فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
[ قال أبو هريرة : (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول، فعظّمه وعظّم أمره) ].
والغلول: نوع من أنواع السرقة، لكنه ليس بالسرقة التي يقام عليها حد القطع؛ لأن الذي يغل هو الذي يأخذ من مال الغنيمة قبل توزيعها على الجند المقاتلين، وله فيها حظ ونصيب؛ ولذلك لم يأمر الشرع بقطع يد الغال لهذه الشبهة. شبهة أن له في هذا المال نصيباً كالذي يسرق مالاً مشتركاً بينه وبين شريك له مع أنه سارق، لكن لا تقطع يده، لقيام الشبهة. والحدود تدرأ بالشبهات، فهذا الذي سرق مالاً له فيه شريك لا يقام عليه الحد؛ لأن له في هذا المال حظاً وملكاً، وهذا الحظ والملك يسمى في الشرع شبهة، تُدرأ بها الحدود فلا تقطع يده. فالغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن يقسمها الإمام.
ولا شك أن ثبوت الحظ فيها لهذا الغال؛ لكونه من المقاتلين يدرأ عنه الحد، لكن له عقوبة أخرى كما أن النصّاب له عقوبة أخرى. المحتال لأخذ المال له عقوبة، والسارق من الحرز له عقوبة، وإن كان يصدق على كل هؤلاء اسم السرقة، لكن لكل واحد منهم تصنيف: هذا سرقة، وهذا غلول، وهذا نصب واحتيال.. إلى غير ذلك من التصانيف الشرعية للفعل الواحد.
ولذلك أُسندت إقامة الحدود إلى السلطان لا إلى الأفراد؛ لأن الأفراد ليس عندهم التأهيل العلمي لجعل كل سرقة في مكانها، وإنما يعدون كل أخذ أموال الغير بغير حق سرقة ونصباً واحتيالاً، وربما لا يفرّقون بين العقوبات، فيقطعون يد كل من أخذ مال الغير حتى وإن كان عن طريق النصب، والنصب له عقوبة أخرى ليست هي القطع، والاحتيال كذلك، والغلول كذلك، وإن كان الكل يشترك في معنى واحد وهو أخذ أموال الغير بلا حق ولا بيّنة.
قال: [ (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره).
أي: ذكر أنه أمر عظيم شنيع جداً. ليس معنى (فعظّمه): أنه أمرٌ عظيم شريف. وإنما معناه: فعظّم أمره جداً، وهوّله جداً، وخوفنا منه جداً.
قال: [ (ثم قال: لا ألفين) ] أي: لا أجد. وفي رواية: [ (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء) ] يعني: حذار أن أجد أحداً منكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير قد حمله.
قال: (له رغاء) والرغاء: اسم لصوت البعير [ (يقول: يا رسول الله! أغثني -أي: اشفع لي الآن- فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك) ] أي: أنا من قبل في الحياة الدنيا قد حذّرتك.
قال: [ (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة -الحمحمة: هي صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء -وهو اسم لصوت الشاة- يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح) ] النفس لفظ عام، فربما سرق من الأسرى واحداً، أو من الإماء واحدة، وربما يكون المعنى أعم من ذلك.
وحدثني أبو بكر بن أبي شيبة -وهو عبد الله بن محمد بن إبراهيم الكوفي المعروف بـأبي بكر- قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ] وهو الكناني المعروف بـأبي علي الأشل وهو مروزي الأصل، نزل الكوفة وله تصانيف مفيدة جداً.
[ عن أبي حيان ] وهو يحيى بن سعيد بن حيان الذي تقدم في الإسناد السابق.
[ (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد البجلي الضبي - عن أبي حيان وعمارة بن القعقاع -هو ابن شبرمة الضبي الكوفي - جميعاً -أي: أبو حيان وعمارة يرويان- عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل حديث إسماعيل بن علية السابق عن أبي حيان .
