إسلام ويب

الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [3]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ركب أرباب المدرسة العقلانية وأتباعهم موج الضلال الهادف إلى خلع ربقة التدين عبر نظرتهم الاحتقارية للمتدينين، واعتبارهم التدين أمراً تاريخياً، ومسايرة الغرب في الطعن في الدين، ورفع شعار الرأي والرأي الآخر في كل قضية دينية ودنيوية، والمناداة بحقوق المرأة المحققة لشهواتهم، ورميهم علماء الإسلام بالإقصائية والعدوانية، وغير ذلك من المسالك الخبيثة التي يسعون بها لتحقيق مآربهم.

    1.   

    سبب ضعف التدين والنفرة من المتدينين عند ذوي الاتجاهات العقلانية

    النظرة الدنيا المحتقرة لمضامين الشريعة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: (حراسة العقيدة).

    تتميز دعوة الأنبياء بتقديس الكتب المنزلة من عند الله تعالى، وقد أتى هذا الوحي موافقاً للعقول السليمة والفطر المستقيمة، أما دعاة العقلانية فقد دعوا إلى تقديس العقل البشري مع نقصه، وتوهموا التناقض بين العقل والنقل.

    وللعقلانيين مواقف من قضايا عديدة، أشرنا إلى بعضها في حلقات سابقة، وسنحاول أن نجيب في هذا اللقاء عن عدد من الأسئلة.

    فهل من مشكلة بينهم وبين التدين ومظاهر الصلاح؟

    وما حقيقة دعوتهم لحقوق المرأة وتحررها من القيود الاجتماعية؟

    وما السر وراء شعارات حرية الرأي والرأي الآخر الإقصائية، وغيرها من اللافتات التي يرفعونها؟

    في حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها) سيكون محور حديثنا مع الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل ، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

    أهلاً بكم فضيلة الشيخ.

    الشيخ: أهلاً بك وبالمشاهدين.

    المقدم: شيخنا الكريم! تحدثنا عن بعض الموضوعات والقضايا الأساسية، وهذه الحلقة تعتبر الحلقة الثالثة في هذا الموضوع: (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها).

    في نهاية الحلقة السابقة تحدثتم -حفظكم الله- حول مسألة هامة، ألا وهي: موقفهم من التدين، وأخذنا منكم وعداً باستكمال هذا الموضوع في هذه الحلقة بإذن الله تعالى.

    الشيخ: الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فموقفهم من التدين هو ثمرة المنهج الذي يقوم عليه هذا الاتجاه بمختلف طوائفه وأطيافه.

    فنظراً لأن نظرتهم للدين نظرة دونية، وغالباً ما تكون نظرتهم للحياة وللإسلام على أساس تغليب الرأي الشخصي والهوى، أو المؤثرات.

    وربما تكون المؤثرات الخارجية في هذا العصر هي الأشد، بمعنى أنهم غالباً يستقون أصولهم ومناهجهم ومفاهيمهم وأطروحاتهم من ثقافة واردة أو وافدة، وهذا الاتجاه يقوم على رواد مستغربين، وأقصد بالمستغربين الذين تتلمذوا على الغرب، والأمم الغربية التي لها مواقف مخالفة للإسلام مخالفة جذرية.

    فهؤلاء الذين هم أصحاب الاتجاهات العقلانية وغيرها ينطلقون من هذه المفاهيم والمنطلقات، فمن هنا تكون موقفهم من الإسلام بوصفه دين، ومن الشريعة بوصفها تطبيقات، ومن العقيدة بوصفها ثوابت، ثم ممن يحملون هذا الدين وهذا الحق اليوم، المستمسكون بالدين، وعلى رأسهم العلماء والعباد.

    فنظرة هذه الفئة للصالحين نظرة دونية، بمعنى أنهم لا ينفرون من سلوكيات الاستقامة لأنها تتنافى مع رغباتهم وآرائهم فحسب، بل أيضاً يحتقرون المضامين التي يدين بها المستمسكون بالإسلام، فيحتقرون المضامين نفسها التي هي مضامين الإسلام.

    وإن كنا لا نتهمهم كلهم بأنهم يردون الإسلام، لكن إذا أحسنا الظن ببعضهم فهم يفسرون الإسلام بتفسيرات على ضوء الثقافة الوهمية.

    فمن هنا كان من الطبيعي أن يكون موقفهم من التدين والمتدينين موقفاً سلبياً، فينظرون إلى المتدينين نظرة سلبية، وينظرون إليهم نظرة احتقار.

    لكن الكثيرين منهم لا يصرحون بذلك؛ لأنهم -كما ذكرت سابقاً- عندهم نوع من المداراة والتلطف في العبارة؛ لأجل أن تقبل آراؤهم.

    إذاً: فهم ينفرون من المتدينين ومن التدين لأنه يخالف أهواءهم، ولذلك تجد عندهم مفاهيم معكوسة، فهم لا يميلون إلى الفضيلة بمعناها الشرعي، كالحجاب، والستر، والحياء، ويرون هذه قيوداً، فمن الطبيعي أن ينظروا إلى من يتميز بالحياء والفضيلة وكل معاني الستر من رجل أو امرأة نظرة دنيا.

    اعتبار الدين أثراً تاريخياً

    الأمر الآخر: أنهم يفسرون أصول الدين وثوابته بأنها موضة انتهت، فكثير من الموروثات تجاوزها الزمن، فجعلوا ثوابت الدين مثل الأدوات التي يستعملها الإنسان، فالإنسان الآن يستعمل أدوات متطورة، فأصبحت الأدوات القديمة آثاراً.

    فهم يسحبون نفس المفهوم على التدين، فيرون التدين ما هو إلا حشر الإنسان في غابر التاريخ، ثم يتبع هذا أنهم يفسرون التدين -سواء الظاهر والباطن- بأنه عوائد وتقاليد وموروثات، ويصفونه بأنه يحمل سمات الجمود.. إلخ.

    وينبني على هذا أمر آخر، وهو أنهم حينما يعبرون عن التدين يعبرون بتعبيرات منفرة، ويرون أن المتدينين يعيشون في أوضاع تجعلهم غير قابلين للتطور، ولا قابلين لمواكبة الحياة.. إلخ.

    فهذه التفسيرات صارت توحي إلى الأجيال الذين يتلقون مثل هذه المذاهب والاتجاهات بأن التدين أمر شخصي، وأنه لا يساير الحياة، وأنه ممارسة ينبغي أن تحسب لأصحابها، ولا تعمم.

    1.   

    كيفية دحض افتراءات العقلانيين على الدين والمتدينين

    المقدم: لذلك -يا شيخ- نسمع الآن بعض ألفاظهم مثل الظلامية، والقسوة أو التعقيد، حيث يسمون المتدينين بالمعقدين مثلاً، فكيف نستطيع أن نناقشهم، أو نحاورهم، أو نبين ضلال هذا الكلام؟

    الشيخ: أرى أن مثل هذه الأمور لا تناقش بتفصيلاتها، فهذه تحتاج إلى كشف أصولها ومناهجها من ناحية، ومن ناحية أخرى تحتاج إلى أن نعرضها على قواعد الشرع عرضاً واضحاً بالدليل والبرهان العلمي، والاستقراء الدقيق والدراسات والإحصائيات؛ لأن أكثر ما يعتمدون عليه الآن أنهم يوهمون الناس بأن المجتمعات الإسلامية تضيق بالتدين.

    وقد يكون عندهم نوع من الاستقراء الناقص، والانتقائية غير الرشيدة، فيحشرون هذه الأصول أو المقررات التي يزعمون أنهم وصلوا إليها، ويجعلونها هي المنطلقات لإقناع الآخرين، بينما يكون الأمر خلاف ما يدعون تماماً، وهذا ما سنناقشه بعد إن شاء الله تعالى.

    وجواباً على سؤالك أقول: إنه ينبغي أن نؤصل، وأن نربط الناس بالموازين الشرعية، وأن نطرح الحلول الإسلامية الشرعية المؤصلة لقضايا العصر؛ لنقطع عليهم خط الرجعة، ونضيق عليهم الهوة، وندحض هذا الادعاء الذي يدعونه.

    1.   

    المسايرة العقلانية للموقف الغربي تجاه المسلمين

    المقدم: ألا تلاحظ أن هناك توافقاً بين مواقف هؤلاء العقلانيين وبين ما يراد للأمة من أمم الكفر بالطعن في التدين؟

    الشيخ: كيف؟

    المقدم: هناك محاولات غربية في عدم تطبيق الشريعة، أو الطعن في المتدينين، فبعض العقلانيين أو المنافقين أصبحوا أدوات لأولئك في تمثيل هذا الأمر واقعاً؟

    الشيخ: بعضهم كذلك، وبعضهم يخدم هذا الاتجاه وهو لا يشعر، وكل هذه الاتجاهات تخدم توجهات الأمم الأخرى، خاصة القوى التي أصبحت الآن تسمى قوى عظمى لها هيمنة ظاهرة، فهذه لما صار لها على المسلمين نكاية في هذه المرحلة التي نعيشها، فتحكمت في بعض أمصار المسلمين وفي بعض البلاد الإسلامية تحكماً ظاهراً؛ تقوى أصحاب هذا الاتجاه بها؛ لأنهم ظنوا أن تحكم هذه القوى في بعض الأمة الإسلامية يعني بداية النصر لهم، والعكس هو الصحيح، فهذا بداية نهضة الأمة ورجوعها إلى دينها، لكنهم ينتهزون الفرص، فهم الآن لا يتبنون هذه المناهج بغير قصد، بل أغلبهم يتبنونها بقصد الطرح الغربي المعادي للأمة، ولكن يصبونه في قوالب الإصلاح، وفي قوالب التطوير، وفي قوالب التنوير، وفي قوالب المسايرة.. إلخ.

    1.   

    انتهاج دعوى الإقصاء سبيل العقلانيين في طمس معالم الحق

    المقدم: أيضاً يقولون: عندما تحبون أنتم التدين لماذا تقصون الآخر؟! وهذا أيضاً من الشعارات الزائفة.

    الشيخ: هذا من أكبر الشعارات الهدامة أو الفعالة، فهم يعتبرون صمود أهل الحق على الحق، ويعتبرون إظهار الحق والاعتزاز به، ويعتبرون إنكار الباطل -حتى وإن كان بحكمة ورفق- إقصاء.

    وأهم من هذا اعتزاز الأمة بدينها، واعتزاز المسلم بسلوكه الإسلامي، والانتماء للدين الحق، والانتماء للسنة والجماعة، ويتبعه التدين بمعنى التمسك بالإسلام، فهذا كله يسمونه إقصاء للآخر، فإذا كنت تعتز بدينك، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتناصح الآخرين، وتبين الضلالة للناس لئلا يقعوا فيها، وتبين الحق وتدعو إليه؛ اعتبروا هذا نوعاً من التميز غير المشروع، ويترتب عليه الإقصاء للآخر.

    ولذلك دعني أقف وقفة عند مسألة الإقصاء، فأقول: أولاً: يجب أن نعرف أنهم يقصدون بالإقصاء: إنكار الباطل بأي صورة من الصور، كإنكار عقدي، أو إنكار علمي، أو إنكار وجداني، أو إنكار بالسلوك، فأي إباء للباطل بجميع صوره -حتى الصور الجزئية الصغيرة- يعتبرونه نوعاً من الإقصاء لأهل الباطل، ولعل هذا -إن شاء الله- يمر منه نماذج في خلال الحلقات القادمة بقدر ما يتيسر.

    والحقيقة أنا لو أخذنا هذه الدعوى بالميزان العلمي الموضوعي المتجرد بالتتبع والإحصاء والاستقراء؛ لوجدنا أنهم هم الذين يمارسون أقصى وأقسى أنواع الإقصاء.

    المقدم: عجيب!

    الشيخ: أي نعم؛ لأن الإقصاء إذا أخذناه -أولاً- بالمفهوم اللغوي فإنه يعني: رفض الآخر، وهذا الرفض إذا كان ينبني على أسس علمية وشرعية فهو أمر طبيعي فطري في بني الإنسان.

    بل الإقصاء هو الحاصل عند الذين يتباهون بديمقراطيتهم الآن، فهم يمارسون أقصى درجات الإقصاء.

    المقدم: مثل ماذا يا شيخ؟

    الشيخ: مثلاً: لما أراد الغرب أن يدخل في هذه الحرب الاستباقية أعلن مبدأ: (من لم يكن معي فهو ضدي)، أليس هذا إقصاء للبشرية؟

    المقدم: بلى.

    الشيخ: حتى الذين انساقوا مع هذا التيار من الأمم رغبة أو رهبة -أو لاجتماع المصالح على المسلمين- هم -في الحقيقة- يعانون من الإقصاء، ولولا القوة والهيمنة لأعلنوا ذلك.

    فهذا هو الإقصاء بأعلى درجاته: إقصاء اليهود للأمم الأخرى، وإقصاء الدول الغربية التي تحمل لواء الصليبية والحرب على الإسلام، فهذه أعلى درجات الإقصاء ممن يمجد هؤلاء ويرى أنهم مثال وأنموذج للديمقراطية، فالديمقراطية الآن تحمل بأصحابها لا بمعناها، فمعناها يحتاج تفصيل؛ إذ الديمقراطية تحمل معاني صحيحة ومعاني باطلة، لكن أقصد الديمقراطية كشعار يمارس أصحابه اليوم -ومنهم هؤلاء العقلانيون عندنا- أقصى درجات الإقصاء للآخر، هذا أمر.

    الأمر الآخر: نجد أنهم -بناءً على ما سبق من الكلام الماضي- يمارسون الإقصاء -في الحقيقة- من خلال نفورهم وازدرائهم وسخريتهم من المؤمنين ومن الصالحين، وهذا ظاهر، وهو ما نهج عليه أسلافهم خصوم الأنبياء الذين قالوا لنوح عليه السلام: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ [هود:27]، فمن هم الأراذل عندهم؟!

    إنهم أتباع نوح عليه السلام خيار الخلق في جميع أنواع الخيرية، والخيار من أتباع الأنبياء ليسوا -كما يتوهم هؤلاء- عبارة عن عباد يتقوقعون في زوايا المساجد، بل هم رواد الحياة، تجدهم ينشطون في أمور الدنيا والدين؛ ولذلك كابدوا وجاهدوا وأقاموا حضارات.

    أعود فأقول: هم يقصدون بالإقصاء: الولاء والبراء الذي قرره الله عز وجل في كتابه، وهو من ثوابت الدين، ويقصدون بالإقصاء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون بالإقصاء: الأحكام الشرعية التي يقول بها المتدينون، وتقسيم البشر على ضوء التقسيم الشرعي، أي: مؤمن وكافر، ومستقيم وفاجر، مع أن هذا الأمر لا نمارسه كتسلط على العباد، بل نحن نحكم بأحكام الشرع.

    ولا يفوتني في نهاية هذا التعليق أن أشير إلى مسألة مهمة ينبغي أن أذكرها في كثير من المواضع التي تحتاج إليها، وهي أن هؤلاء الذين يتهمون الأخيار بالإقصائية قد يتذرعون ويستدلون ببعض المواقف الفردية للمؤمنين، كبعض المواقف الفردية لأهل الحسبة، أو بعض المواقف الفردية للدعاة، أو غيرهم من عامة المسلمين، فيستدلون بالمواقف التي تخرج عن المنهج، فيأخذونها ويجعلونها ذريعة لاتهام المؤمنين بالإقصائية، واتهام المتدينين بالإقصائية.

    أقول: هذه التصرفات والسلوكيات ليست على المنهج، ونحن نحكم بحكم الإسلام في التفريق بين تصرف البشر والمنهج، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بالحكمة، ونجاهد في سبيل الله إذا توافرت عندنا شروط الجهاد، ونناصح الخلق بما أمر الله به، وندعو الناس، كما أننا نعتز بديننا، ونعتز بمقوماتنا، واعتزازنا لا يعني احتقار الآخرين، بل يعني دعوة الآخرين للحق.

    1.   

    الممارسات الديمقراطية حل غربي لغياب المنهج الشرعي

    المقدم: هم -كما ذكرت يا شيخ- يقصون المجتمع الإسلامي بأكمله، فهناك مجتمع يريد تطبيق الشريعة، ويريد أن يعود إلى دين الله عز وجل، وهم يمارسون أحياناً -بالسيطرة على صحيفة إعلامية أو نحو ذلك- نوعاً من الإقصاء، ويلبسون على الناس بأن المجتمع هو الذي يطالب بهذا الأمور.

    الشيخ: هذه أيضاً نقطة منهجية، والحقيقة أنه ينبغي أن ندرك الفرق بين المجتمعات المسلمة التي تدين بالإسلام حقاً، وبين المجتمعات التي ليس عندها دين كالإسلام إلهي شامل، وإلا فغالب الأمم الآن تدين بديانات، أليس كذلك؟

    المقدم: بلى.

    الشيخ: لكن ليس هناك دين يحمل منهج الحق الكامل المعصوم الشامل إلا دين الإسلام؛ لأنه دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الباقي المحفوظ.

    فيجب أن نفرق بين المسلمين وغير المسلمين في مسألة حرية الفرد، أو الممارسة الديمقراطية.

    فنحن أمة ذات اختصاصات، ففي مصالح الأمة العظمى، والمصالح الشرعية، والمصالح الكبرى وما يتعلق بأمن الأمة وما يتعلق بولايتها، وما يتعلق بالمرجعية، وما يتعلق بحفظ الجماعة، وما يتعلق بحفظ البلاد ومقدَّراتها؛ في كل ذلك لا يستشار الناس، ولا نريد أن نصير مثل أمريكا وأوروبا؛ حيث يكون الرئيس أحياناً دمية في توجهات الغوغائية.

    نعم، تكون الاستشارة فيما يتعلق بمصالح دنيا الناس، كالمجالس البلدية ونحو ذلك مما يتعلق بحقوق الأفراد.

    المقدم: مجلس الشورى كذلك.

    الشيخ: أي نعم، والمراد الشورى التي تكون عن طريق الناس الناضجين، فهذه أطر شرعية صحيحة، لكن لا يستفتى الناس في القضايا المحسومة شرعاً، فهذا غلط، فالديمقراطية لا تدخل في ثوابتنا؛ لأن الله عز وجل هو الذي قررها، والديمقراطية لا تنفي حقاً مما ثبت في الشرع، ولا ينبغي أن تفرض علينا باطلاً.

    إن الغرب ليس عندهم دين يرتكزون عليه، فمن هنا احتاجوا إلى أن يستشير بعضهم بعضاً، ومع ذلك فإن تماديهم في الديمقراطية في القضايا الكبرى والمصالح العظمى أوقعهم في مشكلات ربما تؤدي إلى سرعة انهيارهم، ومع ذلك نقول: هذا أمثل ما يمكن أن يصل إليه الغربيون وغيرهم من الدول التي تحكم بذلك، فأمثل ما يصلون إليه هو هذا الطريق الديمقراطي، أما نحن فنأخذ من الديمقراطية ما يحقق الشورى بضوابطها الشرعية.

    ولا نلغي الفرد، ولا نقيد حريته، لكن حريته منضبطة بالإسلام، ولا ننتهك الثوابت باسم الديمقراطية.

    إن بعض الصور الديمقراطية تعتبر قريبة من النكتة، لكن وراؤها ما وراءها لو أخذت الأمور بدراسات.

    ففي بعض الدول الإسلامية التي استشيرت فيها الغوغائية في بعض القضايا دون الرجوع إلى الشرع وصلوا إلى نتائج مخزية.

    وأذكر أن أحد الباحثين في إحدى الدول قال: إنَّه في الدولة الفلانية كان من أسباب ترشح امرأة للرئاسة أنَّ صورها عرضت بشكل عاطفي في الشوارع وغيرها.

    فهذا استهوى شباباً، واستهوى بعض البسطاء لمجرد الصورة والشكل، وهذا يدل على عدم نضج، فهل هذا طريق شرعي؟

    المقدم: لا.

    الشيخ: ليس طريقاً شرعياً، فهذه الأمور الكبرى تسند إلى أهل الحل والعقد، والديمقراطية معتبرة لكن في حدود، مثلما فعل الخلفاء الراشدون في ضبط الشورى.

    1.   

    تعميم الرأي والرأي الآخر شعار المدرسة العقلانية

    المقدم: من الشعارات التي نريد أن نتحدث حولها -شيخ ناصر - شعار نسمعه كثيراً في وسائل الإعلام، حتى في مجالس الناس، وهو (الرأي والرأي الآخر)، فهل هو شعار حقيقي؟

    الشيخ: الشعارات ينبغي أن تؤخذ دائماً بشيء من الموضوعية والتقعيد، لكن الحقيقة أنَّ أصحاب هذه الاتجاهات العلمانية واللبرالية ونحوها من الذين ليس عندهم فقه للإسلام حقيقي، والذين مواقفهم تجاه الإسلام سلبية جزئياً أو كلياً يجمعهم الإطار العام، فأكبر وسيلة عندهم: التشكيك في ثوابت الأمة ودينها، سواء أكانت عقدية أم علمية أم سلوكية، مثل الحجاب، ومثل قضايا المرأة، ومثل قضايا الشباب، ومثل قضايا الحرية الفردية.. إلخ.

    فهذه القضايا يطرحون فيها أفكاراً تنافي الإسلام وتضاده مضادة حادة بدعوى الرأي وحرية الرأي، أو الرأي والرأي الآخر؛ ولذلك ليس من المناسب أن نطرح القضايا تفصيلاً.

    أنا أريد أن أذكر إخواني بقواعد شرعية، وهي أيضاً عقلية فطرية يدركها كل إنسان، حتى لو لم يتفقه في الدين، ذلك أن نأخذ شعار الرأي والرأي الآخر -أو ما يسمونه أحياناً (حرية الرأي)- بمنطق عقلي.

    فهل كل مصالح الأمة وقضاياها الكبرى في دينها وأمنها ومستقبلها وتخصصات المتخصصين فيها خاضعة لكل رأي؟

    المقدم: لا.

    الشيخ: هل كل قضية فيها رأي ورأي آخر؟

    المقدم: لا.

    الشيخ: إن أي أمة عندها ثوابت، فما معنى الثوابت؟

    معنى الثوابت: الأصول القطعية التي استقرت، فلا تقبل الرأي؛ لأنها فوق الرأي، فهل ثوابتنا الإسلامية فوق الرأي لأننا نحتقر عقول الناس أو لأننا نصادر حرياتهم؟!

    المقدم: لا، بل لأنها من الله عز وجل.

    الشيخ: لأنها من الله الحكيم الخبير، تعبدنا بها، ولأنها فوق مداركنا، فلو أخذناها بأسلوب علمي موضوعي لوجدناها فوق مداركنا.

    فهل أركان الإيمان تدركها مداركنا تفصيلاً؟!

    المقدم: لا.

    الشيخ: وهل أركان الإسلام تدركها مداركنا تفصيلاً؟

    المقدم: لا.

    الشيخ: بل شرعها الله، وهذا نموذج للثوابت.

    إذاً: فهذه الثوابت ليس فيها رأي ورأي آخر، فالرأي والرأي الآخر لا يمكن أن يمس ثوابت أمة ذات دين باق كامل تكفل الله بحفظه، بل لا يجوز ولا يسوغ أن يدخل الرأي والرأي الآخر في القضايا القطعية في مصالح الأمة العظمى التي قررها الإسلام.

    مثلاً: المرجعية الشرعية هي الرجوع إلى الراسخين في العلم الذين قرن الله عز وجل طاعتهم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة أولي الأمر، فهذه القضية محسومة، فالاجتهاديات الكبرى التي تحتاج إلى الرسوخ في العلم من الثوابت عندنا أن مرجعها العلماء.

    وكذلك مسألة حفظ الأمن، فهذه تنبني على طاعة السلطان وطاعة الأمير، فهذه أيضاً مقررات شرعية هي ثوابت.

    فالسلطان المسلم تجب طاعته بالمعروف، والسمع له وحفظ الأمن تحت لوائه، والدعاء له، والنصح، وكثير من هؤلاء يرون مناصحة ولاة الأمر نوعاً من السذاجة.

    المقدم: لماذا يرونها سذاجة؟

    الشيخ: لأنه ينبغي عندهم أن تقاوم -بزعمهم- الاتجاهات السياسية التي يتبناها الحكام بتيارات سياسية تكافئ هذه السلطات، يعني: منازعة السلطان، إما منازعة بالقوة وهذا قليل، وإما منازعة بالإثارة والتصعيد، ومنازعة بالغوغائية، أو طرح الأطروحات السياسية التي تؤدي للتصادم مع الحاكم.

    المقدم: لكن بعض الدول عندها في نظامها أو في دستورها السماح للمعارضة بأن تشكل نفسها، وأن تعارض بعض المبادئ وبعض القوانين معارضة، وأيضاً معارضة قانونية في إطار معين تحكمه تلك الدولة.

    الشيخ: هذه أمور لا أستطيع أن أدخل في تفاصيلها، لكن في الإجمال أقول: كل ما يخالف الشرع من هذه الأمور يجب العدول عنه، وأغلب الدول تطرح الطرح السياسي على نمط الغرب، وفي الوقت نفسه لا تمارس هذه الأطروحات السياسية كما يمارسها الغرب، وهذه ازدواجية في العالم الإسلامي الآن، فأغلب الدول الإسلامية -ما عدا بعض الدول القليلة التي دستورها ونظامها يقوم على شرع الله، كهذه الدولة المباركة: المملكة العربية السعودية نسأل الله أن يثبتها على الحق، وأن ينصرها- أكثر هذه الدول تمارس تعاملها مع شعوبها بالدساتير الغربية، وهي دساتير مستوردة، وفي نفس الوقت لا تطبقها، فهي تعمل بازدواجية يدركها الآن كل إنسان، حتى الساذج في الشارع يدرك هذا.

    إذاً: فوجود اختراق الأسس الشرعية في الأنظمة ليس حجة علينا.

    المقدم: كأنك ترى -يا شيخ- أن الأمور التي هي من دين الله، ومن القطعيات والثوابت لا يمكن أن يدخل فيها مسألة الرأي والرأي الآخر.

    الشيخ: نعم.

    مساحة الرأي والرأي الآخر المفتوحة

    المقدم: لكن المسائل التي قد تكون فيها مصالح للناس يفتح فيها باب المشورة في هذا الأمر، وللناس أن يتبادلوا الآراء فيما يصلح أمرهم.

    الشيخ: نعم. دعني أستكمل الحديث؛ فأنا لم أنته.

    الأصل الأول: أن الثوابت ومصالح الأمة الكبرى والواجبات المسندة إلى فئات معينة -مثل واجبات الحكام على ضوء شرع الله، وواجبات العلماء على ضوء شرع الله- ليست محل نقاش، فبقي هناك مساحة كبيرة جداً للرأي والرأي الآخر.

    فالثوابت أسس محدودة، لكنها هي ضمانات حفظ الدين، بل هي ضمانات حفظ الأمة في دينها ودنياها.

    فهذه الضمانات هي التي لا تمس، وتبقى مساحة الرأي الآخر في الاجتهادات الشرعية بشروطها، وهذا باب مفتوح، فباب الرأي الآخر في مصالح الدنيا المنضبطة بضوابط الشرع مفتوح.

    وكذلك في القضايا المستجدة، بمعنى: أن كل ما عدا الثوابت مساحة واسعة للرأي والرأي الآخر لكن بضوابطه، وكل شيء بضوابطه، حتى غير علوم الشرع.

    فإذا كان الإنسان يريد أن يناقش قضية في الطب فهل يناقشها بمجرد رأي ورأي آخر؟

    المقدم: لا بد من أن يكون متخصصاً.

    الشيخ: بل متخصصاً ومؤهلاً، فالدين من باب أولى؛ لأن القول فيه بالرأي قول على الله بغير علم.

    المقدم: حتى المسائل الفقهية التي هي قابلة للنقاش بين العلماء لا ينبغي للشخص غير المتخصص أن يدخل فيها وأن يرجح هذا أو ذاك، وهو يعتبر من المقلدين أصلاً.

    الشيخ: صحيح.

    المقدم: هل بقي شيء في هذه النقطة أم ننتقل إلى محور آخر؟

    الشيخ: الوقت ضاق، وإلا فعندي مسائل.

    1.   

    العدوانية المنتهجة من ذوي الاتجاه العقلاني

    المقدم: من الشعارات التي نسمعها أحياناً رميهم لأهل الخير وأهل الحق بالعدوانية، فهل هذا المصطلح له وجاهة؟

    الشيخ: الحقيقة كما قال صاحب المثل: رمتني بدائها وانسلت.

    فهذا الشعار هو واقعهم في الحقيقة، كما قلنا في مسألة الإقصائية، فهم يرون أن اعتزاز المسلم بدينه، وتمسكه بشعائر الإسلام، وتمييزه بين الحق والباطل، ومناصحته للآخرين، وإنكاره للمنكر نوعاً من الإقصائية، وكذلك نفس العبارة الأخرى التي ذكرتها وهي العدوانية.

    فنظراً لأنهم يرون عدم التمييز بين كثير من مظاهر الحق ومظاهر الباطل، ويرون عدم التمييز بين المنكر والمعروف، وبين الفضيلة وغير الفضيلة، ويرون سلوك التمييز إقصائية، وإن كانوا يتفاوتون، لكن في الجملة يضعف عندهم التمييز بين المختلفات، إلا على ضوء مقررات عقلية يرونها.

    فمن هنا يرون أن إنكار المنكر، أو عدم قبول الباطل، وعدم التسامح الذي يؤدي إلى تمييع الدين إقصائية.

    المقدم: يعني: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وحاول أن يقيم دين الله عز وجل ويطبق شرع الله يرون أنه عدواني، وأنه شخص لا يحترم آراء الآخرين، ويتهجم عليهم.

    الشيخ: نعم، ولعلي أركز على ما يقصدونه بالعدوانية بالدرجة الأولى، فهم يقصدون بالعدوانية:

    أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    فيرون أن إنكارك للمنكر حتى لو كان بحكمة نوع من العدوانية.

    ثانياً: البراءة من الباطل وأهل الباطل، وإن كانت بأسلوب حكيم، يرون أن هذا نوع من العدوانية.

    ولعلنا -إن شاء الله- في مناسبة أخرى نتكلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل أوسع.

    وأما كيف نرد فهذا -في الحقيقة- يختلف من شخص إلى آخر، أعني الذي يريد أن يرد، أو يريد أن يتخذ موقفاً إيجابياً تجاه هذه المواقف السلبية ضد الخير وأهله، فهذا يختلف من شخص إلى شخص.

    فمن كان عنده شيء من العلم فليرد بالتأصيل والتقعيد وبالدليل، وإذا لم يكن عنده شيء من العلم فلا يدخل في التفاصيل، بل ينبغي أن يبدي ما يعرفه من الحق بأسلوب فيه رفق وحكمة وأناة، دون الاستجابة للاستفزاز، أو الاستجابة لردود الأفعال.

    ثم إن هذه الأمور طبيعي أن تحدث؛ لأنها ابتلاء، فينبغي لمن يسمع مثل هذه الأمور من السخرية بالمؤمنين، أو سبِّ أهل الخير ألا ينفعل؛ لأنه يعرف أنه بذلك مأجور، وأن الله عز وجل ناصر دينه، وأنه سيدافع عن الذين آمنوا، فيأخذ الأمور بشيء من التدرج والحكمة والصبر، والتثبت من القول؛ إذ إن كثيراً مما يحصل من بعض الغيورين استعجال، فتجد القضية ليست على ما صوروا، فمن هنا لزم التثبت من القالة أو من الموقف، ثم معالجته بشيء من الحكمة والرفق، والرجوع إلى أهل الاختصاص.

    1.   

    التجرد والموضوعية وقيدهما في الشريعة

    المقدم: هناك مصطلحات نسمعها يطالبونك بها عندما تناقشهم في بعض قضاياهم، كالتجرد والموضوعية في الطرح العلمي، فهل هم يتقيدون بهذا؟

    الشيخ: هذا كما سبق، فالحقيقة أن مفهومهم للتجرد مفهوم خاطئ.

    ومسألة التجرد إنما تصح في جانبين:

    الأول: في الأمور العلمية البحتة، سواء أكانت تطبيقية أم نظرية، فالأمور العلمية البحتة التي تتعلق بدنيا الناس لا بد لأي باحث يريد أن يصل فيها إلى الحقيقة من أن يتجرد من أي رأي سابق أو تعصب.

    المقدم: كأن يدرس ظاهرة معينة من ظواهر المجتمع.

    الشيخ: أي نعم.

    المقدم: ويعرف مقياسها ونسبة النتيجة في هذا الأمر، فهنا لا بد له من أن يتجرد.

    الشيخ: نعم، فإذا كان إنسان يريد أن يصل إلى مدى جنوح التغير في أخلاق معينة؛ فينبغي له ألا يتبنى نتيجة سابقة بناءً على خلفياته السابقة حتى يدرس ويحصي ويمارس العملية من خلال الميدان، فيصل إلى نتيجة، فهذا التجرد فيه هو الأصل.

    الجانب الثاني: التجرد ممن لا يملك الحق، كإنسان ليس عنده دين، أو دينه غير صحيح، كدين وثني أو دين كتابي محرف، فهذا من الطبيعي أن يحتاج إلى التجرد؛ لأن الأسس التي انبنى عليها دينه، أو القناعات الموجودة في بيئته غير شرعية ولا عقلية، فيحتاج إلى أن يتجرد.

    ولكن لا يسوغ للمسلم أن يتجرد عن الحقيقة الشرعية الثابتة؛ لأن معنى هذا التنصل من الحق، وأحياناً يكون ذلك ردة.

    فلا يسعني -مثلاً- أن أتجرد في مسألة من حكم الله بكفره، مثل أبي جهل وأبي لهب أليسا كافرين مشركين؟

    المقدم: بلى.

    الشيخ: وأتت النصوص القطعية بذلك؟

    المقدم: نعم.

    الشيخ: لا يسع باحثاً أن يقول: أنا سأبحث الآن عبر كتب التاريخ، وعبر النصوص، وعبر أقوال الأدباء والشعراء حتى أصل إلى نتيجة أن أبا جهل كافراً أم لا؟

    لأن هذا تجرد عن الحق الذي تقرر في الثوابت.

    نعود فنقول: الثوابت -سواء أكانت عقدية أم علمية أم أخلاقية- لا يسع المسلم أن يتجرد عنها؛ لأن التجرد خروج من الحق، والخروج من الحق بهذه الصورة قد يكون ردة، فهو خطير.

    فمن هنا كان التجرد في الموضوعات العلمية القابلة للبحث، أما الحق فلا يسع المسلم التجرد منه.

    إذاً: دعواهم التجرد معكوسة، فهم الآن باسم التجرد العلمي يشككون في ثوابت الدين، وباسم التجرد أحياناً يجورون على أهل الحق، وباسم التجرد أحياناً يروجون الباطل، في حين أنهم إذا أتوا إلى كثير من الثوابت زعزعونها، خاصة في القضايا الحساسة، مثل قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقضايا المرأة، ففي هذه القضايا لا يتجردون من الهوى، بل يتجردون من الحق تجرداً واضحاً بيناً في ثوابت الدين التي يعرفونها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعني طوائف منهم ممن يعلمون نعرف أنهم يتعمدون، والدليل على هذا أنهم يحرفون النصوص عن دلالاتها.

    المقدم: لذلك تجد بعض دراساتهم الاجتماعية، أو الاستبانات التي توزع، أو الاستفتاءات غير متجردة؛ لأنها تريد من المشارك أن يجيب بجواب محدد يخدم الهدف الذي رسموه.

    الشيخ: هذا يعتبر تقصيراً، وأحياناً ينشأ عن عدم خبرة في صياغة الأسئلة أو غيرها.

    المقدم: وأحياناً يكون عن هوى.

    الشيخ: قد يكون عن هوى.

    1.   

    موقف العقلانيين من المرأة

    المقدم: من الأمور المهمة في هذا الإطار -اتجاهات العقلانيين المعاصرة- التي نود -شيخ ناصر - أن نتحدث عنها موقفهم من المرأة، وحبذا لو كان الحديث عن الثوابت العامة والأصول العامة في هذا الأمر؛ لأن التفاصيل في قضية المرأة والدخول فيها قد يطول.

    الشيخ: أولاً: لا بد من أن أشير إلى أن كثيراً من القضايا التي يثيرونها حول المرأة هي من الثوابت، وفيها ما هو قابل للرأي والرأي الآخر، وهذا من أجل أن ننصف، لكنهم -مع الأسف- يلبسون الحق بالباطل، فيدخلون من خلال القضايا التي هي محل للرأي -مثل بعض تفصيلات الحجاب، وبعض تفصيلات قوامة الرجل، وبعض تفصيلات الاختلاط، وبعض التفاصيل التي هي محل خلاف- على الثوابت، وهذا أحياناً يكون متعمداً، وهو في كبارهم، وأحياناً يكون غير متعمد، ولكن نتيجة جهل، ونتيجة قلة فقه في الدين.

    فكثير مما يثار حول المرأة هو من الثوابت، وسأشير إلى هذا على جهة الإجمال.

    وقبل ذلك أذكر إخواني بأننا نعتقد أن من ثوابتنا التي لا تقبل الجدل: أن ديننا دين شامل كامل محفوظ، وأنه دين صالح لكل زمان ولكل مكان، وأنه -أيضاً- وضع الحلول لكل المشكلات، وإن قصرت الأمة، بمعنى: أن الإسلام يتضمن حلولاً لجميع المشكلات الصغيرة والكبيرة، ويتضمن دواعي نهضة الأمة في كل مكان، وأسباب النصر والنهضة في كل زمان وكل مكان، ولكن المشكلة في ممارسات المسلمين، في تخلفهم عن دينهم، وفي افتراقهم.. إلى آخر ذلك من الأمور المعروفة.

    فما دام أن هذا الثابت محل اتفاق؛ فهناك -إذاً- ثوابت في الإسلام تتعلق بالمرأة، وهي بيت القصيد.

    فمن هذه الثوابت: أن المرأة إنسان كالرجل، والمرأة المؤمنة لها حقها كالرجل في الجملة، فهي إنسان كريم له حقوقه، وتوزن المرأة بميزان الإيمان والعمل الصالح كالرجل تماماً؛ لأن الله عز وجل يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، فلا فرق بين المؤمن والمؤمنة في الحساب عند الله عز وجل وفي الأجر على العمل وفي الحساب على التقصير في الإجمال.

    وتبقى بعض التفصيلات حول الواجبات وحول العقوبات الجزئية، وهذه راجعة إلى خصوصية كل جنس من ذكر أو أنثى.

    الثابت الثاني: أنه في كثير من الأمور ليس الذكر كالأنثى، وهم يخلطون في هذه القضية، فيقولون: الناس سواسية، ويقولون: المرأة نصف المجتمع، وإذا كانت نصف المجتمع فماذا يعني ذلك؟

    إنَّ المرأة كريمة ومحفوظة في الإسلام، ولها حقوقها، وعليها واجبات، وهذا معلوم قطعاً، لكن في كثير من الأمور ليس الذكر كالأنثى.

    بل إن هؤلاء من أصحاب الاتجاهات العقلانية يرون أن هناك خصائص للرجل لا يريدون أن يتنازلوا عنها.

    المقدم: إذاً دعوى المساواة ليست عملية؟

    الشيخ: لأن المساواة في كل شيء مستحيلة، وأما العدل فنعم، وهم يموهون علينا وعلى أجيالنا بقضية المساواة، فهل الرجال يستوون؟

    المقدم: لا يستوون.

    الشيخ: إذاً: تستحيل المساواة، فكيف يستوي الرجل والمرأة؟!

    إن المرأة عليها واجبات غير واجبات الرجل، والرجل عليه واجبات غير واجبات المرأة، وتبقى التفاصيل، لكن في الإجمال ليس الذكر كالأنثى.

    المقدم: إذاً: هذه الدعوى ليست موضوعية.

    الشيخ: ولا يريدون أن تكون موضوعية؛ لأنهم لو جعلوها موضوعية لما طرحوها بهذا الشكل المنكوس المعكوس.

    وهناك أمر آخر وهو أن المرأة لها حقوق محفوظة في الإسلام، وعليها حقوق، كما أن الرجل له حقوق وعليه حقوق، فهناك حقوق عامة مشتركة بين الجميع، وهذه ليست محل خلاف، وهناك حقوق وواجبات ليست مشتركة، فيجب أن تبقى للمرأة خصائص تختص بها، وللرجل خصائص يختص بها، سواء في الحقوق أو في أداء الأعمال.

    وأمر ثالث: أن هناك قواعد عامة لا تعني الغض من قدر المرأة، وهي أن القوامة للرجل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34].

    المقدم: وهذا مما ينتقدونه أصلاً.

    الشيخ: هذا كلام الله عز وجل العليم الخبير.

    المقدم: نعم. سبحانه.

    الشيخ: وأنا أعجب -ولا ينقضي عجبي- من أنهم كثيراً ما يدندنون حول هذه القضية، قضية أن المرأة ظلمت وأن جميع مقاليد الأسرة جعلت بيد الرجل، وأنَّ الرجل سلط على المرأة.

    فطريقتهم -كما أشرنا إليها سابقاً- انتقائية، ويبدو لي أنَّ كثيراً منهم يعانون من مشكلات معينة، فيصبونها على المجتمع، أو يحكمون على المجتمع بمعاناتهم، ولا أقول: كلهم.

    الأمر الآخر: أنهم يأخذون بعض المشكلات التي تقع فيها مظالم للمرأة فيجعلونها ذريعة لباطلهم، نعم توجد مظالم لها، لكن توحد مظالم للرجل، وأنا أعتقد أنه في الآونة الأخيرة لما نفخت بعض النساء بأكثر مما يطقن ظلمن الرجال، ولذلك نقول: لا مانع من أن يقيموا جمعيات حقوق المرأة، ولكن لماذا لا تقام جمعيات لحقوق الرجل كما تقام للنساء؟!

    المقدم: لا يريدون هذا.

    الشيخ: إذاً: القضية فيها هوى، نعم توجد مظالم لبعض النساء، وأعتذر من أخواتي اللائي يعرفن كثيراً من المظالم، فهناك مظالم، ولكن ليس الحل أن تقفز المرأة، أو تحمل ما لا تطيق من الأشياء الخاصة بالرجال.

    المقدم: مرجع هذه المظالم يبدو -يا شيخ- أنها من الرجل وليست من الشريعة.

    الشيخ: ممارسات الناس ليست محسوبة على الشرع، فالشاهد أنهم كثيراً ما يلغون القوامة أو ينتهكونها.

    الأمر الآخر: أنهم حينما يدندنون على حقوق المرأة وواجباتها لا يذكرون الواجبات الشرعية الأساسية؟

    أليس من واجبات المرأة أولاً: حفظ كيان الأسرة؟

    المقدم: بلى.

    الشيخ: ورعاية حقوق الرجل، ورعاية الأطفال، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا فقال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، ثم قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).

    فهذه المسئولية لا يتكلمون عنها، بل يرون المرأة مسئولة عن أن تقفز إلى الشاشات، وأن ترقص، وأن تمارس الحريات التي تخلُّ بالفضيلة، والتي تتمرد بها على القوامة وتتمرد بها على الأخلاق، وتترك واجباتها الأساسية في البيت، وتترك حضانة الأبناء.. إلى آخر الواجبات الأساسية، لا أقول: لا يتطرقون إليها، ولكن يمسونها مساً خفيفاً على استحياء.

    ثم لا ننسى أنهم أحياناً يأتون بقضايا ليس لها وجود في واقع المرأة.

    المقدم: مثل ماذا؟

    الشيخ: مثلاً: يعتبرون المرأة حبيسة البيت عندنا، ويدَّعون هذا.

    المقدم: يرون أنها مظلومة.

    الشيخ: نعم، يرون أنها محبوسة وأنها في سجن، فهل البيت سجن؟

    إن المرأة إذا عاشت قريرة العين مع زوجها في حياة أسرية سعيدة فهي في أكبر النعيم.

    ومن قال: إننا نسجن المرأة في البيت؟

    إن المرأة تخرج، لكن بضوابط شرعية.

    فأقول: إنهم أحياناً يوهمون الناس بوجود مشكلات ويضخمونها، وهي قد تكون ممارسات قليلة، أو بحجم تمكن معالجته، أو ليست بالقدر الذي يصورونه.

    المقدم: لذلك جعلوا الأصل للمرأة أن تخرج من بيتها، وهذا مخالف لقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33].

    شيخ ناصر العقل ! نشكرك شكراً جزيلاً على هذا الطرح في هذا اللقاء، ونسأل الله أن يبارك فيكم وفي علمكم.

    الشيخ: آمين.

    المقدم: شكراً لكم أنتم أيضاً -مشاهدينا الكرام- على متابعتكم هذه الحلقة من حراسة العقيدة.

    وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992355