وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إن الإيمان بالقدر ركن عظيم جداً من أركان الإيمان التي وردت في غير ما آية وفي غير ما حديث، ونصوص السنة قد اهتمت بإبراز هذا الركن من أركان الإيمان، وفي سؤال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
فمعظم الروايات أعقبت القدر بعد ذكر الإيمان فقال: (وأن تؤمن بالقدر)، والسياق يقول: (وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره)، فأفرده وقرنه بالإيمان، ولم يقل: أن تؤمن بالله، وأن تؤمن بالملائكة وأن تؤمن بالرسل، وإنما قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر)، وهذا يدل على مزيد عناية السنة بإبراز هذا الركن من أركان الإيمان؛ لأنه ركن مهم جداً.
ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) مع أنه لا يؤمن حتى يؤمن بالله، وحتى يؤمن بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، ولكن لما كان هذا الركن قد أخذ كلاماً كثيراً وطويلاً ولغطاً واختلاطاً في الجاهلية على ألسنة اليهود والنصارى والمجوس والفلاسفة وعبدة الأوثان قبل الإسلام؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أفرده بالذكر وعناه بالاهتمام؛ ليدل على أهميته؛ وعلى أنه ركن عظيم وخطير من أركان الإيمان.
وقد جاءت آيات في كتاب الله وأحاديث في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لها تعلق بإثبات القدر، ونقل إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعاتها ومعاصيها، فكل فعل يصدر عن العبد فإن الله تعالى هو الذي أذن بوجوده وخلقه، سواء كان هذا الفعل معصية أو طاعة؛ لأن المعصية لا يمكن أن يوجدها فاعلها دون إذن الله تبارك وتعالى، بمعنى: أنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، فكيف يتصور أن الزاني يزني والله لم يأذن له في ذلك؟ فلا يتصور وجود من خير أو شر في الكون إلا والله تعالى قد أذن فيه، ومعنى أذن فيه: أنه وقع بعلم الله، وأن الله تعالى أراده، ولكنها إرادة كونية قدرية مبناها على ما أحب وكره، بخلاف الإرادة الشرعية فإن مبناها المحبة والرضا، فإذا صليت وصمت وزكيت وحججت إلى بيت الله الحرام، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؛ فإن هذه الأفعال كلها مخلوقة لله عز وجل، وقد أذن فيها، بل وأمر بإتيانها وأحبها؛ ولذلك فرضها، وهذه الأفعال تقع تحت مشيئة الله الشرعية؛ لأنها متعلقة بالأمر الذي أحبه الله تعالى لعباده ورضيه لهم.
وأما أفعال الشر من الزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من أنواع المعاصي كبائرها وصغائرها؛ فإن هذه المعاصي كرهها الله عز وجل، ونهى عنها، ورتب عليها في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم العقوبة الشديدة لمن اقترفها، ولكن العبد يأتيها بعلم الله، فقد علم سبحانه قبل أن يخلق السموات والأرض أن من عباده فلاناً سيزني في يوم كذا، في الساعة كذا، في المكان كذا، وأنه سبحانه كتب ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض.
فالمرتبة الأولى: هي مرتبة العلم، فالله تعالى يعلم ما سيقع من عباده، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.
فمعنى إرادة شرعية: أن لها تعلقاً بالشرع، وبالأمر الذي أحبه ورضيه لعباده، ومعنى دينية: أن لها تعلقاً بالكتاب والسنة مبناها على المحبة والرضا، ولو أن الله تعالى لم يحبها ولم يأذن فيها بل نهى عنها كالمعاصي، فإنه ما من شيء يقع في الكون إلا وهو بعلم الله، وقد كتبه الله على ذلك العبد، فالعبد لما اختار هذه المعصية، وعلم الله عز وجل علماً أزلياً أن هذا العبد سيسلك هذا الطريق -وهو طريق المعصية- كتبه عليه، وقد أفرغ الله تعالى حجتك بأن أرسل إليك الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
وأنت الآن لو خيرت في سبيل له طريقان: طريق أخبرت أن فيه شوكاً وعقبات، وطريق آخر ممهد سهل ميسر، فإنك ستختار الطريق الميسر، فكذلك الله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، وبين لك الحلال والحرام، وأمرك بالحلال وبالطيبات، وحذرك من الحرام ومن المعاصي، ثم بين لك أن عاقبة التقوى وعاقبة الطاعة الجنة، وأن عاقبة المعاصي النار، ومع هذا فهناك من يختار طريق النار، وهو يعلم أن هذه المعصية تؤدي بك إلى النار.
