أما بعد:
في تلك الخطبة العصماء العظيمة التي حدد فيها النبي عليه الصلاة والسلام معالم هذه الشريعة الغراء، ووضع اللبنات النهائية لهذا الدين، وسنذكر بهذه الخطبة مرة أخرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم
في الخطبة الماضية تكلمنا عن صدر هذه الخطبة، وتكلمنا عن حرمة الدماء والأموال، وقلنا: إن هذه المكائد التي تكاد للأمة الإسلامية إنما هي من تخطيط أوروبي وتنفيذ عربي، ثم تكلمنا بعد ذلك عن معالم الجاهلية، وأن المعاصي تدل على الجاهلية بدلالة حديث أبي ذر رضي الله عنه لما عير بلالاً بأمه وقال: يا ابن السوداء، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤ فيك جاهلية. قال: أو على ساعتي هذه يا رسول الله؟!) أي: أبعد هذا العمر الطويل لا تزال في آثار الجاهلية؟! قال: (نعم، إنك عيرته بأمه)، ولذلك بوب البخاري لهذا الحديث: المعاصي من أمر الجاهلية، فكل معصية تظهر في مجتمع أو تظهر في شخص فإنما فيه من الجاهلية على قدر ما فيه من المعاصي، وقلنا أيضاً: إن المجتمع المسلم لابد أن يتميز، وأن يختص بمميزات وخصائص وسمات تختلف عن بقية المجتمعات، وكذلك كل ابن من أبناء الإسلام، وكل فرد من أفراده ينبغي أن يكون شامة وعلامة بين الناس أجمعين، حتى إذا سار في الشوارع والطرقات قال الناس: هذا مسلم، ولذلك هذه القدوة العظيمة تحققت بأكملها في شخص واحد، ألا وهو النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك رضيه إلهه تبارك وتعالى قدوة وأسوة لنا فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
[الأحزاب:21] فهو الأسوة وحده، وهو القدوة وحده، وانظر إلى آثار ذلك في هذا الحديث.
وأبلغ من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة)، وللوهلة الأولى ربما يظن السامع أنهم أصحاب كبائر، لا وألف لا، بل هم أصحاب أفضل الأعمال وأشرف الرئاسات وأحسن السؤدد في الدنيا، رجل عالم علم الناس، لكنه ما كان مخلصاً في هذا، وإنما علمهم ليقال: عالم، فيؤتى به بين يدي الله عز وجل فيقال له: عبدي علمتك كيت وكيت، ويذكره بنعمه عليه فيذكرها، ثم يقول له: ماذا عملت بها؟ فيقول: يا رب! تعلمت فيك العلم، أي: تعلمته خالصاً لك، وعلمته الناس، فيقال له: كذبت، وإنما علمتهم ليقال: عالم، أي: ليس لك أجر، فيؤمر به فيسحب على وجهه في نار جهنم، مع أن الذي يسحب إنما يسحب على بطنه أو على ظهره أو على جنبه، أما سحبه على وجهه فهذا أمر لم يشهده أحد من الخلق، وكذلك المجاهد والمتصدق.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأول دم أضع من دمائنا دم
فالربا سبب لمحو البركة، وسبب لتحريم الطيبات على الأمم التي سبقتنا، ثم قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
[البقرة:279]، أي: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
[البقرة:279]، أي: أن الذي يتعاطى الربا إنما يأذن بالحرب بينه وبين الله، سوء كان ذلك بين الأفراد وبين ربهم، أو بين الشعوب وبين ربهم، أو بين الأمة بأسرها، وإن هذه الأمة قد أعلنت الحرب مع الله عز وجل بتعاطيها الربا، بل وبنائها للمؤسسات الربوية التي تحمي هذه المعصية، ومن ورائها جنود الباطل يحمونها ويسمونها بغير اسمها، ويحتالون على معاصي الله بأدنى الحيل كما فعلت اليهود، فيحتالون ويسمون الأشياء بغير اسمها طلباً لجوازها وحلها، وهيهات هيهات!
فقد سموا الخمر مشروبات روحية، وسموا الزنا والخنا حرية شخصية، وسموا الربا فوائد وعوائد بنكية، وسموا التخلف التي هي المدنية التي تأتينا من هنا وهناك تقدماً وتحضراً، كما سموا الإسلام رجعية وتخلفاً، وهذا القول وحده كفيل بأن يكفر صاحبه، وأن يخرجه من الملة، فما بالكم لو أن معظم الأمة اعتقد أن الإسلام تخلف ورجعية، وأن ما يأتينا من قبل إخوان القردة والخنازير مما يتعلق بإعمار الدنيا إنما هو التقدم، وما دونه رجعية وتخلف، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ليس هناك ثوابت، كنا في زمان نتكلم في فرعيات المسائل ونحاول إقناع الآخرين بها، ملتمسين في ذلك العذر، أما الآن فقد صرنا نتكلم في أصول الإسلام وفرائضه، ومع هذا تخرج الأرواح، وتخرج العيون ولا يقتنع الفرد، فإذا تكلمنا في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحلال والحرام البين الذي ليس بعده بينة ولا بيان ينازعنا الذي يسمع، أهذه أمة إسلامية؟! أهذا مجتمع مؤمن يستمطر الرحمة ويستجلب النصر من الله عز وجل؟! هيهات أن يأتينا النصر وهو مشروط: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
[محمد:7]، إن تنصروا الله أولاً بطاعته وبتحليل حلاله وتحريم حرامه والتمسك بكتابه وسنة نبيه حينئذ يأتيكم النصر، أما هذا الوضع فلا؛ لأن سنن الله تبارك وتعالى لا تتخلف، وشروطه لا يمكن المراجعة فيها أبداً، فكيف يأتينا النصر؟! وكيف يأتينا التمكين والسؤدد والعزة؟! إننا أمة حق لها أن تداس بنعال إخوان القردة والخنازير، لا أن العيب في ديننا وإسلامنا، أبداً والله، فإن الدين عند الله الإسلام، والله تعالى لا يقبل ديناً من أحد إلا دين الإسلام، وإنما لأننا تخلفنا عن ركب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إي والله! ولذلك قال الله عز وجل:
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
[البقرة:279]، وتصور حرباً بين أحد العباد وبين المعبود، بين الخالق والمخلوق، من الذي سيكتب له فيها النصر؟! الله تبارك وتعالى،
فأذنوا بحرب
، أي: فأذنوا بضنك يفرض عليكم بسبب معاصيكم، وهو الضنك الذي ذكره الله تعالى في كتابه، ثم قال:
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ
[البقرة:279]، أي: إن تبتم من الربا، وخسرتم هذه الحرب التي أعلنتموها على الله عز وجل وعلى شرعه ودينه ونبيه وسنته فليس لكم في هذه الأموال إلا أساسها، وأما ما نجم ونتج عنها فليس لكم فيه شيء، ووجب عليكم أن تتصدقوا به، ولا أجر لكم في هذا المال، وإنما أجركم في طاعتكم لربكم، وأنكم تخلصتم من هذا المال الخبيث والنتن،
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ
[البقرة:279]، والنبي عليه الصلاة والسلام يبين هذه الآيات بسنته، فهو المبين عن ربه والمبلغ شرعه، فلو سألنا واحداً الآن وقلنا له: أيهما أشد خطراً وأعظم جرماً: الربا أم الزنا؟ لبادر وقال: الزنا، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين أن الزنا ليس أشد من الربا، فقال: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أنه ربا أشد من ست وثلاثين زنية)، وليس معنى ذلك: أن الزنا حلال مباح، ولكنه للتدليل على قبح الربا، وأنه جرم عظيم جداً، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الربا اثنان وسبعون باباً، أدناه)، أي: أدنى هذه الأبواب وأيسرها: (كأن يأتي الرجل أمه في الإسلام)، أي: كأن يزني الرجل بأمه، فالربا أعظم من ذلك بكثير، أعظم باثنين وسبعين مرة، وقال عليه الصلاة والسلام: (الربا سبعون حوباً -أي: سبعون إثماً- أيسره: الذي ينكح أمه)، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام مصوراً المجتمع الذي اجتمعت فيه معاصي الزنا والربا: (ما ظهر الزنا والربا في قرية قط إلا عمهم الله بالعذاب)، والبلد مليئة بالزنا، ومليئة بالربا، وبقانون رسمي وفتاوى شرعية، ولذا فإن الأمة معذبة، ووالله إني لأرى الصورة سوداء، وأرجو أن أكون مغالياً، لكني والله لا أراها إلا كحلاً، والمسلم لا يشعر بهذا العذاب لأنه قد ألف المعاصي، وإلفه للمعصية أعظم خطراً من ارتكابها، ولو أن صحابياً الآن بعثه الله تعالى فينا، ورأى لا أقول: الشوارع ولا المومسات والكبريهات ومحلات الخمر ذات الترخيصات القانونية ولا تلك البنوك الربوية، وإنما أقول: لو نظر في وجوه أهل الإيمان، وفي وجوه المصلين، ووجوه العابدين لاستنكر ذلك.
ولذلك أحمد بن حنبل الذي مات في القرن الثالث، سنة مائتين وأربعين يقول: دخلت مائة مسجد فلم أر واحداً فيها يصلي كصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام. يقول هذا في القرن الثالث! ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه -وقد عُمِّر-: لو خرج فينا النبي عليه الصلاة والسلام ما عرف منا إلا القبلة. لكن لو خرج فينا هذه الأيام فماذا سيصنع معنا؟ إنها حسرة عظيمة جداً، وصورة سوداء لأهل الإسلام في هذا الزمان، فتسمى الأشياء بغير أسمائها احتيالاً على الله عز وجل، وهذه الحيل لا تنطلي على البصير من عباد الله، فكيف تنطلي على الله عز وجل، وهو الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى.
قوله: (ولكم عليهن)، بدأ النبي عليه الصلاة والسلام بحق الرجل أولاً؛ لأن من أعظم قوامة الرجل على المرأة أن تثبت حقوقه أولاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه)، أي: لا تأذن المرأة لأحد محارمها من الرجال والنساء، سواء كان لأبيها لعمها لخالها لابنها من زوجها الأول، أن يدخل بيت زوجها إلا بإذنه الصريح أو الضمني أو المعروف عرفاً، فإن علمت أنه يكره دخول أبيها أو عمها أو خالها أو أخيها أو ابنها فيحرم عليها أن تدخله، إلا أن يأذن أو يحضر، ولماذا يكره الزوج ذلك؟ وهل لو كره الزوج دخول رجل من أهل الإيمان من محارمها من أهل الصيانة والعفة والحرية أن هذه الكراهية معتبرة؟ الجواب: لا، وإنما المعتبر أن يغلو المرء في قطيعة الرحم بين زوجه وبين أهلها.
لذا فإن كثيراً من الشباب إذا عقد قضى مدة العقد على مضض، فإذا بنى بامرأته قال لها في ليلة عرسها: أين أنت الآن؟ تقول: أنا في بيتك، يقول: انظري إلى هذه العتبة، فإنها محرمة عليك أن تخرجي منها إلى أهلك، أو أن يأتي أهلك إليك! والرد عليه إن كان من أهل الإيمان: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
[محمد:22] فقطيعة الرحم من الإفساد في الأرض، ولا يحل لرجل أن يمنع محارم المرأة من زيارتها، إلا أن يخشى عليها من فساد دينها، فكثير من الناس الآن لا دين له ولا خلق، والمعاصي التي تحدث الآن بين المحارم من زنا وخنا وقتل وغير ذلك لم يكن أهل الجاهلية يسمعون بها، فإذا كان منع الزوج لمحارم الزوجة من هذا الباب فمنعه معتبر، وهنا يحرم على المرأة أن تدخل أحداً من محارمها إلا بإذن الزوج أو علمها أنه يرضى بذلك.
قوله: (فإن فعلن ذلك)، أي: إن خالفن ما يحب الزوج فاضربوهن ضرباً للتأديب غير مبرح، والضرب المبرح هو الضرب الشديد الذي فيه شج رأس وكسر عظم، فلا يبلغ التأديب إلى هذا المبلغ، ولذلك يقول تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ
[النساء:34]، فضرب الزوجة للتأديب مشروع وجائز، والمرأة لابد أن تحرص على إرضاء زوجها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صامت المرأة شهرها، وصلت خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها يوم القيامة: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)، ودخلت امرأة على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لها: (أذات بعل أنت؟)، أي: ألك زوج؟ (قالت: نعم يا رسول الله، قال: كيف أنت منه؟ قالت: ما آلوه جهدي إلا ما عجزت عنه)، أي: لا أفرط قط في خدمته واسترضائه إلا شيئاً أعجز عنه، قال: (انظري أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)، لذا فأيما امرأة لها زوج فلتعلم أن بينها وبين الجنة باباً مفتوحاً، فإن شاءت أغلقته وإن شاءت ولجته ودخلت فيه.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حسن العشرة: (علام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة، فلعله يضاجعها من آخر يومه)، أي: يجلد أحدكم امرأته بالنهار جلد العبد ثم يضاجعها بالليل، فأي خلق وأي دين يأذن بهذا؟! أتى معاوية بن حيدة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها مما تطعم، وأن تكسوها مما اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح)، أي: لا تقل: قبح الله وجهك، (ولا تهجر إلا في المضجع)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمك، قالت: وأي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها)، ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى مقرراً أن الحقوق والواجبات متبادلة بين الزوجين: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
[البقرة:228]، ويقول المولى تبارك وتعالى آمراً الرجال بحسن العشرة:
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
[النساء:19]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال) .
وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إن هذا القرآن هدى الله، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم)، فانظر إلى هذا الحبل الموصول بينك وبين الله، فإذا استمسكت به كنت موصولاً بالله، ولذلك قال: (ما إن تمسكتم به)، وكذلك التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ففي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذات غداة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي)، أي: فاسمعوا له وأطيعوا، قال: (وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، أي: وإياكم والبدع، فإن كل بدعة ضلالة، يقول ابن مسعود : اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)، وأمر الله تعالى بطاعة رسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
[النساء:59]، وقال:
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
[آل عمران:32]، وقال:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر:7]، ونفى الله عز وجل الإيمان عمن لم يقبل حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يسلم له ويرضى به فقال:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[النساء:65].
عباد الله! إن الرجوع إلى الكتاب والسنة هو النجاة، وهو المخرج من المأزق، ومن كل بلية نزلت بهذه الأمة في كل زمان ومكان، وقد كان أسلافنا إذا نزلت بهم بلية اجتهدوا في النظر في كتاب الله، بل وفي قراءة البخاري ومسلم ، وهذه الأمة الآن إذا نزلت بها بلية كأنها لا تشعر، أذن من طين والأخرى من عجين، وكأنها ليست تابعة لنبيها، وكأن الله تعالى لم يرسل إليها دستوراً لتقيم به حياتها، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا
[النساء:82]، أي: ليس فيه اختلاف، بل كل ائتلاف، وكله خير ومصلحة، وأينما كانت المصلحة فثم شرع الله عز وجل.
فهذه هي أمة اليهود، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فالحجة قد قامت، وإن عيسى ابن مريم -يا معشر النصارى- حي رفعه الله تبارك وتعالى إليه، فهو في السماء حي عند ربه، وسينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو واحد من أفراد أمة محمد، وعندما ينزل في آخر الزمان يُدعى إلى أن يصلي بالمسلمين فيأبى ويقول: ليصل بكم رجل منكم، فيصلي بهم وبعيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا ظهر أحرق وهدم رموز النصارى التي يتمسكون بها، فيقتل الخنزير وهو طعامهم، ويكسر الصليب وهو معبودهم، فهذه براءة من الآن لمن أراد أن يتوب منهم، وأن يقبل الحق ويرجع إلى صوابه، وأن يترك ما عليه من كفر، وأن يدخل في حظيرة الإيمان.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فهو النبي الذي رفع قدره وذكره فوق قدر وذكر كل الخلائق حتى الأنبياء، أما قوله: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى)، فإن هذه الخيرية إنما هي في مبدأ الإيمان؛ لأننا مطالبون بالإيمان بجميع الرسل على درجة واحدة، فلا يقل أحد: أنا مؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام إيماناً كاملاً، لكن مؤمن بعيسى نصفاً ونصفاً، وبموسى نصفاً ونصفاً، لا، فلست مؤمناً، بل أنت كافراً؛ لأن من أصول الإيمان أن تؤمن بجميع الرسل إيماناً واحداً كما تؤمن بجميع الكتب التي نزلت من السماء قبل التحريف والتبديل على الإجمال دون التفصيل، وتؤمن بالكتاب الذي أرسله الله إليك على سبيل الإجمال والتفصيل كذلك.
وعليه فالذي يقول من أبناء المسلمين: أنا مؤمن بمحمد كافر بعيسى؛ فقد خرج من الملة وهو لا يدري؛ لأن عيسى ابن مريم قد برئ من النصارى بمجرد أن بدلوا وحرفوا، وبمجرد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[المائدة:19]، فالله تبارك وتعالى يوجه الخطاب لليهود والنصارى فيقول: يا أهل الكتاب! قد جاءكم رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام على فترة من الرسل، أي: على مدة طويلة من الزمان، وذلك أنه بين آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى بن مريم، وبين بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام على الراجح من أقوال أهل العلم ستمائة سنة، وهذه الفترة قد انطمست فيها معالم الشريعة، وظهر فيها الفساد، وضل فيها العباد، لذا فالله عز وجل أرسل رسوله للعالمين جميعاً، لعالم الإنس والجن، وكلفهم بالإيمان به.
لكن: أَنْ تَقُولُوا
[المائدة:19] أي: تكذبوا يوم القيامة
مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
[المائدة:19] لا
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ
[المائدة:19]، وهو محمد، فآمنوا به قبل أن لا ينفعكم توبة ولا إيمان، قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وحينئذ
لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا
[الأنعام:158].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن أولى الناس بعيسى بن مريم لأنا، ليس بيني وبينه نبي) ؛ ولذلك يقول جابر بن عبد الله الأنصاري : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل من الأمم إلا ود أنه منا أمة الإسلام، وما من نبي كذبه قومه إلا نحن شهود له يوم القيامة أنه قد بلغ الرسالة ونصح لأمته)، وقد طلب النبي عليه الصلاة والسلام من فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا
[النساء:41] فأشار إليه أن: حسبك، قال ابن مسعود : فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان.)
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، اللهم إنا نسألك أن تولي علينا خيارنا ولا تولي علينا شرارنا، اللهم عليك باليهود والنصارى، اللهم عليك باليهود والنصارى، اللهم عليك باليهود والنصارى.
اللهم هيئ لنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، اللهم اجعلنا ممن يقوم بكتابك آناء الليل وأطراف النهار، اللهم اجعلنا ممن يتقرب إليك لحبك وحب نبيك بالقول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر