروا ذلك تعجيزاً له، فقال: إذا نشق آمنتم؟ قالوا: نعم، فلما طلب من ربه أن يفلق له القمر فلقتين وفعل، قالوا: هذا سحر مبين! ثم قال أنصفهم: اسألوا المسافرين إن كانوا رأوا ذلك، واختاروا المسافرين؛ لأن القمر واحد لأهل الحضر وأهل السفر، فإذا كان القمر انشق، ففعلاً سيراه المسافرون، فسلوهم إذا قدموا، فإن كان مثل ما رأيتم فقد صدق، وإلا فهو سحر سحركموه ابن أبي كبشة، فلما قدموا السفار وسألوهم، قالوا: نعم. قد رأيناه انشق.

    [وعن أنس قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) أخرجه البخاري ومسلم .

    ولفظ أبي داود : (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فلقتين أو فرقتين).

    أما رواية ابن عباس فقال: (إن القمر انشق على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنه بلغني أنه كانت فلقة على البيت، وفلقة على أبي قبيس)] فلقة من القمر على البيت يراها من كان في البيت فوق البيت، والبيت هو البيت الحرام، وأبو قبيس اسم جبل في منى.

    [وعن جبير بن محمد بن الزبير عن أبيه عن جده أنه قال: في قول الله عز وجل: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] قال: انشق ونحن بمكة]، وهذا كان في أول بعثته عليه الصلاة والسلام.

    بعض الناس يزعم أن القمر انشق مرتين، والصواب أن القمر انشق مرة واحدة، وهي هذه الذي نذكرها، وقد كانت على يد النبي عليه الصلاة والسلام، وهي معجزة من معجزاته التي أتى بها، ومن قال: إنه انشق مرتين إنما تصحف عليه لفظ فلقتين، أو فرقتين، فقرأها مرتين، والصواب أن القمر لم ينشق إلا مرة واحدة، فلقة فوق البيت، والأخرى فوق جبل أبي قبيس.

    1.   

    معجزة حنين الجذع

    لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد أرضاً لأخواله من بني النجار فيها قبور مشركين قديمة فنبشها ونقلها، ثم بنى النبي عليه الصلاة والسلام المسجد النبوي في هذه الأرض، وكان بين المقابر نخيل، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام أعمدة المسجد عبارة عن هذه النخيل، وكان يسقف المسجد بالجريد.

    فالجذع هو أحد أصول النخل التي كانت في قبلة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه قطعها حتى يقف عليها مرتفعاً ليخطب في الناس، وهذا من السنن الثابتة: أنه يسن للمتكلم أن يجلس في مكان مرتفع حتى يراه الناس، عمل بهذه السنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأمر بها، وعمل بها خلفاؤه، وكل من تكلم على مشروعية ذلك وسنيته.

    قال: [عن ابن عمر : (أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع -إما مستنداً عليه، وإما واقفاً فوقه- فلما اتخذ المنبر تحول إليه -أي: تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى الوقوف على هذا المنبر وترك الجذع- فحن الجذع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه)] يعني: هذا الجذع حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واحتضنه ومسحه حتى سكن وهدأ.

    [وعن ابن عمر : (أن تميم الداري لما ثقل النبي عليه الصلاة والسلام. قال: يا رسول الله! ألا أتخذ لك منبراً؟ -يعني: ألا أصنع لك منبراً- يحمل عظامك أو يجمعك)] والخطيب غالباً يريد شيئاً يجمعه، ولذلك إذا جلس في مكان على قدر بدنه فإن ذلك يفيده أفضل من أن يجلس في العراء، ولعله إذا أراد أن يجلس وقع أو زلت مقعدته، أو قدمه، بخلاف ما لو كان له مكان محكم يجلس فيه إذا مال يمنة أو يسرة فإنه لا يخشى عليه الوقوع والسقوط؛ لأن المنبر يحوطه من جميع الجوانب، ولذلك قال تميم : [(ألا أتخذ لك منبراً يحمل عظامك أو يجمعك، فاتخذ له مرقاتين، وكانت سواري المسجد جذوعاً وسقايفها جذوعاً)]، يعني: الأعمدة التي هي السواري كانت جذوع نخل، وكذلك سقف المسجد كانت عليه جذوع أخرى وأعمدة من النخيل، ثم بعد ذلك كان عريشه من الأوراق والقش وغير ذلك.

    [وعن ابن عباس : (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، فحن الجذع فاحتضنه فسكن).

    وقال أنس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد، فجاء رومي -في اسمه اختلاف كثير، والراجح أن اسمه: ميمون- فقال: ألا نصنع لك شيئاً تقعد عليه فكأنك قائم؟ فصنع له منبراً درجتين، ويقعد على الثالثة)]، وهذا يدل على أن المنبر ثلاث درجات اثنتان يرقاهما الخطيب، والثالثة يجلس عليها، قال: [(فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خار الجذع كخوار الثور -يعني: أخرج صوتاً يشبه خوار الثور- حتى ارتج المسجد لخواره؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن، ثم قال: والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة) حزناً على رسول الله عليه الصلاة والسلام].

    كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة حتى للجمادات، أما عن كونه جماداً ويعقل فدليل هذا قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] كل هذا من خوارق العادات التي جرت على يديه عليه الصلاة والسلام.

    [وعن أنس قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبراً، قال: فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أنس : وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -أي: تئن وتحن حنين الحزين الواله الشفيق- فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام فاحتضنها فسكتت)، وكان الحسن بن أبي الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول عليه الصلاة والسلام شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.

    وعن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع، إذ كان في المسجد عريشاً، وكان يخطب إليه، فقال له رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك عريشاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس ويسمعوا خطبتك؟ قال: نعم، فصنعوا له ثلاث درجات هي التي على المنبر -أي: هي التي عليها المنابر إلى يومنا هذا- فلما صنع المنبر ووضع في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه حن الجذع حتى سقط، فرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام فمسحه بيده حتى سكت، ثم رجع وكان إذا صلى صلى إليها، فلما هدم المسجد وغير، أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب ، فكان عنده حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتاً).

    وعن أبي سعيد قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب إلى جذع، فأتاه رجل رومي فقال: أصنع لك منبراً تخطب عليه؟ فصنع له منبره هذا الذي ترون، فلما قام عليه يخطب حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فضمه إليه فسكت، قال: فأمر به أن يدفن ويحفر له).

    وعن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إلى جدع نخلة فيخطب قبل أن يصنع المنبر، فلما وضع المنبر صعده، فحن الجذع حتى سمعنا حنينه -أي: صوت بكائه- فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكن)]، وهذا لا يكون إلا على يد نبي، وهذه المعجزات السابقة بلغت حد التواتر وزيادة، بل وغيرها من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    معجزة جريان الماء من بين أصابع النبي عليه الصلاة والسلام

    [عن عبد الله بن مسعود قال: (كنا نعد الآيات بركة -أي: المعجزات- وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعز الماء -أي: قل- فقال: اطلبوا فضلة من ماء)] النبي عليه الصلاة والسلام لما قل الماء معهم وهم في سفر أشرفوا على الهلاك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: اطلبوا لي الماء ولو كان فضلاً يسيراً، [قال: (فأتي بها في إناء قليل، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله عز وجل -أي: تعالوا إلى الماء الطاهر المبارك من عند الله عز وجل- قال ابن مسعود : فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتوينا، وقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)]، فهاتان معجزتان: نبع الماء، وتسبيح الطعام.

    [وعن أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بإناء فيه ماء فأغمر أصابعه -يعني: أدخلها في الماء- ولا يكاد يغمرها، فجعلوا يتوضئون، وجعل الماء ينبع من بين أصابعه، قال: قلت لـأنس : كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة)] تصور أن فضلة من ماء يضع النبي عليه الصلاة والسلام أصابعه فيها ولا يكاد يغمرها، لأن أصابعه هذه تصل إلى قعر الإناء، وهذا يدل على قلة الماء وندرته مع الصحابة في ذلك الوقت، ومع هذا توضئوا منه وشربوا حتى ارتووا وهم زهاء ثلاثمائة! هذا يدل فعلاً على أن البركة من عند الله عز وجل، وأن هذا لا يكون ولا يجرى إلا على يد نبي صلى الله عليه وسلم.

    [وعن جابر قال: (أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام)] يعني: فزعنا إلى رسول الله، نحن سنموت في الصحراء، ونحن في سفر ولا ملاذ لنا ولا ملجأ إلا إليك بعد الله عز وجل، فاطلب من ربك أن يغيثنا، وأن يروي ظمأنا، قال: [(أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فدعا بتور فيه ماء)] والتور: إناء صغير يسع مداً وثلثاً بالرطل العراقي أو كما قال أهل العلم، قال: [(فوضع كفه فيه حتى توضأنا وشربنا)].

    انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم، لم يقولوا: حتى شربنا وتوضأنا، وإنما قالوا: حتى توضأنا أولاً، وهذا يدل على حرصهم البالغ على العبادة، ثم على أنفسهم بعد ذلك، [(فقال: خذوا باسم الله حتى توضأنا وكفانا)، قال الراوي عن جابر : قلت لـجابر : (كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، ولكنا كنا ألفاً وخمسمائة)، رواه البخاري]، ألف وخمسمائة شخص يتوضئون من تور لا يأخذ إلا مداً أو مدين!

    [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لـأم سليم -وهي زوجة أبي طلحة وأم أنس بن مالك - ( لقد سمعت صوت رسول الله عليه الصلاة والسلام ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟)] وهذا يدل على كمال شفقة أصحابه عليه الصلاة والسلام، وحرصهم ومتابعتهم لأحوله أولاً بأول رضي الله عنهم أجمعين وصلى الله على نبينا محمد.

    [قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام] قرص الشعير هذا لو وضع أمامك لن تأكله حتى لو مت من الجوع، ثم وضعته في طرف خمارها، ووضعت بقية الخمار على أنس حتى لا يراه أحد وهو ذاهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ من أجل أن يعطيه أقراص الشعير، وكأنه سر كبير، لا يوجد أحد ضعيف من الصحابة، فالخبر هذا كله عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو الضعيف، ومصدر هذا الضعف هو الجوع، قال: [(فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، وقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة ؟ قال: قلت: نعم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بطعام؟ قال: قلت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا، قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئنا أبا طلحة فأخبرته -لم يأخذ منه الطعام وإنما أمر أنساً أن يرجع إلى البيت في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام وصحبة من معه- قال: فقال أبو طلحة : يا أم سليم ! قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، قالت أم سليم : الله ورسوله أعلم)] يعني: إذا كان النبي أتى معهم فهو من سيتولى الأمر بنفسه، قال: [(فانطلق أبو طلحة حتى تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك -يعني: هاتي الذي عندك- فأتت بذلك الخبز -وفي رواية: فأتت بالعجين- قال: يا أم سليم ! أخبزت؟ قال: لا، قال: أعجين هو؟ قال: ائتيني به، فوضع يده عليه الصلاة والسلام في العجين حتى فار وانتفش، فخبزت منه أم سليم حتى كفى القوم جميعاً)، وفي رواية: (فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتت، وعصرت أم سليم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة -يعني: أدخل الناس عشرة بعد عشرة- فأذن لهم حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم أذن لعشرة، فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً)]، موقف رهيب جداً لا يمكن أن يكون إلا من نبي ومن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تسبيح الحصى في يد النبي عليه الصلاة والسلام

    [قال: سويد بن يزيد السلمي : (مررت بمسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا أبو ذر فسلمت وجلست إليه، فذكر عثمان فقال: لا أقول أبداً إلا خيراً لشيء رأيته من رسول الله عليه الصلاة والسلام في خلواته، فمر به فاتبعته حتى انتهى إلى موضع قد سماه، فجلس فقال: يا أبا ذر ! ما جاء بك؟ قلت: الله ورسوله؛ إذ جاء أبو بكر فسلم وجلس عن يمين رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر ، وجاء عثمان فسلم وجلس عن يمين عمر، فتناول النبي عليه الصلاة والسلام سبع أو تسع حصيات فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل)]، وهذه الرواية فيها ضعف.

    والصحيحة [عن ابن عباس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني عامر قال: أرني هذا) أنتم تعرفون أن من علامات نبوته على بدنه الخاتم الذي بين كتفيه في ظهره، فجاء رجل من بني عامر يقول: [(أرني هذا الخاتم الذي بين كتفيك، فإن يك بك طب داويتك فإني أطب العرب)]، يعني: إذا كان هذا الختم عبارة عن عيب في بدنك فأنا أعالجك منه، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني أريك آية)] هذا الخاتم ليس داء وإنما هو علامة على النبوة، وإذا كنت تريد آية على إثبات نبوتي أريتك، [(قال: نعم، قال: ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة فدعاه فجاء ينقز حتى قام بين يديه، فقال: قل له يرجع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعذق: ارجع إلى مكانك، فرجع إلى مكانه، فقال: يا بني عامر! ما رأيت كاليوم أسحر)]، أي: ما رأيت ساحراً كما رأيت هذا الرجل اليوم.

    [وعن عبد الله بن مسعود قال: (كنت غلاماً يافعاً في غنم لـعقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، فقال: يا غلام هل عندك من لبن؟ قال: فقلت: نعم، ولكن مؤتمن)] أنا صحيح أرعى الغنم وفي الغنم من هي والدة ولها ضرع يدر اللبن، لكن أنا مؤتمن لا أستطيع أن أعطيك لبناً، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل، قال: فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها رسول الله عليه الصلاة والسلام -يعني: أنامها، وأراحها على الأرض- ثم جعل يمسح ضرعها ويدعو حتى حلبت -وهذا يوافق حديث أم معبد - قال: وأتاه أبو بكر بصحن فاحتلب فيه، ثم قال لـأبي بكر : اشرب فشرب أبو بكر ، ثم شرب النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام للضرع: اقلص -يعني: ارجع إلى ما كنت عليه آنفاً- فقلص فعاد كما كان، قال: ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن، قال: فمسح رأسي ثم قال: إنك غلام معلم، فأخذت منه سبعين سورة)].

    هذه بعض معجزاته عليه الصلاة والسلام، وقد أوتي من المعجزات ما لم يؤته نبي قبله، وهذه المعجزات إنما كانت مصحوبة بالتحدي، ولم يحدث مثلها أو قريب منها لأحد ولا حتى من الصالحين، بل ولا من الخلفاء الراشدين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755969406