فلما علم الله عز وجل منك ذلك سلفاً، وقد بين لك هذا وهذا، وأنت تأتي هذه المعصية عالماً بأنها معصية، وعالماً بمآلها؛ كتبها عليك؛ لأنك اخترتها، وتركت الخير الذي يضادها، فكتبها الله عز وجل عليك، فالطاعات أرادها الله تعالى لك، ورضيها وأحبها وأمر بها، وجعل عاقبة من أتاها الجنة، وأما المعاصي فإن الله تعالى كرهها وسخطها وبغضها إلينا، وبين عاقبتها ومآلها، وحذرنا منها؛ ولأجلها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق لها في الآخرة ناراً لمن أدمن هذه المعاصي؛ وخاصة الكفر والشرك.
والعبد يختار هذا مع علمه بمآله وعاقبته.
وهذه المعاصي ما كانت لتقع من العبد رغماً عن الله، فلو أراد العبد الآن أن يقوم من مقامه فإنه لا يقوم إلا بإذن الله، ومن الناس من يقوم لصدق في نيته، ومن الناس من يقوم لمعصية في نيته، فرجل يخرج من بيته ليطلب العلم؛ فيعينه الله تبارك وتعالى، وييسر له طريق الصواب، ويعطيه القوة على أن يصل إلى بغيته، ورجل بجواره على نفس الكرسي قام ليزني، أو ليسرق، أو ليقتل؛ فهل كان بإمكانه أن يقوم من مقامه رغماً عن الله أو بغير إذن الله؟ هل يتصور أن يقع في الكون غير ما أراد الله؟ فإرادته الشر إرادة كونية قدرية وليست إرادة شرعية دينية، بمعنى: أن الله تعالى قدر الأفعال التي تقع في الكون، وأرادها وأذن في وقوعها، ومبناها أحياناً يكون على المحبة والرضا كالإرادة الشرعية الدينية، وأحياناً يكون مبناها على السخط والبغض كالمعاصي وأعظمها الكفر.
فأنت من صنع الله ومن خلق الله، وما تأتي من أفعال من خير أو شر هي بإرادة الله عز وجل، فإذا كانت أفعال شر فإن ذلك بإرادته الكونية القدرية، وإذا كانت أفعال خير فبإرادته الشرعية الدينية، فالله عز وجل خلق إبليس وهو رأس الشر، وهو سبحانه لا يحب إبليس وما يفعله، فلو أن الله تعالى أراد أن يمنع إبليس من إغوائه وإضلاله لمنعه، فإبليس يسول ويغوي ويضل؛ لأن الله أذن له في ذلك.
فإذن الله له لا يعني: أنه يحب ذلك، بل كره الله تعالى منه ذلك، وأوعده وأوعد أتباعه بالنار وبئس المصير يوم القيامة، وكان بإمكان المولى عز وجل أن يمنع إبليس من الإغواء والإضلال، وأن ينور بصائر العباد بعدم الاستماع له، وبأن يكتب عليهم جميعاً الصلاح، لكن لا قيمة للحياة بغير الخير والشر، وإلا لو أراد الله عز وجل أن يجعل جميع الخلق مؤمنين لفعل، ولكن الحياة لا تحلو ولا تجمل إلا بوجود النقيضين ووجود الضدين.
فأنت لا تعرف الصحة إلا بوجود المرض، ولا تعرف الشبع إلا بوجود الجوع، ولا تعرف الخير إلا بوجود الشر، ولا تعرف فضل الجنة إلا بوجود النار، ولا تعرف فضل الملائكة إلا بوجود إبليس، ولذلك خلقه المولى عز وجل وجعل له حظاً ونصيباً من الخلق، وقد ورد في الحديث: (إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها).
فالمرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: هي مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر على السواء، وأن الذي أذن بوجود الخير، وأذن بوجود الشر هو الله عز وجل، أذن فيها وأعان عليها.
فالعبد أحياناً يكون له اختيار، وأحياناً لا يكون له اختيار، بل هو مسير مقهور على ذلك، كعبد يصاب بمرض معين، فهذا المرض من أقدار الله عز وجل، وهو مخلوق لله عز وجل، فهو الذي خلقه، وهو الذي أوجده، وهو الذي صنعه، وهو الذي أذن في وجوده، فالعبد مسير فيه، بمعنى: أنه لا يمكن له دفع هذا المرض.
فلو أنك أبيض اللون والبشرة، وتريد أن تكون أسود؛ هل تستطيع ذلك منذ نشأتك الأولى؟ أو أن تكون أسود وتريد أن تكون أبيض: هل هذا بيديك؟ لا، فهذه الألوان من خلق الله عز وجل، فأنت مقدور عليها مجبور عليها، فقد خرجت لأبوين أسودين أو أبيضين؛ فكنت أبيض أو أسود، ولا اختيار لك فيه، فأنت فيه مسير، وهناك من الأعمال ما يكون الإنسان فيها مسيراً ولا يمكن له الاختيار فيه، ومن الأعمال ما يمكن للعبد فيها الاختيار.
فتصور لو أننا أتينا بملكة جمال ووضعناها في غرفة، وأوقدنا الغرفة المجاورة لها ناراً، وأتينا بأزنى الناس وقلنا له: ازن بهذه المرأة الحسناء، ولكن بعد فراغك من هذه الفعلة القبيحة ادخل تلك الغرفة المجاورة، هل سيرضى الرجل بالزنا مع أنه أزنى الناس؟ لا يرضى به، بل ولا يقوى عليه؛ لخوفه من العقوبة.
فهو يختار ألا يزني إذا رأى عاقبة زناة، فمن الذي خلق فيه هذا الاختيار؟ إن الله عز وجل هو الذي خلق فيه هذا الاختيار، وهو الذي أعانه على أن يختار الخير وأن يختار الطاعة، ولو ترك هذا العبد لاختار المعصية.
وفي حال اختياره للمعصية هل يستطيع أن يزني رغماً عن الله؟ الجواب: لا يستطيع، فنقول: إن الله تعالى أذن في وجود الكفر، وأذن في وجود المعاصي، ولكنه لم يرضها، ولو كانت المعصية والطاعة عند الله سواء فما قيمة بعث الرسل، وإنزال الكتب؟ وما قيمة الدعوة؟ وما قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ بل ما قيمة الجنة والنار؟ فإن الأفعال كلها خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أنه أذن في وجودها، ولكنه رتب على الشر العقوبة، ورتب على الطاعة الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.
ولذلك انعقد إجماع السلف على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، أي: أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن الذي اكتسب الفعل بجارحته هو العبد، فهو الذي قام فصلى وقرأ وركع وسجد على الحقيقة، وهو الذي قام ومشى ووصل إلى موطن الجريمة وأجرم، فالله تعالى أعان الطائع في صلاته، ويسر الطريق ومهده لذلك العاصي.
فهذه المسألة أخذت كلاماً كثيراً جداً سلباً وإيجاباً عند السلف، بل وقبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام.
ولذلك ورد في صحيح مسلم في أول كتاب الإيمان: أن يحيى بن يعمر ، وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة حاجين أو معتمرين، فقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقالا: ليتنا نرى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري ، فوفقا لـعبد الله بن عمر وهو يطوف حول الكعبة، فقال حميد : فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فقلت: لعله يكل الكلام إلي -يعني: لعله يفوضني في الحديث معه- فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتكلمون في القدر، ويقولون: إن الأمر أنف -ومعنى أنف: أن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، فنفوا عن الله تبارك وتعالى علمه السابق بأفعال العباد، وما هم عاملون ومكتسبون- وإنهم يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -يعني: يطلبون دقائقه، وهم مستمرون في قراءة القرآن وتلاوته- قال عبد الله بن عمر : فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني.
جمهور أهل العلم: على أن مراد عبد الله بن عمر بهذا هو تكفيرهم، ثم انعقد اجتماع أهل السنة والجماعة على أن منكر علم الله تعالى الأزلي كافر.
وانتقلوا بعد ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وكان إماماً من أئمة البصرة، فلما بلغه مقولة معبد، أي: معبد الجهني تلميذ سوسن النصراني، الذي أسلم ثم تنصر مرة أخرى، وهو أول من نفى القدر وتكلم فيه، وأخذ عنه معبد الجهني ، وأخذ عن معبد الجهم بن صفوان.
فقال حميد لـابن عباس : إن بالبصرة أناساً يقولون: لا قدر، وإن الأمر أنف. قال: أوقد فعلوها؟
وكأن ابن عباس عنده علم سابق من النبي عليه الصلاة والسلام أن الأمة سيظهر فيها من يقول بهذا، ولكنه تعجب من سرعة ظهور هؤلاء.
وكل بدعة حدثت في الإسلام إنما مردها إلى نحلة باطلة، أو مردها إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، فالقول بالقدر بدعة نصرانية في أصلها؛ لأن القدر ما انتشر في الإسلام إلا على يد معبد تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم نفاقاً ثم ارتد إلى النصرانية مرة أخرى.
والقول بالقدر ظهر على وجه التقريب سنة أربع وستين هجرية على لسان معبد الجهني ، وظهر في البصرة، بل إن معظم البلايا والفتن التي حدثت في الإسلام كان مردها إلى البصرة وإلى الكوفة، فالعراق معروفة منذ فجر الإسلام -بل وقبل الإسلام- بأنها بلاد الفتن، ومنها تطل برأسها.
وفي المقابل ظهرت فرقة أخرى تقول: إن الأفعال كلها وقعت باختيار وإرادة العبد، ولا دخل لله عز وجل فيها مطلقاً، وخطورة ذلك أنهم جعلوا العبد خالقاً لأفعاله، ولا دخل لله عز وجل في أفعال العباد أبداً.
وهذا يتعارض مع معتقد أهل السنة والجماعة القائل: إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته، وهو يلبس على عامة المسلمين بالإرادة والمشيئة، فلم يقسموا الإرادة والمشيئة إلى قسمين كما قسمها أهل السنة: إرادة شرعية دينية، مبنية على المحبة والرضا، وإرادة كونية قدرية لا يشترط فيها المحبة والرضا؛ لأن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضاها، ومع هذا فإن الله تعالى قد أذن بوجودها، وهو غير ظالم لمن أتى بها؛ لأنه قد أرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وجعل له العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، فاختار العبد الشر، فلما اختار العبد الشر يسره الله تعالى لاختياره.
إذاً: فالعبد أحياناً يكون مخيراً، وأحياناً يكون مسيراً مجبوراً.
وروي ذلك عن الصحابة لفظاً: عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ] وعدد كثير من الصحابة.
قال: [ وعن طاوس -وهو من التابعين- قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر.
وبه قال من التابعين: سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وسليمان بن يسار ، وكعب الأحبار]، وعدد كثيراً من التابعين.
قال: [ قال يونس بن عبيد : أدركت البصرة وما بها قدري إلا سيسويه -اسم سوسن النصراني بالفارسية: سيسويه- ومعبد الجهني ، وآخر ملعون في بني عوافة أو بني عوانة].
يعني: لا يقول بالقدر في البصرة إلا ثلاثة: أولهم سيسويه، وبعده معبد -وهو تلميذه-، ورجل آخر ملعون في قوم يسمون: بني عوافة أوبني عوانة.
قال: [وعن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان].
يعني: أيهما أفضل علي أم عثمان،والإجماع منعقد على أن علياً بعد عثمان في الخلافة، لكن وقع الاختلاف في أيهما أفضل: علي أو عثمان ؟ ونشأ هذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وممن كان يقول بأفضلية علي : سفيان الثوري، وهو من أئمة السلف وأئمة السنة، ولكنه رجع عنه.
فالراجح وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة: أن عثمان أفضل من علي بن أبي طالب ، وترتيب الأربعة في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي .
فلم يختلفوا في الخلافة، وإنما اختلفوا في الأفضلية بين علي وعثمان ، وهذا الخلاف لا يضلل به المخالف ولا يبدع، فهناك مسائل في الاعتقاد وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة، وهذه المسائل بعينها لا يضلل فيها المخالف، وإنما يضلل المخالف إذا اختلف مع أهل السنة والجماعة في شيء غير ما وقع بينهم من اختلاف.
مثلاً: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه أم لا؟ بعضهم قال: رآه، وبعضهم قال: لم يره، وهذا الكلام ذكرناه وذكرنا الخلاف فيه سابقاً، لكن الراجح من مذهب جمهور أهل السنة: أنه لم يره، والذي قال: إنه رآه لم يتبين من قوله هل: هو أراد أنه رآه بفؤاده أو بعيني رأسه؟ ولم يكن هناك تصريح منه أنه رآه بعيني رأسه، فيحمل قوله على أنه رآه بفؤاده، وبهذا يتفق مع مذهب بقية أهل السنة والجماعة.
فإذا قال قائل: إنه رآه بعيني رأسه لا يضلل؛ لأنك لو قلت ذلك للزمك الوقيعة والطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شك يخالف ما عليه أهل السنة في معتقدهم وتبجيلهم واحترامهم لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، المخطئ منهم والمصيب، فنقول: أخطأ فلان ولا نقول: ضل فلان؛ لأن من شعار أهل البدعة أنهم إذا اختلفوا في مسألة كفر بعضهم بعضاً، وضلل بعضهم بعضاً.
فمعتقد أهل السنة والجماعة إذا اختلفوا في مسألة أن يخطئ بعضهم بعضاً فقط، فنقول: فلان أخطأ؛ وذلك لأنه ليس معصوماً، وأما أن يقول: ضال أو كافر فهذا مذهب أهل البدع، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض.
فانظر إلى منهج الاعتدال عند أهل السنة والجماعة.
قال: [قال ابن عون : أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان ، حتى نشأ ها هنا حقير يقال له: سيسويه البقال ، وكان أول من قال بالقدر].
وهذا يدل على أن بدعة القدر نشأت من عند النصارى في البداية.
قال: [وعن أيوب السختياني قال: أدركت الناس وما كلامهم إلا وإن قضى الله، وإن قدر الله].
يعني: كان الناس كلهم متفقين على أن القضاء والقدر من عند الله، إلى أن نشأ سوسن، واتخذ له تلاميذ من أبناء الإسلام بزعمهم، فقالوا بتلك المقولة الفاسدة.
قال: [وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: لقد أدركت وما بالمدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل واحد من جهينة يقال له: معبد]
ومعبد الجهني أخذ البدعة من البصرة على يد سوسن، ثم انتقل بها إلى المدينة، وأحاديث أهل البدع على عكس ما عليه أهل السنة من خمول ونوم وإغراق وسبات عميق، فـمعبد الجهني هو الوحيد الذي أخذ هذه البدعة عن الوحيد سوسن، وأحدث اضطراب عظيماً في عقيدة المسلمين في قطر كامل من الأقطار، ولا يكتفي بهذا، بل ينتقل هو بمفرده من هذا القطر إلى تلك البلاد التي كانت تحتفظ بالخلافة، فالخلافة كانت في المدينة.
إن وجود الخلافة في أي بلد من البلدان يجعل قلوب الناس تهفو إلى هذا البلد -العلماء وطلاب العلم وغيرهم- وخاصة أن الخليفة يحب أن يستبقي بجواره العلماء الأجلاء الفطاحل؛ حتى يستشيرهم في الملمات والنوازل، ففي هذه الحالة يذهب هذا الخبيث معبد الجهني عليه لعنة الله إلى المدينة ليبث وينفث سمومه هناك، فتصور أن واحداً يعكر على دولة الخلافة دينها وعقيدتها.
فلما رأوا من عبادته وحسن صلاته وقيامه ودعائه أعجبهم ذلك جداً، فأرادوا أن يتعرفوا عليه، فلم يذكر لهم اسمه أبداً، وإنما قال: أنا أبو عبد الله الفارسي حتى عرفوه بهذا، وبعد أن فرغ من الحج قالوا: إلى أين تريد؟ قال: إلى بلاد المغرب، قالوا: ولم؟ قال: لأعلم صبيانهم القرآن الكريم. قالوا: غرض نبيل، إذا أردت أن تذهب إلى بلاد المغرب فلا بد أن تمر بمصر، فحملوه حملاً على أن يبقى في مصر، وهو يريد أصلاً البقاء فيها؛ لأنه يعلم أن مصر ثغر من ثغور الإسلام، فإذا أراد أحد أن يضرب الإسلام فعليه بمصر، وإذا أراد أحد أن ينصر الإسلام ويؤيده فعليه بمصر.
فهذا المخالف يعلم أن هذه البقعة المصرية عليها مدار العز والذل لأهل الإسلام، فهو يريد أن يبقى في مصر، لكنه يتظاهر بالاستغناء عن ذلك، فحملوه حملاً على أن يبقى في مصر، وبعد أن بث سمومه بواسطة تحفيظه القرآن الكريم للغلمان والأطفال، ونشأ جيش كبير جداً من الشباب والرجال يتشيعون لـعلي بن أبي طالب افتضح أمر ذلك الرجل، وعرفه أهل السنة والجماعة، فهرب، وبدأ بأفريقية وانتهى بالمغرب العربي، وهناك أنشأ دولة أخرى عظيمة من دول الشيعة، ولما ضعف المسلمون تماماً أتى بذلك الجيش الجرار الشيعي من بلاد المغرب، وكلما مر على ملأ أخذ منهم حظاً ونصيباً من المتاع والعتاد والأفراد الذي يدخلون في مذهبه، ورتب داخلياً مع تلاميذه وأبنائه الذين رباهم في مصر، وكانت هذه البداية لنشأة الدولة الفاطمية في مصر.
ولما حكم الفاطميون مصر قضوا على الأخضر واليابس في دينها، إلى أن قيض الله عز وجل لهذه الأمة بأسرها صلاح الدين الأيوبي .
والفاطميون أناس خبثاء، فقد دخلوا مصر ونشروا فيها مذهبهم، وأرادوا أن يظهروا أمام الناس بمظهر حسن، فبنوا الجامع الأزهر لتدريس العلوم الشرعية على مذهب الشيعة، ولكن الشعب المصري لا يميز بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا بين العسل والسم، فإن معظم الشعب قد تحسى السم وهو يقول للشر: خير، وللباطل: حق؛ لأن الشيخ فلان قال به، والعالم فلان قال به.
وهكذا حال هذا الشعب في صبر وفي حرب إلى قيام الساعة، فهذا الخلاف وهذا الشر لم يكن موجوداً في الصدر الأول للإسلام.
قال: [قال أحمد بن يحيى ثعلب: لا أعلم أعرابياً قدرياً].
يعني: لا أعلم عربياً خالصاً أصيلاً قال بالقدر، فالقدر لم يكن معروفاً عند العرب.
[قيل له: يقع في قلوب العرب القول بالقدر -صحيح أن هذه البدعة ليست من قولهم ولا من كيسهم، وإنما تشربتها قلوبهم- قال: معاذ الله! ما في العرب إلا مثبت للقدر خيره وشره، أهل الجاهلية والإسلام، وذلك في أشعارهم وكلامهم كثير.
قال الشيخ أبو القاسم الحافظ : وهو مذهب أهل السنة والجماعة، يتوارثونه خلفاً عن سلف من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، والحمد لله على ذلك، وأسأل الله تمام ذلك بفضله ورحمته].
قال: [عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته)].
أي: أن الله خالق كل مخلوق وما عمل، وهذا الحديث عند البخاري في كتاب الرد على القدرية، وكذلك عند مسلم .
قال: [وعن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يصنع كل صانع وصنعته)، قال الفزاري : قال رجل: يعني: خلقكم وما تعملون].
فأنتم كما أنكم مخلوقون لله، فكذلك ما تفعلونه مخلوق لله من باب أولى.
قال: [وعن ابن عباس في هذه الآية: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
[الجاثية:29]، قال: كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة. قال: والملائكة يستنسخون ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم، فذلك قوله:
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
[الجاثية:29]] يعني: نكتب ما كنتم تعملون.
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
[فاطر:28]، قال: الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير].
أي: من صفات العلماء الذين يخشون الله تعالى أنهم يقولون: إن الله على كل شيء قدير.
وما جاء في تفسير قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
[القمر:49]:
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -يعني: يجادلونه في مسألة القدر- فأنزلت هذه الآية: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
[القمر:47-49])]. فهذه الآيات نزلت رداً على المشركين الذين لا يثبتون أن كل شيء بقدر.
قال: [وقال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية ثم تلاها.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يعني: هو يخرج بالدلو ماء من زمزم- وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
[القمر:48-49]، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحداً منهم فقأت عينه.
وعن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
[القمر:49] قال: يقول: الله خلق الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة].
هذا كلام ابن عباس حبر الأمة، فالكل مخلوق لله عز وجل، ولا خالق إلا هو سبحانه، قال: وخلق الخير والشر، ومعنى خلقه ذلك: إذنه في وجوده، ومع ذلك فهو لا يرضاه ولا يحبه.
عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر)] ومعنى (لا يؤمن) فيه تفصيل، والحكم يختلف بحسب هذه المراتب، وبحسب ما إذا كان الذي لا يؤمن بالقدر رأساً في بدعته، أو تابعاً فيها، فإذا كان المنكر للقدر منكراً لعلم الله الأزلي؛ فإنه يكفر ويخرج عن ملة الإسلام، وإذا كان ينسب الخلق والإيجاد للعبد دون الله عز وجل فإنه يكفر كذلك؛ خاصة إذا كان رأساً في بدعة القدر، عالماً بما يقول، وحينئذ ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد) أي: يكفر من لا يؤمن بالقدر، أو حتى يؤمن بالقدر.
[قال أبو حازم : لعن الله ديناً أنا أكبر منه، يعني: التكذيب بالقدر].
يريد أن يقول: إن قوماً تدينوا بدين لم يكن هو دين النبي عليه الصلاة والسلام، فهم ملعونون وما يدينون، أما أنا فارتفع عن هذه الديانة، أي: ارتفع عن هذا التكذيب وهذا الكفر.
[وقال ابن عباس في القدرية: أولئك شرار هذه الأمة.
وعن حماد بن زيد عن أيوب قال: أدركت الناس هاهنا وكلامهم: وإن قضى وإن قدر]، يعني: أن الناس كانوا على إثبات عقيدة القضاء والقدر.
أبو الأسود إمام كبير جداً من أئمة البصرة، وهو تلميذ علي بن أبي طالب ؛ ولذلك فهذا الكلام له محملان: إما أن يكون شاذاً؛ لأن أبا الأسود الثابت عنه بالسند الصحيح أنه يثبت عقيدة القضاء والقدر، وإما أن يكون أول من تكلم في القدر أبا الأسود الدؤلي من جهة إثباته، ويكون هذا الكلام فيه تجوز؛ لأن أول من تكلم في إثبات القدر هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، والتابعون، وأتباعهم إلى يومنا هذا.
فإذا كان المقصود: أول من تكلم في إثبات القدر هو أبو الأسود فمحمله: أنه أول من تكلم في إثبات القدر بالبصرة في وجود معبد الجهني ، ويكون حميد قد ذهب إلى مكة وقابل عبد الله بن عمر ، فيكون أول من رد على معبد الجهني هو أبو الأسود الدؤلي .
والدليل على أن أبا الأسود الدؤلي من الذين ثبت عنهم أنهم أثبتوا عقيدة القضاء والقدر: ما روي عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق -يعني: كان شاباً مراهقاً -وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل آنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً. قال: فلقيت أبا الأسود الدؤلي فذكرت ذلك له، فقال: كذب، ما رأينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت القدر.
إذاً: فعقيدة أبي الأسود إثبات القدر.
قال: يحيى بن يعمر : ثم إني حججت وحميد بن عبد الرحمن الحميري ، فلما قضينا حجنا وكنا قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر، فلما أتينا المدينة لقينا أناساً من الأنصار فلم نسألهم، قلنا: حتى نلقى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري.
قال: فلقينا ابن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، قال: فقمت عن يمينه وقام هو عن شماله، قال: قلت: تسأله أو أسأله؟ قال: لا، بل اسأله، قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن ! إن ناساً عندنا بالعراق قد قرءوا القرآن، وفرضوا الفرائض، وقصوا على الناس، يزعمون أن العمل أنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً، قال: فإذا لقيتم ذلك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل بمثل أحد ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر!
لقد حدثني عمر : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى لقي آدم فقال: يا آدم! أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار. قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ تلومني بما قد كان كتب علي قبل أن أخلق؟! فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى).
يعني: آدم غلب موسى بحجته، وهذا الحديث ظاهره جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية، فآدم قد عصى الله فأكل من الشجرة، واحتج بالقدر، وما كان احتجاج آدم إلا بعد أن تاب؛ ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا لمن تاب؛ ولذلك حدت الحدود، وأقيمت العقوبات؛ لتطهير من أذنب، وهذه العقوبات كذلك هي من قدر الله.
جيء إلى عمر برجل قد زنى، وأراد أن يحتج على زناه كما احتج آدم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتحدني في أمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم، إنما نحدك بقدر الله أيضاً.
فالمعاصي وقعت بقدر الله الكوني القدري، والعقوبات جعلت بقدر الله تطهيراً لهذه المعاصي، فالمرء يفوض أمره إلى الله عز وجل ويتوب، وتقام عليه الحدود، ويعتقد في قلبه أن ما وقع منه كان باختياره، ولو أراد الله تعالى ألا يقع فيها العبد لفعل، ولكن لما اختار العبد طريق المعصية مهد الله تعالى له الطريق إليها؛ ولذلك اختلف المعتزلة والجهمية في مسألة القدر، فبعضهم يثبت أن العبد مسير ومجبور، وبعضهم يقول: هذه الإرادة كلها والاختيار كله للعبد ولا دخل لله عز وجل، فيها.
وأهل السنة والجماعة يقفون موقفاً وسطاً بين هذين الفريقين، فيقولون: (كل ميسر لما خلق له)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: لقد حدثني عمر : أن رجلاً في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إليه فقال: (يا رسول الله! أدنو منك؟ قال: نعم، قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته، فقال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟)، وأشراط الساعة وغيره ذلك، وهو حديث جبريل الطويل، وقد سقت هذا الحديث لإثبات أن أبا الأسود الدؤلي لم يكن قدرياً، بل كان من أهل السنة والجماعة.
وعن حازم قال: سمعت حوشب يقول لـعمرو بن عبيد في حبوة الحبس: ما هذا الذي أحدثت، قد نبت قلوب إخوانك عنك؟ -أي: جعلت قلوب الناس تنفر عنك وتبغضك- قال: الحسن انطلق حتى نسأله عن هذا الأمر، قال: كسرها الله إذاً. يعني: رجليه.
وعن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصر بـعمرو بن عبيد ، فجثوت على ركبتي، قلت: يا أبا الخطاب ! وإذا الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ قال: يا أحول ! رجل ابتدع بدعة؛ تذكر بدعته خير من أن يكف عنها. قال: فوجدت على قتادة فوضعت رأسي، فإذا بـعمرو يحك آية من القرآن.
كان عمرو بن عبيد من أوتاد العلم، فلما وضع في السلاسل والأغلال قال: ارحمه؛ رجل فقيه، فقال قتادة : هذا لا يرحم؛ لأنه ابتدع بدعة وإن كان عالماً، فذهب عاصم يراقب عمرو بن عبيد في السجن، قال: فإني رأيته يحك آية في القرآن، هذه الآية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
[القمر:49] -لأن هذه الآية حجة عليه- قال: عاصم : فقلت: ما تصنع أنت؟ قال: إني أعيدها. قلت: أعدها، قال: لا أستطيع].
فصدق قتادة حينئذ، فالمبتدع وإن كان عالماً يستحق القيد ويستحق التأديب، خاصة إذا كانت بدعة خطيرة وفي أصول الإيمان.
قال: [وعن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: سنسويه البقال، قال: فكان أول من تكلم في القدر.
قال حماد : ما ظنكم برجل يقول له ابن عون : هو حقير.
وعن يونس بن عبيد قال: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه ، ومعبد الجهني ، وآخر ملعون في بني عوافة.
وعن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير أبو عبد الله قال: أخبرني أبي قال: كنا جلوساً عند هشام بن عروة فذكروا له إبراهيم بن أبي يحيى المديني . قالوا: يا أبا المنذر ! إنه حافظ الحديث، فقال: مولى أسلم ؟ قالوا: نعم، إلا أنه قدري، فقال هشام بن عروة : لعن الله ديناً أكبر منه، وفي رواية: لعن الله ديناً أنا أكبر منه].
يعني: لعنه الله. فإن هذا دين لم يأت به الشرع.
[وعن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن ، كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان -أي: غيلان الدمشقي- عن معبد ].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: لا تفعلي، مع أنه ليس عندك حمامتان أصلاً، لكن لو فرضنا أن معك حمامتين بيضاوتين في بيتك، وقد رأيت أشخاصاً يقولون لك في منامك: اذبحيهما فإن هذا من الشيطان، وهو شرك بالله العظيم؛ لأن الذبح عبادة ولا يجوز إلا لله عز وجل، فلا تفعلي ما يأمرك به الشيطان، فاستعيذي بالله، واتفلي عن يسارك ثلاثاً، وانتهي، وتحولي عن مكانك، وإذا استيقظت فصلي ركعتين في جوف الليل، وادعي الله تبارك وتعالى أن يشفيك.
الجواب: قوله لها: (أنت محرمة علي)، (وعلي الحرام) قول ضمني، فكونه يقع به طلاق أو لا يقع ذلك حسب نية القائل، فإن نوى طلاقاً وقع، وإن نوى ظهاراً وقع ظهاراً؛ لأن لفظ: (علي الحرام) من الألفاظ الضمنية وليس من الألفاظ الصريحة، واللفظ الصريح يقع به الطلاق ولا يحتاج إلى نية.
أما إذا قال لها لفظاً يحتمل الطلاق ويحتمل غيره؛ فذلك مرهون بنيته وقصده وإرادته، فإذا قصد ظهاراً وقع ظهاراً، وإذا قصد طلاقاً وقع طلاقاً، والله أعلم.
الجواب: إن طلب الحديث صار شهوة عند الكثير من الطلاب، وهذه الشهوة مبعثها حب الظهور، فلا تجد الرجل يفقه شيئاً في دين الله عز وجل إلا بعض القواعد في المصطلح، فتراه لا يهتم بأصول دينه، ولا بأصول عبادته، ولا بكتاب الله، ولا بالعلوم اللازمة له، بل لا يهتم بعقيدته في الله عز وجل، وإنما كل مراده: أن يتعلم الحديث ويتعلم أصوله، وكيف يصحح وكيف يضعف، وما هو السبيل إلى ذلك، ويتشبث به، ويكون هو الشغل الشاغل له في الليل والنهار..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر