إسلام ويب

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - شدة حر نار جهنم وبعد قعرهاللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله النار للكفار من خلقه، والعاصين من عباده، ووعدها بملئها منهم، وقد جاء الأمر بالتعوذ منها ومن حرها وأهوالها، والتي لا يعرف مقدارها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد جعلها الله على دركات لكل دركة من دركاتها ناسها، حتى يصل آخرهم إلى دركها الأسفل.

    1.   

    باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب الثاني عشر من كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: (باب في شدة حر نار جهنم) أعاذنا الله وإياكم منها (وبعد قعرها، وما تأخذ من المعذبين).

    شرح حديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال: حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي ، عن شقيق وهو شقيق بن سلمة الكوفي، أبو وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ -أي يوم القيامة- لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) ].

    قوله: (يؤتى بجهنم): هذا يدل على أن جهنم تغدو وتجيء، وأنها تجيء حتى تلتهم أهلها الذين أعدوا لها، وخلقوا لها، وكذلك الجنة، كما قال الله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90]. أي: وقربت الجنة، فالجنة تقرب من أهلها حتى يدخلوا فيها، والنار كذلك يقربون منها حتى يدخلوا فيها، وفي الغالب أن كلمة (يقرب) تكون في موضع الإكرام، فالإكرام يقرب للضيف، ولذلك فإن من السنة أن يقرب الطعام إلى الضيف ولا يوضع في مكان ثم يدعى الضيف أن ينتقل إليه، ولذلك فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قرب لأضيافه عجلاً حنيذاً للأكل منه. (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام). والزمام هو الشيء الذي يتحكم فيه الساحب. (كل زمام يجره سبعون ألف ملك). هذا يدل على عظم النار وسعتها وشدتها، سبعون ألف ملك في سبعين ألف ملك، والناتج سيكون عدداً هائلاً، وإنما ذلك لعظمها وشدتها.

    شرح حديث: (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين ...)

    قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد ، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه -أي: نار الدنيا- التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم) ].

    أي: هذه النار التي يوقدها ابن آدم هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. يعني: أن نار الدنيا تضرب في سبعين، ويصح أن تكون هذه النار هي نار جهنم، وقد سمعت بعض مشايخنا يقول: هذا الجزء من النار الذي يوقده ابن آدم هو مجموع ما أوقده ابن آدم من لدن آدم إلى قيام الساعة. أي: هذه النار كلها التي بالمصانع الحربية، والحديد، والصلب، والإسمنت وغير ذلك مما يوقده الناس من النار لطعامهم وشرابهم لو اجتمعت منذ أن خلق الله النار حتى يوم القيامة فمجموع هذه النار يمثل في نار جهنم جزءاً من سبعين جزءاً، ولعمري لو كانت هذه النار كعود الكبريت لكفت، ولكن هذه النار أعدها الله عز وجل للكفار الذين يستحقون ذلك وزيادة.

    قال: [ (قالوا: والله إن كانت لكافية) ]. الصحابة لما سمعوا ذلك قالوا: والله لو أن النار التي أعدت للآخرة مثل نار الدنيا لكانت كافية.

    [قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها) ].

    أي: كل جزء منها مثل حر نار الدنيا التي يوقدها ابن آدم.

    قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق ].

    وهو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني كان إماماً جليلاً، وهو شيخ اليمن في زمانه، لم يكن أحد يتقدم عليه، واليمن منذ أن دخلت في الإسلام إلى يومنا هذا لا يبرز فيها في كل قرن أو في كل مدة من الزمان إلا واحداً، لا يبرز فيها اثنان في آن واحد إلا نادراً جداً كما برز الصنعاني والشوكاني، إنما في كل قرن من القرون أو مدة من الزمان يبرز فيها واحد فقط، وأول البارزين فيها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ثم أبو هريرة وكلاهما من اليمن، وأنتم تعلمون أن إسلام أبي هريرة كان متأخراً، فقد أسلم بعد رجوع النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة خيبر، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات وبضعة أشهر على ملء بطنه، فهو القائل رضي الله عنه: أما المهاجرون فقد شغلتهم تجارتهم، وأما الأنصار فقد شغلهم حرثهم وزراعتهم، وأما أنا فلزمت النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني أو قال: على شبع بطني.

    فحصل من العلم ما لم يحصله الأكابر، وما لم يحصله من تقدم عليه كـأبي بكر وعمر وغيرهما، ولذلك لعلكم تعلمون الإفكة والشبهة التي حرص أعداء الإسلام أن يوجهوها إلى الإسلام بالطعن في أبي هريرة ؛ لأنه أعظم الصحابة على الإطلاق رواية إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص .

    قال أبو هريرة : وإني لأكثر الناس رواية، وحفظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. أي: عبد الله بن عمرو كان كاتباً، وأبو هريرة كان أمياً لا يكتب، وكان عنده من الذاكرة الشيء العجيب جداً؛ ولذلك دعاه بعض ملوك بني أمية في المدينة أن يحدثه بأحاديث، فحدثه بأربعمائة حديث، وكان الخادم يكتب من خلف الستار، وبعد عامين استدعاه، وقال: أتذكر شيئاً مما حدثتني به آنفاً؟ أي: منذ عامين. فقال: نعم. والخادم يراجع ما كان قد كتبه منذ عامين من خلف الستار، فلما قص عليه أبو هريرة ما كان قد أسمعه آنفاً خرج الخادم وقال: والله يا أمير المؤمنين ما قدم ولا أخر، ولا حذف، إنما حدث بها من أولها إلى آخرها بنفس الترتيب. أبو هريرة أعجوبة الزمان في الحفظ، وابن عباس أقل منه حفظاً، ومع هذا كان ابن عباس يسمع القصيدة مكونة من ألف بيت شعراً فإذا قيل لـابن عباس أحفظتها؟ يقول: نعم. فيقول الشاعر: كلا وألف كلا. فيقول ابن عباس متحدياً: أتحب أن تسمعها مني من أولها إلى آخرها أم من آخرها إلى أولها؟ وهذا شيء عجيب، والسلف رضي الله عنهم كانت ذاكرتهم قوية.

    وأبو هريرة رضي الله عنه لما أتى مسلماً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأعلن إسلامه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل لك حاجة يا أبا هريرة؟ قال: نعم يا رسول الله! أن تدعو لأمي أن تسلم فإن أبغض الناس إليها أنت، فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام فأسلمت، قال: هل لك حاجة يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله! ادع الله لي، فدعا له بالخير والبركة والنماء). وفي مجلس ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يبسط رداءه فأدعو له فلا ينسى من العلم شيئاً. قال أبو هريرة : فكنت أول من بسط رداءه فدعا لي، وقال: يا أبا هريرة ! اضمم إليك ثوبك. فضممته فما نسيت من العلم شيئاً). وغير ذلك من أخبار أبي هريرة الطويلة الكثيرة.

    قال سفيان : عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة. الواحد إذا أخذ في ذكر ترجمة واحد من الصالحين وخاصة الصحابة رضي الله عنه لا يكاد يمل الحديث، ويتمنى أن يستمر الكلام في ذكر هؤلاء الصالحين طوال الليل؛ لنزول الرحمات، وذكرهم يقوي الإيمان في القلب، ويشعر بمدى الذنب الذي تلبس به الإنسان.

    إذاً: أول البارزين من العلماء في اليمن: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ومن بعده أبو هريرة رضي الله عنه، وتتابع الناس بعد ذلك حتى كان زمن عبد الرزاق بن همام الصنعاني نسبة إلى صنعاء، وكان رجلاً عظيماً جداً مهاباً في قومه، لا يجرؤ أحد أن يقترب من بيته، ولا أن يطرق عليه بابه؛ لأن أهل العلم لهم هيبة عظيمة جداً، ولذلك فإن طلاب العلم من السلف لم يكونوا يطرقون الباب على أحد من أهل العلم، وكانوا يعدون ذلك من سوء الأدب.

    وهذا ابن عباس رضي الله عنه كان يأتي إلى أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، فيتوسد رداءه. يعني: يجعل الرداء وسادة يطويه وينام عليه، وتسف الريح الرمل في وجهه، فإذا خرج زيد بن ثابت أو أبي بن كعب قال: يا ابن عباس! يا ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام هلا أمرتنا، وأرسلت إلينا فنأتيك، فأنت من آل البيت، فيقول ابن عباس: لا والله، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. وهذا من الأدب.

    وكان يأخذ بخطام ناقة أبي بن كعب ويسوقها وأبي راكب. أبي هذا لما مات قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد مات سيد المسلمين. فيقول أبي لـابن عباس ما هكذا يا أبا العباس اركب أنت ونحن نقود لك الراحلة فيقول: أستغفر الله إنما نفعل ما أمرنا به الله. أي: نجل ونوقر علماءنا.

    ولذلك لما ذهب أحمد بن حنبل إلى الحج، أراد أن يذهب ليسمع الحديث في صنعاء من عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فلما قدم صنعاء ماشياً على قدميه وانقطع عنه الزاد في الطريق عمل حمالاً وأكل من أجرة الحمل، حتى بلغ صنعاء، فلما دخل صنعاء سأل عن بيت عبد الرزاق فقال التاجر أو البقال: هو هذا. فلما أراد أحمد أن يطرق الباب قفز البقال إلى أحمد وهو يقول له: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أخبره أني أتيت من بلاد بعيدة. قال: أوتجرؤ على ذلك؟ والله لا يجرؤ أن يطرق بابه أحد من اليمن، فانتظر أحمد حتى خرج إلى الصلاة فمشى بجواره وسلم عليه - عبد الرزاق شيخ كبير وأحمد بن حنبل لا يزال شاباً لم تنبت لحيته- فقال: أنا أحمد بن حنبل ، فتوقف عبد الرزاق وقال: أبالله عليك! أأنت أبو عبد الله البغدادي أحمد بن محمد بن حنبل قال: اللهم نعم. قال: فأقبل عليه عبد الرزاق يقبله ويهوي أن يقبل يده. هذا الشيخ العظيم يريد أن يقبل يد طالب علم وهو أحمد بن حنبل الذي كتبت له الإمامة وهو لا يزال طفلاً صغيراً قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره.

    هذا الذكر والثناء الجميل ليس من فراغ بل عمارة للقلب بين العبد وبين ربه، وطلب بجد للعلم الشرعي، أنت في هذا المكان ربما منذ عشر سنوات أو أكثر من ذلك، فلابد أن تسأل نفسك، ماذا حصلت؟

    الإمام الشوكاني الذي مات في القرن الثاني عشر الهجري، ويعده العلماء من أقل أهل العلم المشهورين طلباً للعلم كان يحضر أحد عشر درساً في اليوم الواحد، ونحن في هذا الوقت نحضر أحد عشر درساً ليس في الشهر بل في الشهرين وربما أكثر، وتأتي تكلم الأخ فيقول لك: أنا لي فترة طويلة ممتنع عن الدروس. هل وجدت البغية في شيء آخر؟ هذا العلم أشرف مطلوب يمكن أن يطلبه الناس، ولا شبهة فيه، فكل عمل يعمله المرء فيه شبهة، أو لا يخلو من شبهة إلا طلب العلم، لكن له عدة: الإخلاص، والجد، والمثابرة، والمصابرة، والسهر بالليل، والمراجعة، والمذاكرة، والحفظ، وتقوى الله، والعمل بهذا العلم، وغير ذلك من عدة أهل العلم.

    فحينئذ عبد الرزاق قال له: يا أحمد ! إننا نعتمد في الإنفاق في هذه البلاد على الغلة. يعني: على المحصول الذي يخرج لنا في كل عام، وإني قد قسمت غلتي بيني وبينك. قال أحمد : والله لو أخذتها من غيرك لأخذتها منك. يعني: أنا ما أتيت إلا لطلب العلم، فكان عبد الرزاق إذا فرغ من مجلسه خص أحمد بالروايات، فكان يكتب عنه مئات الأحاديث في المجالس حتى أخذ ما عند عبد الرزاق من علم ثم انصرف إلى بغداد، وهو شاب في مقتبل العمر.

    قال مالك : لقد أجازني سبعون من أهل المدينة -أي: من أهل العلم للتدريس والإفتاء- وأنا دون السابعة عشر.

    قال: [حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ].

    و معمر هو ابن راشد البصري هو من البصرة أصلاً، لكن العلماء دائماً يقولون هكذا، معمر بن راشد البصري الصنعاني ؛ لأنه وإن كان في الأصل بصرياً إلا أنه تحول بعد ذلك إلى صنعاء، فقال عبد الرزاق : إن معمر قد أتانا ونريد أن نؤثره. أي: يكون أثيراً عندنا، ففطن لذلك أحد الحاضرين فقام وقال: أنا أزوجه ابنتي، فعقد النكاح في هذا المجلس، ودخل معمر على امرأته وصار صنعانياً يمنياً، فمكث في اليمن، وكان عالم اليمن في زمانه، وعبد الرزاق ثمرة من ثمرات معمر بن راشد البصري .

    [ عن همام بن منبه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة غير أنه قال: (كلهن مثل حرها) ].

    أي: كل أجزاء النار درجة حرها مثل حر نار جهنم.

    شرح حديث: (كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة ...)

    [حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا خلف بن خليفة ، حدثنا يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة].

    هناك في طبقة التابعين اثنان كل واحد منهما يكنى بـأبي حازم أحدهما يروي عن أبي هريرة والثاني: يروي عن سهل بن سعد الساعدي. أما الذي يروي عن سهل بن سعد فهو سلمة بن دينار، والذي يروي عن أبي هريرة هو سلمان مولى عزة .

    [ قال أبو هريرة (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة)]. وجبة: سقطة، كأن شيئاً سقط من السماء، فأحدث دوياً وزلزالاً.

    [ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم) ].

    هكذا أدب الصحابة رضي الله عنهم حتى وإن كانوا يعلمون، كانوا دائماً يردون العلم إلى الله ورسوله، وهذا في حياة الرسول، وإلا فمن الخطأ في الاعتقاد: ما يتعاطاه الناس فيما بينهم: أنك تسمع الرجل الآن يقول: الله ورسوله أعلم. والصواب أن يقول: الله أعلم. أما (الله ورسوله) فهذا في زمان الرسول وفي حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.

    والنبي عليه الصلاة والسلام يسأل معاذ بن جبل : (يا معاذ أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم). وهو يعلم. أم كيف أسلم؟ فقضية الإيمان والتوحيد كانت عندهم قضية محسومة معروفة.

    ويسألهم في عرفة: (أتدرون في أي يوم أنتم، في أي شهر أنتم، في أي بلد أنتم؟ وهم يقولون: الله ورسوله أعلم). وهذا من الأدب.

    أما الآن لو أن شيخاً سأل سؤالاً، أو رجلاً من أهل العلم سأل سؤالاً وحوله عشرة من الطلاب لسمعت اثنا عشرة إجابة. ولو أن واحداً سأل سؤالاً، لأجاب كل واحد من الواقفين بإجابة أو إجابتين، ولا يزال الشيخ بعد لم يتكلم. أهذا أدب؟! أهذه أخلاق؟! كان الواحد منهم إذا سئل وجبر على السؤال لا يتكلم، ويزعم أنه لا يعرف شيئاً ولا يحسن شيئاً، أما الآن فتجد الطالب جاهلاً وراسباً في الإعدادية، ومع هذا لا يفلت منه سؤال وكلها إجابات بالهوى، وبالرأي، وبالذوق، والوزن، أما في التأصيل العلمي فليس عنده شيء، ومع هذا فهو جريء: (أجرأ الناس على الله أجهلهم بالله) ولو أن المرء تعلم العلم وتعلم معه الأدب لهرب دائماً من موطن المسئولية.

    وهذا ابن أبي ليلي كان يقول: أدركت مائة وعشرين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم كان إذا سئل في مسألة ود أن أخاه كفاه، وإذا سئل في حديث ود أن أخاه كفاه، فكان الداخل يدخل فيسأل الأول، فيحيله إلى الثاني، والثاني إلى الثالث، حتى يسأل المائة وأكثر من ذلك فيرجع بها إلى المسئول الأول، فلا يجد بداً إلا أن يتكلم فيتكلم حينئذ.

    وكذلك الذي نقوله في الإفتاء والتدريس نقوله في القضاء، وفي الفصل في الخصومات والمنازعات، هذا سفيان الثوري إمام الحديث، وإمام الفقه في الكوفة حمله الوالي أن يتولى القضاء فاحتال حيلة ليخرج من ذلك.

    وفي هذا الوقت لما يقولون: هناك منصب قضاء، نريد من يتولى قاضي المحكمة الجنوبية في الجيزة، فستحصل الرشوات بمئات الآلاف، ودعايات وإعلانات بمئات الآلاف وغير ذلك من المخالفات الشرعية، وكل ذلك ليجلس على مكان يحكم فيه بغير ما أنزل الله، وهذا بلاء آخر، والأصل فيه أنه هو البلاء الأول.

    أما سفيان الثوري لما أرغم على قبول القضاء أنزل اللعاب من فمه لكي يقال أنه لا يصلح لذلك، وأنه معتوه. ففهم الوالي ذلك فقال له: مهما عملت فلابد وأن تكون قاضياً. فقال: دعني أستخير ربي وأنظر في أمري. قال: لك ذلك. سترجع إلينا ثانية يا سفيان ؟ قال: نعم. فخرج سفيان بدون حذاء ثم رجع مرة أخرى إلى مجلس الوالي، فأخذ نعله وانصرف. فقال أحد العلماء الحاضرين: يا أيها الولي لا يرجع سفيان. قال: لقد وعدنا أنه سيرجع. قال: لقد ترك حذاءه ورجع فأخذه. فهذا هو ما قصده سفيان .

    وإننا في هذا الوقت لو عرضنا أفعالنا وأقوالنا على أفعال السلف وأقوالهم، لوجدنا اختلافاً كبيراً، الواحد لما يعرض أقوله وأعماله على أقوال وأعمال السلف يجد نفسه صفراً، ويوقن بالهلاك ويوقن بالنار لولا رحمة العزيز الغفار سبحانه وتعالى.

    قال: [ (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة) ]. أي: سقطة.

    [ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها) ].

    أي: حجر ألقي في نار جهنم منذ سبعين عاماً فهو يهوي في النار إلى الآن، وهذا يدل على بعد قعر جهنم، ولذلك فإن المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر لو سمعوا هذا وعلموا أنهم في الدرك الأسفل من النار لراجعوا أنفسهم ألف مرة. المنافقون في هذا الزمان أمرهم أهون من المنافقين في زمن النبوة؛ لأن الإنسان إذا أراد أن ينافق لمصلحة أو لشيء من أمور حياته فلا أقل من أن يرده عن نفاقه رؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم، أنا لا أدري كيف حال المنافقين في زمن النبوة، رجل يرى النبي عليه الصلاة والسلام، ويرى نور الوحي، ويشاهد نزول الوحي عليه عليه الصلاة والسلام، ويعلم أن الله أخبر نبيه أن فلاناً بعينه منافقاً، كيف يقبل على نفسه النفاق حينئذ؟!

    والذي أحدث النفاق هذا هم اليهود، ولذلك لا تجد عابد وثن أو صنم قط منافقاً، فالمنافقون لم يكن لهم ظل ولا ذكر في مكة، ولا يوجد أحد قال: أنا سأترك عبادة الأصنام نفاقاً أو رياء أو تحت أي مسمى، وإنما ترك اليهود دينهم ظاهراً واعتقدوه باطناً؛ لمحاربة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتنبه دائماً لليهود وكان يحذر منهم أكثر من حذره من المشركين وعبدة الأصنام ولم يثبت على مدار التاريخ أن اليهود التزموا بميثاق أو عهد، أما المشركون فكانوا رجالاً، كانوا لا يقبلون أي باب من أبواب الخسة، وهذا أبو سفيان بن حرب لما التقى في الشام بـهرقل الروم، وسأله عن محمد عليه الصلاة والسلام وكان مشركاً في ذلك الوقت، فقال أتباع أبي سفيان بن حرب : لم يكذب كذبة. لأن كل إجاباته صحيحة سليمة، تدل على أن هذا هو النبي الحق، نبي آخر الزمان، فالجماعة الذي معه قالوا له: ألا تقول أي شيء كذباً؟ فالصدق سيبين لـالهرقل أن محمداً على حق، وأنه نبي آخر الزمان، فقال أبو سفيان وهو مشرك: لولا أني أخشى أن تعدها علي العرب كذبة لكذبت. فهو خائف أن تعيره العرب بعد هذا بأنه كذب.

    أما في هذا الوقت فإن أطول لحية ربع حياته كذب، وغش، وتدليس، وتمويه، وخداع. أليست هذه حياتنا وهذا واقعنا؟ نحن لم نصل بعد إلى أخلاق المشركين في الجاهلية، فهذا يحتاج منا إلى وقفة ومراجعة!!

    قال: [ حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر ].

    ابن أبي عمر هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني من عدن اليمن، انتقل إلى مكة ولازم سفيان بن عيينة مدة طويلة من الزمان تبلغ عشرين عاماً، أخذ عنه العلم، فإذا قال ابن أبي عمر : حدثنا سفيان فهو سفيان بن عيينة .

    قال: [ قالا: حدثنا مروان عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة ].

    وأبو حازم هنا هو سلمان مولى عزة .

    وأهل العلم البارزين دائماً يكونون في الصفوف الأولى، ولذلك لما أتى كعب الأحبار وجلس في مجلس عمر في آخر المجلس فقال أمير المؤمنين: يا كعب ائتنا واجلس هاهنا. فقال: يا أمير المؤمنين! لمجلس يقام عنه العبد شر من مجلس لا يقام عنه العبد. فإذا أتيت وجلست أمامك وأتى من هو خير مني قلت: يا كعب قم لمن هو خير منك.

    فطالب العلم المجد مكانه في الأول، وهذا أمر مسنون، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى). أي: يكن خلفي مباشرة في الصلاة، ألوا الأحلام والنهى.

    ولو أن العلماء وطلبة العلم تأخروا ولم يقف خلف الإمام إلا الجاهل وحدث للإمام حادث في الصلاة فسيخلفه الجاهل.

    ولقد حدثت معي مرة ما وجدت واحداً قط أقدمه؛ لأنني نظرت في الناس فوجدتهم كلهم مثل بعض، فقدمت واحداً فقال لي: لا والله -ونحن في الصلاة- فقلت: هذا أفضلهم. فكيف بالبقية.

    [عن أبي حازم عن أبي هريرة بهذا الإسناد. وقال: (هذا وقع في أسفلها، فسمعتم وجبتها)] أي: فسمعتم صوتها وجلبتها.

    شرح حديث: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه...)

    قال: [ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن -وهو النحوي- قال: قال قتادة: سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه) ].

    قتادة مدلس، والمدلس إذا قال: قال فلان، أو عن فلان فلا يؤمن منه التدليس، والتدليس من أخطر العلل، التي يمكن أن تصيب الإسناد، وهناك علل تصيب الراوي، وعلل تصيب الإسناد نفسه، وهناك علل إذا اجتمعت في الراوي أو انفردت فيه أصابت الراوي نفسه، وقد يكون الراوي ثقة، لكنه يأتي بعلة تصيب الإسناد مثل التدليس، فالتدليس هذا من العلل التي تصيب الإسناد ولا تصيب الرواة؛ لأن الراوي يكون ثقة ومدلساً.

    وتدليس الإسناد: هو أن يقول الراوي: قال فلان أو عن فلان، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، ولا أنبأنا. لا يأتي بصيغة تفيد السماع، وإنما يأتي بصيغة تحتمل السماع كقال، وعن، وهو يقصد أن فلاناً قال هذا، لكنه لم يلق فلاناً الذي قال هذا الحديث، ولم يسمع منه هذا الحديث وإنما قال: قال فلان؛ حتى يوهم السامع أنه قد سمع وليس كذلك، وهذا تزييف، والراوي يروي عمن لقيه وسمع منه، ولكنه في هذا الإسناد بالذات روى عنه ما لم يسمع عنه بصيغة تحتمل السماع. إياك أن تقول: (بصيغة تفيد السماع)، فـ (قال، وعن)، توهم ولا تفيد، فتوهم الناس أنك قد سمعت منه وليس الأمر كذلك، هذا نوع من أنواع التدليس.

    النوع الثاني: اسمه تدليس التسوية، يأتي الراوي الثقة المشهور بنوع معين من التدليس اسمه تدليس التسوية.

    قال: [ يحدث عن سمرة أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه)] يعني: منهم من تصله النار إلى الكعبين.

    قال: [ (ومنهم من تأخذه إلى حجزته) ].

    وفي رواية: (إلى حقويه). والحجز أو الحقو هو مقعد الإزار والسراويل من البدن، وهو العظمة الناتئة في الجنبين، اسمه الحجز، أو الحجاز الذي يحجز ما بين أسفل البدن وأعلاه، فالنار تبلغ العبد إلى هذا المبلغ، أو تبلغ إلى كعبيه، أو ركبتيه.

    قال: [ (ومنهم من تأخذه إلى عنقه) ].

    يعني: تبلغه النار إلى العنق، وهذا في موقف الحشر والحساب، وذلك العرق قبل دخول النار، يوم يخرج الناس من الأجداث سراعاً إلى أرض المحشر وتدنو الشمس من الرءوس حتى تكون منهم على قدر ميل. قال الراوي: إما أن يكون الميل هو ميل الأرض -أي: المسافة- وإما أن يكون الميل هو المرود الذي تكتحل به المرأة. فهذا يسمى ميلاً في اللغة. يوم تدنو الشمس من الرءوس فيكون الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم إلى عنقه حتى يلجمه العرق إلجاماً كل هؤلاء في موقف واحد، وفي أرض واحدة هي أرض المحشر، فانظروا إلى عظيم صنع الله عز وجل وعظيم قدرة الله تعالى، أنك تقف في العرق إلى كعبيك ومن بجوارك يلجمه العرق إلجاماً، لا يبغي عرقه عليك، ولا يبغي عرقك عليه، كل واحد في عرق على قدر عمله هو، وإذا كان العرق هذا ماء يسيل، فالله عز وجل يركب فيه القدرة ويأمره بأن لا يسيل، فيمتثل، والعرق مخلوق ولا بأس أن يركب الله تعالى فيه تمييزاً ليتلقى الأمر ويعمل به في ذلك الوقت، وفي هذا الوقت ليس هناك مخلوق يخالف الأمر أو يرتكب النهي، ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي الناس إلى ربهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً). والغرل هو الذي لم يؤخذ من عضوه هذه القطعة الزائدة التي تسمى الختان أو الخفض عند النساء، كل إنسان يرجع إلى ربه كاملاً حتى هذا الجزء الدقيق الذي يختن من البدن يرجع إليه ويأتي إلى ربه كما خلقه أولاً، حينئذ قالت عائشة : (يأتون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! قال: يا عائشة الأمر أشد من ذلك). يعني: لا يمكن لأحد أن يفكر فيما تخافين منه. لا يمكن أن يخطر ببال أحد. إذا كان المرء في هذه الدنيا لو نزلت عليه مصيبة أو أصابه مرض لا يجامع، ولا يأكل، ولا يشرب، وتصبح حياته كلها مقلوبة، فكيف بمن يقابل الملك الجبار الذي ينتقم من الجبابرة والظلمة؟ لو يعلم الظالم ما عند الله من العذاب لتمنى أن يكون تحت الأرض وليس فوقها.

    شرح حديث: (... ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)

    قال: [حدثني عمرو بن زرارة ، أخبرنا عبد الوهاب -يعني ابن عطاء- عن سعيد ، عن قتادة ].

    إذا كان الراوي غير منسوب ومسمى فقط هكذا (سعيد) عن قتادة فاعلم أنه سعيد بن أبي عروبة البصري. إذا كان في الإسناد البصري سعيد عن قتادة فهو سعيد بن أبي عروبة البصري فهو أروى الناس وألزم الناس لـقتادة. وإذا ذكر قتادة وعنه سعيد فإنما هو أبو عروبة وقتادة هو ابن دعامة السدوسي البصري ، والعرب كانوا يتسمون من وحي البيئة، فمنهم من كان يسمى بأسماء الحيوانات، والطيور، والنباتات والأشجار، فالدعامة هي الأصل التي هي الخرسانة، تقول: هذه دعامة البيت.

    قال: [ سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته) ].

    الترقوة هي العظمة بين ثغرة النحر والعاتق. وهي هذه العظمة التي بجوار الرقبة كما في الرواية الأولى: (ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه) والعنق هو الرقبة.

    [ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا: حدثنا روح -وهو روح بن عبادة- حدثنا سعيد بهذا الإسناد ].

    أي: بنفس السياق الأول، وهو سعيد ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن سمرة .

    [ وجعل مكان حجزته: حقويه ] حَقويه أو حِقويه في الرواية صحيح.

    1.   

    باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء

    (الباب السادس عشر: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء).

    النار يدخلها الجبارون المتكبرون، والجنة يدخلها الضعفاء، والضعف له معان كثيرة سنتعرض لها إن شاء الله.

    شرح حديث أبي هريرة في احتجاج النار والجنة

    قال: [حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتجت النار والجنة) ].

    احتجت: يعني: تخاصمتا، كل واحدة تكلمت بما عندها.

    [ (احتجت النار والجنة فقالت هذه -أي النار-: يدخلني الجبارون والمتكبرون. وقالت هذه -أي الجنة- يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله عز وجل لهذه -أي للنار-: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء)]. وربما قال: (أصيب بك من أشاء)] والإصابة تكون في الخير والشر.

    [ (وقال لهذه -أي للجنة-: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها) ].

    (ولكل واحدة منكما). أي: الجنة والنار. (ملؤها) يعني: لابد أن تمتلئ الجنة والنار، فقد خلق الله تعالى الجنة والنار وجعل لك منهما قسماً وقال: (يا أهل النار خلود بلا موت، ويا أهل الجنة خلود بلا موت).

    قال: [ وحدثني محمد بن رافع حدثنا شبابة -وهو ابن سوار- حدثني ورقاء -وهو اليشكري، كما أن شبابة يشكري كذلك- عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) ] يعني: يدخلني الجبارون والمتكبرون.

    [ (وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها) ]. يعني: لابد أن تمتلئان.

    [ (فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط) ] أي: قد امتلأت كفى، حسبي.

    [ (فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض) ] يعني: ينظم بعضها إلى بعض حتى تمتلئ تماماً على من فيها وبمن فيها.

    كلام النووي في شرح حديث احتجاج الجنة والنار

    قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت النار والجنة..) إلى آخره. هذا الحديث على ظاهره، وأن الله جعل في النار والجنة تمييزاً تدركان به فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائماً).

    والجنة والنار الأصل أنهما ليستا عاقلتين، لم يكن لهما إدراك ولا تمييز ولا عقل، ومع هذا تخاصمت الجنة مع النار، وهذا يدل على أن الله تعالى يجعل في موقف هذه الخصومة إدراكاً وتمييزاً للجنة والنار حتى يتكلمان، فتقول الجنة: إنما يدخلني الضعفاء والمساكين، والعجزة، والسقط من الناس. ويجعل الله للنار إدراكاً حتى تتكلم، وهذا ليس بعزيز على الله. وأنتم تعلمون أنه قد تكلمت الجمادات والحيوانات والطيور والسباع منذ الأزل، منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا كرامة من الله عز وجل لبعض عباده، كما تكلم الطير والهوام والحشرات والدواب، حتى الريح تكلمت لسليمان عليه الصلاة والسلام، وتكلمت الجمادات للنبي عليه الصلاة والسلام حتى تكلم البعير الذي لا يتكلم، واشتكى صاحبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    فحينئذ لا بأس أن يركب الله عز وجل إدراكاً وتمييزاً حتى تحصل المحاجة أو المناظرة بين الجنة والنار وليس هذا ببعيد على الله، فالله تعالى على كل شيء قدير.

    قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟). أما (سقطهم) فهم الضعفاء المتحقرون منهم. الذين لا يأبه لهم الناس كالعامل والخادم، فقد يكون الخادم عند الله أشرف وأفضل من المدير العام بصلاته وصيامه، وزكاته، وحسن خلقه، وأثقل شيء يوضع في الميزان هو حسن الخلق، فمثلاً: المدير العام متغطرس، متكبر، لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، معه عامل يمسح له المكتب يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، ولديه حسن الخلق، فهو أفضل عند الله من المدير العام، ولذلك سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه عن رجل شريف في القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون هذا عندكم؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح أن ينكح، وإذا تكلم أن يسمع، وإذا دخل أن يقام له. فمر آخر، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع، وإذا دخل لا يأبه له. قال: والله لهذا خير من ملئ الأرض من ذاك). يعني: الذي ترونه ضعيفاً متضعفاً مسكيناً وليست له قيمة في المجتمع، هذا عند الله في الميزان أثقل من ملء الأرض ممن أثنيتم عليه خيراً، فالموازين الشرعية تختلف عن موازين العباد.

    قال: (فالسقط: هم الضعفاء والمتحقرون منهم. والعجز: جمع عاجز. أي: العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة). يعني: ليس هو لواء، ولا عميد، ولا عقيد، ولا غني، فهو إنسان ضعيف فقير، لا قيمة له في المجتمع في نظر الناس، فهذا هو العاجز. أي عجز عن طلب الدنيا والتمكن فيها، والثروة والشوكة، وفي رواية قال: (وغرتهم). وهم أصحاب الحاجة، والفاقة، والجوع، وفي راوية: (الغرث) وهو: الجوع. وغرتهم: هم البله الغافلون، جمع أبله غافل، وهم الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا، والذي يطلب الدنيا ويكون حاذقاً فتقاً فيها على حساب دينه أعد الله له النار، وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله). ولكنه حديث ضعيف. قال: (وقال القاضي : معناه أن سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون، فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة وهم ثابتو الإيمان، وصحيحوا العقائد، وهم أكثر المؤمنين، وهم أكثر أهل الجنة).

    والمعتزلة هؤلاء أهل كلام وفلسفة، وما أضل المعتزلة إلا ترجمة كتب اليونان من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون. يعني: كانت الترجمة هذه سلاح ذو حدين أعظمها الضلال؛ ولذلك لما ترجمت هذه الكتب إلى العربية تأثر كثير من المسلمين بفكر اليونانيين فبدءوا يحكمون عقولهم في الشرع حتى قدموا العقل على النقل فضلوا، ولابد أن يضل الإنسان الذي تخلق بهذا الخلق، ولذلك لما حار كثير منهم في طلب الحق وهو على فراش موته قال: أبرء إلى الله من كل ما قلت، وأرجع إلى دين العجائز. وذلك لأنه قدم عقله على الشرع، فكان يختار من العبادة ما يزكي له هذا المبدأ وهذا الأصل؛ لأنه ترك الشرع وراء ظهره، فتمنى وهو على فراش الموت أنه لم يترك الشرع، وهذا هو الفخر الرازي إمام كبير يقول وهو على فراش الموت: أبرء إلى الله من كل قول أو فعل عملته أو فعلته مخالف للسنة وأرجع إلى دين العجائز. يعني: يا ليتني على عقيدة أمي وجدتي وأبي الذين لم يكن لهم شيء في العلم، ولا يعرفون أي شيء عن هذه الأشياء.

    وأنتم تعلمون أن التلفزيون دمر عقائد العجائز، وعقائد الفلاحين، وعقائد الصعايدة، وعقائد طلاب العلم.

    قال: (وهم أكثر أهل الجنة، وأكثر المؤمنين. وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات) فعامة أهل الجنة هم عامة المؤمنين، وأصحاب الدرجات العلى أهل العلم، والشهداء، والصالحون، والعباد، والقراء وغيرهم.

    شرح حديث: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله)

    قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم) ]، أي: أصحاب الحاجة أو البله.

    [ (قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً) ].

    قوله عليه الصلاة والسلام: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله) جاء في في رواية: (قدمه) وفيه إثبات القدم والرجل لله سبحانه.

    وقوله: (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً). أي: يخلق خلقاً جديداً لم يسبق بخلق من قبل.

    والفوائد التي في هذا النص ما يلي: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أثبت لربه أن رجلاً، وأن له قدماً، وقد استنكف كثير من أهل العلم أن يؤمنوا بهذا على ظاهره وقالوا: إثبات الرجل والقدم لله تعالى تعني الجارحة، والله تعالى منزه عن الجوارح، والموصوف بها هم الخلق، وإذا أثبتنا الرجل على الحقيقة لله فإنما نقول: إن الله تعالى شبيه بخلقه حاشا لله تعالى. والأصل الأصيل عند أهل السنة والجماعة في باب الاعتقاد، وفي باب الصفات على جهة الخصوص: أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على المعنى اللائق بالله تعالى من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تأويل. هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وهو المعتقد الحق وكل من اعتقد في صفات الله تعالى غير ذلك فهو من الفرق الهالكة الضالة.

    والله تعالى له ذات، ولا يجوز لأحد قط أن يخالف في ذلك. وقال بعض الثنوية: الله تعالى ليس ذاتاً وإنما هو نور. وإنما نقول: إن من أسماء الله تعالى النور، وإذا كنا قد اتفقنا أن الله تعالى ذاتاً فليس هناك ذات مطلقاً إلا ولها صفات، فمن من الناس يستطيع أن يصرف ذات الله؟ الجواب: لا أحد، فهذان أمران لا ثالث لهما، أنا لا أستطيع أن أصف شيئاً إلا رأيته أو رأيت له مثيلاً. فهل رأى أحد ربه؟ الجواب: لا. الثاني: هل أحد يشبه الله ويماثله ويكافئه؟ الجواب: لا.

    إذاً: لا يستطيع أحد أن يصف الله تعالى، وإنما يجب على كل أحد أن يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات وأسماء على المعنى اللائق بالله تعالى، فإذا كانت هذه الذات تختلف بالضرورة والوجوب اللازم على ذوات المخلوقين، وإذا كانت ذوات المخلوقين مختلفة، فلي ذات وأنت لك ذات، لكني أبيض وأنت أسمر، أنت أطول وأنا أقصر، أنت متين وأنا نحيف، فهذه اختلافات في ذوات المخلوقين، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى، وكيف بصفات الخالق، فلابد أن نقول: إن لله تعالى صفات تختلف عن صفات المخلوقين، فأنا لي رجل، وللمولى سبحانه رجل، لأنه ورسوله عليه الصلاة والسلام أثبتا ذلك. إذاً: لابد أن أسلم أن للمولى عز وجل رجل وأن لي رجلاً، لكن شتان ما بين رجل الرحمن ورجلي، ما بين رجل الخالق ورجل المخلوق، لأن الصفات فرع عن الذات، فإذا كانت الذات مختلفة فلابد أن تختلف الصفات، فأقول: الله تعالى له رجل تختلف عن أرجل المخلوقين، له رجل تليق بعظمته وجلاله وكبريائه سبحانه وتعالى.

    ثم هل ثبت في نص أن لله تعالى رجلين، أو ثلاثة، أو أربعة أو واحدة؟ هل ثبت نص في ذكر رجلين لله تعالى أم واحدة؟ أنا لا أستطيع تصور الكلام هذا، فالخالق لا يقاس بالمخلوق، وهذا ممتنع في الأذهان أن تنزل صورة الرحمن على صورتك، فإثبات الرجل لله تعالى كما أثبتها لنفسه، هذا هو منتهى الكمال لله عز وجل، والمخلوق الذي له رجل واحدة يكون فيه عجز ونقص وعيب، لكن إثبات هذه الرجل الذي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام هذا منتهى الكمال لله عز وجل.

    والله تعالى له عينان كما جاء ذلك في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، فلا يصح في الأذهان أن أتصور أن الله تعالى له عينان كعيني وهما في نفس الموضع من الوجه كما أن عيني في نفس الموضع من الوجه، والذي يصح مني أن أثبت أن لله تعالى عينين وتنتهي قضيتي عند هذا الحد، لا أقول: المقصود بهما الرعاية والإحاطة، والمحافظة على العباد، والقيام على شئونهم، فهذا تأويل النص وخروج به عن ظاهره. وإن شئت فقل: هذا ما يسميه العلماء بالتعطيل. أي: تعطيل الذات عن الصفات.

    والله عز وجل أثبت لنفسه الوجه، فلا يستطيع أحد أن يثبت أن لله تعالى أنفاً، فهذا إجرام في حق الله تعالى؛ لأنه لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: في النهاية لابد أن أخرج بنتيجة وهي: أن ذات الله غير ذوات المخلوق، ومتصف بصفات تختلف عن بقية الصفات، وأنا لما أومن بذلك حق الإيمان من قلبي أشتاق جداً للقاء ربي من أجل أن أراه، فأجتهد بالعبادة، وأجتهد في العلم والعمل من أجل دخول الجنة ورؤية الله في كل أسبوع مرة في يوم المزيد وهو يوم الجمعة، يوم يجتمع الناس في ساحة الجنة فيتجلى لهم ربهم فيزيدهم من نوره، فيرجعون إلى الحور العين في الخيام فيقلن لهم: أين كنتم؟ والله لقد ازددتم بعدنا نوراً وضياء. فيقولون لهن: وأنتن والله ما ازددتن بعدنا إلا نوراً وضياءً هذا الرحمن قد أفاض علينا من نوره سبحانه وتعالى.

    وقد خاض الناس في قوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يضع الجبار رجله فيها)، قالوا: المقصود بها قوم أسمهم رجل، ولكن الحق ما عليه أهل السنة والجماعة من أن لله سبحانه وتعالى رجلاً على الحقيقة، ولكنها تليق بجلاله سبحانه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755952735