إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الإتيان والمجيء لله عز وجلللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صفتا الإتيان والمجيء لله عز وجل من الصفات الفعلية التي تخضع لمشيئته سبحانه وتعالى، وهما ثابتتان بالكتاب والسنة ثبوتاً يليق بالله سبحانه دون تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، خلافاً للمؤولة الذين صرفوا النصوص عن ظاهرها ومرادها، فأولوا الإتيان والمجيء لله بأنه مجيء أمر الله سبحانه أو رحمته، لا مجيئه بذاته سبحانه وتعالى.

    1.   

    صفات الله الذاتية والفعلية

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن صفات الله عز وجل، وصفات الله تعالى إما ذاتية وإما فعلية.

    فالصفات الذاتية هي: الصفات اللازمة لذاته التي لا تنفك عنه. بمعنى: أنها لا تخضع لمشيئته، إن شاء فعل وإن شاء ترك، بل هي صفة ذاتية لازمة لله عز وجل: كصفة اليد، والعين، والساق، والقدم، وغيرها من الصفات.

    وأما الصفات التي تخضع لمشيئته فيسميها أهل العلم بصفات الأفعال، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وفعله تبارك وتعالى لا منتهى له، وهو مع ذلك خاضع لمشيئته وإرادته، فإذا أخبر أنه استوى، فالاستواء فعل لله عز وجل، يستوي كيف شاء، في أي وقت شاء، وإذا أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو يدنو من عباده، أو يقترب منهم؛ فهذه كلها أفعال يفعلها في أي وقت شاء، وفي أي زمان ومكان شاء، وإن شاء ألا ينزل لا ينزل، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام حدد وقت النزول للمولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، وهذا يدل على أنه ليس في كل وقت ينزل، وإن أراد أن ينزل في كل وقت لفعل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه ينزل في أوقات معلومة، وأعظم هذه الأوقات هو يوم عرفة، فيدنو من عباده في يوم عرفة فيغفر لهم، وينزل في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده الصالحين كذلك، بل وينزل كل ليلة إذا بقي الثلث الأخير من الليل، فينادي على عباده ويتودد ويتحنن إليهم، هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ ويظل ينادي على عباده حتى ينبلج الفجر.

    والكلام عن صفة النزول قد تعرضنا له من قبل وكذا الاستواء، وقلنا: إن معتقد أهل السنة والجماعة في صفات الأفعال كمعتقدهم في صفات الذات، فكما أنهم أثبتوا اليدين والعينين لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى دون تشبيه ولا تعطيل، فكذلك قالوا في صفات أفعال ربنا تبارك وتعالى، فإنه يأتي، يجيء، لكن ليس كإتيان البشر، وليس كمجيء المخلوقين، وكما أن الله تعالى لا تُعلم كيفية ذاته، فكذلك لا تُعلم كيفية صفاته التي منها: المجيء والنزول والاستواء والغضب والرضا والفرح وغير ذلك من بقية صفات الأفعال، فلا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، لكننا نوقن أنه يفرح، وأنه يغضب إذا انتهكت محارمه، ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا، فنوقن بكل ما ورد في الكتاب والسنة على ما أخبر به مالك وأم سلمة وربيعة الرأي أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. أي: السؤال عن كيفية الصفة. ولذلك قال أحمد : من قال لك: كيف استوى؟ فقل له: كيف هو؟ لأن الصفات تصور عن الذات، والكلام في الصفات يستلزم الكلام في الذات، فإذا كنت تقر بأنك تجهل ذات الإله، فلا بد وأنك كذلك تجهل كيفية صفات ذلك الإله سبحانه وتعالى، فالذي لا يستطيع أن يتكلم، وأن يصف ذات الإله، لا بد وأن يلتزم الصمت في وصفه لأفعال الله عز وجل.

    1.   

    إثبات صفة المجيء لله عز وجل

    صفة الإتيان ثابتة بالكتاب والسنة، فيأتي الرب يوم القيامة للفصل بين العباد، وقد ثبت ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن المتأولة أبوا إلا أن يصرفوا مجيء الرب تبارك وتعالى إلى غير ظاهر النص، فقالوا في قوله تبارك وتعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]. أي: جاء أمر ربك. ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن تفسير مجيء الرب بالأمر ينفي صفة عن الله عز وجل أثبتها لنفسه، وهذا يصطدم مع معتقد أهل السنة من أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه، فإذا أثبت الله لنفسه أنه يجيء، وأنه يأتي؛ فلا بد من إثبات هذه الصفة على الوجه اللائق به عز وجل، فيجيء حيث شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، ولا نسأل عن الكيفية.

    والذي يتأول مجيء الرب بأنه مجيء الأمر لا بد وأن ينفي عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، وكأنه يريد أن يقول: أنا أعلم بالله من الله، وأنا أعلم بالله من رسل الله؛ لأنهم أثبتوا جميع الصفات لله عز وجل، فأثبتوا صفات الكمال والجلال والعظمة، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه المجيء، وأثبت لنفسه الإتيان، فلم نتكلف نحن في صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟

    كما أولوا المجيء بالرحمة، فقالوا في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]. أي: وجاءت رحمة ربك. وهذا تأويل.

    وهم مع ذلك يثبتون السمع والبصر والعلم والحياء وغيرها لله عز وجل، ويقولون: إن إثباتنا لصفة المجيء لله عز وجل يستلزم الحركة والانتقال، ويستلزم أنه في حيز، وأن السماء تحيطه، وأن العرش والكرسي من فوقه حين ينزل وحين يجيء، مع أنهم هم الذين ينكرون علو الله عز وجل، لكن المتأولة لا يثبتون على قدم واحدة، فيقولون في هذا الموطن كلاماً يردون على أنفسهم في موطن آخر، فهم الذين يقولون: إن القول بمجيء الرب يستلزم منه الحركة والانتقال. كما أنهم يقولون: إنه لا ينزل؛ لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه. فنرد عليهم: بأنهم لم يثبتوا لله تبارك وتعالى الفوقية، وهم الذين يقولون بأن الله في كل مكان، فكيف الآن تعترفون؟! والنزاع ليس في الفوقية، وإنما النزاع في النزول، وهل الذي ينزل لا ينزل إلا من علو؟ فلا يتصور أنه يصعد من الدور الأرضي إلى الدور الثاني أو الثالث أو الرابع، ولا نقول: فلان نزل من الأرض إلى الدور الخامس، وإنما نقول: نزل من الدور الخامس إلى الدور الأرضي أو الرابع أو الثالث.

    فالنزول في لغة العرب إلى أسفل، والارتفاع والعلو إلى علو، واستواء المولى تبارك وتعالى يختلف عن استواء المخلوقات، فاستواؤه لا يعلم كيفيته إلا هو، لكننا نعلم يقيناً أنه استوى؛ لأنه أخبرنا أنه استوى، فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فالاستواء معلوم لدينا، لكن كيفية هذا الاستواء مجهول لا نعلمه؛ لأننا لا نعلم كيفية الذات، فكيف نعلم كيفية صفاته التي منها الاستواء؟

    الذي نقوله في النزول والاستواء نقوله كذلك في المجيء والإتيان؛ فإن الله تعالى يأتي ويجيء حيث شاء، وبالكيفية التي يشاؤها ويريدها على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولا نقول: إنه يأتي كإتياننا، ويمشي كمشينا، ويهرول كهرولتنا، ويسارع كإسراعنا، بل كل ذلك بعيد عن الله عز وجل.

    فصفة المجيء والإتيان جاءت في قول الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]. والمتأولة يقولون: المجيء هو مجيء الملائكة، وليس مجيء الله عز وجل، وهذا كلام فاسد وباطل، يبطله قول ربنا تبارك وتعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]. ومع هذا فسروا ذلك لياً لأعناق النصوص، وقالوا: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ملائكة الله في ظلل من الغمام؟ وكل ذلك حتى لا يفتروا -بزعمهم- على الله عز وجل أنه يجيء ويذهب، ويروح ويأتي، وغير ذلك، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه ذلك، فلم أتكلف أن أصرف ذلك عن ظاهره؟

    قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158].

    فهذه الآية مفحمة؛ لأن الله تعالى أثبت فيها إتيانه، وأثبت فيها إتيان الملائكة، وأثبت فيها إتيان بعض أمر ربك.

    فإذا قالوا: إن إتيان الله يعني إتيان بعض آياته؛ فقد أثبتته الآية. وإذا قالوا: إنه إتيان الملائكة وإتيان الأمر؛ فقد أثبتته الآية، فيبقى إتيان الله عز وجل، فلابد وأن يقروا بأن الله تعالى يأتي إتياناً يليق بجلاله وكماله.

    ومن التقاليد الموروثة لدى كثير من المفسرين الذين ينهجون منهج الخلف ومنهج المتأولة: أنهم يفسرون المجيء المذكور في سورة الفجر: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] بمجيء أمر الله تعالى.

    1.   

    السؤال عن الله بـ(أين) لا يستلزم التحيز ولا الجهة

    يبقى سؤال هنا للذين يقولون: إن أمر الله هو الذي ينزل، وهو الذي يجيء ويأتي، فنسألهم: أين الله؟ فلا يقبلون هذا السؤال، ولا يحبون الجواب عنه، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الجارية هذا السؤال بلفظه ومعناه: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. فقال لسيدها ومولاها الحكم بن معاوية السلمي : أعتقها فإنها مؤمنة).

    فشهد لها النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان؛ لأنها تعتقد وتقر بلسانها أن الله تعالى في السماء، ولذلك لا بأس أبداً من توجيه هذا السؤال، فإذا سألنا الذين يصرفون آيات الله تعالى عن ظاهرها فراراً من التشبيه بزعمهم، فنقول لهم: أين الله الذي يأتي الأمر من جهته؟ فسيضطربون اضطراباً عظيماً جداً في الجواب عن هذا السؤال، لذا فأول ما يفعله النفاة في مثل هذا الموقف أن يقولوا: لا يسأل عن الله بـ(أين).

    وهم الآن ينفون هذا السؤال، ويخطئون من يسأل ويقول: أين الله؟ إذاً: فهم أعلم من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي سأل هذا السؤال، وليست الحجة في قول الجارية، وإنما الحجة في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام للجارية، لكنهم يردون علينا بسؤالنا أين الله؟ بقولهم: هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ولا يسأل عن الله بـ(أين)، مع أنه قد صح في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله؟) فيقولون: لأن إثبات الأينية لله عز وجل يستلزم الحيز والجهة، وإذا كان في حيز أو في جهة، فهذا يعني أنه داخل في بعض خلقه، وإذا كان داخلاً في بعض خلقه؛ فإن الخلق يحيط به، مع أن الله تعالى هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وليس في المخلوقات من أحاط الله عز وجل، أو ما أحاط بالله عز وجل، فهكذا تفلسفوا، وهكذا تمنطقوا. وهذا كلام في غاية العجب.

    إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما السماوات والأرض بالنسبة للكرسي إلا كحلقة في فلاة). أي: في صحراء، في برية، في بادية، فهل تظهر هذه الحلقة؟ لا تظهر، إذاً فالسماوات والأرض بهذا الحجم الذي نراه إذا سرنا فيه ما هي بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء. قال: (وما الكرسي بالنسبة للعرش إلا كحلقة في فلاة، والله تعالى مستو على العرش، والكرسي موضع قدميه سبحانه وتعالى). والكرسي يحيط بالسماوات والأرض وزيادة؛ لأن السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، وهذا الكرسي العظيم إنما هو موضع القدمين لله عز وجل، وهو بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، فما بالكم بالعرش كيف هو؟ لا يستطيع أحد أن يصف العرش، كما لا يستطيع أحد أن يصف الكرسي، مع أن الكرسي بالنسبة للعرش شيء قليل جداً، وشيء بسيط جداً، لكن هذا الشيء البسيط يحيط بالسماوات والأرض.

    إذاً: فهل نحن مكلفون بأن نتفكر في ذات الله تبارك وتعالى؟ فإقحام العقول والأفكار والأفهام في البحث عن ذات الله عز وجل لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى ضلال صاحبه وتحيره وتيهه، وربما أدى به إلى الكفر بالله عز وجل، ولذلك أمرنا أن نتفكر في آيات الله، وألا نتفكر في ذاته تبارك وتعالى؛ لأن ذاته فوق كل فكر، وفوق العقول، وفوق الإدراك، ولا يمكن أبداً أن يحيط عقل بصفة من صفات الله، فضلاً أن يحيط بذات الله تبارك وتعالى.

    وإذا كنا نعجز أن نصف الله عز وجل، فإننا بالتالي نعجز أن نتصور صفات المولى تبارك وتعالى التي منها: المجيء، بل علينا أن نسلم، وأن نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنؤمن بذلك ولا نخوض فيه، لا بعقل ولا بفكر.

    ومن فضل الله عز وجل: أنه لا يسألنا عن ذاته، ولا يسألنا عن كيفية صفاته، والمرء إنما يحرص على ما ينفعه، وإقحام العقل في صفات الله عز وجل وفي ذاته إنما هو أمر يؤدي إلى الضرر، والعبد غير مسئول عن هذا، فهل يعقل أن يدع ما يسأل عنه بين يدي الله عز وجل من أحكامه وفرائضه وسننه، ثم يقحم نفسه في مسألة لم يكلفه الله تبارك وتعالى بها؟

    على كل حال إذا كان النفاة لا يثبتون علو الله على خلقه، فلا معنى لقولهم: جاء أمر ربك؛ لأنهم لا يدرون من أين يأتي الأمر، وهم يقولون: إن الله في كل مكان، اللهم إلا إذا زعموا أن الأمر يأتي من كل مكان، لتصورهم أن الله تعالى في كل مكان، ولا نعلم أحداً قال بهذا القول، حتى هم لم يقولوا: إن الأمر يأتي من كل مكان، فالله عز وجل قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22].

    فنحن نعلم مجيء الرب تبارك وتعالى، ونعلم أنه يأتي من علو، وهؤلاء لا يثبتون العلو لله عز وجل، فنقول لهم: إذا فسرتم وأولتم مجيء الرب بأنه مجيء الأمر فمن أين يأتي الأمر؟ وهم يقولون: إن الله في كل مكان. إذاً: يأتي الأمر من كل مكان، وهذا الكلام لم يقل به أحد، حتى هم لم يقولوا بذلك.

    فليس لدى النفاة جواب بالنسبة لهذه الآيات ما لم يركبوا رءوسهم، إذ لم يبق هناك من يضيفون إليه المجيء؛ لأن الآية قطعت عليهم خط الرجعة كما يقولون، حيث ذكرت مجيء الملائكة لقبض الأرواح، ثم ذكرت مجيء الرب سبحانه وتعالى للحساب والقضاء، ثم ذكرت مجيء أمر الله تعالى بأمره سبحانه، فأين يذهبون؟ لا بد وأن يسلموا بمجيء الرب تبارك وتعالى على الوجه اللائق به.

    1.   

    عدم إحاطة العباد بالله علماً

    هل لأحد أن يدعي أنه يحيط علماً بالله؟ الجواب: لا. لأن ذلك مستحيل شرعاً وعقلاً، والواقع أن الله تعالى هو الذي يحيط خلقه بعلمه، أما هو سبحانه يُعلم ولا يحاط به علماً، فهو معلوم الوجود، وأنه واجب الوجود، كما قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255].

    فهم لا يحيطون بذاته ولا بصفاته ولا بأفعاله علماً، والنزول والمجيء من أفعال ربنا تبارك وتعالى، فينتهي علمنا فيهما وفي غيرهما من أفعال ربنا تبارك وتعالى بمعرفة المعنى العام أنه يأتي وأنه يجيء، أما كيف يأتي وكيف يجيء فهذه ليست لنا ولا نعرفها، بل ولا يعرفها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف يدعي هؤلاء صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟ وتعطيل النصوص بالضرورة يستلزم تعطيل صفات المولى تبارك وتعالى.

    ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، ومما يحدثه في نهاية المطاف لهذه الدار: أن يأمر الشمس أن تطلع من مغربها بدلاً من طلوعها من مشرقها؛ إعلاناً وإعلاماً لنهاية هذه الحياة، وهنا يغلق باب التوبة، ولا يقبل إيمان ممن يريد أن يؤمن، أو عمل صالح ممن يريد أن يعمل عملاً صالحاً.

    ثم إذا جمع الله الأولين والآخرين يأتي يوم القيامة ليحاسب عباده، كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    وهناك يتميز المؤمن الصادق الذي كان يعمل بصدق ويقين يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، فيأتي الرب تبارك وتعالى فيعرفه المؤمنون بعلامته الخاصة، وهي ساقه تبارك وتعالى، فيسجدون له سبحانه سجود تعظيم وشكر في آن واحد، ويحاول المنافقون والمراءون أن يسجدوا كسجود المؤمنين، فيجعل الله تبارك وتعالى ظهورهم طبقاً واحداً، فإذا أرادوا أن يسجدوا لله خروا على ظهورهم؛ لأنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا، ومن سجد منهم إنما سجد مرائياً منافقاً، ولم يكن يسجد لله بصدق وإيمان ويقين.

    إذاً: هذه الصفة ثابتة لله عز وجل على الوجه اللائق، ونقول فيها كما نقول في غيرها من بقية الصفات.

    1.   

    إثبات أن لله هرولة تليق به سبحانه

    قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي يقول فيه المولى عز وجل: (وإذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً). فأثبت القرب من العباد لله عز وجل. (وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). فأنا أهرول، والله تعالى يهرول، لكن هرولة الله ليست كهرولة المخلوقين، وإنما ذلك اتفاق في الاسم واختلاف في المسمى والمضمون، والمعنى معلوم، والكيف مجهول.

    فهرولة الله تبارك وتعالى يقيناً معلومة لدينا؛ لأنه أخبرنا أنه يهرول، لكن كيف يهرول؟ هذه ليست لنا، ولو سألتني: كيف يهرول زيد أو عمرو؟ لقلدت لك هرولة زيد وعمرو؛ لأن الأمر لا يعلم إلا بشرطين: إما برؤيته له، فأستطيع أن أصفه، وإما بوجود المماثل له.

    وأنت سألتني: كيف يهرول عمرو أو زيد؟ فهل عمرو سيأتي بهرولة جديدة؟ لا. فنحن نهرول كبعضنا، ولكل واحد من البشر هرولة خاصة، وهو رمل واحد، وإسراع واحد، وجري واحد، وبطء واحد، ويستطيع المرء أن يصف ذلك في المخلوقات؛ لأنه رأى ذلك بنفسه ويستطيع أن يفعل ذلك، وهناك أمثلة عديدة في البشر يستطيع أن يقيس؛ لأني كزيد وكعمرو وكإبراهيم وكمحمد، لكن لا أقول: أنا كالله تعالى! لأننا إذا كنا نتفق على أن ذات المخلوقات تختلف عن ذات الله عز وجل فلا بد وأن نقول: إن صفاته تبعاً لهذه الذات تختلف عن صفات المخلوقين فهو يهرول كيف يشاء، ولا أستطيع أبداً أن أصف هرولة الله عز وجل؛ لأنني لم أر الله، ولم أر هرولة الله، ولذلك لا أستطيع أبداً أن أمثلها؛ لأنها غيب عني، وكل ما في الأمر: أن الله تعالى ألزمني الإيمان بأنه يهرول، وأنه يأتي، وأنه يجيء، وأنه يتقرب إلى عباده.

    وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية قال: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم! فيقولون: لا، نبقى هنا حتى يأتينا ربنا كما نعرفه). لأنهم قد رأوه أول مرة في المحشر، ولذا لما ظهر لهم في صورة أخرى وقال: أنا ربكم! قالوا: لا. إنما لربنا علامات نعرفه بها، عينان، وساق، ويدان. فهذه وغيرها جوارح في حق المخلوقين، لكنها ليست جارحة في حق الله عز وجل.

    ولذلك لما ظهر الله تعالى لهم لم يروا له مثيلاً ولا نداً ولا شبيهاً في حياتهم قط، فعرفوا أن هذا هو الله عز وجل؛ لأنه واحد في ذاته، واحد في صفاته، لا يشبه أحداً، فلما بدا لهم وظهر لهم وكشف الحجب بينه وبينهم ورأوه على هذا النحو الذي لا يمكن لبشر أن يصفه قالوا: أنت ربنا.

    1.   

    أقوال أهل العلم في إثبات صفتي الإتيان والمجيء

    قول ابن جرير في إثبات صفتي المجيء والاتيان

    قال ابن جرير : اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره الله تعالى في قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة:210].

    فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول. أي: لا بد أن نسلم أنه يأتي مثلما قلنا في النزول والاستواء وغير ذلك، ونفوض علم الكيفية لله عز وجل، وغير جائز لأحد تكلف القول في ذلك إلا بخبر من الله عز وجل، أو من رسل الله تعالى.

    ولذا عندما لم يأت الخبر بالكيفية؛ وجب أن نسكت عما سكت عنه الأنبياء، وعما سكت عنه أصحاب الأنبياء، ولذلك لم يرد في أثر -ولو باطل- أن واحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال له: يا رسول الله! كيف يأتي ربنا؟ كيف يستوي ربنا؟ كيف يتكلم ربنا؟ فلم يسألوا عن الكيفية قط؛ لأنهم يعلمون أن لله تبارك وتعالى ذاتاً تختلف عن ذواتنا، وهم لا يمكن أبداً أن يحيطوا بها علماً، ولذلك لم يتكلفوا السؤال عنها، وعن كيفية صفاتها.

    إثبات أبي الحسن الأشعري لصفتي المجيء والإتيان

    وقال أبو الحسن الأشعري ، وهو من أفراخ المعتزلة ورئيس الأشاعرة، لكن الله تعالى منَّ عليه بفضله؛ فانسلخ من معتقده الفاسد الأول، وجاء مقراً بعقيدة أحمد بن حنبل ، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة قال: وأجمعوا -أي: أهل السنة- على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً.

    فإجماع السلف على أن الله تعالى يجيء، وأنه يأتي، وأنه يتقرب إلى عباده، ويقترب، ويدنو منهم، وكيفية ذلك لا يعلمها إلا هو سبحانه.

    قول الشيخ الهراس في إثبات صفتي المجيء والإتيان

    وقال الشيخ الهراس في شرح الواسطية -بعد أن ذكر الآيات والأحاديث الثابتة في صفة الإتيان والمجيء -: وفي هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل -أي: من صفات فعل الله عز وجل- وهما: صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة: الإيمان بذلك على حقيقته. أي: نؤمن بأن الله تعالى يأتي حقيقة لا مجازاً، ويبتعدون عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل.

    تأويل الإمام النووي وابن الجوزي لصفتي الإتيان والمجيء والرد عليهما

    وقد جاءت صفتا الإتيان والمجيء مقترنتين في حديث واحد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا تلقاني عبدي بشبر؛ تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع؛ تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع؛ جئته وأتيته بأسرع).

    صفتان ثابتتان لله عز وجل: الإتيان والمجيء، لكن بعض أهل العلم لا يدعون هذه الآيات تمر هكذا، كـابن الجوزي عليه رحمة الله، والنووي عليه رحمة الله، وكلاهما لم يتمكن من دراسة العقيدة دراسة وافية مستفيضة على يد أهل السنة والجماعة؛ ولذلك وردت أخبار في ترجمة ابن الجوزي عليه رحمة الله، أنه شيخ الوعاظ وصاحب ورع وتقى وهدى، لكنه في باب الصفات لم يحكم ذلك إحكاماً، وإنما كان له تخبط، فتارة يقول بقول السلف، وتارة يقول بقول الخلف، وتارة يذكر الخلاف ولا يرجح، تماماً كما يفعل النووي، ولذلك عاب عليه الذهبي عليه رحمة الله في كتاب السير باعتبار ابن الجوزي حنبلي المذهب، فقال: ويا ليته سكت أو تبع إمامه. أي: يا ليته ما تكلم في الصفات، ويا ليته إن تكلم اتبع إمامه أحمد بن حنبل .

    فـابن الجوزي ممن دخل في هذا التأويل، وكذا النووي عليها رحمة الله، لكن تلاميذ النووي نقلوا عنه أنه لم يحكم دراسة العقيدة، بل كان يقلب فيها، وينقل من كتب القاضي عياض ، والإمام المازري وكلاهما أشعري معروف بأشعريته وخلفيته، فذكر الإمام النووي هذه الآيات وهذه الأحاديث، وذكر فيها خلاف أهل العلم، ورجح فيها مذهب الخلف للأسف، فأثبت أن المجيء إنما هو مجيء الأمر لا مجيء الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يفهموا من صفات الله عز وجل إلا ما يفهمونه من صفاتهم البشرية، وقياسهم مجيء الرب على مجيئهم، وإتيان الرب على إتيانهم، وقرب الرب على قربهم ودنوهم، فهم لم يفهموا ولم يدركوا من صفات الله عز وجل إلا ما يدركون من صفاتهم التي يرونها ويعلمونها من أنفسهم، وهذا بلا شك خطأ عظيم جداً، والرد عليه من أوجه كثيرة:

    أولاً: أن النووي لما رجح مذهب الخلف ادعى أن هذا مذهب السلف، فإن كان يقصد مذهب الأشاعرة، وأنهم سلف بالنسبة له وأنه تابع لهم في بعض الصفات؛ فكلامه صحيح، وإن كان يقصد أن هذا مذهب السلف الصالح عامة؛ فكلامه مردود، إذ إن التأويل ليس هو مذهب السلف، وإنما هو مذهب الخلف.

    ومذهب السلف رضي الله عنهم إنما هو إثبات المعاني، وتفويض علم الكيفية إلى الله تعالى، وقد فصلنا القول في ذلك مراراً ولا داعي لإعادته.

    ثانياً: تأويله للإتيان والمجيء بالرؤية، أو ببعض ملائكة الله، ليس تأويلاً صحيحاً، بل هو يناقض العقيدة السلفية في صميمها، فنحن إذ نقول بإثبات صفة المجيء والإتيان للرب تبارك وتعالى لا يستلزم ذلك التشبيه والتجسيم؛ لأننا قلنا من قبل: ما من شيئين إلا وبينهما اشتراك وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل، ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.

    والله تعالى يأتي في صورة فيقول: أنا الجبار، وهو سبحانه قد صورني وخلقني على صورة معينة، فهل صورتي كصورة الله عز وجل؟ الجواب: لا. لكن أوجه الشبه بيني وبين الله أن لي صورة ولله تعالى صورة.

    فالخلق يتفقون مع الخالق في مجرد التسمية فقط، ومن نفى القدر المشترك فقد مثل، كأن يقول: صورتي كصورة الله عز وجل؛ لأنه أثبت لنفسه صورة، وأثبت لله صورة، فلا بد وأن تكون صورته كصورة الله، وهذا خطأ عظيم؛ لأننا إذا كنا نفرق بين ذات المخلوق وذات الله، فلا بد وأن المخلوق يقول بنفس الفارق بين صورته وصورة الله عز وجل، وإلا إذا لم يقم هذا الفارق بينه وبين الله فلا بد وأن يجعل نفسه أو ذاته كذات الله تعالى، وهذا إلحاد وكفر. ومن نفى القدر الفارق فقد عطل. أي: عطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته.

    كما أن الله عز وجل يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، وكل ذلك على الحقيقة من غير أن يلزم فعله سبحانه وتعالى ما يلزم المخلوقين إذا فعل مثل ذلك.

    ومن المؤكد أن النبي عليه الصلاة والسلام وسلف هذه الأمة وأئمتها يعلمون أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة، أو وصفه رسوله بصفة أن ذلك ثابتاً له على ما يليق به سبحانه وتعالى، فلا يشبه شيئاً من صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته سبحانه ذواتهم، وكذلك القول بالنسبة لأفعاله سبحانه وتعالى.

    ومن الجدير بالذكر هنا: أن في صفات الخلق ما يختلف فيما بينهم، فليس كل الخلق يتصفون بصفة واحدة، ولذلك الحيوانات لها صورة، والطيور لها صورة، وبنو آدم لهم صورة، والله تبارك وتعالى له صورة، فهل اتفاق الجميع في لفظ الصورة يستلزم المماثلة والمشابهة بين هذه المسميات؟

    الجواب: لا، فتشابه الصفات في الاسم لا يستلزم تشابه الذوات.

    كلام ابن تيمية في إثبات صفتي المجيء والإتيان

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: وإذا قيل: الصعود والنزول، والمجيء والإتيان أنواع جنس حركة. قيل: والحركة أيضاً أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، والروح تتحرك في البدن، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يصف الروح التي هي بين جنبيك، وتتحرك فيك بالليل والنهار وأنت نائم ومستيقظ، فكيف تصف صفات المولى تبارك وتعالى؟!

    وكذلك الملائكة لها حركة، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، فالذين يقولون: إن إتيان الرب تبارك وتعالى يستلزم الحركة والانتقال والحيز، نقول لهم: ليس ذلك بلازم، فهناك بعض المخلوقات تتحرك دون حيز، كما يراد بالحركة أمور أخرى كما يقول كثير من الطبائعية والفلاسفة، منها: الحركة في الحكم كالحركة في النمو، فمثلاً تقول: فلان ينمو ويتحرك دائماً. والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، كأن تقول لابنك: يا بني! تحرك قليلاً؛ لما ترى ما يكتب له في الشهادة وهو راسب، أو درجاته قليلة، فتقول له: تحرك. فأنت لا تقصد بقولك هذا أن ينتقل من حيز إلى حيز، أو من مكان إلى مكان، وإنما تقصد أن ينتقل بكيفية أخرى، وهي أنه يعلو من الجهل إلى العلم، وحركة اللون من سواد إلى بياض، والحركة في الأين فليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز، فإذا كانت حركة المخلوقات لا تستلزم الانتقال وخلو المكان الأول، فهي من باب أولى في جنب الله عز وجل، وفي نزول الله عز وجل، وقد قلنا فيما مضى: إن بعض الناس يتوهم أن نزول المولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل لا يستلزم خلو العرش منه، وأن العرش والسماوات من فوقه فيكون سبحانه محصوراً بين خلقه، فهذا كفر وضلال لمن قال به.

    لكنهم أرادوا أن يلزموا أهل السنة الحجة بذكر هذا الكلام السخيف التافه؛ لأنهم يعلمون من أنفسهم أن الواحد منهم إذا كان في مكان عال ونزل يلزم من ذلك خلو المكان العالي منه، فقاسوا أنفسهم على الله عز وجل، وقاسوا الله تعالى عليهم، وهذا ضلال مبين.

    وعقيدة أهل السنة والجماعة أن يسكتوا عما سكت عنه الله تعالى، وسكت عنه رسله وأنبياؤه.

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب، ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وبالوجه واليد ونحو ذلك: إن هذا يقتضي التجسيم؛ لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فنحن لا نعرف واحداً يوصف بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وله وجه، وله يد وله عين وغير ذلك إلا أجسام محسوسة أمامنا. ولذلك ينفون عن الله عز وجل هذه الصفات، فيقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، فينفون عن الله تعالى كل شيء أثبته لنفسه إلا سبع صفات، وهذا اضطراب؛ لأننا قلنا: إن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات، كما أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فالذي يريد أن يتكلم إما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا سكت وآمن وسلم فهذا هو مذهب السلف، وإذا تكلم إما أن يتكلم بكلام السلف، وإما أن يتكلم بغير ذلك فيكون من الخلف.

    والذين يقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، هم النفاة، لكنهم يثبتون لله تعالى الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام.

    لكن: يقال لهم: أنتم تقولون: ليس له يد، وليس له ساق، وليس له عين، ونفيتم عنه تبارك وتعالى جميع الصفات الذاتية، فكيف يتصور وجود ذات بلا صفات؟! فقالوا: نحن نثبت له صفات معينة، وهي: صفة الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام؛ لأنها قد وردت في القرآن والسنة. فإن قيل لهم: والصفات الذي قلناها أيضاً في الكتاب والسنة؟ قالوا: لا. لأن إثباتكم لهذا الكلام يستلزم التشبيه. فنقول لهم: لا، فنحن وسط بينكم وبين غيركم، فأنتم تنفون صفات الله عز وجل وتقولون: هذا تنزيه لله عز وجل؛ حتى لا يكون شبيهاً بالمخلوقات. وغيركم يقول: لا. نحن نثبت لله تعالى هذه الصفات لكن لا نعلم منها إلا ما نعلمه من أنفسنا. أي: أن له يداً كيدي، وعيناً كعيني، ثم في النهاية هو رجل مثلي، فإذا كانت صفات المولى عز وجل مثل صفاتي، ففي النهاية هو مثلي بالضبط؛ لأنني إذا تكلمت في الصفات فأنا أركبها في الذات، وهذه الذات لا يصلح أن تتركب إلا في ذات تدخل في تصورك أنت، وهو شخصك، وهب أن الذي تكلم بهذا الكلام امرأة -لا بد من هذا الطرح أيضاً- فإذا كنت لا تفهم من صفات الله إلا ما تفهمه من صفاتك أنت فلا بد أن هذا المعتقد سيسود الرجال والنساء، فهل تقبل أنت كرجل تثبت هذه الصفات بالمماثلة والمشابهة مع صفاتك أنت من امرأتك، أو أمك، أو أختك، أو ابنتك أن تقول: إن الله تعالى مثلي تماماً، فذاته كذاتي، وصفاته كصفاتي؟! معاذ الله! فأنت نفسك لا تقبل هذا، فلم تقبل أن تشبه الله تبارك وتعالى بذاتك ونفسك؟!

    لا بد أن تثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه على مراده هو، بالكيفية والوجه الأكمل اللائق به سبحانه وتعالى.

    وهؤلاء المثبتة ردوا على النفاة، والذين ينفون عن الله صفاته ردوا عليهم بأنكم نفيتم عن الله صفات الذات، وأثبتم سبع صفات، مع أن هذه الصفات التي أثبتوها مثل الصفات التي نفيتموها، فما معنى أن ثبتوا هذه الصفات وتنفو الصفات الأخرى؟!

    هم يقولون: ليس له يد، ولا يستوي، ولا ينزل، ولا يأتي، ولا يجيء، وليس له عين؛ لأنهم قالوا: إن ذلك يستلزم الجسم، والله عز وجل ليس بجسم! مع أن هذا الكلام غريب أيضاً؛ لأن الله تبارك وتعالى ذات، ولا نقول: هو جسم، أو ليس بجسم، وإنما نقول: الله تبارك وتعالى له ذات، وهذه الألفاظ مستحدثة، فالحيز والحركة والانتقال والجسم وغير ذلك، كلها كلام محدث، وربما يحمل بين طياته الخير أو الشر، لكن نلتزم ونتمسك بما ورد في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام من مصطلحات وأقوال ولا نتعداها إلى غيرها.

    ولذلك لما قالوا: إن إثبات هذه الصفات الذاتية يستلزم الجسم، فنقول لهم بنفس المنطق: وهذه الصفات السبع التي أثبتموها أيضاً تستلزم الجسم، فهل يتصور أن غير جسم يتكلم، أو يسمع، أو يعقل، أو له حياة؟! أبداً. فنفس المنطق يرد به عليهم، والتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين.

    وهذا إلزام من شيخ الإسلام لمن يعطل صفة الإتيان والمجيء؛ بحجة أن فيها تجسيماً، مع أنه يصرح ويقول: لم يطلق أحد من السلف والأئمة في وصف الله بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والعرض والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة، لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة أجمعون.

    وأكتفي بهذا القدر؛ لأن القول في الصفات كالقول في الذات، والقول في صفة كالقول في بقية الصفات.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    حكم ما يقع بين الناس من التعصب لفريق معين من لاعبي كرة القدم

    السؤال: ما حكم ما يقع بين الناس من التعصب للكرة أو لفريق معين؟

    الجواب: قد بلغ التعصب للكرة حداً عند أبنائها وأهلها لم يبلغ هذا التعصب عند أتباع المذاهب لأصحاب المذاهب، بل نرى ونسمع من يقذف بنفسه من البلكونات من الأدوار العالية الشاهقة عندما يسمع بخسارة فريق معين! وربما يسقط في الطريق ميتاً! وهذه قصص نسمعها ونراها، وهي واقعة كثيرة جداً، مثل: أربعة عشر واحداً ماتوا عندما ماتت أم كلثوم ، وأحد عشر شخصاً رموا بأنفسهم من البلكونات، أو إحدى عشرة امرأة لما مات عبد الحليم حافظ ! ثم يأتي شخص ويسألني عن الغناء هل هو حلال أم حرام؟!

    أما كرة القدم باعتبارها رياضة، وهي مفيدة بدنياً وذهنياًً، لا يلزم فيها أن تضيع شيئاً من صلاتك، أو من دينك وعبادتك، وأن تتعصب لها، ذهبت أو جاءت، وأن تقع عينك على محرم، وأن تلهيك في الجملة عن ذكر الله عز وجل.

    لكن الواقع الذي نراه الآن بخلاف ما أمر به الدين، فقد يضيع المسلم صلاته وهو جالس أمام التلفزيون، ناهيك عن الذي نسي نفسه حتى ضاعت منه كل الصلوات، ثم يقول لنفسه: أين سأصلي؟ وأين سأتوضأ؟ والناس هنا أمم والآف، وكل يلعب على ما يحلو له، فهذا يلعب على الموسيقى، وهذا على الرقص، وهذا على التمارين الرياضية، والكل يلعب إلا من رحم الله عز وجل، وطائفة قليلة جداً في الأمة تأخذ الأمر بجدية، وليس في يدها ما تفعل، ولا تقدر أن تتصرف؛ لأن بقية الأمة -وليس الكفار- يضيعون جهد هذه الطائفة ويبعثرونه، ثم تأتي وتسأل: الكرة حلال أم حرام؟

    حكم تشغيل إذاعة القرآن قبل صلاة الجمعة

    السؤال: ما حكم تشغيل إذاعة القرآن الكريم قبل أي صلاة خاصة صلاة الجمعة، هل هذا وارد؟

    الجواب: هذا ابتداع في الدين.

    حكم ذهاب الأولاد إلى القرية الفرعونية

    السؤال: هل يجوز السماح لأولادنا بالذهاب في رحلة مع المدرسة إلى القرية الفرعونية الموجودة في السيد زكي؟ خاصة وأن ابنتي كلمتني اليوم، أنها ذهبت مرة إلى هناك فرأت نساءً عرايا ليس عليهن إلا طقوس الفراعنة، فوقفت على الباب من الخارج حتى انتهت الرحلة؟

    الجواب: لا والله، لا يجوز، وإذا كان هذا الطفل علم حرمة هذا الأمر وهو طفل لم يبلغ ولم يكلف، فما بالك أنت؟

    حكم إعطاء الهدية بنية إرجاع هدية أخرى

    السؤال: هل هدية العرس تدخل تحت حديث: (مثل الذي يرجع في هديته كمثل الكلب يرجع في قيئه). مع ملاحظة أن النية هي أن المعطي يريد أن ترجع إليه مرة أخرى في مناسبة له، وهل يجوز إعطاؤها نقداً؟

    الجواب: يجوز إعطاء الهدية على أي وجه من الوجوه ما لم تكن أصل الهدية حراماً.

    يعني: لا يصلح أن تهديه زجاجة خمر مثلاً، فهذا حرام، وإن كانت عند قوم أعظم هدية، لكنها في الشرع غير مقومة، وغير ممولة. أي: لا قيمة مالية لها؛ ولذلك يقول أهل العلم بالإجماع: إن من كسر زجاجة خمر لا يطالب بدفع قيمتها، لماذا؟ لأنها لا قيمة لها في الإسلام، مال غير مقوم. وليس معنى كلامي أن تطلع على الخمارات والحانات تكسر وتخرب ثم تقول: الشيخ قال، أنا لم أقل هذا الكلام! أنا قلت: الخمر في الإسلام غير مقوم، لكن الهدية تجوز نقداً وتجوز عيناً وتجوز منقولات وتجوز عقارات، وتجوز كل شيء، فهي هدية وهبة، ومن خوارم المروءة صراحة: أنك تنتظر أن ترد إليك الهدية مرة أخرى، ومن أجل هذا هناك أناس كثيرون جداً جداً من إخواننا الفلاحين.. يحجم عن السفر، وقد أحجم كثير من أصحابي عن السفر، فعند السفر تلاحظ أن كل البلد عن بكرة أبيها تأتي إلى بيت أخينا المسافر كل واحد متحمل ما لذ وطاب هدية للمسافر، ثم ينتظرون العودة، وعيونهم مفتحة ينتظرون ماذا سيأتي لهم، فهذا يعطيه ثوباً يرجعه ويقول لك: هذا ضيق.. هذا واسع، أعطني شيئاً علي، فهو يعطي الهدية وينتظر هدية، والهدية بلا عوض، اسمها هبة، وعقد الهبة بلا عوض، فأنت تعطي ولا تنتظر، ومن خوارم المروءة أنك تنتظر العوض.

    حكم سماع الحكايات التي تذاع في الراديو

    السؤال: هل يجوز سماع الحكايات التي تذاع في الراديو؟

    الجواب: نعم.

    حكم سماع بعض التمثيليات التي تحكي قصصاً اجتماعية وتذاع في الراديو

    السؤال: هل يجوز سماع بعض التمثيليات التي تذاع في الراديو، والتي تحكي قصصاً اجتماعية؟

    الجواب: نعم يجوز، وذلك إذا كان على هذا النحو الذي تسأل عنه السائلة، والتي تفيد الإنسان في تكوينه الفكري والعقلي، أما سماع التمثيليات والقصص الخليعة التي تدعو إلى الرذيلة والفاحشة فلا يجوز ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755953998