إسلام ويب

العقيدة الواسطية [13]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة ويسألون ربهم أن يمن به عليهم رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة, وهي مسألة عقدية نطق بإثباتها صريح الكتاب ومتواتر السنة, وأينعت ثمار الإيمان بها في قلوب الموحدين, وصنف فيها الأئمة والعلماء وكتبوا, وضل عن الإيمان بها منكروها من المعتزلة ومن وافقهم, مستمسكين بالواهي من استنتاجات العقول التي لا يجوز نصبها خصمًا لأدلة الشرع الصريحة الصحيحة.

    1.   

    إثبات رؤية الله عز وجل يوم القيامة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد:

    فموضوع رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فيه مسائل: مسألة رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة، وهي أطول مسألة في هذا الموضوع.

    ومسألة رؤية الله عز وجل يوم القيامة، يعني: قبل دخول الجنة.

    ومسألة هل الكفار والمنافقين يرون الله عز وجل في عرصات القيامة أم لا يرونه؟

    ومسألة رؤية النساء لله عز وجل؟

    ومسألة رؤية الله عز وجل في الدنيا؟

    ورؤية الله في المنام، ونحو ذلك من المسائل.

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23]، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].

    وهذا الباب في كتاب الله كثير. من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق].

    هذه جملة من الآيات التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى للاستدلال على رؤية الله عز وجل يوم القيامة.

    طرق العلماء في الكلام على صفة الرؤية في مصنفاتهم

    وموضوع الرؤية تحدث عنه العلماء في مصنفاتهم بطريقتين:

    الطريقة الأولى: أن يفردوا له مصنفاً خاصاً ويكون هذا المصنف جميعه في باب الرؤية.

    والطريقة الثانية: أن يتكلموا عن موضوع رؤية الله سبحانه وتعالى ضمن باب من أبوب متعددة في العقيدة.

    وموضوع الرؤية يوجد في كل كتب الاعتقاد، سواءً القديمة أو المتأخرة مثل: الشريعة للآجري ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، والسنة لـعبد الله بن الإمام أحمد ، وغيرها من مصنفات العقيدة القديمة الطويلة، وكذلك كتب العقيدة المتأخرة مثل هذا الكتاب، ومثل: لمعة الاعتقاد، وغيرها من كتب العقيدة، فكلها يوجد فيها فصل أو باب في الحديث عن رؤية الله عز وجل.

    وأما الكتب التي أفردت موضوع الرؤية بالتصنيف فهي: كتاب الرؤية للإمام أحمد رحمه الله.

    ذكر ذلك ابنه عبد الله في كتابه السنة، وأنه قرأه عليه، غير أنني لم أجد هذا الكتاب ولم أطلع عليه لا مخطوطاً ولا مطبوعاً.

    والكتاب الثاني هو: كتاب الرؤية لـابن أبي داود السجستاني ، وهذا الكتاب أيضاً لا أعلم وجوده، وولكن يذكره أهل العلم، ونقل ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى عن هذا الكتاب.

    وكتاب: رؤية الله تبارك وتعالى لـابن النحاس ، وابن النحاس هذا توفي في سنة 416، وهذا الكتاب طبع في الهند في الدار العلمية في لاهو بتحقيق محفوظ السلفي .

    والكتاب الرابع: الرؤية لـابن الأعرابي . وهذا الكتاب مخطوط، وتوجد منه نسخة في المكتبة الظاهرية في دمشق.

    والكتاب الخامس: كتاب التصديق بالنظر إلى الله تبارك وتعالى في الآخرة للآجري. وهذا الكتاب طبع بهذا العنوان مستقلاً. وهو في الحقيقة جزء من كتاب الشريعة للآجري ، وقد طبع كتاب الشريعة في بداية الأمر بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي في جزء واحد صغير، ثم طبع بعد ذلك في ستة أجزاء بتحقيق الدكتور عبد الله الدميجي ، وقد ذكر وحقق أن هذه الرسالة جزء من الشريعة للآجري .

    وكذلك لـأبي نعيم كتاب في الرؤية. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولم أطلع عليه.

    وأيضاً للبيهقي رحمه الله: كتاب في الرؤية. ذكره الذهبي في ترجمته في تذكرة الحفاظ. وأيضاً لم أطلع على هذا الكتاب مخطوطاً ولا مطبوعاً.

    ومن أكبر الكتب في الرؤية: كتاب الرؤية للدارقطني رحمه الله، وقد صنفه على طريقة المحدثين، وذكر فيه 286 رواية تقريباً بالمكرر.

    وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله موضوع الرؤية في أماكن متعددة من كتبه ورسائله، وتكلم عن موضوع الرؤية ابن القيم رحمه الله كلاماً طويلاً في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، وقد أطال الكلام في موضوع رؤية الله عز وجل، وفصّل فيها كثيراً، رحمه الله تعالى.

    1.   

    الأدلة من القرآن على رؤية الله يوم القيامة

    آية سورة القيامة

    وهذه الأدلة التي ذكرها الشيخ هي قول الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فالأولى ناضره بالضاد بدون ألف، والثانية بالظاء بألف، فقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، من النضرة، وهي: البهاء والجمال. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] والمقصود بالنظر هنا نظر العين، وذلك: أن مادة (نظر) إما أن تتعدى بنفسها، وإذا تعدت بنفسها فإنها تكون حينئذ بمعنى: الانتظار، كقول الله عز وجل: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، وكقوله تعالى: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:49]، وكقوله: فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35].

    والفعل ينقسم إلى قسمين: لازم، ومتعد.

    والفعل اللازم هو: الذي يكتفي بفاعله.

    والفعل المتعدي هو: الذي يطلب مفعولاً.

    والفعل المتعدي ينقسم إلى قسمين:

    متعد بنفسه، وهو: الذي يطلب المفعول بنفسه، بدون صلة.

    متعد بصلة، وهو: الذي يتعدى إلى مفعوله بحرف من حروف الجر.

    فإذا تعدى الفعل (نظر) بنفسه فيكون النظر بمعنى: الانتظار، كما في قوله تعالى: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، أي: انتظرونا، وقوله: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً [يس:49]، يعني: ما ينتظرون إلا صيحة، وقوله: فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35]، يعني: منتظرة بم يرجع المرسلون.

    وإذا تعدى فإما أن يتعدى بحرف (في)، وإما أن يتعدى بحرف (إلى)، فإذا تعدى بحرف (في) فيكون معنى النظر: التفكر والاعتبار والاتعاظ، كقول الله عز وجل: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، يعني: أولم يعتبروا ويتفكروا في ملكوت السماوات والأرض.

    وأما إذا تعدت (بإلى) فإنها تكون نصاً في الرؤية بالعين، كقوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17]، وكيفية النظر إلى خلق الإبل لا يتم إلا إذا نظر الإنسان إليها بعينه، وكذلك قوله تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:99]، يعني: انظروا بأعينكم، وكقوله أيضاً في قصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259] ، ومعنى النظر هنا: النظر بالعين.

    ويزيد التأكيد على أن النظر في هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] بالعين هو: أن النظر جاء متعدياً (بإلى)، وهو نص في رؤية العين، ثم إنه أضيف إلى الوجه، وليس في الوجه ما يمكن أن ينظر به إلا العين، فعلم من هذا أن قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، يعني: إلى ربها ناظرة بعيونها.

    فالمؤمنون يرون الله عز وجل يوم القيامة بعيونهم التي في رؤوسهم.

    وبعض المبتدعة يقول: إن النظر في هذه الآية معناه: الإدراك العقلي والشعور النفسي والفكري فقط، وأنه لا يمكن أن يرى الله عز وجل بالعين التي في الرأس مع هذه التأكيدات التي تدل على أن الآية المقصود بها النظر بالعين التي تكون في الرأس.

    آية سورة المطففين

    ثم قوله تعالى: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23]، هذه الآية ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مستدلاً بها على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.

    وأكثر المفسرين إذا جاءوا إلى هذه الآية: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23]، يقولون: ينظرون إلى ما أعطاهم الله عز وجل من النعم والبهاء والخير. وقال بعض المفسرين: ينظرون إلى أهل النار وهم يعذبون في النار، فيزدادون بهذا فرحاً إلى فرحهم، بأنهم ليسوا من هؤلاء، وأن الله عز وجل قد أنعم عليهم بهذه الجنة.

    وذكر ابن كثير رحمه الله زيادة على ذلك: أنهم ينظرون إلى الله عز وجل، فيكون الاستدلال بهذه الآية من جهة العموم؛ فإن الآية في قوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:22-23]، يعني: ينظرون إلى النعيم، وإلى الله، وإلى أهل النار وهم يعذبون، وإلى أنفسهم، ونحو ذلك.

    آية سورة يونس

    قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، فقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا، يعني كما قال ابن عباس : للذين قالوا: لا إله إلا الله، وبعضهم قال: للذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات.

    والمقصود: للذين أحسنوا في حياتهم بتقوى الله عز وجل.

    والحسنى على وزن فعلى، وهي التي بلغت الغاية في الحسن، والمراد بها: الجنة. وقوله: وَزِيَادَةٌ، هذه الزيادة جاءت مفسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث صهيب وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]) وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.

    ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في هذا الحديث بأنه رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهذا هو مقتضى المعنى.

    وبعض أهل البدع الذين قالوا: إن معنى الزيادة هنا: زيادة النعيم، يقال لهم: إن صيغة الحسنى صيغة تدل على المبالغة في الحسن. فمعنى الحسنى: الشيء الذي بلغ الغاية في الحسن، وإذا بلغ الغاية في الحسن فالزيادة عليه تدل على أنه لم يبلغ الغاية، فتصبح الصيغة صيغة ضعيفة وليست صيغة صحيحة، وحينئذ يكون التركيب القرآني تركيب غير سليم، وهذا ما يدل على أن تفسيرهم باطل؛ لأن القرآن قرآن مبين، وأنزل بلسان عربي مبين كما أخبر الله عز وجل، فلما أخبر أن للذين أحسنوا الحسنى، يعني: الجنة التي بلغت الغاية في الحسن وزيادة. دل هذا على أن الزيادة هذه غير الحسنى التي أعطوا إياها، فيدل على أن الزيادة: رؤية الله عز وجل النقل والعقل.

    فأما النقل: فهو ما رواه مسلم من حديث صهيب ، وقد سبق.

    وأما العقل: فهو أيضاً كما سبق تقريره من أنه لو كانت الزيادة تعني: الزيادة في النعيم لما كان للتعبير بالحسنى معنى. فلما عبر بالحسنى عن الجنة وهي التي بلغت الغاية في الحسن، ودل هذا على أن الزيادة ليست زيادة في النعيم الذي يكون في الجنة.

    آية سورة (ق)

    قوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].

    ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: أنه فسر المزيد في هذه الآية في سورة ق بأنه النظر إلى وجه الله عز وجل.

    وإنما قال العلماء: إن هذه الآية تشبه تلك الآية، ولا فرق بينهما، فإن الآية السابقة: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26] تشبه قوله: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا [ق:35].

    وهي مطلقة فلهم ما يشاءون وما يشتهون من النعيم، ثم قال في تلك: وَزِيَادَةٌ، وقال في آية ق مَزِيدٌ فدل على أن الزيادة هي المزيد هنا.

    رد اعتراض المعتزلة على تفسير المزيد في سورة (ق) بالرؤية

    وقد اعترض بعض أهل البدع وهو القاضي عبد الجبار في شرحه للأصول الخمسة وهو من المعتزلة على تفسير المزيد بالرؤية، وقال: إن المزيد لا يكون إلا من جنس ما زيد عليه، ولو كان المزيد هنا رؤية الله عز وجل لبطلت هذه القاعدة؛ فدل هذا على أن الزيادة هي: زيادة النعيم على ما أعطوا سابقاً.

    واستدلوا على ذلك بأن قولنا مثلاً: سأعطيك عشرة آصع من الحنطة وزيادة، يعني وزيادة: صاع مثلاً أو صاعين على تلك العشرة. فلا بد أن يكون المزيد من جنس المزيد عليه.

    وهذا الكلام باطل، وقد رد عليه بعض أهل العلم وقال: إن المزيد يكون من جنس المزيد عليه إذا كان المزيد عليه مقدراً أو محدداً، فحينئذٍ يدل على أن الزيادة من جنسه، وأما إذا لم يكن مقدراً ومحدداً كقولك: لأعطينك حنطة وزيادة فإن الزيادة لا تكون من جنس المزيد عليه، ولو كانت من جنسها لما كان هناك مبرر لهذه الزيادة.

    فلو قلت لشخص مثلاً: سأعطيك ذهباً وزيادة، فإن هذا الشخص لن يفهم أن هذه الزيادة زيادة ذهب؛ لأن الذهب الذي ستعطيه إياه أصلاً غير مقدر، فهو أعلى شرط ممكن، فإذا قلت: وزيادة فليس لها مبرر. ولكن إذا قدرت الشيء وحددته فقلت له مثلاً: سأعطيك عشرين مثقالاً من الذهب وزيادة، يعني: وزيادة على العشرين.

    وعلى هذا فقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26]، لما لم تكن الحسنى مقدرة بعدد معين دل هذا على أن الزيادة غير المزيد عليه. ولو كانت الجنة مقدرة ومحددة فقيل: وزيادة، لكانت هذه الزيادة زيادة من جنس المزيد عليه وهو النعيم في الجنة. ولكن الجنة ليس لها قدر محدد، وإنما هي نعيم دائم مقيم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.

    وحينئذ يبطل اعتراض القاضي عبد الجبار ويبطله ما هو أصرح وأوضح من هذا، وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للزيادة: بأنها رؤية الله عز وجل يوم القيامة.

    مفهوم آية سورة المطففين

    قول الله عز وجل: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

    وهذه الآية في سورة المطففين تدل على أن الكفار يحجبون عن رؤية الله عز وجل يوم القيامة؛ لأنهم من أهل الجحيم، وقد استدل الشافعي رحمه الله تعالى بهذه الآية من جهة المفهوم بأن أهل النعيم يرون الله عز وجل، وقال: إنه لما حجب نفسه عنهم في مقام التعذيب، دل على أنهم يرونه في مقام التكريم والعطاء.

    وهذا استدلال واضح وقوي بالمفهوم، والاستدلال في الاعتقاد يمكن أن يكون بالمنطوق وبالمفهوم، كما يكون بالقول وبالفعل وبالتقرير، وأنه يمكن الاستدلال على قواعد الاعتقاد بهذه جميعاً.

    آية سورة الإنسان

    قول الله عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20]، وفي قراءة: ومَلِكاً كبيراً وهي قراءة صحيحة فيصبح معنى الآية: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ، يعني: هناك، فثم اسم إشارة رَأَيْتَ نَعِيمًا، وهذا هو الجنة، وَمَلِكاً كَبِيرًا، يعني: الله عز وجل، فهو الملك سبحانه وتعالى، مالك كل شيء، ففيه إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.

    1.   

    الأدلة من السنة على رؤية الله يوم القيامة

    وأما الأدلة من السنة فقد ساق الشيخ الحديث المشهور في رؤية الله عز وجل، وقد ذكر العلماء: أنه قد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إخباره برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فأحاديث الرؤية ليست من الآحاد، بل هي متواترة يستحيل في العادة التواطؤ على الكذب فيها.

    قال المؤلف رحمه الله: [قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا). متفق عليه].

    وهذا الحديث وغيره من أحاديث الرؤية رواها أكثر من عشرين صحابياً. وهذا الحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي وهو في صحيح البخاري ، وروي أيضاً عن أبي هريرة وعن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

    وجاء في لفظ آخر: (إنكم سترون ربكم عياناً)، وهي لفظة صحيحة رواها البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي .

    فقوله: (عياناً)، توكيد لرؤية الله عز وجل بالبصر، وقد قدح القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة في مرويات السنة بعدة أمور وكان منها: أن هذه أخبار آحاد لا تقبل في العقيدة.

    ومما يبطل هذا الكلام: أن هذه النصوص ليست من أخبار الآحاد، ثم إنه لو كانت خبر آحاد فهي مقبولة في العقيدة.

    1.   

    الفرق المنكرة للرؤية

    وقد ضل في موضوع الرؤية فرقتان من الفرق الضالة:

    إنكار المعتزلة للرؤية والرد عليهم

    * أما الفرقة الأولى: فهم المعتزلة المحرومون.

    فقد قالوا: إن الله لا يرى يوم القيامة بالعين. وأولوا جميع الآيات وجميع الأحاديث الواردة في رؤية الله عز وجل بالمعرفة وأن المراد بهذه الآيات والأحاديث زيادة المعرفة والإكثار منها وهو مشهور عن المعتزلة.

    والمعتزلة في الحقيقة لم يستدلوا بالأدلة الشرعية على إنكار رؤية الله عز وجل، وإنما كان منطلقهم في الاستدلال على إنكار رؤية الله عز وجل منطلق عقلي محض. فقالوا: إذا كان الله يرى فمعنى هذا أنه في جهة، ولا يكون في جهة إلا ما كان جسماً منقسماً.

    وهذه الألفاظ لا بد أن يستفصل عن معناها، فإذا كانت معانٍ صحيحة قبلت، وإذا كانت معانٍ باطلة ردت، وإذا كانت مشتملة على معنى صحيح ومعنى باطل قبل الصحيح ورد الباطل. وهذه الاصطلاحات متأخرة ظهرت بعد الاصطلاحات الشرعية، وأراد بها أصحابها أنواعاً من العقائد التي تشتمل على الحق والباطل.

    فهم مثلاً يقولون: إن إثبات العلو لله، وإثبات رؤيته عز وجل يلزم منه أن يكون الله في جهة.

    ونحن نقول: ماذا تريدون من كلمة جهة؟ فإذا كنتم تريدون من كلمة جهة أن الله عز وجل في جهة العلو، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ولا يحيطون برؤيتهم له إحاطة تامة، كما قال الله عز وجل: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] فهذا معنى حق أثبته الشرع، فلا عبرة بنفيكم. وإن كنتم تقصدون بالجهة: أن الله في جهة، يعني: أنه محصور في جهة فهذا معنى باطل لا نقول به.

    وإنما نقول: إن الله عز وجل في جهة العلو، وهو سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة بالأبصار.

    فلما رأى المعتزلة أن أهل السنة أصحاب عقيدة صحيحة، وأن منطلقهم النصوص بدءوا يتلمسون في النصوص ما يحاولون أن يستدلوا به على إنكار الرؤية، وهذه طريقة أهل البدع.

    فأهل البدع يقررون العقيدة أولاً كما يشاءون، ثم بعد ذلك يحاولون يأخذوا من النصوص ما يظنون أنه يوافق عقيدتهم ويستدلون بها، ويتركون الواضحات البينات.

    فجاءوا إلى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، فقالوا: إن معناها: أنه لا يرى.

    وهذا كلام باطل؛ لأن الله عز وجل في هذه الآية لم ينف الرؤية وإنما نفى الإدراك. والإدراك معناه: الإحاطة. ونحن لا نقول: إن الله عز وجل نراه يوم القيامة ونحيط به، وإنما نقول: نراه ولا نحيط به كما فسرتموها بالعلم، فإن علمه لا يحاط به، كما قال الله عز وجل: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] ومعنى هذا إذاً: أننا لا نعرف الله عز وجل، لأننا لا نحيط به علماً، وهذا إلزام لهم. وإلا فالمعنى الصحيح لهذه الآية: أن الله عز وجل نفى عن العباد أن يدركوه، فلا يمكن للعبد أن يدرك الله عز وجل حتى مع نظره إليه.

    وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التدمرية عند حديثه عن القدر المشترك بين صفات الله وصفات خلقه: أن الله عز وجل يقول: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] فهذه الآية فيها إثبات للرؤية؛ لأنه قال: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] وهذا يدل على أنها تراه. فنفى الإدراك ففيه تضمين لإثبات الرؤية.

    فيكون هذا دليل إضافياً إلى تلك الأدلة التي تدل على رؤية الله عز وجل يوم القيامة.

    إنكار الأشاعرة للرؤية وتأويلهم لها

    الطائفة الثانية المنحرفة في باب الرؤية هم: الأشاعرة. والأشاعرة في كثير من الأحيان يأتون بشعارات يتفقون مع أهل السنة فيها، لكنهم عند التحقيق يختلفون عن منهج السلف رضوان الله عليهم. فهم يقولون مثلاً: نحن نقول: بإثبات الرؤية، وأن الله يرى يوم القيامة.

    ويقررون هذا في مصنفاتهم بشكل واضح، ولكنهم يفسرونها بمزيد الانكشاف العلمي، ومعنى هذا: أن الرؤية هي علم عندهم، وهي مزيد معرفة بالله فقط.

    وهذه العلم غير الرؤية كما هو معلوم؛ لأن الإنسان يمكن أن يعلم شيئاً ولا يراه بعينه، ونحن في الدنيا نعلم وجود الله عز وجل ونعلم صفاته سبحانه وتعالى ولم نره بأعيننا.

    فهم عندما جاءوا إلى الرؤية في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم)، قالوا: هذا يعني: ستعلمون ربكم. فوافقوا المعتزلة في الحقيقة وخالفوهم في الشعار.

    فإذا سمعت أشعرياً يقول: إننا نثبت رؤية الله عز وجل، فقل له: هل تثبت رؤية الله عز وجل بالعين؟

    فسيقول لك حينئذ: إنه مزيد انكشاف، وبعضهم كـالغزالي في إحياء علوم الدين يقول: إن الله يخلق في عين العبد رؤية له، وهو في الحقيقة لم ير الله عز وجل؛ وذلك لأنهم ينفون الجهة. ويقولون: الله عز وجل ليس في جهة.

    ولهذا يقول العلماء عنهم: من أثبت الرؤية ونفى الجهة فقد أضحك الناس على عقله، والأشاعرة لا يقولون: إن الله في السماء، وإنما يقولون: هو في كل مكان. أو يقولون: لا خارج العالم ولا داخله، ولا في العلو، فكيف يُرى من كانت هذه صفته؟!

    ولهذا لما جاءوا إلى الرؤية قالوا: إن الرؤية معناها مزيد انكشاف علمي. أو يقولون كما قال الغزالي : إن الله يخلق في نظر العبد شيئاً من مخلوقاته تسمى الرؤية، وهذه طريقة عجيبة في التعامل مع النصوص، وهذا لا شك أنه باطل؛ فإن النصوص الشرعية أثبتت أن الله عز وجل يُرى يوم القيامة بالعين المجردة التي هي عين الإنسان، وليس في هذا إحاطة ولا إدراك أبداً.

    فهؤلاء محجبون محرومون يموت الواحد منهم وهو لا يعتقد أنه يرى الله عز وجل فهم في أشد الحرمان والعياذ بالله.

    ثمرات الإيمان برؤية الله تعالى يوم القيامة

    وأما الفائدة التربوية والسلوكية والإيمانية لرؤية الله عز وجل فهي: أن إثبات رؤية الله عز وجل تورث في القلب محبة لله عز وجل، والشوق إلى لقائه، والتمني لهذه الرؤية، بل إن الإنسان إذا علم أن لذة النظر إلى الله عز وجل تفوق كل لذة، حتى في الجنة -مع أن نعيم الجنة لا يوصف بمقاييس نعيم الدنيا- هان في نظرهم كل نعيم.

    ولهذا أعلى المؤمنين منزلة من يرى الله عز وجل في كل يوم مرتين، وهذا يناله الإنسان بكثرة العمل، وكثرة تطبيق ما أمر الله عز وجل، واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، والحرص على ذلك، وبذل الجهد في العمل الصالح.

    ومما يوصل إلى رؤية الله عز وجل يوم القيامة العقيدة الصحيحة التي تتضمن إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وهو الذي يحكم بيننا وبين هؤلاء المبتدعة الضالين يوم القيامة، عندما تجتمع الخصوم بين يدي الله عز وجل، وفي ذلك اليوم تحق الحقائق فيرى المؤمنون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة.

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يراه في جنات عدن، إنه على كل شيء قدير.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الفرق الضالة في العقيدة

    السؤال: هل الفرق الضالة كفار؟

    الجواب: الفرق الضالة بحسب البدعة التي ضلوا فيها، فإن كانت بدعهم كفرية -كبدع الإسماعيلية والقرامطة والشيعة- فيُكفرون، وأما إذا كانت البدع أقل من ذلك -كبدع الأشاعرة مثلاً- فليسوا كفاراً، فإن الأشاعرة بإجماع العلماء ليسوا كفاراً، حتى ولو كانت عندهم بدع وانحرافات.

    حكم الأشاعرة

    السؤال: الأشاعرة الذين ينفون رؤية الله عز وجل، هل هم كفار؟

    الجواب: لا، ليسوا كفاراً، وإنما هم أهل بدع.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756172292