إسلام ويب

تفسير سورة الزخرف [2-4]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل حين أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم جعله مهيمناً على كل كتاب قبله ومصدقاً لما في الكتب السابقة من حق، وقد سبقت كتابة هذا القرآن في اللوح المحفوظ عند الله عز وجل قبل إنزاله إلى الأرض بواسطة جبريل وقبل أن يكتب في الصحف والرقاع.

    1.   

    بعض ما يستفاد من بداية سورة الزخرف

    الله تعالى يقسم بالكتاب المبين

    وقوله تعالى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:2].

    الواو واو القسم، فيقسم ربنا جل جلاله بكتابه الكريم، القرآن العظيم، الذي يزيد في معناه، الظاهر في أحكامه، الواضح في العطاء، الجميل في قصصه، الظاهر في أحكامه وآياته وأخلاقه.

    هذا الكتاب الكريم أقسم الله به، فالله يقسم بما شاء كما شاء، ولكنه إذا أقسم بشيء فهو يدل على عظمته ومكانته.

    أما المقسم به فقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت)، فاليمين لا تجوز ولا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه.

    حكم اليمين الزور

    فمن أقسم بالله على شيء، وهو يعلم كذب نفسه ستكون يمينه يمين زور، ويمين الزور لا كفارة فيها، ولكن فيها العقاب الشديد الكبير في الدنيا قبل الآخرة، واليمين كذباً وزوراً يدع البيوت خراباً، ويهلك الحرث والنسل والأرزاق، ويقتل من في البيت بعضهم بعضاً رجالاً ونساء، لأن شأن الله عظيم، فالذي يقسم بعظمة الله وبجلاله وهو عالم كذبه فقد أقدم على باطل وبلاء، ويكون جزاؤه في الدنيا قبل الآخرة، واليمين الزور تجعل الدور بلاقع، أي: خراباً.

    فضل اللغة العربية

    فقوله: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:1-2]، أي: قسماً بكتاب الله، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] هذا هو المقسم عليه، يقسم ربنا جل جلاله بكتابه البين الواضح المشرق النير المدرك، المجهول من أهل الجهل وأهل العلم وممن سعى في ذلك، بأنه جعل القرآن عربياً وأنزله عربياً، وتكلم به عربياً، فأنزله على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وأوحاه إليه بالعربية التي هي لغة أهل السماء.

    وقال علماؤنا: العربية لغة أهل الجنة، والقرآن نزل بأشرف لغة من لغات الأرض، وتكلم بها أشرف نبي على أشرف الأقوام صلى الله على نبينا وعلى آله.

    وأول ما نزل القرآن على العرب، ثم تداوله الخلق من العرب والعجم، فالله أمر أول ما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يدعو قومه، فقال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، ثم بعد ذلك أمره ربه فقال: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهو رسول الله المرسل بالقرآن وبآخر دين في آخر الزمان، أرسله لكل البشر عربهم وعجمهم، أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، وأنزله بلغة العرب، فكان العرب أول من حوسب بهذا الكتاب الكريم، وبهذه الرسالة الشريفة الكريمة فهي لغتهم الرسمية التي عليها نشئوا، وفي ظلالها تربوا، فكانوا يفهمون كتاب الله كما يفهم أحدنا لغته الدارجة الشعبية بحكم تربيته ونشأته.

    فكانت لغة القرآن الكريم ليست بالشيء الصعب عليهم، ولا بالشيء العسير، وهكذا فقد بقي عليه الصلاة والسلام بينهم ثلاثاً وعشرين سنة يعلمهم كتاب ربهم، ويبين لهم فصاحته وتفسيره وبيانه وحكمته وأحكامه في سنته المطهرة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام، ثم زحف المجاهدون والدعاة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها مذكرين بهذا الكتاب الكريم، وبهذه الرسالة البينة الواضحة، فآمن بها من في المشرق والمغرب، وعلموا أول ما علموا لغة كتاب الله ولغة رسول الله التي بها نزل القرآن وفسر، حتى صارت اللغة العربية لغة الأمم والشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وصار العجم بعد ذلك علماء في التفسير والحديث وعلماء في لغة العرب، فكان إمام التفسير هو محمد بن جرير الطبري ، وهو أعجمي طبري، وكان إمام المحدثين هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري ، وكان أعجمياً فارسياً، وكان عالم اللغة والنحو الإمام سيبويه أعجمياً، وهكذا تتابع القوم.

    فعلم النبي عليه الصلاة والسلام قومه وعشيرته، ثم زحفوا بكتاب الله وبدين الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، بدءاً من خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة آخر الخلفاء الراشدين إلى من جاء بعدهم من بني أمية وبني العباس وبني عثمان، فنشروا الإسلام بلغة العرب، ونشروا القرآن كذلك، فكان رسول الله إلى العرب، ثم العجم والناس كافة، وكان العرب رسل رسول الله إلى العرب والعجم.

    الجهل بالعربية جهل بالقرآن والسنة

    ثم فسد الناس وضعفوا في دين الله، واتخذوا من الوثنية والقومية أوثاناً وأصناماً، فتعصبوا للغاتهم وأوطانهم وعشائرهم، فأضاعوا لغة العرب؛ لغة كتاب الله، ولغة دين الله، فأصبح كتاب الله مترجماً إلى لغات إسلامية، وإلى لغات فارس والهند، ثم بعد ذلك إلى لغات جميع سكان الأرض.

    تلك البدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ونرى اليوم الدعاة فرطوا فيها وتتابعوا فيها وهم يظنون أنهم يدعون إلى خير، وتلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وما دعا رسول الله العرب والعجم إلا بلغة العرب لغته ولغة القرآن الكريم، ثم تتابع بعد ذلك خلفاؤه الراشدون، فما نصروا الإسلام في كتابه وسنته إلا بلغة العرب، فكانت الدعوة إلى اللغة العربية، وما لغة العرب إلا القرآن والسنة؛ لأن من لم يعلم لغة العرب لا يعلم القرآن ولا يعلم السنة النبوية، إلا إذا نشأ بين أهلها وفي بيئتها وتعلمها طفلاً وتحدث بها صغيراً، أما إذا تعلمها على كبر فيكون تعلماً ناقصاً وقاصراً، فقد رأينا الكثيرين ممن نصبوا أنفسهم دعاة إلى الإسلام، ما تعلموا لغة العرب إلا عن كبر، فأتوا بالمصائب في تفسير كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج به بعضهم عن الإسلام، والبعض الآخر قال: إن النبي لا يطاع إلا إذا كان معه آية قرآنية، وفيما عدا ذلك ليست طاعته بواجبة، فهذا قول كافر، فمن قاله بعد تحريره وتبيينه وأصر عليه يعتبر كافراً.

    وقال دعاة مشهورون العجائب والغرائب؛ لأنهم جهال باللغة العربية.

    وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ [الزخرف:3] أي: جعلنا القرآن عربياً، وأنزلناه عربياً وأوحينا به إلى محمد صلى الله عليه وسلم بلغة العرب.

    وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] أي: لعلكم تعقلون وحيه ولغته وفهمه، وقد كان ذلك كما فسره الله وأراده، فكان العجم من السباقين إلى فهم كتاب الله، والمئات من التفاسير وضعها عجم بلغة عربية فصحى وتفاسير فصيحة، فقد فهموا لغة الإسلام وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفهم الصحيح المفيد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)

    قال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4]، أي: القرآن الكريم قبل أن ينزله الله على نبيه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ.

    وأم الكتاب أصل الكتاب، وأصل الكتابة اللوح المحفوظ، فقد أمر الله ملائكته أن يكتبوا فيه ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، وإلى ما بعدها، إلى أن يدخل الجنة من يدخلها، ويدخل النار من يدخلها، وكتب فيه كتاب الله كما نزل به جبريل الروح الأمين عليه السلام على قلب نبينا صلوات الله وسلامه وزكواته عليه وعلى آله وأصحابه.

    بمعنى: أن الله كتبه في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق بألفي عام، والقرآن الكريم الذي نتلوه من السطور ونحفظه في الصدور، الموجود في المصاحف ونتعبد به الله مصلين ومتهجدين وتالين ودارسين ومتفهمين، وعالمين ومتعلمين، وهو ما نطق به صلى الله عليه وسلم، وما أوحى إليه به جبريل، وما كتب في اللوح المحفوظ، لم تغير فيه كلمة ولا حرف ولا آية ولا سورة لا بزيادة ولا نقصان، بل ولا بحركة من الحركات، سواء كانت ضمة أو فتحة أو كسرة أو سكوناً، أو كانت مدة بألف أو واو أو ياء.

    فالله قد حفظه قبل إنزاله على نبينا، ثم حفظه بعد ذلك متعهداً فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالقرآن محفوظ بحفظ الله جل جلاله وعز مقامه، ومهما كثر أعداء الإسلام والقرآن فإنهم عاجزون عن تغييره أو تبديله، وأعظم شيء بعد القرآن علم التجويد، وهو العلم الذي انفرد به القرآن الكريم، وقد عرفت نصرانياً في أرض الشام كان له شأن في الكفر، ووصل إلى رئاسة الوزارة، كان يتعلم القرآن على مجود، فقال له أحد المسلمين: أنت لا تؤمن به على أنه كلام لله ولا أنه وحي من الله، فلم التجويد؟ قال: لأن لغة العرب محفوظة بوجود القرآن بيننا بأن علمنا حركاتها وسكناتها ومدودها وقلقلة حروفها وظاءها وذالها وطاءها وزايها، فبقيت الحروف بحركات مقدرة بلا زيادة ولا نقصان، وهذا لا يعرف في لغة من لغات الأرض، فاللغة اللاتينية التي هي أصل لغات الأوربيين تفرع منها بقية اللغات حتى أصبحت كل لغة وكأنها لغة بذاتها وليست فرعاً للغة اللاتينية لتغير حروفها وحركاتها بطول الزمن وتحريف الصحف لها.

    واللغة العربية الفصحى مع تغير الزمن، تفرع منها اللهجات العربية فأصبحت كل لهجة من هذه اللهجات لغة قائمة بنفسها، وقد حاول اليهود والنصارى أن يجعلوا للهجات الشعبية العامية نحواً ولغة ومؤلفات وكتباً ليتعلموها ويعلموها، ويبتعدوا عن لغة القرآن وهدي القرآن فعجزوا وما استطاعوا؛ لأن الله تعهد بحفظ القرآن، ومن حفظه للقرآن حفظ الناس له، ومن حفظ الناس له أن يحفظوا اللغة العربية فيتكلمون بها، كما يتكلم الناس لغتهم الدارجة وكما يفعل ذلك كل من تكلم وتمرن على الخطابة والكلام والكتابة والدراسة والتدريس بلغة القرآن، قال الشاعر:

    والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

    فمن عود لسانه اللغة الفصحى أصبح بها عربياً أصيلاً، ومن عود لسانه لغة اللحن واللهجة المنحرفة ضاع عليه فهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باللغة الفصحى.

    وأم الكتاب هو عند الله كتابان: كتاب من قبل الله لا يراه أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

    وكتاب من قبل الملائكة، يتلقون منه الأوامر والنواهي، لينفذوها سماء وأرضاً في الحياة وفي الممات وفي الآخرة، فما كان قبل خلق الناس يصفه الله حيث يقول: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فهو الذي وصفه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، فما كان عند الله من كتاب الله ومن سنة رسول الله لا يغيران، فمثلاً: أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء على أن يصلي هو وقومه خمسين صلاة في اليوم والليلة، وقد نطق بهذا اللوح المحفوظ الذي يزيد وينقص، وبعد متابعة واجتماع وتردد بين محمد صلى الله عليه وعلى آله وبين ربه وموسى عليه السلام، أصبحت خمساً، فقال الله: (هي خمس في العمل وخمسون في الأجر لا يبدل القول لدي) فمحيت الخمسون التي كانت في اللوح الذي هو من جهة الملائكة، وبقيت الخمس المحدثة في الكتاب الذي من قبله، الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل.

    وقوله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أي: عالي الرتبة والمقام، فهو جليل الأصل، وجليل الكلم، وجليل الحكم وجليل المنزل عليه، وحكيم يضع الأمور في منازلها ومواضعها، جاء بالحكمة وبالحكم، وجاء بالعزة وبالرفعة، وجاء بالصلاح للخلق في الدنيا والآخرة.

    فالقرآن الكريم هو عند الله في أم الكتاب، وهو لدى ملائكته وجنده الذين لا يحصي عددهم إلا الله، وهو عنده عليُّ الشأن رفيع المقام، حكيم في أحكامه، حكيم في آدابه، حكيم في قصصه ونوازله، وما كان كذلك يجب أن يعتبره المسلم كذلك، فيجب أن يكون عندنا عظيم الشأن رفيع المقام معززاً مكرماً.

    وقد قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79]، ولأجل هذه الآيات حرم الفقهاء مس المصحف لغير متوضئ، ولو أن المطهرين هم الملائكة، ولكن الملائكة مطهرون لأنهم لا يرفثون ولا يتبولون ولا يتغوطون، فهم في طهارة دائمة، أي: فكذلك أنتم أيها البشر لا يليق بكم أن تمسوا كتاب الله وأنتم على غير طهارة.

    وقد رخص بعض فقهائنا وعلمائنا للمعلمين وللمتعلمين مس القرآن على غير وضوء لما في ذلك من المشقة؛ لأن الله ما جعل في الدين من حرج، ورخصوا بأن يمسك من المصحف بعضه لا المصحف كله، فليس من الضروري أن يتعلم التلميذ كتاب الله ضمن مصحف، بل يكون لديه جزء واحد أو حزب واحد، وهنا يرخص له أن يمسكه من غير وضوء، أما المصحف فلا حاجة إليه، فهو يحفظ في اليوم ربعاً أو ثمناً ولا يحفظ القرآن إلا بعد سنوات، ومثل ذلك المعلم، فليس من الضروري أن يمسك المصحف كله، بل يكفي أن يمسك جزءاً أو ربعاً أو نحو ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755946541