وحدثني أحمد بن سعيد بن صخر الدرامي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد -وهو ابن زيد البصري- عن أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري عن يحيى بن سعيد -أي: يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان - عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظّمه) واقتص الحديث -أي: وساق الحديث بسياقه الأول- قال حماد: ثم سمعت يحيى -أي: يحيى بن سعيد بن حيان بعد ذلك يحدثه، فحدثنا بنحو ما حدثنا عنه أيوب ].
فكأن حماد يقول: سمعت هذا الحديث من شخصين: من أيوب ومن يحيى بن سعيد بن حيان أبي حيان .
قال: [ وحدثنا أحمد بن الحسن بن خراش - البغدادي أبو جعفر وهو خراساني الأصل من خراسان- حدثنا أبو معمر - وهو عبد الله بن عمرو المنقري المقعد -حدثنا عبد الوارث -وهو ابن عبد الصمد البصري - حدثنا أيوب عن يحيى بن سعيد بن حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم ].
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال: هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول)، ومعنى: غلظ. أي: ينقله من كونه صغيراً إلى الكبير. أي أن كلمة الزجر الشديد أو علامة الزجر الشديد أمارة على أن الفعل المنهي عنه كبيرة من الكبائر، كما لو جاء في الفعل عقوبة أو وعيد بالنار أو العذاب أو البراءة أو اللعن، فكون هذا علامة على أن هذا الفعل الذي ترتب عليه هذا الزجر الشديد يدل على أنه كبيرة من الكبائر.
وكذلك من علامة الكبيرة: الحد في الدنيا. وكذلك من علامات الكبيرة: إرجاء العذاب أو العفو إلى يوم القيامة، إلى مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40].
فهذه وغيرها من العلامات لاعتبار هذا الفعل الذي ترتب عليه هذا العقاب أو إقامة الحد في الدنيا دليل على أن الفعل كبيرة؛ لأنه لا حد على الصغائر، وإنما الصغائر فيها التعزير، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، فما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم حداً قط أكثر من عشر جلدات في صغيرة من الصغائر.
قال: (تصريح بغلظ تحريم الغلول، وأصل الغلول في اللغة: الخيانة -والخيانة تصدق كذلك على النصب والاحتيال والسرقة والغلول وغير ذلك- ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة) يعني: أن تقع الخيانة في الغنيمة فهذا اسمه في الشرع غلول، وفي اللغة: غلول وخيانة.
(قال نفطويه : سمي بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه. أي: محبوسة).
أي: حبس الشرع الأيدي أن تمتد إلى هذه الأموال ولو كانت تحت أيديها، ومعنى أن الشرع حبس الأيدي أي: منعها من تناول هذا الشيء على سبيل التملك.
فحينئذ للإمام أن يأخذ هذا المال وأن يقسّمه على فئات معينة وليس على كل فئة؛ ولذلك قال الله تعالى في غزوة بني النضير: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
مرد ذلك إلى أن هذا شيء أخذه النبي عليه الصلاة والسلام من بني النضير دون قتال، -أي: دون قتال يُذكر- ويستحق أن يسمى هذا المال غنيمة، وإنما هو فيء أخذه المسلمون بغير قتال، فكان الفيء موزّعاً على هذه المصارف الخمسة: لله. أي: للمجاهدين وإعداد الجيوش. وللرسول: أي لخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أي: أزواجه، ولذوي القربى أي بني هاشم وبني عبد المطلب؛ لأن الصدقة محرمة عليهم؛ فعوضهم الله تعالى سهماً من أسهم الفيء. ولليتامى. أي: لفقراء اليتامى. وابن السبيل. حتى وإن كان غنياً وانقطع به الطريق فيأخذ حتى يتبلّغ إلى مكانه وإلى ماله. قال: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ [الحشر:7] أي: مالاً متداولاً بين الأغنياء كما كان هذا الأمر في الجاهلية، كانت القبيلة إذا قاتلت قبيلة أخرى وانتصرت عليها أخذوا أموالها ووضعت بين يدي شيخ القبيلة الغالبة المنتصرة، فيأخذ منها الربع حقاً خالصاً له، ثم يأخذ منها ما اشتهته نفسه بعد الربع؛ ولذلك قال شاعرهم:
لك المرباع منها والصفايا.
أي: الربع منها وما يصفو لك منها بعد ذلك على حسب ما تشتهيه نفسك، وأما نحن فلنا الحثالة والباقي، سواء كان قليلاً أو كثيراً على حسب نصيبنا وحظنا، فنهى الإسلام عن هذا وقال: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7] وحينما كان الأمر هذا لا يمكن تقريره إلا بتقوى الله قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:7].
ثم بيّن عاقبة مخالفة التقوى ومخالفة تقسيم الفيء على هذا النحو فقال: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7] أي: إذا لم يكن ذلك منكم على مقتضى تقوى الله والخوف منه فإن الله تعالى شديد العقاب في الدنيا والآخرة.
هذا بالنسبة للفيء، أما بالنسبة للغنيمة فللفارس سهم وللفرس سهمين.
أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة. ومعناه: لا تعملوا عملاً أجدكم بسببه على هذه الصفة.
والرغاء بالمد: صوت البعير، وكذلك المذكورات بعده هي أسماء أصوات لها.
فقوله: (لا أملك لك شيئاً) يعتمد الملاحدة على هذه اللفظة في نفي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لأصحاب الكبائر، ويقولون: لا شفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام. وبلا شك لأول وهلة أن هذه شبهة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد ثبت عنه أنه قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فما باله عليه الصلاة والسلام يتخلى في هذا الحديث عن صاحب الكبيرة ويقول: (اليوم لا أملك لك من الله شيئاً) قد حذّرتك وقد منعتك وخيرتك في الدنيا فلم تطع.
الجواب: يكون ذلك أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وفي أول وهلة إذا طلب منه الواحد -وليست الأمة- أن يشفع له يقول: الآن وفي هذا التوقيت لا أملك لك أنت شخصياً وقد حذّرتك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعتذر عن الشفاعة أولاً، حتى يأتي موعدها العام بأمر الله تعالى. أليس النبي عليه الصلاة والسلام قد قال في حديث الشفاعة: (ثم آتي فأسجد تحت العرش، فأُلهم محامد لم أكن أحمد بها من قبل، فيقول لي ربي تبارك وتعالى: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع)؟ فحينئذ من الذي يأذن له في الشفاعة؟ الله عز وجل. أما في أول الأمر وفي أول البعث والحشر يأتيه فلان أو علان لوقوعه في كبيرة أو في معصية فيقول له: اشفع لي يا رسول الله! فيقول: الآن وفي هذا التوقيت بالذات أنا لا أملك الشفاعة، فالشفاعة لها وقت مخصوص ومكان معلوم ليس هذا أوانها، فاعتذاره عليه الصلاة والسلام عن الشفاعة أولاً لأن هذا ليس وقتها، إنما وقتها يأتي بعد، ثم يشفع في جميع الموحدين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لا في واحد دون الآخر.
والحديث الذي ورد في زكاة العروض حديث ضعيف باتفاق المحدثين، ولكن الجمهور اعتمدوا عليه في مشروعية زكاة العروض.
والقول بالمشروعية يشمل الاستحباب والوجوب؛ ولذلك يهرب كثير من الناس من توصيف زكاة العروض، فيقول: زكاة العروض مشروعة. ولا يقول: مستحبة أو غير ذلك. أما الجمهور فقد ذهبوا إلى وجوب زكاة العروض، واعتمدوا على هذا النص وعلى نص آخر ضعيف، ولكنه صريح في وجوب الزكاة، ويا ليته صح! وذهب الظاهرية إلى عدم مشروعية زكاة العروض، أما جماهير علماء الأمة سلفاً وخلفاً فعلى مشروعية زكاة العروض، واختلفوا فيما إذا كانت واجبة أو مستحبة، فالذي اجتهد في إثبات الحديث قال: بوجوب زكاة العروض. وجمهور أهل العلم قال بأن الحديث فيه نزاع أو هو ضعيف، ولكنه في باب فضائل الأعمال؛ وهو أكبر عون على مواساة الفقراء في مال الأغنياء وغير ذلك، فقالوا باستحباب زكاة عروض التجارة.
إذاً: إثبات الغلول وبعد ثبوته يثبت فيه الغلظ أو التغليظ الشديد في التحريم، فهذا التغليظ يجعل الفعل كبيرة من الكبائر بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبإجماع أهل العلم، وهذه مصادر التشريع المعتبرة، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] نفى الله عز وجل وبرأ صفحة الأنبياء أن يقعوا في مثل هذه الكبيرة أبداً وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161] أي: ما وقع الغلول ولن يقع من نبي قط، ثم قال الله تعالى: وَمَنْ من ألفاظ العموم، وَمَنْ يَغْلُلْ أي: من بقية الناس وبقية الخلق يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] يأت به على هذه الصفة.
إذا غل فرساً يأتي به قد حمله على رقبته له حمحمة، وإذا كان بعيراً له رغاء، وإذا كانت شاءً أو ذهباً أو فضة يأتي بما غل وإن كان شيئاً من جلد يسير، أو عوداً من أراك. يعني: شعيرة يسيرة جداً من ضمن عود الأراك وهو السواك.
قال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه إلى الإمام أو الحاكم كسائر الأموال الضائعة.
وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية والحسن والزهري والأوزاعي ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي).
فالعلماء كافة قالوا بعقوبة الغال.
قالوا: إما أن يتوب إلى الله عز وجل قبل أن يوزع الإمام الفيء أو الغنيمة على الناس، وإما أن تكون التوبة وإرجاع الأموال بعد تفرّق الناس وأخذ كل ذي حق حقه. قالوا: فإن تاب قبل توزيع الغنيمة وقبل تفرق الناس قُبل منه ذلك ويجب على الإمام أن يأخذ منه ما قد غل، أما إذا تفرّق الناس وقد أخذوا غنائمهم وأنصبتهم فقال الشافعي : يدفع مال الغلول إلى السلطان والأمير والحاكم، ويتوب إلى الله عز وجل ولا شيء عليه.
وقال جماهير أهل العلم: يأخذ الإمام الخمس من مصلحة العامة ويتصدق هذا الغال بالأربعة الأخماس الباقية معه، وهذا الرأي هو الصحيح.
أما مذهب الشافعي فضعيف، ومذهب الجمهور يستند إلى حديث ضعيف كذلك، وقد ورد في سنن أبي داود ، أما عمل الأمة في أزمنتها الأولى فبمذهب الجمهور.
فعقوق الوالدين كبيرة عليه عقوبة في الدنيا لكن ليس عليه الحد، وإنما ورد في شأنها الوعيد الشديد، وهذا الوعيد جعلها كبيرة من الكبائر، فكذلك الغلول قد ورد فيه الوعيد الشديد فجعله كبيرة، لكن لم يرتب الشرع عليها حداً.
(فقال الجمهور: يعزّر على حسب ما يراه الإمام، ولا يحرق متاعه). قياساً على مانع الزكاة، وقد ورد في لفظ أن مانع الزكاة يؤخذ منه نصف ماله ويُحرق متاعه، وهو حديث ضعيف. وقيل: صحيح. ولكنه مكروه.
فالقول الأول أنه يعزّر على حسب ما يراه الإمام والسلطان ولا يحرق متاعه. (وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم عدة، أما مكحول والحسن والأوزاعي فقالوا: يُحرق رحله ومتاعه كله).
فـالأوزاعي قال: (من غل أُحرق متاعه إلا السلاح والثياب التي يلبسها.
وقال الحسن : إلا الحيوان والمصحف.
واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر في تحريق رحله. قال الجمهور: وهذا حديث ضعيف؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم وهو ضعيف.
قال الطحاوي : ولو صح يُحمل على أنه كان إذا كانت العقوبة بالأموال كأخذ شطر المال من مانع الزكاة وضالة الإبل وسارق التمر، وكل ذلك منسوخ، والله أعلم).
الجواب: لهم أن يأخذوا طعامهم، كما ثبت من قبل في الصحيح أنهم كانوا يأخذون العسل والسمن، وكانوا يأخذون علف الدواب، وما دعت إليه الحاجة للقتال -أي: لمصلحة القتال والنصر- فلو أن مجاهداً سقط من على فرسه أو أخذ العدو سلاحه فوجد سلاحاً لكافر ملقى على الأرض فإنه له أن يأخذه ليقاتل به، فإذا فرغ من القتال رد السلاح إلى الغنيمة، وإن كاد يموت جوعاً أو عطشاً، ووجد في متاع كافر قد قتله وأخذ سلبه طعاماً وشراباً فإنه يجوز له أن يأكل ويشرب.
إذاً: ما دعت إليه الحاجة من مال العدو وطعامه وشرابه وسلاحه وفرسه فله أن يستخدمه ويرد ما فضل عن حاجته بعد الحرب إلى الإمام.
استعمله على بيت المال فهو عامل، استعمله على الصلاة فهو عامل مع أنه الإمام والشيخ الكبير، لكن اسمه في الشرع: عامل؛ لأن الإمام استعمله. أي: طلب منه أن يكون عاملاً في هذا المكان على إمامة الناس، أو عاملاً على الأذان، أو عاملاً على الصدقات، والعاملون عليها لهم أجر، فقد سماهم القرآن (عاملين) مع أنهم في الأصل جباة لأموال الزكوات وغير ذلك، وهم كذلك يعطون منها لأنهم من مصارفها الشرعية، فهم عُمّال عليها.
قوله: (رجلاً من الأسد) بالسين، وفي رواية: (من الأزد) بالزاي، وكلاهما صحيح، فهو أسْدي أو أزْدي، والرجل الذي استعمله النبي عليه الصلاة والسلام اسمه عبد الله بن اللتبية .
[ قال عمرو وابن أبي عمر: (على الصدقة) ].
أي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة. والصدقة عند الإطلاق تعني: الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].
قال: [ (فلما قدم -أي:
قال: [ (فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي) ] أي: أنني حينما أبعث أحدكم ليأتيني بأموال يأخذ منها شيئاً ويقول: هذا أُهدي إلي! قال: [ (أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟) ] هذا يدل على أن الإنكار أحياناً يكون بالإغلاظ، لكن إذا كنت لا تؤتى بالقوة فسآتي إليك بالسياسة، وآتيك من الطريق والبوابة التي تصلح معك.
فلو أن واحداً أغلظت عليه عاند وانتقل من شر إلى أشر، ومن سيئ إلى أسوأ، وإذا تلطفت معه وترفقت معه ستكون معه نتيجة فينبغي اللطف معه، (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) فإذا كان هناك من لا يؤتى إلا بالقوة وبالضرب يضرب، وإذا كان هناك شخص لا يصلي فعندما تأتيه بالطيب يقول: هذا الكلام قديم، فإذا حُبس ثلاثة أيام وضرب صلى، فهنا يضرب ويحبس.
قال: [ (أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً) ] أي من أموال الناس بغير حق [ (إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه) ].
أورد الإمام مسلم هذا الحديث في هدايا العمال بعد الغلول؛ ليدل على أن هدايا العمال نوع من أنواع الغلول؛ وذلك لاتحادهما في العقوبة، فإنه يوم القيامة يحمله على عنقه بالضبط كنفس عقوبة الغال.
قال: [ (إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر -تيعر: تصيح- ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه) ] أي: بياض إبطيه، ولكنه ليس بياضاً في الحقيقة؛ لأن هذا المكان من وجود الشعر فيه لا يكون أبيض، وإنما يكون أبيض مترّباً كوجه الأرض؛ ولذلك يقال: عفرتا إبطيه، بسبب وجود الشعر فيشبهان وجه الأرض، ووجه الأرض اسمه عفر الأرض.
فقولك: تعفّرت: أصابك من عفارها. أي: من سطح الأرض ووجهها.
ثم قال: [ (اللهم هل بلغت مرتين) ] عليه الصلاة والسلام.
أي: أنه يؤكد أنه قد بلّغ هؤلاء حتى لا يأتي واحد يوم القيامة فيسأل: لماذا أخذت هذا؟ فيقول: يا رب! هذه هدية.
[ حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد . قالا: أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم
[ حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم يدعى
وفي هذا وجوب محاسبة العامل، ولا يتركه هكذا يسرح ويمرح في الأموال وليس هناك رقيب من الداخل -وهو الوازع الإيماني- ولا رقيب يحاسبه فيقول له: أنت أتيت بكم وأديت كم؟ فلا يترك الخائن يرعى في هذا المال كما يشاء، فنفاجأ بأنه هرب وذهب إلى فرنسا وباريس مأوى الكلاب، أو ذهب إلى سويسرا مأوى الأموال المسروقة من هنا وهناك، ويجد هناك الأمان والضمان، فليس هناك إنس ولا جن يعرفون رقم حسابه.
فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: [ (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟ ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد. فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم) ] يعني: حذار أن أرى هذا المنظر فيكم يوم القيامة [ (لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعَر أو تيعِر -كلاهما صحيح- ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟) قال أبو حميد الساعدي : (بصر عيني وسمع أذني) ] أي: أنا سمعته عليه الصلاة والسلام بأذني هذه ورأته عيني وهو يتحدث بهذا. يعني: لا شك في ذلك، وهذا تأكيد لصحة ضبطه لهذه الرواية.
[ وحدثنا أبو كريب حدثنا عبدة وابن نمير وأبو معاوية محمد بن خازم الضرير . وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان . وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلهم عن هشام -وهو هشام بن عروة بن الزبير- بهذا الإسناد. وفي حديث عبدة وابن نمير: فلما جاء -أي: ابن اللتبية - حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم. كما قال أبو أسامة وفي حديث ابن نمير (تعلمن والله! والذي نفسي بيده) ] تكرار لليمين زيادة في التوكيد مع أن النبي صادق بغير قسم عليه الصلاة والسلام، ولكنه حلف مرة وأكدها. قال: [ (لا يأخذ أحدكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة -وزاد في حديث
وأحياناً يأتي الطالب بهدية فإذا ردها الشيخ انكسر قلب الطالب وربما امتنع عن الدرس خجلاً أن الشيخ أحرجه أو رده. ومن الناس من يقول: شيخنا متكبّر. أتيت له بهدية فلم يأخذها مني، في حين أن وجهة الشيخ وجهة شرعية في رد الهدية.
إن بعد الشيخ عن أموال الناس أمان له في دعوته، خاصة بعده عن أموال الأغنياء؛ لأن أكثر شيء يكسر عين الشيخ أن تمتد يده إلى أموال الآخرين، فإذا كانت يده نزيهة ونظيفة ولا تمتد إلا بالرفض والدفع فحينئذ يكون الشيخ حراً دائماً في فتاواه، أما إذا مد يده فإن اليد التي امتدت مرة لا بد أن تمتد الثانية والثالثة حتى تحرص هذه اليد على أن تمتد، وإذا رجعت خائبة مرة يعز عليه ذلك، لكنه يهون عليه أن تمتد يده الثانية والثالثة والرابعة حتى يكون هذا إلفاً مألوفاً له؛ فيألف أن يتكفف الناس دائماً، ولذلك المعصية إذا وقعت من المرء مرة هان عليه أن تقع الثانية، وطالما كان بعيداً عن المعصية فإنه يهابها ويخاف منها، وترتعد فرائصه عند ذكرها على مسامعه، وأعظم من ذلك جرائم الأموال في ذمة العالم والشيخ، ولذلك ينبغي أن يتربى الطالب منذ نعومة أظفاره في طلب العلم على أن يجعل بينه وبين أموال الخلق جداراً كجدار يأجوج ومأجوج؛ لأن هذا هو الحصن الحصين والسد المنيع الذي يجعلك تنطلق بدعوتك لا تألو لها جهداً، ولا تخاف أن يحرج فيها أحد، أما الذي امتدت يده إلى أموال الآخرين أو جيوبهم، فلا شك أنه إذا استفتاه هؤلاء جاملهم؛ لأنه إن لم يجامل حرموه ومنعوه أموالهم، مع أن أبخل الناس هم الأغنياء وأصحاب الأموال إلا ما رحم الله عز وجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر