أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فمع الباب الثامن من كتاب الحدود وهو باب: حد الخمر.
والخمر هو: كل ما خامر العقل. أي: ستره وغطاه. وهذا طبعاً عند جماهير العلماء، خلافاً للأحناف؛ فإنهم يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب فقط، أما عند جماهير العلماء هو كل ما أسكر أو كل ما خامر العقل.
فالذي يجلد بجريدة أربعين جلدة يكون قد جلد أربعين، والذي يجلد بجريدتين أربعين يكون قد جلد ثمانين، والذي يجلد بثلاث جرائد يكون قد جلد مائة وعشرين .. وهكذا، كما قال الله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44] والضغث: هو حزمة من شماريخ النخل، وهي متشعبة جداً. فلما أقسم أيوب عليه السلام أن يضرب امرأته مائة ضربة وشق عليه ذلك أنزل الله تعالى التخفيف فقال: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا [ص:44] أي: من هذه النخلة. قال: فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44] أي: فاضرب به حتى لا تحنث في يمينك. فالذي يضرب بشيئين يكون قد ضرب ضربتين، والذي يضرب بثلاث يكون قد ضرب ثلاثاً، فهنا لما جيء برجل قد شرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه بجريدتين أربعين. وفي هذه الرواية: (نحو أربعين) يعني: تقريباً. وكلمة: (نحو) تدل على أن العادَّ لم يُحص العد على وجه الدقة والحساب، وإنما قدر ذلك تقديراً، فكان نحو أربعين.
قال: [ قال: (وفعله
(وفعله) أي: فعل هذا الحد أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال: [ (فلما كان
قال: [ وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي قال: حدثنا خالد - يعني: ابن الحارث - حدثنا شعبة حدثنا قتادة قال: سمعت أنساً يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل) فذكر نحو الحديث السابق.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا معاذ بن هشام - وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - يحدث عن أبيه عن قتادة عن أنس بن مالك : (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال) ]. يعني: يضرب الحد بالنعل كما يضربه بالجريد والعصي.
قال: [ (ثم جلد
قال: [ (فلما دنا الناس من الريف والقرى قال
قال: [ (قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال
قال: [ حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا هشام - وهشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي - بهذا الإسناد مثله ]. أي: بنفس الإسناد السابق.
قال: [ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام عن قتادة عن أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين) ]. يعني: مادة الضرب الجريد والنعال، والعدد أربعون، وهذه الرواية صريحة. أي: جلد أربعين على وجه اليقين بغير شك ولا تقدير، فهذا جزم بأنه عليه الصلاة والسلام كان يضرب في الخمر أربعين جلدة سواء بالجريد أو بالنعال.
قال: [ ثم ذكر نحو حديثهما ولم يذكر (الريف والقرى) ].
قال: [ عن ابن أبي عروبة ]. بفتح العين وهو سعيد ابن أبي عروبة لا غيره، وهذا ليس اسماً له كما قال أحد الرواة: حدثنا فلان وفلان وفلان وعدة، فقام إليه أحد الطلاب وقال: (عدة) ابن من؟ قال: عدة ابن فقدتك. يعني: عدمتك.
قال: [ عن عبد الله الداناج ]. و(الداناج) كلمة فارسية معناها: العالم، وهو عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر المعروف بـالداناج .
[ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي واللفظ له أخبرنا يحيى بن حماد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر الداناج حدثنا حضين بن المنذر ] حضين وليس حصين ، وهو الوحيد في الكتب الستة اسمه حضين ، كنيته: أبو ساسان .
قال: [ شهدت عثمان بن عفان وأتي بـالوليد ]. وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخاً لـعثمان من أمه، وكان يشرب الخمر وحد فيه مراراً، وكان يشربها حتى يهذي، فإذا هذى افترى. وأعظم ما ورد عنه من افتراء: أنه صلى الصبح بهم أربعاً وكان إمام المدينة في زمانه، فقالوا له: صليت الصبح أربعاً؟! قال: وما في ذلك، إن شئتم زدتكم. فالخمر هي أشد شيء يحط من كرامة الإنسان، بل حتى قبل الإسلام تنبه لخطورتها بعض من كانوا في الجاهلية فلم يشربوها؛ لعلمهم أنها تحط من كرامتهم، فلم يثبت قط أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يشربها، ولم يكن يجلس مجلساً يدار عليه الخمر، وكان يتعجب من عاقل يدله عقله على إباحة شرب الخمر، وكان هذا قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [ (شهدت
قال: [ (فشهد على
قال: [ (فقال
قال: [ (فقال
قال: [ (فكأنه وجد عليه) ] والوجد بمعنى: الغضب والحزن. يعني: غضب عثمان رضي الله عنه من هذا القول.
قال: [ (فقال: يا
قال: [ (و
قال: [ (ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد
وجماهير أهل العلم حملوا جلد عمر رضي الله تعالى عنه أكثر من أربعين على أن الزائد عن الأربعين من باب التعزير؛ وذلك لأنه رأى الناس تتابعوا وتساهلوا في اتخاذ الخمر وشربها، ومثل ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يوقع الطلقات الثلاث واحدة، فلو أن شخصاً قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثاً في مجلس واحد فهي واحدة وكان أبو بكر يوقعها طلقة واحدة، فلما كانت خلافة عمر رأى عمر الناس يتساهلون في ذلك، وكثرت لديه قضايا الطلاق. قال: لا بأس، الذي يطلق ثلاثاً نعاقبه بإيقاع الثلاث. وهذا من باب التعزير وليس حكماً شرعياً، وذلك لأن الناس إذا تساهلوا في شيء أخذوا بالشدائد والعزائم، وإذا تمسك الناس بدينهم يبشرون حين وقوع الخطأ منهم بالخير وبرحمة الله لا بالتقنيط والتيئيس؛ لأن السنة جرت على هذا، أن أهل الصلاح والتقى إذا وقعوا في ذنب نذكرهم برحمة الله ونلزمهم التوبة، أما أهل المعاصي والتفريط والذين لا يعبئون ولا يعتبرون بشيء من شرع الله عز وجل فلا شك أنه تجرى عليهم أقسى وأشد الأحكام حتى يرجعوا ويتوبوا إلى الله عز وجل.
قال: [ (فقال: جلد النبي أربعين، وجلد
فقول علي رضي الله عنه: (وهذا أحب) أي: ما كان عليه النبي وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال: [ زاد علي بن حجر في روايته: قال إسماعيل - يعني: ابن علية -: وقد سمعت حديث الداناج منه فلم أحفظه ].
قال: [ عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنه إن مات وديته) ]. أي: إن مات في أثناء الحد غرمت ديته. يعني: ألزمت نفسي بدفع الدية.
قال: [ (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه) ]. وهذا كلام يحتاج إلى وقفة وبيان، فالنبي جلد أربعين -لفظاً صريحاً- بالجريد والنعال، وجلد نحو أربعين، وجلد بجريدتين أربعين. فكأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب الشارب من باب التعزير لا من باب الحد، وذلك لأن قوله: (نحو أربعين) لا يدل على أنه حد، فلو كان حداً لا نقول فيه: نحو ثمانين ولا نحو أربعين ولا نحو عشرة؛ لأنه لا بد أن يكون الحد محدداً بيناً واضحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالجريد أو بالنعال أربعين، وعمر رضي الله عنه ضرب ثمانين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وعمر منهم رضي الله عنه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد
ولو اعتبرنا أن أقل الأقوال هو أن الضرب كان من باب التعزير لا من باب الحد، فلو مات المعزر بسبب حد التعزير أو بسبب أسواط التعزير وجبت ديته، بخلاف المحدود، فلو مات المحدود في الحد فلا تجب له الدية، ولا دية له أصلاً، لكن المعزر إذا مات في أثناء التعزير أو بسبب التعزير فإنه يودى، والذي يوديه السلطان من بيت المال. وهذا أرجح الأقوال. وقيل: بل من مال الأمير نفسه. وقيل: لا يودى. وقيل: ديته على عاقلة المعزر. أي: الجلاد. وللجلاد عند جلده شروط، منها: ألا ترتفع يده عن كتفه، حتى إن بعض أهل العلم غلا في ذلك وقال: ألا يغادر عضده إبطه.
قال: (لأن رسول الله لم يسنه) يعني: لم يترك لنا فيه سنة واضحة بينة. وعلى أية حال: هذا اجتهاد من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي لم يسن حداً مقدراً معيناً لشرب الخمر. وهذا الذي قاله علي بن أبي طالب خالفه فيه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. فقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل حد الشارب للخمر أربعين.
وفي هذا الحديث: أن فعل الصحابي سنة يعمل بها، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) في حديث العرباض بن سارية عند الترمذي وغيره.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فمع الباب الثامن من كتاب الحدود وهو باب: حد الخمر.
والخمر هو: كل ما خامر العقل. أي: ستره وغطاه. وهذا طبعاً عند جماهير العلماء، خلافاً للأحناف؛ فإنهم يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب فقط، أما عند جماهير العلماء هو كل ما أسكر أو كل ما خامر العقل.
والإجماع المنعقد على أن شارب الخمر لا يقتل بها يرد على الحديث الذي عند أحمد وغيره: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد - في الرابعة - فاقتلوه). وإجماع المحدثين على أن هذا الحديث صحيح، ولكن الإجماع منعقد على أن هذا الحديث منسوخ.
وذهب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى عدم ثبوت النسخ في حق هذا الحديث، وأن الحديث محكم غير منسوخ، وأن من شرب الخمر ثم حد، ثم رجع فحد، ثم عاد فحد، ثم شرب الخمر الرابعة فليقتل حينئذ، والمسألة محل نزاع.
قال: (وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها وإن تكرر منه). هكذا حكى الإجماع فيه الإمام الترمذي وخلائق. وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى عن طائفة شاذة أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات). يعني: إذا جلد في الخمر أربع مرات يقتل في الخامسة.
قال: (للحديث الوارد في ذلك). وهذا القول باطل مخالف لإجماع الصحابة ومن بعدهم على أنه لا يقتل وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات. فـالوليد بن عقبة كان يشرب الخمر كل يوم حتى ضجر الناس منه، وذهبوا إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقولون: يا أبا عبد الرحمن ! ألا تنصح صاحبك في أخيه؟ يعني: لماذا لا تكلم عثمان بن عفان في موضوع أخيه هذا، يخلصنا منه ويريحنا منه. قال: ما لنا فيه بد، ما رأينا شيئاً وإنما الناس بظواهرهم، فإذا بدا لنا منه شيء أخذناه به، وقد نهانا الله عن التجسس. فأبى رضي الله عنه.
ولما حملوا أبا عبد الرحمن على نصيحة عثمان في أخيه قال: أتظنون أنا لا ننصحه سراً؟ والله ما كنا لننصح الأمير علناً قط، وقد بذلنا له النصيحة غير مرة سراً. فنصح الأمراء والوجهاء وذوي الهيئات لا يتم علناً، وإنما يتم سراً؛ حفاظاً على وجاهتهم ومكانتهم خلافاً لسائر الناس.
قال: (وهذا الحديث منسوخ. قال جماعة: دل الإجماع على نسخه). يعني: هذا منسوخ بدلالة الإجماع لا بنص ناسخ له. يعني: أجمعت الأمة كلها، فإننا لم نسمع في زمن من الأزمنة من لدن النبي عليه الصلاة والسلام حتى يومنا هذا أن واحداً شرب الخمر أربع مرات فقتلوه في الخامسة، وهذا يشعر بإجماع الأمة على أن شارب الخمر لا يقتل بشربه إنما يحد فقط.
قال: (وقال بعضهم: نسخه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ).
قال: (وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل، وأنواع الإيذاء وترك الصلاة وغير ذلك). هذا مذهب الشافعي وأهل الظاهر: أن الحد أربعون، والزيادة موكول أمرها للإمام على حسب حال هذا المحدود.
قال: (ونقل القاضي عياض عن الجمهور -جماهير أهل العلم- من السلف والفقهاء منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: حده ثمانون). هذا مذهب الجمهور، أن حد الشارب ثمانون؛ خلافاً للشافعي وأهل الظاهر.
قال: (واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة). أتوا بهذا الإجماع من فعل عمر وعدم ظهور المخالف له، فحد شارب الخمر ثمانون؛ لأن هذا الذي حده عمر ؛ واستقر عليه العمل بدليل أن أحداً لم ينكر على عمر رضي الله تعالى عنه.
قال: (واحتجوا كذلك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد). فالنبي لما جلد الشارب أربعين لم يقصد تحديداً، ولذلك جاء في رواية: أنه جلد نحو أربعين، وأنه جلد بجريدتين.
قال: (وحجة الشافعي وموافقيه - من أهل الظاهر - أن النبي إنما جلد أربعين كما صرح به في الرواية الثانية. وأما زيادة عمر تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام، إن شاء أنفذه وإن شاء تركه بحسب المصلحة في فعله وتركه، فرآه عمر ففعله، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه.
أما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بد منه. والفرق بين الحد والتعزير: أن الإمام ليس حراً في تنفيذ الحد لا سلباً ولا إيجاباً، كما أنه ليس حراً في تخفيضه، لكنه حر في تخفيض التعزير من عشرة إلى خمسة إلى ثلاثة، وقد يترك الضرب مطلقاً ويكتفي بالتوبيخ واللوم والمعاتبة وغير ذلك على حسب حال المعزر، أما الحد فإذا بلغ السلطان فلا بد من إقامته كما جاء به الكتاب والسنة.
قال: (ولو كانت الزيادة حداً لم يتركها النبي عليه الصلاة والسلام ولم يتركها وأبو بكر رضي الله عنه ولم يتركها كذلك علي رضي الله عنه بعد فعل عمر ؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: وكل سنة. معناه: الاقتصار على الأربعين وبلوغ الثمانين. فهذا الذي قاله الشافعي رضي الله عنه، وهو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث ولا يشكل شيء منها. ثم هذا الذي ذكرناه هو حد الحر، أما العبد فدائماً حد العبد على النصف من حد الحر كما في الزنا والقذف). كما أن حد الأمة على النصف من حد الحرة أيضاً.
قال: (وأجمعت الأمة على أن الشارب يحد سواءً سكر أم لا). فالعبرة بالشرب.
وفي حديث أنس من طريق المختار بن فلفل عند النسائي في سننه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين) أي: من الثمر.
وفي رواية: (نهى أن ينبذ شيئان في إناء واحد). يعني: لما تأتي بالتمر مع الزبيب وتنبذهما جميعاً هذا خمر، وذهب أهل العلم إلى حرمة ذلك أو كراهته، على خلاف بين أهل العلم هل هذا مكروه أو محرم؟ حتى قال الإمام النووي في المجموع وكذلك الإمام الشوكاني في كتاب نيل الأوطار في باب الأشربة والأطعمة في آخر مجلد: واختلف أهل العلم: هل هذا الحديث على ظاهره وإن لم يسكر، أو يجوز أن ينبذ كل صنف لوحده، فإذا أراد الشارب أن يشرب خلطهما فشربهما؟
يعني: لو أني في رمضان أتيت بالزبيب ونقعته في آنية على حدة، ثم جئت بالتمر ونقعته كذلك في آنية مستقلة، ولما أُذِّن للمغرب خلطت منقوع التمر مع منقوع الزبيب وشربته، هل هذا العمل مشروع؟
الجواب: غير مشروع، فإما أن يكون تمراً لوحده كما يفعل عامة الناس، وإما أن يكون أي نوع من أنواع الثمار.
وبعض الناس لديهم أكلة يسمونها سلطة الفواكه: يأتون بالموز والعنب والتمر والتفاح والخوخ وغيرها من الفواكه ثم يقطعونها ليصنعوا منها سلطة فواكه بشكل جميل، وهي بغير ماء، فلا بأس بذلك؛ لأنه لا يقال للنبيذ نبيذاً إلا بالنقع، والنقع لا يكون إلا في الماء، فإذا وضعت هذه الثمار مجتمعة في ماء فهو نبيذ يحرم عليك أكله أو يكره على خلاف بين أهل العلم، وإذا قطعت وخلطت هذه الثمار بغير نقع -أي: لم توضع في ماء- ولم تخرج هي ماءها فتنتبذ فيه فلا حرج في ذلك.
وكذلك العصائر من عدد من ثمار الفواكه وما نسميه نحن بالكوكتيل، فهو عصير، والعصير هذا هو أصل مادة النقع وليس منقوعاً ولا منتبذاً. ومن أراد أن يراجع المسألة فليرجع إلى نيل الأوطار في كتاب باب: ما جاء النهي عن الخليطين. وقبله بأبواب وبعده بأبواب، فالمسألة مبحوثة على أعلى مستوى عند الفقهاء.
قال: (واختلف العلماء في من شرب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة، فقال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو حرام يجلد فيه كجلد شارب الخمر).
كل العلماء قالوا: النبيذ مثل الخمر بالضبط. ومعلوم أن الخمر: ما اتخذ من العنب؛ ولذلك الأحناف يقولون: الخمر لا يكون إلا من العنب. والجمهور على خلاف ذلك، وردوا على الأحناف في ذلك: أن معنى كلمة خمر: التغطية والستر، ومن هنا سمي الخمر خمراً؛ لأنه يستر العقل ويغطيه، فيستوي أن يكون هذا من العنب أو من التمر أو من البر أو الشعير، فالعلة واحدة. والأحناف لم يوافقوا الجمهور على ذلك. وأدنى ما قيل من متأخري الحنفية أنهم قالوا: الخمر حرام أصلاً، وأنها من العنب، وغيرها من الخمر يقاس عليها. ويفهم من قولهم: أن بقية أنواع الخمور ليست حراماً لذاتها وإنما هي حرام بالقياس. يعني: ليست حراماً بالنبذ وإنما هي حرام بالقياس على الأصل الأصولي وهو: أن ما كان حراماً بالنص تقدم حرمته على ما كان حراماً بالقياس. فنحن نقول: السجائر حرام. ونقول: الخمر حرام. فحرمة الخمر ثابتة بالنص، أما السجائر فثبتت حرمتها بالقياس.
وقد جاء في الأثر: أن أم يعقوب الأسدية أتت عبد الله بن مسعود تقول له: بلغني أنك تلعن كيت وكيت -يعني: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله- قال: وما لي لا ألعن من لعنه الله ورسوله. قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين -أي: القرآن كله- فما وجدت فيه. قال: لو كنتِ قرأتيه لا بد أن تجدي ذلك فيه. قالت: أين أجده؟ قال: أما قرأتِ قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ؟ قالت: بلى. قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) الواصلة: هي التي تصل الشعر. والمستوصلة: هي الطالبة لذلك.
قال: (والواشمة والمستوشمة) وهي التي تضع الكحل الأخضر تحت جلدها من أجل أن يظهر في وسط بياضها الشاهق لون مخالف أخضر، وهو لون جميل، مع أنه والله عند المؤمنين منظر مؤذ جداً؛ لأنه كذا مثل الصليب، فالنصراني عندما يسلم يتقزز جداً من صورة الصليب على يده.
قال: (والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) والمتفلجات للحسن: اللاتي ينشرن الأسنان حتى يصير هناك فارق بين الأسنان.
قال: (وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يحرم ولا يحد شاربه). فقول أبي حنيفة بالذات في أن كل خمر اتخذت من غير العنب ليست حراماً ومن شربها وسكر لا يقام عليه الحد قول شاذ؛ لأنه قال بأن الخمر لا يكون إلا من العنب فقط. وهذا قول غير معتبر، وهذا يدل على أن كل إنسان غير النبي صلى الله عليه وسلم يخطئ ويصيب، وأن من أخطأ لا يقر على خطئه ولا يتابع عليه ولا يكون قدوة ولا أسوة فيما أخطأ فيه، فلا عذر لأحد علم أن الحق خلاف هذا القول وتابعه فيه.
قال: (وقال أبو ثور : هو حرام. يجلد بشربه من يعتقد تحريمه دون من يعتقد إباحته). وهذا رأي ثالث، ورأي الجمهور هو الصحيح: أن الخمر تقال لكل ما اتخذ خمراً، سواء كان ذلك من عنب أو من تمر أو بر أو شعير أو غير ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر