إسلام ويب

مواقف إيمانية في الصبر على البلاءللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصبر ضياء للمسلم في حياته، وأعلى منه رتبة الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، وقد ضرب في ذلك الأنبياء والصالحون أروع الأمثلة، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيوب عليه السلام، فعلى المرء المسلم أن يتحلى بالصبر والرضا حتى ينال الدرجات العلى.

    1.   

    أنواع الصبر وحاجة الإنسان إليه

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:

    فلما كانت الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء لا يسلم المؤمن في الدنيا من المصائب والرزايا والبلايا، قال بعضهم:

    المرء رهن مصائب لا تنقضي حتى يوسد جسمه في رمسه

    فمؤجل يلقى الردى في غيره ومعجل يلقى الردى في نفسه

    ونحن في أزمنة متأخرة حرم فيها المسلمون من التحاكم إلى شريعة ربهم عز وجل، ونكست فيها أعلام العلم والدين، وصار الدعاة إلى الله عز وجل والملتزمين بشرع الله عز وجل محاربين مضطهدين، وارتفعت أعلام الفتن، وكثرت الشبهات والمحن، وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر، فما أحوجنا إلى تعلم الصبر والعمل به، فإن الصبر ثلاثة أنواع:

    صبر على الطاعات حتى يؤديها.

    وصبر على المعاصي حتى لا يقع فيها.

    وصبر على الأقدار المؤلمة التي تخالف هوى النفس.

    وهذه الأنواع الثلاثة حاجتنا إليها في هذا الليل الحالك أكثر من حاجتنا إلى الطعام والشراب.

    اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.

    1.   

    تعريف الصبر وذكر مراتبه

    معنى الصبر:

    الصبر لغة: هو المنع والحبس.

    وشرعاً هو: حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب.. ونحو ذلك.

    وقيل: هو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به عن فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.

    وقال بضعهم: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.

    وقال آخر: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.

    وقال آخر: هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى.

    وقال آخر: تجرع المرارة من غير تعبس.

    والنفس لها قوتان: قوة إقدام وقوة إحجام.

    فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره.

    وقيل: الصبر شجاعة النفس.

    ومن هنا أخذ القائل قوله: الشجاعة صبر ساعة.

    والصبر والجزع ضدان، كما أخبر تعالى عن أهل النار أنهم يقولون: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21].

    فهذا تعريف الصبر.

    منزلة الرضا ومحلها من الصبر

    أما الرضا فهو: انشراح الصدر وسعته بالقضاء.

    يعني: أن الرضا درجة أعلى من درجة الصبر، فالصبر: المنع والحبس، منع النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب .. ونحو ذلك.

    أما الرضا فهو: انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال الألم.

    يعني: أن الإنسان لو أصيب ببلاء فهو لا يتمنى زوال هذا البلاء؛ لما يرجو من ثوابه عند الله عز وجل، فهو لو خير بين أن الذي ذهب منه يعود إليه وبين ألا يعود لاختار ألا يعود، فلو مات له ولد أو فقد ماله أو فقد سمعه أو بصره فإن طمعه في ثواب الله، ومحبته لقضاء الله عز وجل وقدره تجعله لا يتمنى غير ما كان، فهو يرضى بقدر الله عز وجل، ويطمع في الثواب، وتطمئن نفسه إلى قضاء الله عز وجل وقدره.

    فالرضا هو: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال الألم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة.

    وإذا وجد الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية، فللعبد فيما يكره درجات: درجة الرضا ودرجة الصبر.

    فالرضا فضل مندوب إليه، والصبر واجب على المؤمن حتماً.

    وأهل الرضا تارة يلاحظون المبتلي وخيره لعبده في البلاء، وأنه غير متهم في قضائه.

    وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله، فيستغرقون في مشاهدة ذلك؛ حتى لا يشعرون بالألم، وهذا يصل إليه أهل المعرفة والمحبة، حتى ربما تلذذوا بما أصابهم؛ لملاحظتهم صدوره من حبيبهم.

    الفرق بين الرضا والصبر

    والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر حبس النفس وكفها عن السخط مع وجود الألم وتمني زواله، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع.

    والرضا يوافق الصبر في حبس النفس وكف الجوارح، ويزيد عليه عدم تمني زوال الألم.

    ففرح العبد بالثواب وحبه لله عز وجل وانشراح صدره بقضائه يجعله لا يتمنى زوال الألم.

    قال شيخ الإسلام : ولم يجئ الأمر به -أي الرضا- كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً).

    وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفرت ذنوبه).

    فالرضا لم يوجبه الله عز وجل على خلقه، ولكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عز وجل عنه؛ يعني: كما أن توبة العبد تكون نتيجة لتوبة سابقة من الله عز وجل -توبة إذن وتوفيق- ويعقبها توبة قبول وإثابة، فكذلك الرضا.

    فالله عز وجل يرضى عنه فيرزقه الرضا، ثم يرضى عنه رضا قبول وإثابة، فالله عز وجل هو الأول والآخر.

    فرضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه على عبده، رضا قبله أوجب له أن يرضى، ورضا بعده هو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين، نسأل الله أن يقسم لنا من رضاه ما يبلغنا به غاية المنى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    1.   

    فضل الصبر

    فضيلة الصبر:

    وردت آيات كثيرة وأحاديث نبوية شريفة تبين فضيلة هذه العبادة:

    فضل الصبر في القرآن الكريم

    من ذلك: قوله عز وجل: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

    والمصيبة هي كل ما يؤذي الإنسان ويصيبه، وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين.

    يعني بالعدلين: الصلاة والرحمة، والعدلان: ما يوضعان فوق سنام البعير، والعلاوة: الزيادة على العدلين التي توضع فوق سنام البعير.

    فالصابرون هنا يبشرون بثلاثة أمور: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:155-157].

    وهما العدلان: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] وهذه العلاوة.

    وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

    وفاز الصابرون بمعية الله عز وجل، قال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

    وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال تعالى -وبقوله اهتدى المهتدون-: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    وقال تعالى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126].

    وقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].

    وعلق الفلاح بالصبر والتقوى، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    وأخبر عن محبته للصابرين فقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

    ولا يفوز بجنة الله عز وجل إلا الصابرون، قال تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111].

    نسأل الله تعالى أن يفتح علينا في الدين، وأن يجعلنا من الصابرين الشاكرين.

    فضل الصبر في السنة النبوية

    أما أدلة السنة على فضل الصبر والصابرين، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يصب منه).

    وأنتم تجدون أصحاب الدنيا والشهوات والمال والجاه والسلطان عندهم الصحة والعافية والمال والجاه، فيستعينون بذلك على المعاصي فيزدادون غياً وتمادياً، وتجدون أهل الإيمان غالباً عندهم الأمراض والفقر والأوجاع، فليس إعطاء الدنيا دليلاً على محبة الله عز وجل، بل قال الله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44].

    قال بعض السلف: يعطيهم النعم ويمنعهم الشكر.

    وقال بعضهم: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها).

    وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً).

    وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: أصبر، لكن ادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها). فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن صبرها على هذا المرض يوجب لها الجنة، وأنها إذا صبرت عليه تدخل الجنة، وإن شاءت أن يدعو لها فسيدعو لها، فاختارت الصبر: ثم قالت: إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها صلى الله عليه وسلم.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).

    وقال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -يعني: عينيه- فصبر عوضته منهما الجنة).

    فبين أن جزاء الصبر على هذه المصيبة الجنة؛ لأنها مصيبة عظيمة، فمن ابتلي بهذا البلاء فجزاؤه الجنة إذا صبر.

    وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها).

    وهذا إنما يكون عند الصدمة الأولى، كما في الحديث: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، يعني: محك الصبر الحقيقي عند الصدمة الأولى؛ لأن الإنسان يسلم بقضاء الله بعد ذلك، وإنما يفعل الصابر في بداية المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام.

    فقدر الله عز وجل واقع مثل السيف، فالصبر الحقيقي أن الإنسان يصبر عند نزول البلاء.

    والناس بعد ذلك يسلمون، فمن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم، فكما أن البهائم تكون مستسلمة لقضاء الله عز وجل وقدره ولما هي فيه، فالناس بعد ذلك يستسلمون، ولكن الصبر الحقيقي الذي يثاب عليه المرء إنما يكون عند الصدمة الأولى.

    قالت أم سلمة : (فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة ؟ ثم أني قلتها، فأخلف الله لي رسوله صلى الله عليه وسلم).

    1.   

    آثار عن السلف الصالح في الصبر والرضا

    آثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم في الصبر والرضا:

    قال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوساً.

    وقال عمر بن عبد العزيز : ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه.

    وقال يونس بن زيد سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن -ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك - : ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم أن تصيبه المصيبة مثل قبل أن تصيبه.

    وقال فضيل بن عياض في قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].

    قال: صبروا على ما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه.

    وقالوا: الحيلة فيما لا حيلة فيه الصبر.

    وقالوا: من لم يصبر على القضاء فليس لحمقه دواء.

    وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الله عز وجل إذا قضى قضاءً أحب أن يُرضى به.

    وقال أبو عبد الله البراثي : من وهب له الرضا فقد بلغ أقصى الدرجات.

    وقالت رابعة : إن الله عز وجل إذا قضى لأوليائه قضاءً لم يتسخطوا.

    وقتل لبعض الصالحين ولد في سبيل الله عز وجل فقيل له: أتبكي وقد استشهد؟ فقال: إنما أبكي كيف كان رضاه عن الله عز وجل حين أخذته السيوف.

    وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.

    وقال علقمة في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] : هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.

    وقال أبو معاوية الأسود في قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] قال: الرضا والقناعة، يعني: أن هذه الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة.

    ونظر علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عدي بن حاتم كئيباً فقال: يا عدي ! من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله.

    وقال عمر بن عبد العزيز : ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر.

    وقيل له: ما تشتهي؟ قال ما يقضي الله عز وجل.

    وقال الحسن : من رضي بما قسم له وسعه وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يسعه ولم يبارك له فيه.

    وقال بعضهم: من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء.

    وأصبح أعرابي وقد ماتت له أباعر كثيرة، فقال:

    لا والذي أنا عبد في عبادته لولا شماتة أعداء ذوي أحن

    ما سرني أن إبلي في مباركها وأن شيئاً قضاه الله لم يكن

    وقال حفص بن حميد: كنت عند عبد الله بن المبارك بالكوفة حين ماتت امرأته، فسألته: ما الرضا؟ قال: الرضا ألا يتمنى خلاف حاله.

    يعني: أن الإنسان لا يأسف على شيء فاته أو يتمنى أن يكون على غير ما هو فيه، فقال: الرضا: ألا يتمنى خلاف حاله.

    فجاء أبو بكر بن عياش فعزى ابن المبارك ، قال حفص : ولم أعرفه. فقال عبد الله : سله عما كنا فيه، فسألته فقال: من لم يتكلم بغير الرضا فهو راض.

    يعني: أن الإنسان الذي كلامه كله فيه استسلام وقبول لقضاء الله عز وجل فهو راض.

    قال حفص : وسألت الفضيل بن عياض فقال: ذاك للخواص.

    قال قادم الديلمي العابد: قلت للفضيل بن عياض : من الراضي عن الله؟ قال الذي لا يحب أن يكون على غير منزلته التي جعل فيها.

    ونحن عندما نذكر أمثلة في الصبر والرضا نذكر ذلك من أجل أن تعرفوا حقيقة الرضا، وكيف أن الإنسان لا يختار إلا ما اختاره الله عز وجل له وإن كان هو من المصائب.

    وقال أبو عبد الله البراثي : لم ير أرفع درجات من الراضين عن الله عز وجل على كل حال.

    1.   

    بعض الدوافع والأسباب التي تعين على الصبر والرضا

    وقبل أن نشرع في المواقف الإيمانية في الرضا والصبر نتكلم عن بعض الدوافع التي تعين على الصبر والرضا، وهذه الدوافع لا شك أنها تعين على مثل هذه المواقف الإيمانية؛ لأن المواقف الإيمانية تكون نتيجة لغلبة الإيمان على قلب العبد وإيثار العبد لمراد الله عز وجل، ومحبته لدين الله عز وجل.

    فالذي يدفع إلى مثل هذه المواقف الإيمانية قوة الإيمان وقوة الأحوال الإيمانية، فهذه الدوافع تعين على الصبر والرضا.

    فلا شك في أن الصبر مقاماً رفيعاً، وطاعة يحبها الله عز وجل، ويحب أهلها، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].

    فقد جعل الله ثواب الصبر بغير حساب، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

    والصبر واجب حتماً، أما الرضا فهو أعلى رتبة منه، وجزاؤه رضا الله عز وجل الذي هو أكبر من جنة الله عز وجل، فما هي الدوافع والأسباب التي تعين على الصبر والرضا؟

    والجواب: أولاً: أن يتدبر العبد ما سبق من آيات كريمات، وأحاديث نبوية في فضل الصبر والرضا، فيعلم العبد فضل الصبر والرضا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

    ثانياً: أن يدرس المواقف الإيمانية، كالصبر على البلاء والرضا بأمور القضاء؛ فإنه مما يعينه على الصبر؛ لأنها رايات مرفوعة على طريق الإيمان، فيتأسى بأصحاب هذه المواقف المؤمنون الصادقون، وينسج على منوالهم العباد الصالحون.

    ومن ذلك أن يعلم أن القدر سبق بذلك، قال عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22].

    يعني: أن الله عز وجل جعل لنا ملائكة تحفظنا، قال الله عز وجل: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].

    وهذه الملائكة لا تحفظه من أن ينفذ فيه أمر الله، بل هذه الملائكة من أمر الله: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42].

    فكل إنسان منا تعرض خلال حياته لمواطن كثيرة جدة كاد أن يهلك فيها، ولكن الله عز وجل يحفظه.

    فالملائكة التي تحفظ العبد وتكلؤه بالليل والنهار تتخلى عنه إذا جاء أمر قدره الله عز وجل له، فإذا جاء القدر تخلوا عنه.

    فالإنسان إذا أصيب ببلاء فليتذكر أن هذا البلاء مكتوب في اللوح المحفوظ، وأن الله عز وجل شاءه، وأنه لابد أن يكون؛ والمعنى: أن المصائب مقدرة، لا أنها وقعت على وجه الاتفاق كما يقول الطبائعيون، ولا أنها عبث، بل هي صادرة عمن صدرت عنه محكمات الأمور.

    فالله عز وجل قدرها، فلابد أن فيها حكمة، يقول بعض السلف: إذا وقعت ذبابة على يدك فاعلم أنها وقعت بقدر ولحكمة.

    فكل أمر لحكمة؛ لأن مدبر هذه الأمور هو الحكيم الخبير، فالله عز وجل يدبر أمر ملكه كيف يشاء، فالأمور لا تأتي كما يقول الطبائعيون اتفاقاً، ولكنها بقدر وبحكمة، بل هي صادرة عمن صدرت عنه محكمات الأمور، ومتقنات الأعمال، وإذا كانت صادرة عن الحكيم فهو لا يعبث، فهي إما لزجر عن فساد أو لتحصيل الأجر أو لعقوبة على ذنب.

    رابعاً: العلم بأن الدنيا دار الابتلاء والكرب، لا يرجى منها راحة.

    وما استغربت عيني فراقاً رأيته ولا أعلمتني غير ما القلب عالمه

    فالإنسان لا يستغرب أي بلاء؛ لأن الدنيا أصلاً دار كدر، لذلك جرى القدر، ويا عجباً ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع!

    فالإنسان لا يستغرب أن يصاب ببلاء؛ لأن الدنيا دار امتحان ودار بلاء.

    خامساً: أن يقدر وجود ما هو أكبر من تلك المصيبة، كمن له ولدان ذهب أحدهما؛ فقد كان يمكن أن يذهب الاثنان، فقد تذهب أسر بكاملها في حوادث، نسأل الله العافية، فالإنسان يقدر أن المصيبة كانت أكثر من ذلك.

    سادساً: النظر في حال من ابتلي بمثل هذا البلاء، فإن التأسي راحة عظيمة، قالت الخنساء :

    ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

    وما يبكون مثل أخي ولكـن أعزي النفس عنه بالتأسي

    وهذا المعنى قد حرم الله عز وجل منه أهل النار، كما قال عز وجل: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] يعني: يحرم أهل النار من التأسي.

    فيقولون: المصيبة إذا عمت هانت، يقال: فلان أصيب بكذا، وفلان بكذا، فيتسلى الناس بعضهم ببعض.

    ولكن أهل النار يظن كل إنسان منهم أنه محبوس وحده، وأنه لم يبق في النار سواه.

    سابعاً: أن يتذكر نعم الله عز وجل عليه، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].

    يعني: أن الإنسان بدل ما يفكر في المصائب التي تصيبه يتذكر نعم الله عز وجل عليه.

    ثامناً: أن العبد إذا صبر واحتسب فإن الله يعوضه ولا يخيبه.

    من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعت من عوض

    تاسعاً: أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها، وهو بجزعه يزيد في مصيبته؛ حيث يشمت أعداءه، ويسوء أصدقاءه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه.

    قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.

    يريد بذلك ما ثبت في الحديث الصحيح: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

    عاشراً: أن المصائب تفتح على العبد أبواباً من العبادات، كالدعاء والإنابة، كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ [الزمر:8].

    لذا تجدون الإنسان إذا كان في أزمة مالية أو في سجن أو في مرض كثير الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عز وجل، فهذا من فوائد البلاء أن الإنسان يتضرع، ويظهر فقره وحاجته إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42].

    فالله عز وجل يبتلي الناس حتى يتضرعوا، ويظهروا فقرهم ونقصهم وحاجتهم واضطرارهم إلى الله عز وجل.

    ومن ذلك: أن يُعلم إن البلاء للمؤمن إما أن يكون تكفيراً لذنوبه، أو رفعاً لدرجاته.

    فالله عز وجل يبتلي المؤمنين ليربيهم بالبلاء، يعني: أن البلاء للمؤمن يكون من أجل التربية والتمحيص ورفع الدرجات، والمؤمن -غالباً- ضعيف البدن قوي القلب، بخلاف المنافق فإنه قوي البدن ضعيف القلب: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4].

    فالمؤمن يأتيه البلاء فيميل مع البلاء ويلين للبلاء، أما الكافر فهو مثل شجرة الأرز، لا تزول ولا تحول حتى يكون انجحافها مرة واحدة.

    فالله عز وجل يبتلي المؤمنين ليربيهم بالبلاء، ويهذبهم به؛ حتى يصلحوا لمجاورته في الجنة، وهي بالتالي للكافر والفاجر من أجل أن يهلكه، ويزيل عينه وأثره.

    ثاني عشر: أن كل ما يحدث للمؤمن في الدنيا فهو خير له؛ لأن المؤمن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم الله عز وجل عليه شكر.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن).

    ثالث عشر: أن يعلم أن الحياة الدنيا لعب ولهو، لا يدوم فرحها ولا حزنها، أشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره، ثم يستيقظ فيعلم أن ذلك لا حقيقة له.

    رابع عشر: أن يعلم العبد أن عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب.

    فمثلاً: إنسان يحب أن يكون عنده مال كثير، وإذا أتى هذا المال فإنه يفسد ويفسق ويخسر الدنيا والآخرة.

    وإنسان يكره البلاء والمرض وهذا المرض قد يكون سبباً في التزامه وتقربه إلى الله عز وجل، قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

    خامس عشر: أن يعلم أن في البلاء فوائد خفية، وحكماً مطوية، قال التنوخي : كان يقال: المحن آداب الله لخلقه، وتأديب الله يفتح القلوب والأبصار.

    وقال كذلك: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الكاتب يصف الفضل بن سهل ويذكر تقدمه وعلمه وكرمه، فكان مما حدثني به: أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس وهنوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال الفضل : إن في العلل لنعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها:

    تمحيص للذنب.

    وتعريض لثواب الصبر.

    وإيقاظ من الغفلة.

    وإذكار بالنعمة في حال الصحة.

    فالإنسان لو كان صحيحاً على مدى الدهر لن يتذكر نعمة العافية ولن يحس بها، ولكن إذا أصيب ببلاء يحس بنعمة العافية، قال:

    واستدعاء للتوبة.

    وحض على الصدقة.

    وفي قضاء الله وقدره بَعْدُ الخيار.

    سادس عشر: أن يتدبر العبد إذا ابتلي ببلاء عز الربوبية، وذل العبودية، فيعلم أن الله عز وجل يبتلي من شاء من عباده بما شاء من ألوان البلاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    والإنسان يحس بذل العبودية لله عز وجل، وعز الربوبية، فالله عز وجل يبتلي من شاء مهما كان أميراً أو وزيراً أو رئيساً، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    سابع عشر: أن يعلم أن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

    قال ابن الجوزي رحمه الله: البلايا على مقادير الرجال، فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم من دين ودنيا، وأولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة، أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم.

    وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان فيه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة).

    ثامن عشر: أن يعلم أنه عبد مملوك، والعبد ليس له أن يعترض على سيده، كما قال بعضهم:

    صرت لهم عبداً وما للعبد أن يعترض

    تاسع عشر: أن يتذكر عظمة الله عز وجل الذي ابتلاه بالبلاء.

    قال أبو الوفاء ابن عقيل : مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر، وجمع أدباً حسناً فتعزيت بقصة عمرو بن عبد ود الذي قتله علي بن أبي طالب في غزوة الخندق.

    أورد بعض أصحاب السير بدون إسناد أن عمرو بن عبد ود فارس قريش اخترق الخندق بفرسه، فعرض له علي بن أبي طالب فقتله، فقالت أمه ترثيه وتعزي نفسها:

    لو كان قاتل عمرو غير قاتله ما زلت أبكي عليه دائم الأبد

    لكن قاتله من لا يعاب به من كان يدعى أبوه بيضة البلد

    يعني: هذه المرأة تعزت بأن الذي قتل عمرو بن عبد ود هو علي بن أبي طالب ، فهذا مما خفف عنها المصيبة فقالت هذا القول.

    فالإنسان إذا أصيب ببلاء يعلم أن الذي قدر هذا البلاء هو الله عز وجل، فيتسلى بذلك، كما أن هذه المرأة أسلاها وعزاها جلالة القاتل، والافتخار بأن ابنها مقتول له.

    ومن يتخيل الانتقال إلى نعيم الجنة الذي لا انقطاع له، فما قدر تلك اللحظة، بل ما قدر جميع عمر الدنيا بالإضافة إلى البقاء السرمدي، ومن تحيل البقاء السرمدي وأنه باقٍ في النعيم السرمدي، طار فرحاً ونسي كل ألم، يعني: أن الإنسان يتخيل نعيم الجنة وثواب الصبر والرضا، فيتسلى بذلك عما يصيبه من بلاء في الدنيا.

    ومن ذلك: أن يحتقر ما يبذل بالإضافة إلى عظمة الحق، كمحتقر هديته إلى ملك كبير.

    ومن ذلك: أن يعلم أنها ساعة من الزمان، والله المستعان، يعني: الدنيا كلها ساعة فيجعلها طاعة.

    1.   

    مواقف إيمانية في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء

    مواقف إيمانية في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء:

    موقف أيوب عليه السلام في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء

    وأولى الناس بالذكر في هذا الباب هو أيوب عليه السلام؛ لأنه الذي يضرب به المثل في الصبر.

    قال ابن كثير رحمه الله: قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة من أرض حوران، وحكى ابن عساكر أنها كانت كلها له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليلة ونهاره وصبحه ومسائه.

    وطال مرضه حتى عافه الجليس واستوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته، وضعف حالها، وقل مالها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر وتطعمه، وتقوم بحاجته رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد، وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وقال: يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه).

    ولم يزد هذا أيوب عليه السلام إلا صبراً واحتساباً، وحمداً وشكراً، حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام.

    ويضرب أيضاً بما حصل له من أنواع البلاء، قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:41-44].

    قال السعدي رحمه الله: ولما تطاول به المرض العظيم ونسيه الصاحب والحميم نادى ربه: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فقيل له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42]، فركض، فنبعت بركضته عين ماء بارد، فقيل له: اشرب منها واغتسل، ففعل ذلك فذهب ما في ظاهره وباطنه من البلاء.

    وقال الحافظ : أصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جريج وصححه ابن حبان والحاكم من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس : أن أيوب ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنباً عظيماً وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، فحزن ودعا الله حينئذ، فخرج لحاجته، وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحى الله إليه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42]، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها، فرجع صحيحاً، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو، وكان له أندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض، وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض.

    وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه - يعني: يجمع في ثوبه من هذا الجراد الذي هو من ذهب- فناداه ربه: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب! ولكن لا غنى لي عن بركتك).

    ولا بأس أن يطلب الإنسان المال الحلال حتى ولو كان عنده مال كثير، فأيوب عليه السلام كان عنده ذهب وفضة، ومع ذلك كان يجمع جراد الذهب فقال الله عز وجل له: (يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب! ولكن لا غنى لي عن بركتك).

    ففي قصة أيوب عليه والسلام عبرة للمعتبرين، فإنه صبر هذا الصبر الجميل على ذهاب ماله وأقاربه وصحته، وثبت على حبه لله عز وجل وصبره على قضائه وقدره، واقتصاره على الشكوى إلى الله عز وجل، وهي لا تنافي الصبر؛ لأن الله عز وجل يقول: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص:44]، مع أنه شكى إلى الله وقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].

    وزاده عز وجل من فضله، وهذه عاقبة المواقف الإيمانية دائماً رفعة الدنيا والآخرة، فكما كان يوسف عليه السلام مثلاً للعفة والاستعفاف، وإبراهيم إمام الحنفاء يعظم أمر الله ويصبر على دين الله، فهذا أيوب مثال الصبر الجميل، فصلى الله وسلم وبارك على جميع الأنبياء والمرسلين.

    موقف أم سليم الأنصارية في الصبر والرضا

    من المواقف الإيمانية في الصبر: موقف أم سليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنهما.

    عن أنس رضي الله عنه قال: (اشتكى ابن لـأبي طلحة فمات وأبوه أبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً -قيل: غسلته وكفنته، وقيل: تزينت له- وجعلت ابنها في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح).

    فلم تستقبله عند دخوله بالمصائب والمشاكل، بل جعلت تهدئ من نفسه ثم تخبره في الوقت المناسب، مع أن النساء أقل صبراً بالنسبة لمرض الأولاد أو موت الأولاد، ولكن هذه المرأة تضرب هذا المثل العظيم جداً في الصبر والأدب، فقال أبو طلحة : (كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح).

    وظن أبو طلحة أنها صادقة، وهي فعلاً صادقة، ولكنها عرضت بالكلام.

    قال: (فباتا، فلما أصبح اغتسل -إشارة إلى أنه أصاب منها- فلما أراد أن يخرج أعلمته)، يعني: صبرت كل هذا الوقت، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات.

    وفي بعض الروايات: أنها قالت له: (لو أن أحداً وضع عندك وديعة ثم أراد أن يستردها، أكان يحزنك ذلك؟ فقال: لا، فأخبرته بعد ذلك) فمهدت له الخبر بضرب هذا المثل.

    قال: (فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره بما كان منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما، فقال رجل من الأنصار: فولد له ولد فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد حفظوا القرآن).

    فرزقت ولداً وسمي عبد الله ، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وكان من ذرية هذا الولد هؤلاء القراء التسعة.

    وفي بعض الرويات: أنها جاءت بغلام حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبد الله، والذي كان من سلالته الإخوة القراء.

    فالحاصل: أن المواقف الإيمانية ترفع العبد في الدنيا والآخرة.

    قال الحافظ : وقوله: (هيأت شيئاً) قال الكرماني : أي: أعدت طعاماً لـأبي طلحة وأصلحته، وقيل: هيأت حالها وتزينت.

    وقال الحافظ : بل الصواب أنها هيأت أمر الصبي بأن غسلته وكفنته، كما روي في بعض الطرق صريحاً.

    وقوله: (فلما أصبح اغتسل) كناية عن الجماع.

    فهذا موقف إيماني من أم سليم رضي الله عنها، مع أن النساء أشد هلعاً وجزعاً في مثل هذه المواقف، ولكن الإيمان يغير طبائع النفوس، ويعلو بهمم العباد، ويرفعهم في الدنيا والآخرة.

    وعمت بركة هذا الموقف الإيماني ذرية أبي طلحة وأم سليم ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في أولاد أولادها تسعة كلهم ختم القرآن، فليتأس الشخص وليتعلم أوصاف السابقين الأولين، وليعلم أن الرجال أولى بهذا الصنيع.

    موقف رجل صالح مع ملك ظالم في الصبر والرضا

    ومن هذه المواقف الإيمانية: قصة رجل من أفضل أهل زمانه، قال وهب بن منبه رحمه الله: أتي برجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يجبر الناس على أكل لحوم الخنازير، فلما أتي به أعظم الناس مكانه وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك: ائتني بجدي تذكيه، يعني: تذبحه مما يحل لك أكله، فأعطنيه؛ فإن دعا بلحم الخنزير أتيتك به فكله، يعني: أن صاحب الشرطة قال لهذا الرجل الذي هو من أفضل أهل زمانه: ائتني بجدي تذكيه وتذبحه، ثم إذا أمر الملك أن يعطى من لحم الخنزير فيعطيه من هذا اللحم.

    قال: فأعطنيه، فإن دعا بلحم الخنزير أتيتك به فكله.

    فذبح جدياً فأعطاه إياه، ثم أتي به إلى الملك، فدعي بلحم الخنزير، فأتاه صاحب الشرطة بلحم الجدي الذي كان أعطاه إياه، فأمره الملك بأكله، فأبى، فجعل صاحب الشرطة يغمز له ويأمره أن يأكله، ويريه أنه هو اللحم الذي دفعه إليه، فأبى أن يأكله، فأمر الملك صاحب الشرطة أن يقتله، فلما ذهب به قال: ما منعك أن تأكل وهو اللحم الذي دفعت إلي؟ أظننت أني أتيتك بغيره؟ قال: لا، قد علمت أنه هو، ولكني خفت أن يفتتن الناس بي، فإذا أريد أحدهم على أكل لحم الخنزير قال: قد أكله فلان، فيستنوا بي، فأكون فتنة لهم، فقتل رحمة الله عليه!

    موقف أبي عبيدة بن الجراح في الصبر والرضا

    ومن المواقف الإيمانية في الصبر على البلاء والرضا بالقضاء: موقف أبي عبيدة بن الجراح ، وأبو عبيدة هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، شهد بدراً وقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاءً حسناً، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانقلعت ثنيتاه، فحسن ثغره بذهابهما، حتى قيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة .

    فرضيه أبو بكر رضي الله عنه خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر وأبا عبيدة .

    وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).

    ومناقبه رضي الله عنه كثيرة شهيرة، ومواقفه الإيمانية عالية رفيعة في البذل والتضحية والزهد، وإنما قصدنا موقفه الإيماني عند نزول وباء الطاعون.

    عن قيس بن مسلم عن طارق أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون: إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك.

    كان أبو عبيدة في هذا الوقت على رأس جيش في الشام، فلما سمع عمر رضي الله عنه بوقوع طاعون عمواس أرسل إلى أبي عبيدة ، وطاعون عمواس منسوب إلى قرية تسمى عمواس بين الرملة وبين بيت المقدس.

    وقال الأصمعي : هو من قولهم: زمن الطاعون عم وآسى.

    يعني: فاختصر وقيل له: عمواس، ولكن الصحيح الأول، والله أعلم.

    فلما سمع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بنزول الطاعون أرسل إلى أبي عبيدة فقال له: إني قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك فيها، فعجل إلي، فلما قرأ الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين؛ إنه يريد أن يستبقي ما ليس بباق.

    فكتب: إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك؛ فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة ؟ قال: لا، وكأن قد، قال: فتوفي أبو عبيدة ، وانكشف الطاعون.

    وروى ابن المبارك في الزهد عن شهر بن حوشب -وهو مختلف فيه- قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم عن الحارث بن عميرة قال: أخذ بيدي معاذ بن جبل فأرسله إلى أبي عبيدة فسأله: كيف هو؟ وقد طعن، فأراه أبو عبيدة طعنة، يعني: إصابة الطاعون، وهو يظهر على شكل أورام يصيب الغدد اللمفاوية، ويظل ينتشر في أماكن متفرقة في الجسم، وينتقل إلى الرئتين.. وغير ذلك، يقول: وقد طعن، فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت في كفه، فتكاثر شأنها في نفس الحارث وفرق منها حين رآها، يعني: انزعج عندما رأى هذه الطعنة، فأقسم أبو عبيدة بالله إنه ما يحب أن له مكانها حمر النعم.

    فصبره رضي الله عنه وعدم استجابته لاستدعاء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ثم رضاه بما أصيب به من الطاعون وعدم تمنيه زوال البلاء هو عين الرضا.

    فالإنسان لا يتمنى البلاء أبداً، لأن ساحة العافية هي أوسع، ولكن إذا نزل بلاء فيصير ميدان الصبر هو الميدان الواسع، وأعلى منه ميدان الرضا، وهو عدم تمني زوال ما هو فيه.

    فصبره رضي الله عنه وعدم استجابته لاستدعاء أمير المؤمنين عمر ثم رضاه بما أصيب به من الطاعون وعدم تمنيه زوال البلاء هو عين الرضا، وهو أعلى الدرجات، ومن أولى بذلك من الصحابة الكرام، ثم من أولى بكل فضيلة من العشرة المبشرين رضي الله عنهم أجمعين.

    موقف عروة بن الزبير في الصبر والرضا

    وهذا فارس آخر من فرسان الصبر وهو عروة بن الزبير :

    عن هشام بن عروة عن أبيه قال: وقعت الأكلة في رجله فقيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: إن شئتم، والأكلة الظاهر أنها مرض يصيب الأطراف وينتقل.

    فجاء الطبيب فقال: أسقيك شراباً يزول به عقلك، وطبعاً يجوز أخذ البنج أو شيء يذهب العقل؛ لأن هذه الآلام قد تذهب بحياة الإنسان، فقد يدخل في صدمة عصبية، وقد يموت من ذلك، فالعلماء رخصوا في العمليات الجراحية، وعمليات البتر بتعاطي البنج ونحوه، ولكن عروة بن الزبير اختار المقام الذي لا يصبر عليه إلا من هو إمام في الصبر.

    فجاء الطبيب فقال: أسقيك شراباً يزول به عقلك؟ فقال: امض لشأنك، ما ظننت أن خلقاً يشرب شراباً يزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه!

    قال: فوضع المنشار على ركبته اليسرى ونحن حوله فما سمعنا له حساً، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وما ترك حزبه من القراءة تلك الليلة.

    وقال عامر بن صالح عن هشام بن عروة : إن أباه خرج إلى الوليد بن عبد الملك ، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، ثم زاد به الوجع، فلما قدم على الوليد قال: يا أبا عبد الله ! اقطعها، قال: دونك، فدعا له الطبيب، وقال له: اشرب المرقد، فلم يفعل، فقطعها من نصف الساق، فما زاد على قوله: حسي حسي، فقال الوليد : ما رأيت شيخاً أصبر من هذا.

    وأصيب عروة رحمه الله في هذا السفر بابنه محمد ؛ ركضته بغلة في إصطبل، فلم نسمع منه كلمة في ذلك، فلما كان بوادي القرى قال: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، فإن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت.

    فهذا موقف إيماني في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء، فكم من إنسان يدعي الإيمان، فإذا نزل به البلاء أو المصيبة تزلزل إيمانه، وأساء الظن بربه عز وجل!

    والمواقف الإيمانية كما ذكرنا غير مرة ثمرة من ثمرات الإيمان، فالدافع لها قوة الإيمان ومحبة الرحمان، ولا يصبر هذا الصبر الجميل إلا إذا اكتمل إيمانه، وعلا يقينه، وقد كان على هذا أئمة العلم والعمل والعبادة والجهاد.

    فقد كان عروة يسرد الصيام، ويقوم بربع القرآن كل ليلة، ويحكم ما عند خالته عائشة رضي الله عنها من مرويات قبل وفاتها بثلاث سنوات.

    وقد ورد أنه نظر إلى ساقه التي قطعت فقال: الله يعلم أني ما مشيت بها إلى معصية قط وأنا أعلم.

    فرحم الله أئمتنا وجزاهم عنا خير الجزاء، فقد أسندوا لنا الأحاديث النبوية، وضربوا لنا أروع الأمثلة في العبادة والصبر والجهاد، ولا شك في أن هذه النماذج وهذه الهمم في العلم والعمل كلها تدل على بركة رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن توجد في أمة من الأمم مثل هذه الثمرات الطيبة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورحم الله علماء المسلمين وأعظم مثوبتهم.

    موقف الخنساء رضي الله عنها في الصبر والرضا

    ومن تلك المواقف: موقف الخنساء رضي الله عنها وأبنائها الأربعة:

    حضرت الخنساء رضي الله عنها حرب القادسية، وكان معها بنوها أربعة رجال، فوعظتهم، وحرضتهم على القتال وعدم الفرار، وقالت: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لأب واحد، وأم واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت أخوالكم، فلما أصبحوا باشروا القتال، حتى قتلوا، فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

    وهذا الدعاء بعض العلماء يقول: فيه نظر؛ لأن بعضهم يقول: مستقر الرحمة هي ذات الله عز وجل، وعلى كل حال، الأولى أن يقال: في فردوسه الأعلى.

    قال: وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض.

    وقد أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، وقد كانت تقول في أول أمرها البيتين والثلاثة، حتى قتل شقيقها معاوية بن عمرو وقتل أخوها لأبيها صخر وكان أحبهما إليها؛ لأنه كان حليماً جواداً محبوباً في العشيرة.

    ومما قالت فيه:

    ألا يا صخر! لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويشق رمسي

    يذكرني طلوع الشمس صخراً وأبكيه لكل غروب شمس

    ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

    وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي

    فانظر -رحمك الله- كيف جزعت على أخيها صخر وأنشدت ما تتقطع له القلوب، وعندما تشرفت بالإسلام حضت أبناءها على الجهاد، ورغبتهم في الاستشهاد، فلما قتلوا قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم.

    فهذا يبين قيمة الإيمان، حيث إنه يغير الطبائع ويغير الأحوال، ويغير الأعمال، ويغير القلوب والتصرفات.

    إنه الإيمان الذي يغير القلوب، ويرفع الهمم، وينتج المواقف الإيمانية التي وفق لها سادات المؤمنين، والتي يرتفعون بها في الدنيا وعند الله رب العالمين.

    موقف سعد بن أبي وقاص في الصبر والرضا

    ومن تلك المواقف أيضاً موقف سعد بن أبي وقاص:

    لما قدم سعد بن أبي وقاص مكة وقد كان كف بصره جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة.

    قال عبد الله بن السائب : فأتيته وأنا غلام، فتعرفت إليه فعرفني، وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم.. فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم! أنت تدعو للناس، فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك، فتبسم وقال: يا بني! قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.

    فهذا حال الرضا من الإنسان يرضى بالحال التي هو فيها، ويطمع في ثوابها، ولا يتمنى زوالها.

    فالعبد لا يصل إلى درجة إجابة الدعاء إلا بعد مجاهدة عظيمة وتحبب وتقرب إلى الله عز وجل، فترتفع رتبة العبد بالطاعة وكثرة النوافل فيصير في درجة تؤهله إن سأل الله عز وجل أعطاه، وإن استعاذ بالله عز وجل أعاذه.

    والعبد يصل مع ذلك إلى درجات عالية من المحبة والرضا والتعظيم لأمر الله عز وجل، كما قال بعضهم: أحبه إليه أحبه إلي.

    موقف رجل أنصاري في الصبر والرضا

    وهذا موقف رجل من الأنصار، والأنصار أصحاب مواقف إيمانية مدحهم الله عز وجل بالإيمان ووصفهم بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    تبوءوا دار الهجرة فسبقوا، وكانوا من سكان دار الهجرة، وسبقوا أيضاً إلى الإيمان.

    عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فغشينا داراً من دور المشركين، فأصبنا امرأة رجل منهم، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وجاء صاحبها -وكان غائباً- فذكر له مصابه، ثم حلف لا يرجع حتى يهريق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دماً، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق نزل في شعب من الشعاب وقال: من رجلان يكلأاننا في ليلتنا هذه من عدونا؟ قال: فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار: نحن نكلؤك يا رسول الله! قال: فخرجا إلى فم الشعب دون العسكر، ثم قال الأنصاري للمهاجري: أتكفيني أول الليل وأكفيك آخره، أو تكفيني آخره وأكفيك أوله؟ قال: فقال له المهاجر: بل اكفني أوله، وأكفيك آخره، فنام المهاجري وقام الأنصاري يصلي، فافتتح سورة من القرآن فبينما هو فيها يقرؤها جاء زوج المرأة، فلما رأى الرجل قائماً عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه، ثم وضعه وهو قائم يقرأ في السورة التي هو فيها -يعني: سحب السهم ورماه واستمر في الصلاة ولم يتحرك كراهية أن يقطعها- قال: ثم عاد له زوج المرأة فرماه بسهم آخر، فوضعه فيه، قال: فانتزعه وهو قائم يصلي في السورة التي هو فيها، ولم يتحرك؛ كراهية أن يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة المرة الثالثة فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فانتزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اقعد فقد أتيت، قال: فجلس المهاجري، فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به.

    قال: وإذا الأنصاري يفوح دماً من رميات صاحب المرأة، قال: فقال له أخوه المهاجري: يغفر الله لك، ألا كنت آذنتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها، فكرهت أن أقطعها، وايم الله! لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها).

    فلله در الأنصار أصحاب المواقف الإيمانية، وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان، وأي صبر مثل هذا الصبر الجميل؟ وأي مواقف تداني تلك المواقف الإيمانية؟ فرضي الله عن أصحابها، ورفعهم بها، وأعلاهم، وقد فعل، فله الحمد والمنة.

    موقف عمر بن عبد العزيز في الصبر والرضا

    وهذا موقف صبر لـعمر بن عبد العزيز رحمه الله:

    عن الربيع بن سبرة قال: لما هلك عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز وكان صنو أبيه، يعني: كان شبيهاً بأبيه في الزهد، بل كان بعض الناس يقول: إنه أفضل من أبيه، ثم هلك أخوه سهل بن عبد العزيز ومولاه مزاحم .

    وسهل بن عبد العزيز هو أخو عمر بن عبد العزيز ، هلكوا في أيام متتابعة، فدخل الربيع بن سبرة عليه فقال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين، فما رأيت أحداً أصيب بأعظم من مصيبتك في أيام متتابعة، والله! ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى قط.

    قال: فطأطأ عمر رأسه، فقال لي رجل معي على الوسادة: لقد هيجت على أمير المؤمنين.

    قال: ثم رفع رأسه فقال: كيف قلت الآن يا ربيع ؟! فأعدت عليه ما قلت أولاً، فقال: والذي قضى عليهم بالموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن.

    وأعاد الحديث وزاد فيه: ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن؛ لما أرجو من الله تعالى فيهم.

    إنه الرضا عن الله عز وجل، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

    والرضا أكبر من جنة الله عز وجل، وعمر بن عبد العزيز إمام عادل صاحب زهد وورع وعلم وعبادة وشرف وسيادة، وكل أخباره عجيبة.

    وقد أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى أن نشر فضائله فيه خير كثير.

    فنسأل الله عز وجل أن يجمعنا مع هؤلاء الأعلام بحبنا لهم ونشرنا لأخبارهم، ولله الحمد والمنة على كل نعمة.

    موقف صفية بنت عبد المطلب في الصبر والرضا

    وهذا موقف لـصفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها عند مقتل أخيها أسد الله حمزة .

    لما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه، قامت صفية رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به وجوه الناس الفارين المنهزمين والأعداء المشركين، وتقول لهم: انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها أن ترى أخاها حمزة وقد مثل به، فقال لابنها الزبير : القها فأرجعها؛ لا ترى ما بشقيقها -أي: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه- فلقيها الزبير فقال: يا أماه! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فقالت صفية : فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله عز وجل قليل، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى، وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: خل سبيلها، فأتت صفية إلى حمزة فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن.

    فهذا موقف إيماني من عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب ، وقد رأت أخاها وقد مثل به المشركون، ومع ذلك صبرت واحتسبت، فلله درها! وعلى الله تعالى أجرها، والمواقف العظيمة يوفق لها العظماء، وقريش هي قريش، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وصفية هي أم الأسد المغوار حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارس الإسلام الزبير بن العوام رضي الله عنه، وسوف يأتي موقف آخر لـأسماء شبيه بهذا الموقف.

    والقصة طويلة معروفة، وهي قصة أسماء بنت أبي بكر حين قتل ولدها عبد الله بن الزبير .

    موقف أسماء بنت أبي بكر في الصبر والرضا

    عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث وهو مصلوب، فجاءت أمه وهي عجوز طويلة عمياء فقالت للحجاج : أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقاً؛ كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز! فقد خرفت! قالت: والله! ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث في ثقيف كذاب ومبير ..) الحديث.

    تشير إلى أن المبير هو الحجاج ، فهذا موقف إيماني في الصبر على البلاء والرضا بمر القضاء من ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر ، وما أكثر مواقفها الإيمانية!

    عن أسماء قالت: صنعت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي حين أراد أن يهاجر فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطها فقلت لأبي: ما أجد إلا نطاقي، فقال: شقيه اثنين فاربطي بهما، قالت: فلذلك سميت ذات النطاقين.

    وقد طال عمرها رضي الله عنها، فهي أكبر من عائشة الصديقة ببضع عشرة سنة، وهي آخر المهاجرات وفاة.

    قال ابن سعد: ماتت بعد ابنها بليال، وكان قتله لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.

    وعن ابن أبي مليكة قال: دخلت على أسماء بعدما أصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن هذا صلب عبد الله ، اللهم لا تمتني حتى أوتى به فأحنطه وأكفنه.

    فأتيت به بعد فجعلت تحنطه بيدها وتكفنه بعدما ذهب بصرها.

    وجاء من وجه آخر عن ابن أبي مليكة: وصلت عليه، وما أتت عليها جمعة إلا ماتت.

    موقف معاذة العدوية في الصبر والرضا

    وهذا موقف معاذة العدوية زوجة صلة بن أشيم :

    روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ثابت البناني أن صلة بن أشيم كان في غزاة له ومعه ابن له فقال له: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم أبوه فقتل، فاجتمعت النساء فقامت امرأته معاذة العدوية فقالت للنساء: إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.

    ومعاذة العدوية عابدة من العابدات الشهيرات، وأيضاً صله بن أشيم من العباد والزهاد المشهورين، وإنما تليق المواقف الإيمانية بأرباب العبادة والعلم؛ لأن المواقف الإيمانية ثمرة الإيمان، فهم أحق بها وأهلها.

    فـصلة بن أشيم كان يدفع ابنه للجهاد، ويرغبه في الاستشهاد، فهو أراد أن يأخذ ثواب الصبر على ابنه، ثم يبذل نفسه بعد ذلك.

    فهذا موقف من مواقف البذل والتضحية، يبين كيف أن الواجب على المسلم أن يكون حبه لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللجهاد في سبيل الله أكثر من حبه لأولاده.

    وفي هذا واعظ لكثير من الآباء الذين يمنعون أولادهم من الالتزام بالشرع المتين، وصحبة الدعاة المخلصين؛ خوفاً عليهم من السجون والمعتقلات، مع أن ما قدره الله عز وجل للعبد لابد له منه، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كم قاتل ونافح وجاهد، وما في جسده موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ومع ذلك مات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء.

    وفي هذا عظيم موقف الولد وطاعته لأبيه وبذله نفسه وتقدمه للقتال قبل أبيه حتى قتل رحمه الله.

    وهكذا موقف معاذة رحمها الله في الصبر على البلاء، فرحم الله سلف الأمة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

    موقف امرأة عربية في الصبر والرضا

    وهذا موقف لعربية ذهب البرد بزرعها فصبرت واحتسبت فعوضت خيراً.

    قال التنوخي : أخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي بالبصرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة قراءة عليه وأنا أسمع عن البرقي قال: رأيت امرأة بالبادية وقد جاء البرد فذهب بزرع كان لها، فجاء الناس يعزونها، فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف وبيدك التعويض عما تلف، تفعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك.

    قال فلم أبرح حتى جاء رجل من الأجلاء فحدث بما كان، فوهب لها خمسمائة دينار.

    فثواب الصبر والرضا يكون كاملاً في الآخرة، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، ومع ذلك فإن الله عز وجل يعوض المؤمن في الدنيا ولا يخيبه، فهذه من البركات المعجلة للمؤمنين، وتوفية حسابهم يوم القيامة.

    عن ابن عباس قال: إن للحسنة لنوراً في الوجه، وضياء في القلب، وسعة في الرزق، ومودة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلاماً في الوجه، وسواداً في القلب، وضيقاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.

    موقف إبراهيم الحربي في الصبر والرضا

    وهذا موقف لـإبراهيم الحربي رحمه الله:

    عن محمد بن خلف قال: كان لـإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق ! أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقنته الحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في منامي كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم يوماً حاراً شديد الحر، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، فنظر إلي، وقال: لست أنت أبي، قلت: فأي شيء أنتم؟ قال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباءنا فنستقبلهم نسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.

    فهذا موقف إيماني من إبراهيم الحربي رحمه الله في الرضا بقضاء الله عز وجل.

    وفي هذا تسلية لمن مات له ولد، وقد وردت الأخبار الصحيحة الصريحة بكثير من المبشرات لمن مات له ولد فصبر واحتسب، وما ذاك إلا لصعوبة الصبر والرضا في هذا المقام؛ لأن الأولاد فلذات الأكباد، والعبد لا يحب لأحد من الخير مثل ما يحب لنفسه إلا لولده.

    بل الإنسان قد يضحي بنفسه ولكن يشق عليه أن يضحي بابنه.

    ولذلك كان ابتلاء إبراهيم عليه السلام من أشد البلاء، فالعبد يسهل عليه أن تهون نفسه، وأن يضحي بنفسه، أما أن يضحي بولده وأن يتولى هو ذبح الولد بنفسه فهذا شيء شاق، فلله هذه النفوس التي تبتلى بمثل هذا البلاء.

    موقف أم عقيل الأعرابية في الصبر والرضا

    وآخر موقف من هذه المواقف الإيمانية موقف أم عقيل رحمها الله:

    قال الأصمعي : خرجت أنا وصديق لي في البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضلوا عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم.

    فقالت: يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسح، فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعتها فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل ! أعظم الله أجرك في عقيل ، قالت: ويحك! مات ابني؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، يعني: حقهم وحق الضيافة، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: يا هؤلاء! هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت: نعم، قالت: اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

    قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟! قلت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا، قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلاً ، تقول ذلك ثلاثاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني.

    فهذا الموقف تعجز عنه الكلمات في كرم الضيافة والصبر والرضا والاحتساب، وبعض هذه الصفات كانت متوفرة عند العرب في جاهليتهم، فلما تشرفوا بالإسلام ازدادت رسوخاً بالإسلام، وتهذبت بآدابه وأخلاقه، وقد عزت هذه الصفات النبيلة والأخلاق الفاضلة في المتأخرين، والله ولي الصابرين.

    نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755993288